ثمن الكتابة
دماء في ميدان التحرير
تشريح الجثة
سعدية وفؤادة في السجن
شاكر
مع التيار
في بيت رجل
الفصل من الجورنال
كوكب الكميلي
بدرية
قرار الزواج
كاتبة فقط
حميدة
سعدية
على شاطئ الإسكندرية
الشيخ متولي
الإجهاض
منصب جديد
الأرق
في السجن
محظورات
هنادي
داليا
في الكافيتيريا
كوكب
الحب الثاني والثالث
الأمل الوحيد
اللحظة الخاطفة
في الخيم
القاهرة أم نيويورك
اللقاء
هدف واحد
خيمة الأم
تأنيب ضمير
ثمن الكتابة
دماء في ميدان التحرير
تشريح الجثة
سعدية وفؤادة في السجن
شاكر
مع التيار
في بيت رجل
الفصل من الجورنال
كوكب الكميلي
بدرية
قرار الزواج
كاتبة فقط
حميدة
سعدية
على شاطئ الإسكندرية
الشيخ متولي
الإجهاض
منصب جديد
الأرق
في السجن
محظورات
هنادي
داليا
في الكافيتيريا
كوكب
الحب الثاني والثالث
الأمل الوحيد
اللحظة الخاطفة
في الخيم
القاهرة أم نيويورك
اللقاء
هدف واحد
خيمة الأم
تأنيب ضمير
إنه الدم
إنه الدم
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات ، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوه يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - إنتي اللي مش معقولة. - إزاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
دماء في ميدان التحرير
إنها مدينة القاهرة، تبدو للعين الكليلة مساحة لا متناهية من شيء يشبه الأسمنت له لون الرماد، يشقها مجرى رفيع رمادي يتلوى تحت كتل الأسمنت على جانبيه، يعلوها دخان وبخار وقتام ورمال، وغبار يهب ويتجمع من فوقها على شاكلة سحابة سوداء، إنه الشتاء أيضا والشهور والليالي التي يهب فيها الناس من النعاس ويراق فيها الدم.
جلست فوق حجر بجوار خيمتها، كانت تلهث قليلا، الزحام شديد، لا مكان لقدم، الملايين من المتظاهرين خرجوا إلى الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام.
خلعت شالها الصوفي الأخضر من حول كتفيها، فرشته فوق الحجر لتجلسها، كانت تجاهد للوقوف، تشد عضلاتها، تقاوم الانحناء، يعود قوامها إلى وضعه المستقيم، عظام ظهرها قوية متينة، لها قوة أربعين رجلا وعشرين حصانا، كما كانوا يقولون عنها ، لكنها لم تعد شابة، وليست كهلة، كلمة عجوز لا تنطبق عليها، لا أحد يعرف عمرها.
منذ العاشرة صباحا حتى الثانية بعد الظهر كانت تمشي في جوارها وسط الصفوف، خمس ساعات وأكثر، من الجنوب إلى الشمال، فوق الكباري القديمة والجديدة التي تجتاز النيل، كوبري الجيزة، كوبري الجامعة، كوبري الجلاء، كوبري قصر النيل، كوبري 6 أكتوبر، الزحام شديد فوق الكباري وفي الشوارع، في المدن والقرى، في كل المحافظات، الملايين من المتظاهرين يهتفون: يسقط النظام. فوق الحجر الذي وضعت عليه شالها الصوفي الأخضر أجلستها، لم يعد البريق في عينيها كما كان، بصرها لا يزال قويا حادا، كانت ترى من بعيد مثل زرقاء اليمامة، البؤبؤ الأسود كبير لونه كلون الليل، لم تورثني سواد عينيها ولا بشرتها السمراء، ورثت بشرتي البيضاء من أبي، ولون عيني من عينيه الخضراوين، وقصر نظري من قصر نظره أيضا الذي يسمونه «مايوبيا»، وقد كان أبي يضع نظارة طبية منذ طفولته، خلعت نظارتي بعد اكتشاف العدسات اللاصقة، عيناي خضراوان لونهما لون الزرع، تلمعان في مرآة حقيبتي، كعيون القططة، كان أبي يسميني القطة المتوحشة، لاحظت أنها تلهث وريقها جاف، وقد لاحظت حالتها قبل أن تلحظها هي، أخرجت من حقيبتها زجاجة ماء معدنية صغيرة، ناولتها إياها إذ كان معها سندويتش جبنة بيضاء مع شرائح صغيرة من الطماطم، التهمتها بشهية الأطفال وشربت الماء كمسافر جف حلقه في الصحراء، قالت رافعة وجهها نحوها: «تعيشي لنا يا أمي.» أشرق وجهها بالابتسام، خلعت الشال الأخضر، والبلوفر الصوفي السميك، بسطت ذراعيها الطويلتين كالجناحين، وصفقت في الهواء كما كانت تفعل وهي طفلة منذ العاشرة من عمرها، أترى هذه اللحظة في الحلم؟ هؤلاء الملايين، النساء، الشباب، الشابات، الرجال، الأطفال، العجائز، هذه الوجوه من كل الأعمار والأشكال والبقاع، ملايين، الملايين تملأ الشوارع والميادين، أصواتهم تدوي في صوت واحد، يهز عرش الأرض والسماء بكلمتين اثنتين: يسقط النظام! تلاشت خطوط الزمن فوق جبينها، انقشعت السحابة والتعب، عاد البريق إلى عينيها، ألقت البلوفر والشال وحقيبة يدها إلى الأرض، وانطلقت وسط الملايين تهتف معهم: يسقط النظام . الكلمتان تخرجان من بين شفتيها مع الشهيق والزفير، كأنما في السماء آذان تلتقط الصوت، وآذان الأرض أيضا في جهاز أمن الدولة، ينشق الكون عن عساكر جيش وبوليس ملابسهم عادية، بعضهم بالجلابيب والشوارب واللحى الطويلة، يحملون البنادق والسياط والنبال، هجموا على ميدان التحرير، داسوا الناس بالحوافر والعجلات، أطلقوا النيران والغازات، ارتفع الغبار في السماء مع الدخان وكرات من النار، زجاجة الماء تطير من يدها، هي نفسها تطير مع الزجاجة وتسقط على الأرض فبدت لها دماء حمراء.
دماء أمها تنزف فوق الأسفلت في ميدان التحرير أمام عينيها، كما نزفت فوق الأسفلت في السجن، أحاطتها بالشال الصوف الأخضر، البلوفر الأزرق أصبح لونه كلون التراب، قميصها الأبيض يغرق في الدم، حملوها إلى الخيمة، غطوها بالبطانية الصوف، تضاعفت الملايين، طافت التظاهرات في الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام. في وسط الصفوف كانت تمشي منذ دقائق، كان يبدو عليها الإعياء، لكنها تمشي، تمد عنقها إلى الأمام وتمشي، ترفع ظهرها وتمشي، أخذتها أمس إلى دورة المياه، دخلتا من الباب الخلفي للميدان، كان زحام من كائنات تختفي كل منهن تحت خيمة سوداء، واقفات في بركة مياه تتسرب من تحت أبواب المراحيض، ناولتها إحداهن منديل ورق وقالت: ليه راسكم عريانة؟
ردت: ليه راسكم اختفت؟
انتفضت خيمة سوداء وخطفت منديل الورق من يدها، حاولت منعهما من الدخول لكنها دفعتها بيدها القوية، فسحت في الطريق لأمها كان الزحام شديدا، بعض المراحيض معطلة طافحة المجاري، غاص حذاؤها في المياه، براز يطفو على السطح، امرأة تغسل يديها من كوز صفيح، الرائحة غير محتملة، همست أمها: أرجوك لنخرج من هنا. رمقتهما النساء المتنقبات بعيون غاضبة.
بصقت واحدة ناحيتهما وصاحت: كلكم في الجحيم والثعبان الأقرع يضربكم بذيله في أعماق قبوركم. قالت لها: أنتم الجحيم فوق الأرض. رجال من ذوي اللحى الطويلة كانوا عند المدخل، يرتدون جلابيب بيضاء متسخة بالطين والتراب، يشمرونها حتى الركب، يحمل كل منهم خيزرانة ومطواة من قرن الغزال مختفية في جيب سرواله، تتركز عليهما الأضواء، اقترب أحدهم منها ولسعها فوق ظهرها بالخيزرانة ، شدت منه العصا وضربته على ظهره، انضم إليه رجل آخر يتحرش بها، نزعت أمها العصا من يده وانهالت عليه ضربا، لم تكن ضرباتها قوية، ابنتها في ريعان الشباب، تقدم أربعة رجال نحوها ينزعون عنها ثيابها، تمتد أياديهم بين نهديها وساقيها، انقضت الأم عليهم كالجبل يسقط فوقهم، استعادت قوتها القديمة، مارد نائم في أعماقها لا يصحو إلا عند الخطر، أنقذت ابنتها من بين أيديهم، والهتاف يدوي: يسقط النظام. جلست تحت خيمتها في الميدان حين هبط الظلام، كان لها خيمة من قماش أزرق هو قلع مركب، يلجأ إليها الشباب والشابات للراحة بعد التعب، يتناولون شيئا من الطعام أو الماء، يجلسون ويتحدثون حتى الفجر، كان منهم جلال أسعد وفؤادة وسعدية وهنادي وداليا وحميدة وبدرية البحراوي، ينصرفون إلى بيوتهم قبل هجمات البوليس، وقد يبيتون في الخيمة أيام الاعتصامات مع أمهات الشهداء والشهيدات، قتل الآلاف بالرصاص الحي أو الغازات أو التعذيب، لم تعثر الابنة على جثة أمها، ولم تعثر الأم على ابنتها، كانت الجثث تختلط بعضها ببعض، تتلاشى الفروق بين البشر، يساوي الموت بينهم، تهمس في الليل أصوات مبحوحة: لو أشوف ابني بين الجثث؟ مش عارفة عايش والا ميت؟ لو أشوف أمي بعيني في المشرحة يمكن النار في قلبي تبرد!
مش عارفة جثة بنتي راحت فين؟
في مشرحة زينهم الزحام شديد، الموتى أكثر من الأحياء، يدخل رجل يرتدي ملابس عسكرية، ينحني له الدكتور المدير، يناوله ورقة رسمية ويخرج مسرعا، رائحة الموت نفاذة، فوق منضدة جثة يشرحها طبيب، ملامح الميت تشبه ملامح الطبيب، يدخل رجل يرتدي بذلة مكوية أنيقة ومن حوله حرس ينادونه سعادة الباشا، أحدهم يدس في يد الطبيب ورقة من مائة جنيه، تسري حمرة خفيفة في الوجه الخالي من الدم، يتقاضى الطبيب 9 جنيهات لتشريح الجثة الواحدة حسب اللائحة، ويتقاضى مساعده 125 قرشا، تقدمت الأم بظهرها المنحني من الممرض متوسلة إليه: فين بنتي؟
لم يكن في جيبها إلا ثلاثة جنيهات، دفعها الممرض بيده القوية خارج المشرحة، ممنوع الدخول هنا، مفهوم؟ لكن الابنة الشابة دفعت الممرض بيدها القوية ودخلت إلى المشرحة تزعق: يا لصوص، يا مرتشين، يا مزوري التقارير. وكان الممرض أيضا يبيع الجثة لطلبة كليات الطب بالقطعة، يتقاسم المدير والطبيب والممرض الدخل اليومي كل حسب درجته في الكادر الحكومي.
تشريح الجثة
خرجت التظاهرات تطالب بالقصاص من القتلة.
نشرت الصحف:
أدلى الدكتور الطبيب الشرعي الذي شرح جثة جلال أسعد بأقواله أمام نيابة قصر النيل، قال: إن الوفاة نتيجة حادث تصادم وليست بسبب تعرض المتوفى للتعذيب، مشيرا إلى أنه عثر في الملابس على آثار احتكاك بجسم حديدي ولا توجد آثار ضرب، وواجه مدير النيابة الطبيب الشرعي بأقوال الشهود ومنهم الكاتبة الصحفية المعروفة كوكب الكميلي، قالت إن المجني عليه توفي نتيجة تعذيبه من قبل ثلة من ضباط البوليس داخل معسكر الأمن المركزي بالجبل الأحمر، لكن هذه الكاتبة الصحفية غيرت أقوالها لاحقا، وأقوال عامل موقف الحافلات بميدان عبد المنعم رياض، الذي قال إنه شاهد سيارة ميكروباس متجهة إلى كوبري 6 أكتوبر تصدم جلال أسعد، بالإضافة إلى أقوال الممرض المسعف وسائق سيارة الإسعاف التي نقلت جلال أسعد، قال الاثنان إنهما في أثناء وقوفهما في نقطة التمركز أمام المتحف المصري، أخبرهما شخص يستقل دراجة بخارية بوجود جثة شاب صدمته سيارة ملاكي مسرعة أمام مطلع كوبري 6 أكتوبر. أمرت نيابة قصر النيل بتشكيل لجنة ثلاثية لإعادة تشريح الجثة بناء على طلب محاميه، بعد معارك مع النيابة ومصلحة الطب الشرعي، حصل المحامي على نسخة من تقرير الطب الشرعي، الذي أكد أقوال النيابة وأن جلال أسعد لم يقتله التعذيب، بل مات فجاة في إثر حادث سيارة.
قذفت أم جلال أسعد عربة البوليس بالحجارة، ومن خلفها الأمهات والشباب والشابات مزقوا معطف الطبيب الشرعي وهم يصرخون: يا مجرمين يا لصوص. وانطلقت الملايين في التظاهرات وهي تهتف: يسقط النظام!
أصبحت خيمتها في ميدان التحرير هي البيت والمسكن، كانت مرهقة من السير في التظاهرات، قلبها ثقيل، أمها نزفت حتى الموت، الآلاف من الشباب قتلوا بالرصاص، والآلاف ماتوا نتيجة التعذيب في المعسكرات، والآلاف فقدوا أبصارهم، كانت الرصاصة تنطلق من القناصة مباشرة إلى عيونهم، تختلط الجثث بعضها ببعض، لا تستطيع العودة إلى البيت ولا تريد أن تعود، خيمتها أصبحت بيتها، تتمدد فوق الأرض فوق كليم من وبر الجمال السميك، تتغطى ببطانية من الصوف الرصاصي، تطل من فتحة الخيمة إلى السماء، سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، الميدان هدأ قليلا بعد يوم عاصف، أنين المصابين يأتيها من مستشفى الميدان في الناحية الأخرى، فتحت عينيها في الظلمة، رأت طيف أمها جالسا عند باب الخيمة كأنما يحرسها، بدا الحلم حقيقة: ليه جيتي يا أمي؟ - قلقت عليكي يا بنتي. - الخيمة باردة عليكي. - الخيمة أدفا من البيت.
جلست في جوارها فوق الكليم، أحاطت كتفيها بشالها الأخضر، همست في أذنها، سامحيني يا أمي، كذبت عليك، كنت خائفة منهم، كنت في حاجة إلى أن أنسى، النسيان يشفي الألم لكن منذ أن رأيت دمها فوق الأسفلت بدأ عقلي يصحو وذاكرتي تعود، خافتة كالهواء، تتسرب قطرات ضوء من وراء سحابة سوداء، دم فوق الأسفلت في السجن، يشبه الدم فوق أسفلت ميدان التحرير، يشبه الدم فوق ملاءة السرير، دمي ودمك وكل الدماء المراقة أمام عيني، حياتي مرت مثل الحلم، الأرض في الميدان صلبة كالرخام، لا أشعر بالألم، جسمي شبه مخدر، ليلة باردة كالصقيع، أرقد فوق الأسفلت، البرودة لا تصل إلى جسمي، كبرودة البحر في الحلم أسبح فيه ولا أبرد ولا أغرق، مع أنني عارية ولا أعرف السباحة، صوتها كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة، أو تأتي من قريب وهي بعيدة، قد تأتي من السماء أو من بطن الأرض، أو من السقف، أو تأتي من كل الجهات كهواء يملأ الأذن، لكنه ليس هواء بل صوت حقيقي أسمعه، وامرأة حقيقية من لحم ودم ترقد في جواري على الأرض، غادرت أمي الخيمة، لا أعرف أين ذهبت، ربما إلى دورة المياه، لم يعد في مقدورها أن تحبس البول ساعات طويلة، ضعفت عضلات الحوض والمثانة، تتسرب القطرات من بين ساقيها قبل أن تصل إلى المرحاض، أردت أن أذهب معها إلى دورة المياه ، على بعد خطوات، عند البوابة الخلفية، لكن النوم غلبني، لم أرها في الظلمة وهي تغادر خيمتنا، تصورت أنها راقدة في جواري وأنا أحكي لها، لم أكن أحكي لك يا أمي، غيابك يشجعني على البوح، الثورة كسرت حاجز الخوف، كنت أخاف ألسنة الناس أكثر من الموت، ظل الخوف ينمو معي، عشت الجحيم فوق الأرض، والجنة لم تكن تحت قدميك بعد موتك، الأرض، الأسفلت تحت ظهرك العاري، كان الأسفلت صلبا باردا كالثلج في شهور الشتاء، جسدك كان ساخنا ملتهبا يحوط جسدا أكثر سخونة والتهابا، داخل رحمك، جسد آخر ينمو ويشرب دمك، تشربين السم وتشرفين على الموت، وتبقى هي في رحمك متشبثة بالحياة، تنتصر إرادتها على إرادتك، هل كرهت ابنتك لأنها جاءت إلى الدنيا بالرغم من إرادتك؟ لم ترغبي قط في الحمل، لكنها المصادفة؛ سقطت الحبة من يدك وأنت تضعينها في فمك، أشياء صغيرة مثل حبة من حبوب منع الحمل قد تفجر الكون، الكون حدث مصادفة، الانفجار الكبير، تحبل الأمهات مصادفة، الحب لا يحدث إلا مصادفة، كل شيء صادق يحدث مصادفة، الجرائم تقتضي التخطيط والتربص وسبق الإصرار، جاءك المخاض في الليل، كما يأتي الأمهات دائما في الظلمة، كتمت الأنين كي لا توقظي الجميع، لا يوقظ النساء في السجن أي صوت، تنام الواحدة منهن كالجثة الهامدة وهي تحلم بالموت، دسست في فمك طرف ملاءتك، ضغطت عليها بأضراسك تسحقين الصرخة، كنت راقدة على الأسفلت فوق ظهرك، فاتحة فخذيك، ضاغطة بيدك اليمنى على بطنك، على رأس الجنين، يتقلص جدار بطنك تحت كفك فتضغطين أكثر، يقل الألم بازدياد الألم، بيدك اليسرى تضغطين على الأرض، ترفعين جسمك قليلا، تضغط عظام ظهرك على الرحم، تكتمين الهواء في صدرك، ويضغط الهواء على بطنك، يختنق الجنين بالضغط، من فوق ومن تحت، يقاوم الاختناق فتشق المولودة طريقها برأسها الصلب، خارجة إلى الهواء عبر قناة المهبل، تتلوى فوق الأسفلت غارقة في الدم، قطعة لحم نازفة ساخنة من فلذة كبدك، تلفين جسدها الملتهب بالبطانية الصوف، تفوح منها رائحة السجن، مزيج من دموع قديمة ودماء جديدة، نحل صوفها الرخيص بمرور الزمن، تغير لونها من سواد الرصاص إلى حمرة الدم الجديد، ومن البياض إلى صفرة البول والدموع القديمة، في الصباح حملتها فوق صدرك، وضعتها في الطشت في غرفة التنظيف، جففتها بملاءة السرير، نظرت إلى عينيها الخضراوين وأطلقت زغرودة متحشرجة قصيرة، هي غير الصفارة الحادة الممدودة التي يسمونها الزغرودة، والتي تطلقها النسوة، بأفواههن وأنوفهن وأصابعهن، في الأفراح والمآتم.
في الصباح بحثت عنك في الخيام، في دورة المياه بالميدان، الرائحة هناك تشبه رائحة السجن، الظلمة شديدة، انزلقت قدمي في المياه الطافحة، كدت أسقط لولا سرعة جسمي الذي استعاد توازنه تشبثا بالحياة، الموت يتربص في هذا المكان، سرت في جسدي قشعريرة، أجسمك غارق في مياه المجاري، أم هو جسمي ممدود أمامي؟ لا أفرق بين جسدي وجسدك، لا أرى إلا بعض أجسام ملفوفة بالبطانيات من الرأس إلى القدمين، أصوات الشخير من الأنوف تختلط بأصوات الخرير من الصنابير، لم تكوني في أي مكان، الدنيا كلها خلت منك، كأنما مات الكون.
سعدية وفؤادة في السجن
تلقت أمي تربية في البيت والمدرسة يسمونها التهذيب، لا تفعل ما تفعله النسوة الأخريات، لا يدخل السجن إلا القاتلات أو المومسات أو الشحاذات أو المتهمات بتجارة المخدرات أو السرقة، غالبيتهن من الفقيرات المطحونات الحالمات بالجنة بعد الموت، لا يدخل السجن من النساء المتعلمات غير الحالمات بالجنة إلا القليل النادر، الجريمة غالبا تندرج تحت بند السياسة، والثورة لقلب نظام الحكم، كانت هي أيام الثورة، من أجل الحرية والعدل والكرامة، بعضهم يقول إنها انتفاضة وليست ثورة، والشباب بلطجية وليسوا ثوارا، والشابات عاهرات ولسن ثائرات، شارك أمي وأبي في الثورة، كان عمري أربعة شهور داخل رحمها وهي تسير مع المتظاهرين، تهتف معهم: يسقط النظام. رأسها شامخ مرفوع، طويلة القامة ممشوقة الجسم، تمارس رياضة الفولي بول والسباحة، انتفاخ الحمل تخفيه قوة عضلات البطن، تبدو في التاسعة عشرة، على الرغم من بلوغها الخامسة والعشرين، عقلها يكبر عمرها بعشرين عاما، أبي يسير في جوارها، لكن رأسها يرتفع عن رأسه ثلاثة سنتيمترات، عظام ظهرها مشدودة أكثر، بشرتها أشد سمرة تشوبها حمرة الشمس، ورث أبي بشرته البيضاء من أبيه وانحناءة خفيفة لفقرات الظهر، صلعة صغيرة مبكرة في منتصف رأسه، يسيران، يده في يدها، متساويين، كتفها إلى كتفه، لا تعلو كتفها إلا ثلاثة سنتيمترات، تجمع الملايين من الناس في ميدان التحرير الذي أصبح كالدار الكبيرة تضم مئات الخيام، انقضت عليهم عربات البوليس البوكس، حطمت خيامهم، حملت بعضهم إلى السجون، وسقط بعضهم الآخر بطلقات الرصاص، لم يعرف أحد من مات ومن اختفى ومن في المشرحة ومن في السجن، كان المشهد يتكرر، خرجت مع أمي من السجن، بلغت من العمر عامين، تعلمت المشي حافية القدمين على الأسفلت، لا أحس ببرودة الأرض أو بسخونتها، لا تخترق جلدي مسامير ولا قطع زلط، لا أبكي من جوع أو مغص، تتركني أمي أزحف أمام العنبر، ألتقط مع الطيور فتات الخبز أو حبوب الفول والعدس، أزقزق مع العصافير في الصبح، ترن ضحكتي في فناء السجن، تتجمع المومسات من حولي والقاتلات وبائعات المخدرات والشحاذات وكل المسجونات، تحملني كل واحدة فوق صدرها وهي تضحك، أحس بالأنين تحت ضلوعها، عرفت دقة الفرح في الصدر من دقة الحزن، قبل أن أبلغ الثالثة من عمري!
حملتني أمي فوق صدرها لدى خروجها من السجن، خرجت معنا امرأة كانوا يسمونها سعدية القتالة، طويلة القامة سمراء البشرة تكاد تشبه أمي، في السجن ولدت ابنتها، أناديها هنادي وتناديني داليا، كنت ألعب معها على الأسفلت، أمي وأمها تتحدثان كأنهما صديقتان، أمي تناديها سعدية وهي تنادي أمي الأستاذة، بلاش حكاية الأستاذة دي يا سعدية. - يا ست فؤادة، العين ما تعلاش عن الحاجب. - عين إيه وحاجب إيه كلنا ولاد تسعة. - ولاد بس؟ وفين البنات؟ - غلبتيني يا سعدية. - عليكي واحد يا أستاذة.
وتدوي قهقهاتهما في أرجاء السجن ناشرة عدوى الضحك بين النساء.
في مكتب السجان تدوي الضحكات، تهتز أرجل الكرسي تحت أليتيه السمينتين من طول الجلوس وراء المكتب، وأكل الدهن والمداهنة، فوق رأسه تهتز الصورة داخل البرواز، تتقلص عضلات الوجه المربع، ينتصب شعر رأسه المصبوغ بلون أسود كالليل. - إيه اللي بيحصل ده؟ - مافيش حاجة يا معالي الباشا. - أنا سامع هتاف ضدي يا حمار؟ - شوية نسوان بيضحكوا يا فخامة الرئيس. - كده؟ طيب سيبهم يتسلوا.
خرجت سعدية وابنتها من السجن إلى غرفة في الزقاق وراء القبور، كانت تعيش في هذه الغرفة مع زوجها قبل أن تقتله، ناولتها أمي ورقة صغيرة كتبت عليها عنوان بيتنا، أصبحت سعدية تأتي إلينا كل يوم من الساعة السابعة صباحا إلى الخامسة مساء ما عدا الجمعة وأيام الإجازات، تقول عنها أمي إنها شغالة محترمة وليست خادمة، كانت أمي تسكن في شقة صغيرة بعمارة جديدة في شارع التحرير، كان اسمه شارع الملك ثم تغير الاسم مع تغير الزمن، استأجرت أمي هذه الشقة قبل أن تتزوج أبي، عادت إلى عملها في الجورنال بعد خروجها من السجن، كانت لي غرفة فيها سرير من الخشب، لونه بني أدكن، وخزانة ملابسي ومكتبي من اللون ذاته، فوق الجدار صورة لرجل له شارب أسود، عيناه خضراوان لامعتان، تطلان من تحت جبهة عالية وحاجبين كثيفين، شفتاه مطبقتان بعضلات قوية تنم عن الإرادة والتصميم، كانت أمي تقول إن أبي كان في عداد الثوار، لكن. لكن إيه يا ماما؟
تسكت أمي، تبتلع دموعها في صمت، أرهف أذني لصمتها، أحاول أن أعرف من هو أبي وماذا كان؟ أتأمل ملامح وجهه في ضوء النهار، في الليل أحدق إلى صورته تحت ضوء اللمبة، تتغير النظرة في عينيه مع تغير الضوء والمكان الذي أقف فيه، أمام خزانة الملابس أو وراء مكتبي، تبدو نظرته قوية ثائرة مستقيمة، وأحيانا تبدو هادئة ملتوية مستكينة، بلغت الثامنة من عمري، يوم دق جرس الباب، عرفت أنه أبي الذي يدق الجرس؟ كيف عرفت؟ لم أره في حياتي ولم أسمعه يدق الجرس، لم تصف لي أمي طريقته في دق الجرس، أبي يدق الجرس؟
كانت أمي جالسة في الصالة تشاهد التلفزيون، وأنا جالسة وراء المائدة أشرب اللبن الساخن مع الكاكاو، وأتابع الصور المتحركة عبر الشاشة، ألاحظ أصابع أمي الطويلة النحيفة ترتعش فوق أزرار التلفزيون، تنتقل من قناة إلى قناة، تهتز الصورة الكبيرة منقسمة إلى مئات من الصور الصغيرة، تصعد الوجوه وتهبط، تنقسم بالطول والعرض، تتحول خطوطا رأسية وأفقية، سوداء وبيضاء وحمراء، تظلم الشاشة وتضيء وتظلم وتضيء، أنفاس أمي تلهث، أصابعها فوق الأزرار ترتعش أكثر، تظهر كرة قدم طائرة من فوق الرءوس ويرتفع صراخ الجماهير: جون جون. تختفي الصورة، تظهر راقصة نصف عارية تفرقع بالصاجات، يتلوى جسمها وينثني كأنما تشعر بألم والجماهير تهتف: الله الله، تختفي الصورة ويظهر الشيخ الكبير ذو اللحية الطويلة يقول بصوت وقور: الرجل يعمل من أجل الله، والمرأة تعمل من أجل الشيطان، عمليات زرع الكلية أو الكبد كفر بالله؛ لأنها تؤجل لقاء العبد ربه، ختان المرأة وحجابها وتعدد الزوجات أمر من الله. تصفع أمها وجه الشيخ بيدها وتغير المحطة، تظهر صورة رئيس الدولة على الشاشة المضيئة، يخطب في ذكرى النصر العظيم أو الثورة المجيدة، في يده منديل يمسح عرقه، ملامح وجهه متقلصة، تشبه ملامح الملاكمين ومدربي الرياضة وكرة القدم، جبهته عريضة تنزلق إلى شعر أسود مصبوغ بدقة، رأسه مربع قوي العظام مشبع بالسلطة، عيناه زائغتان تنظران إلى الفراغ، جفونه متورمة، انتفاخات في الجلد تحت العينين حتى الصدغين، عضلات وجهه متهدلة، تنم عن هزيمة خفية، فمه مفتوح على آخره يزعق: ذكرى النصر العظيم والثورة المجيدة. انتفضت أمها من مقعدها واقفة، شفتاها ممطوطتان في امتعاض، امتدت ذراعها وصفعت شاشة التلفزيون بكفها وهي تكلم نفسها، كانت هزيمة مش نصر ...
شاكر
لم تسمع أمي جرس الباب يدق، طغى الصوت الزاعق في التلفزيون على كل الأصوات. - الجرس يا ماما! - مدت أمي يدها إلى سماعة التلفون: آلو. - جرس الباب يا ماما مش التلفون!
سارت إلى الباب، تعثرت بالسجادة الملونة في الصالة، ارتطمت ساقها بالمنضدة في البهو، فتحت الباب، رأت رجلا أمامها، يحمل صرة ملابس، ملامح وجهه تشبه الصورة فوق الجدار، شاكر؟ أحاطته بذراعيها وهي تجهش بالبكاء، شمت في ملابسه رائحة السجن، العرق والدموع والدم، تطلع الأب بعينيه المتسعتين دهشة، أهي ابنته الجالسة وراء المائدة تحدق إليه؟ عيناها خضراوان لونهما من لون عينيه، أول مرة في حياته يراها، حدقت إليه، لا يشبه الرجل في الصورة، وجهه أكثر طولا ونحافة، شعر رأسه لم يعد أسود أو غزيرا، تتخلله شعرات بيض، جبهته أصبحت أعرض مما كانت، لكن عينيه خضراوان تشبهان عينيها: بابا؟
حملها بين ذراعيه عاليا إلى فوق فوق، ثم تلقفها بين يديه قبل أن تسقط على الأرض، تشهق فرحا وتجهش بالبكاء، يذوب الضحك في دموعها في الحمام، سمعتهما من وراء الباب، أبوها وأمها يشهقان وينشجان، ضحك وبكاء ثم ضحك وبكاء، بلغت الابنة ثمانية أعوام، تستطيع التمييز بين الشهيق والنشيج، أرض الشقة من الخشب، تلمعه الشغالة سعدية بالورنيش مثل حذاء أبيها، تخرج الأم كل صباح مع الأب، يعملان معا في الجورنال في شارع متفرع من ميدان التحرير، في المساء يذهبان معا إلى المسرح أو السينما أو إلى ندوة أو اجتماع، تسوق الأم سيارتها الصغيرة وفي جوارها يجلس الأب، كان يقود سيارته الخاصة حين يخرج وحده في الليل، أتدرب على البيانو في غرفتي التي تطل على الشارع الرئيسي، سريري له غطاء مزركش، فوق مكتبي كتبي وأقلامي وكراريسي، البيانو في الركن في جوار النافذة، اشترت أمي هذا البيانو في عيد ميلادي قبل فصلها من الجورنال.
كانت أمي في الصالة تتحدث مع أبي: أنا عارفة سبب قرار الفصل، الكل عارف السبب. - وساكتين ليه؟ - الكل خايف. - خايفين من إيه؟ - إنتي عارفة.
أمي اسمها فؤادة، فتحت عيني على وجهها وأنا أخرج إلى الدنيا، أبي لم أره إلا بعد ثمانية أعوام من مولدي، السيدة أم رءوف كانت تسكن الشقة في جوار شقتنا، تتحدث أمي عن أبي الغائب في السجن: يختلف عن جميع الرجال، ليس فيه خشونتهم وغلظ أصواتهم، قامته ممشوقة في كبرياء، انحناءة خفيفة تنم عن التواضع، يمارس الرياضة في النادي، أصابع يديه نحيفة طويلة، يعزف على البيانو أحيانا إن وجد الوقت، أنا أفضل الكمنجة لكني لا أجد الوقت، شاركنا في التظاهرات، كنا زملاء. تحملق السيدة أم رءوف في وجه الأم: الحب يا بنتي أعمى! مش الحب يا أم رءوف. أمال إيه؟ صداقة! - وإيه الفرق يا أستاذة بين الصداقة والحب؟ - زي الفرق بين فيلم أبيض وأسود وفيلم ملون.
مش فاهمة حاجة يا ست فؤادة. الابنة داليا تحدق بعينيها الخضراوين إلى السيدة الجارة، وجهها مربع أبيض، عيناها ضيقتان غائرتان كعيون الطيور الجارحة، جسمها سمين قصير مترهل، ترتدي جلبابا واسعا رمادي اللون، تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمشي بخطوات بطيئة زاحفة، تبتسم في وجه أمها، وفي ظهرها ترشقها بعين مخيفة، ترى الابنة ظهر أمها ومن فوقه عين الجارة، كتبت داليا في مفكرتها بعد أن دخلت المدرسة: لا ترى أمي ظهرها إلا في المرآة، بعد أن ينثني جسمها وتلتوي حول نفسها، أدرب جسمي أمام المرآة لأرى ظهري، أنا أكره جارتنا لأنها تكره أمي من وراء ظهرها، تكتم الابنة السر خوفا من السيدة أم رءوف، كانت أمها تتركها معها في البيت حين تخرج، دق جرس التلفون، رفع شاكر السماعة: آلو، الأستاذة فؤادة في إسكندرية، حترجع يوم الإثنين. المفكرة في جوار التلفون فوق المنضدة، نوتة صغيرة مشبوك بها قلم رصاص بخيط رفيع، يسجل فيها الأب أو الأم رسائل التلفون في غياب أحدهما، كتب التاريخ في أعلى الصفحة، الساعة التاسعة صباحا، خطه متعرج قليلا، يقاوم رعشة غير مرئية لأصابعه، فوق يده آثار حرق بأعقاب سجائر وكعوب أحذية حديدية، كانت تقبلها زوجته وهو نائم، وتلثمها بشفتيها الدافئتين، رئيس التحرير طلبك بالتلفون، عاوز يقابلك في أقرب فرصة، كانت فؤادة واقفة فوق شاطئ البحر، ترتدي لباس السباحة، يسمونه المايوه، يكشف سلسلة عمودها الفقري، من العنق إلى الشق بين الردفين، ظهرها طويل مشدود، يمتد إلى عنق قوي يحمل شعرها الغزير الأسود، مرفوعا فوق رأسها، الردفان المشدودان بعضلات قوية، الساقان طويلتان مستقيمتان مسحوبتان برشاقة إلى قدمين سمراوين أظفارهما مقصوصة نظيفة، واقفة على حافة البحر الأبيض المتوسط، عيناها تحدقان إلى زرقة المياه الذائبة في زرقة السماء، حركت جسمها نصف دائرة ضد الشمس، ظلت واقفة تحدق إلى اللانهائي، ذراعاها الطويلتان على جانبيها مرتخيتان، هواء البحر واليود والوجود يخترق عظام ظهرها حتى أسفل فقرة، تأتي إلى البحر لتغسل نفسها مما يحدث في حياتها، بإصبعها الطويلة الصلبة المدببة تضغط على الحفرة تحت ضلوعها، تلامس إصبعها جدار قلبها الأملس وحافة المعدة المتقلصة، تغوص إصبعها حتى عظام ظهرها، تتذكر ما حدث وتنسى، تترك ذاكرتها للنسيان، الكسل اللذيذ وهواء البحر، تبتسم لنفسها، تتقلص الابتسامة مع انقباضة الشفة السفلى تحت أسنانها الأمامية، حادة بارزة مدببة، شفافة بيضاء ملائكية، تقاطيع وجهها حادة، منحوتة بقوة، بشرتها معبأة بالشمس واليود والملح، عيناها تحت الجبهة العالية عميقتان، الخدان بارزان تحت جلد مشدود رقيق يكاد يتمزق ويسيل منه الدم، ألقت نفسها في البحر وسبحت مع التيار حتى الصخرة، لا تجد لذة في السباحة السهلة، تفضل أن تسبح ضد الأمواج، تبذل جهدا ممتعا في مقاومة التيار، يأخذها البحر بعيدا عن الشاطئ، تختفي عن أنظار الحارس في كشك الرقابة، ينفخ في صفارته، يلوح بالراية السوداء، ثم يراها تخرج من كبد البحر مثل الشراع، تضرب المياه بقوة ذراعيها وساقيها عائدة إلى الشاطئ.
ارتدت ملابسها بسرعة داخل الكابينة، يحتفظ جسدها بالملح حتى تعود إلى البيت، ترتدي القميص الأبيض الفضفاض من الكتان، بنطلون واسع من الجبردين الرصاصي، حزام من الجلد ذو قفل حديدي مشدود فوق بطنها، جيبها الخلفي لم يعد فيه كيس النقود، نشله لص في محطة القطار، محطات القطارات تمتلئ بالنشالين، وأصابع اللص سريعة كلفحة هواء، مدربة خفيفة تسرق الكحل من العين كما تقول السيدة جارتها، البلد أصبح عامرا باللصوص والسماسرة ومهربي البضائع والمخدرات والجنس والأعضاء البشرية ومكاتب الاستيراد والتصدير، لم يكن معها ثمن تذكرة الترام، سارت إلى بيت صديقتها كوكب، من شاطئ ميامي إلى شاطئ جليم، حملها المصعد إلى الدور الرابع عشر، فتح لها الخادم الباب، قادها فوق مساحات من السجاجيد العجمية إلى الشرفة الكبيرة، امتد بصرها إلى المدينة كلها، تكاثرت الجوامع والمنارات ومن فوقها مكبرات الصوت أهلا أهلا فؤادة حبيبتي ...
ظهرت كوكب في الشرفة، قصيرة ممتلئة مربعة، تضع حجابا تزينه فصوص من اللؤلؤ، تترجح فوق كعب رفيع عال جدا، ترفل في ثوب أحمر شفاف، مشغول فوق الصدر بخيوط زرقاء، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، وجهها شاحب بالرغم من المكياج، عيناها صغيرتان تلمعان ذكاء، كانت مجتهدة في الدراسة تحفظ الدروس عن ظهر قلب، وقعت في حب زميلها الذي مات في إثر حادث سيارة، ساورها تساؤل عن معنى الحياة، لم يجب أحد في المدرسة أو الأسرة عن تساؤلها، بدأت زميلة مسلمة تتقرب إليها بإعطائها أشرطة مسجلة لأحد الدعاة المشهورين، أولها شريط عنوانه عذاب القبر، يحكي عن الثعبان الأقرع الذي ينزل إلى زنقة القبر المظلم، ويضرب البنت بذيله في أعماق الأرض لعدم ارتدائها الحجاب، أصابها الهلع، ساعدتها زميلتها على شراء الحجاب وارتدائه بحماسة، أصبحت تصرخ في وجه أمها قائلة: «إنتي كافرة، تحجبي، حاتموتي ويضربك الثعبان الأقرع بذيله في أعماق قبرك.» وألقت جميع أشرطة الموسيقى والأغاني التي أحبتها في القمامة، وانتزعت الصور عن حيطان البيت، وتمثال إيزيس الذي زينت به المكتبة في الصالة دفنته في حفرة في الأرض، وغطت جهاز التلفزيون بملاءة سوداء، ثم استمعت إلى الأشرطة الأخرى، وأصبحت ترى نفسها تمشي فوق الصراط المستقيم وعيون الشياطين في الجحيم تشير إلى جسدها العاري، الذي كتبت عليه فضيحتها بحروف من نار: هذه البنت لم تلبس الخمار. أخذتها الزميلة إلى محل أمام جامع أسد بن الفرات، فاشترت الخمار والأشرطة كلها لهذا الداعية المشهور التي تبلغ أربعين شريطا، غضب أبوها بشدة ونزع خمارها بالقوة فتمادت في التمرد على الأسرة، أخذتها أمها إلى الشيخ محمد الغزالي ليصحح أفكارها، لكنها لم تسمع له، سيطر الداعية الشهير على عقلها وقلبها فأحبته كالعبد للرب، أخلصت في خدمته وتوزيع أشرطته وتدريسها في الجامع، واستسلمت لكل ما يقوله وما يفعله، يضمها إلى صدره كالأب الحنون ويقرأ القرآن، أكبر من جدها فلم تشك فيه، في يوم فض بكارتها من دون أن تشعر بالخطأ، كان هو الصواب والحق المطلق، فوجئت بالحمل، تصورت أنها مريم العذراء تحمل المهدي المنتظر، فهي الوحيدة من نساء العالمين التي ذكرها القرآن باسمها وخصص لها سورة كاملة.
بعد أيام في الجامع كان الداعية الشهير يتحدث عن شرائطه بعنوان سيرة الرسول، حكى لهم أن سيدنا جبريل نزل على النبي الطفل ليختنه، وكانت هي قد قرأت عن الأضرار الطبية لختن الإناث والذكور، فسألته عن المرجع الذي يستند إليه في ختن النبي، فإذا به يزمجر غضبا ويطردها من الحصة قائلا: «إنتي قليلة الأدب، إزاي تسألي عن شيء يخص عضو الذكر عند النبي؟»
خرجت تبكي في الشارع مكسورة القلب تشعر بالذنب، غاب عنها النوم وفقدت شهيتها للطعام لأنه حرمها من لقائه، فأخذتها أمها إلى صديقة لها طبيبة نفسية شديدة الرحمة والفهم، شجعتها على البوح ... ذهبت إليه الطبيبة النفسية فإذا به ينكر كل شيء ويتهمها بالفساد والكفر، ساعدتها أمها والطبيبة على إجراء عملية الإجهاض، خلعت كوكب الخمار لكنها لم تملك الشجاعة لخلع الحجاب، سافرت مع زوجها بكري إلى الخليج للعمل في صحيفة الإسلام والإيمان، ثم عادا إلى مصر، فعينا في الجورنال بقرار جمهوري. - محفظتي نشلوها يا كوكب، لازم أرجع مصر الليلة عاوزة سلفة. - سلفة إيه؟ ده احنا أهل. - البلد بقت كلها لصوص. - سمعت عن القرار. - قرار إيه؟ - فصلك من الجورنال. - أنا نسيته يا كوكب. - شيء مؤلم يا فؤادة.
مع التيار
يرتعش صوت كوكب ألما وينسدل جفنها الأعلى مخفيا الفرحة، لا فائدة من الصدق في هذا البلد يا فؤادة، الفساد منتشر وخصوصا في الصحافة، رئيس التحرير يتلقى الأوامر بالتلفون كل يوم من السيد الرئيس، نصحتك كثير، قلت لك لازم تمشي مع التيار يا كوكب، لا يمكن أغير نفسي، المسألة مش نفاق يا حبيبتي، أنا زيك لا يمكن أنافق لكن مجرد ذكاء اجتماعي، صعد الدم إلى وجهها كل حاجة بقت مقلوبة يا كوكب، الصدق بقى غباء والنفاق بقى ذكاء. انزلق جسد كوكب قليلا إلى الوراء في المقعد، مدت ذراعها إلى جرس يتدلى من الجدار، ظهر السفرجي، بشرته سوداء مثل بشرة أهل أسوان أو السودان، يرتدي قفطانا قطيفيا أحمر من حوله فوطة بيضاء، تشربي إيه يا حبيبتي؟ وحشني كلامك الثوري، هات شربات الورد من الثلاجة يا عم عثمان، شكرا أنا لازم أمشي، تمشي من اسكندرية لمصر؟ - أمشي لإيطاليا كمان يا كوكب؟ - عارفاكي يا فؤادة تعملي أي حاجة.
أطلقت كوكب ضحكتها القصيرة كالشهقة المتقطعة.
أنا وبكري راجعين بعد الغدا، تتغدي معانا سمك مشوي وننزل مصر بالعربية سوا إيه رأيك؟ ظهر الزوج بكري في الشرفة، مرتديا روب دي شامبر حريريا لونه كلون البحر، يفوح منه عطر الحلاقة، صاح مرحبا بها، يحبها ويكرهها في آن واحد، واقفة ليه يا فؤادة؟ إذا حضرت الشياطين غابت الملائكة؟ - بالعكس يا بكري. - أنت الملائكة طبعا.
انطلقت الضحكات في الشرفة العلوية، جاء شراب الورد المثلج، ابتلعته جرعة واحدة مثل شربة زيت الخروع، اعتذرت عن الغداء وخرجت بعد أن أغلق الخادم الباب وراءها، أطرقت كوكب طويلا وهي تشعر بثقل في قلبها، نوع غامض من الهزيمة، رفضت فؤادة دعوتها، ربت زوجها كتفها: ما لك يا كوكب؟
مش عارفة يا بكري ليه أحيانا أحس فجأة بالحزن. يشير بكري إلى صورتها في الجورنال: تحزني ليه؟ صورتك في الجورنال، الوزير بيسلمك الجايزة، الأستاذ محمد أكبر مفكر عندنا يعتبرك الكاتبة الأولى في مصر والعالم العربي. ابتسمت كوكب في سخرية: كفاية عليه السيدة الأولى. تلعثمت ثم قالت: أنا فخورة إني باشتغل معاه رغم إني باحتقره. تتلعثم تتردد، تحاول كشف أعماقها لزوجها أو لنفسها: أيوه يا بكري، بصراحة أنا باحتقر المفكر والكاتب الكبير ده. شيء طبيعي يا كوكب. أنا متناقضة وانت بتحتقرني يا بكري؟ - التناقض أصل الكون يا كوكب، ربنا نفسه متناقض. - أستغفر الله العظيم! رجل مؤمن يقول الكلام ده؟
أنا مؤمن والحمد لله، لكن التناقض سنة الحياة، لا تحاولي جلد ذاتك، صديقتك فؤادة رفضت دعوتك بسبب الغيرة، أنت تصعدين إلى القمة وهي تهبط إلى القاع، وأنت متزوجة الكاتب المرموق أنا، وتشتغلين في أكبر دار صحفية في مصر والعالم العربي، فعلا يا بكري، أكبر جورنال في الشرق الأوسط، وأنا مخلصة في عملي، والأستاذ محمد يقدر شغلي، رغم أني أحيانا أسرق أفكار غيري وأعيد كتابتها، إيه الكلام اللي أنا بقوله ده؟ - أنا فاهمك يا كوكب.
ابتلعت دموعها، أحاطها بذراعيه وهمس في أذنها: أحبك يا كوكب كما أنت ولا يمكن أحب واحدة تانية. وضعت رأسها فوق صدره وتنهدت في راحة تعترف له بأشياء تخفيها عن نفسها، تشعر بحرية معه، ترفع عن قلبها العبء، لم تعد تشعر بثقل شيء، إلا صدره المغطى بالشعر الأسود الخشن يضغط نهدها الأيسر، أخذها إلى غرفة النوم، في السرير العريض صعدها، دخلها وخرجها بسرعة، ثم انقلب فوق ظهره مغمضا عينيه، قبل أن يسقط في النوم قال: على فكرة دعيت الأستاذ للعشاء الجمعة الجاية! - راجل عظيم؟! - أهم مفكر في مصر والعالم العربي. - بصراحة يا حبيبي أنا لا أفهم ما يكتبه! - يا كوكب ده فيلسوف عالمي.
تململت كاتمة الضيق، لا تشعر بلذة في قراءة الأستاذ، كلماته مقعرة متعالية، يدعي العلم، يردد أقوال فلاسفة من الغرب والشرق، لم تعد تشعر بلذة في القراءة، كل شيء في حياتها يخلو من اللذة، القراءة والكتابة والحب والجنس وكل شيء، وجدت نفسها تصيح بغضب: أرجوك يا بكري، بلاش كلمة عالمي دي. - ما لها كلمة عالمي يا كوكب؟ - أباتت كلمة مقززة؟ - كل شيء مقزز حتى الصحافة والكتابة ...
وأرادت أن تكمل لكنها توقفت، يتركها زوجها تتكلم ويسقط في النوم، تروح عن نفسها بالهمس، تواصل الحديث مع زوجها النائم حتى ينزاح العبء عن صدرها، تغسل عن نفسها كل ما يسبب لها التقزز، تصبح نظيفة طاهرة، ثم تغرق في نوم عميق كالملائكة. هبط الليل وفؤادة تمشي على شاطئ البحر، من أين لها بتذكرة القطار؟ هل تبيت في الكبينة على الشاطئ؟ تذكرت فجأة أخاها، إنه يسكن في شقة تطل على محطة الرمل، ويعمل في مكتب بالإسكندرية. وصلت إلى شقة أخيها متعبة جائعة ريقها ناشف، دقت الجرس لكن لم ينفتح الباب، واصلت دق الجرس والخبط على الباب الخشبي ذي اللون البني الأدكن، له مقبض ذهبي منقوش عليه حروف الله، لم ينفتح باب أخيها فازدادت حيرة، لا تعرف ما تفعل، أمام الباب قطعة من السجاد، مكتوب عليها كلمة أهلا، تكورت فوقها ورأسها بين يديها، انفتح باب الشقة المجاورة، ظهر شاب طويل نحيف يرتدي بيجاما بيضاء، اتسعت عيناه دهشة: حضرتك أخت عصام؟ - أيوه، أنا أخته. - اتفضلي، استريحي عندي، عصام دايما يرجع متأخر، اتفضلي لغاية ما يرجع.
كان واقفا في الباب، نظرته توحي بالثقة، وهي جالسة لم تنهض قالت ولسانها جاف من الظمأ: كوباية ميه من فضلك؟ - اتفضلي عصام صديقي.
دخلت من الباب المفتوح، الصالة واسعة فيها كنبة كبيرة من الجلد وبعض الكراسي من النوع الأسيوطي، ومكتبة من خشب الزان محملة بالكتب، قالت لنفسها: رجل يقرأ الكتب، إذن لا خوف منه. تملؤها الكتب منذ الطفولة بالطمأنينة، لمحت عناوين روايات عربية وأجنبية وكتب في الاقتصاد والتاريخ والفلسفة، كتب الأدب لها عندها جاذبية خاصة، أفرغت كوب الماء البارد في جوفها الساخن، غمرتها الراحة فاستندت إلى المسند الجلدي: أنت بتحب قراءة الروايات؟ - أيوه.
لكن كان يشتغل مهندسا، يضع رسوم الإنشاءات والمباني، يتحدث عن فن المعمار بحماسة عاطفية. دار الحديث بينهما كأنه زميلها في الجورنال، الإبداع في المعمار لا يختلف عن الإبداع في الأدب أو الموسيقى أو أي شيء آخر، لكن لا أحد يهتم بالحاجات دي في بلدنا؟
في بيت رجل
كانت تنظر إلى الساعة من حين إلى حين، تسير إلى باب أخيها تدقه، تضغط على الجرس، ثم تعود حائرة، بلغت الساعة منتصف الليل، عصام اتأخر جدا، دايما يتأخر، زمانه جاي في السكة عندي صينية بطاطس في الفرن، جعانة؟ جدا وضحكت نهض إلى المطبخ وكوباية ميه كمان من فضلك، أكلت بشهية الأطفال في غرفة الطعام، ونامت حتى الصباح في غرفة الضيوف، قلقت في نومها مرة أو مرتين، تتلفت حولها بدهشة، غرفة غريبة عنها، وهي راقدة بملابسها لم تخلع الحذاء، تدرك فجأة أنها تمضي الليل في بيت رجل لا تعرفه، ليس لباب الغرفة مفتاح، ينتابها القلق ثم يغلبها النوم، تفتح عينيها في الظلمة، ترهف أذنيها لسماع صرير باب غرفتها وهو يدخل؟ مجرد خيالات ومخاوف طفولية قديمة، حين كانت تسد شقوق الشيش بأوراق الصحف؛ خوفا من تسلل الشيطان أو الملاك مندوب الله إلى السيدة مريم العدرا، لكن الليل انقضى في أمان، قفزت من الفراش على ضوء النهار، صافحت الرجل وشكرته، لم تسأله عن اسمه، سارت إلى باب شقة أخيها ضغطت الجرس، فتح أخوها الباب، اتسعت عيناه دهشة، جيتي من مصر امتى؟
دلوقتي أتقول له أين قضت الليلة؟ لا أحد يصدق؟ تكاثرت المساجد والمسابح وفتاوى وأحاديث من نوع: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. دخلت الصالة، كانت مائدة الفطور معدة، فتاة جالسة تشرب الشاي وهي مرتدية قميص نوم أحمر شفافا، حمالة رفيعة فوق الكتف البيضاء العارية، رأسها ملفوف بالحجاب، تلعثم أخوها قليلا: صديقتي.
ابتسمت الفتاة وهمست: اتفضلي الفطور جاهز. شكرا، لازم أرجع مصر حالا، نشلوني يا عصام وعاوزة أستلف منك ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة. جلست في جوار النافذة، تحب السفر بالقطار منذ الطفولة، تشرد عيناها في المساحات الخضراء الممدودة إلى الأفق، لم تعد المساحات خضراء، تقلصت الخضرة وتقلصت البهجة، في محطة طنطا اشترت رزمة من الجرائد، رائحة السميط أعادت إليها شيئا من البهجة، قضت الوقت وهي تقرأ وتقضم السميط مع الجبنة الرومية، في الصفحة الأولى من الجورنال رأت الصورة، صورته تظهر في كل يوم في الصفحة الأولى، في كل مكان في البلد، فوق أعمدة النور والسواري، في مكاتب الموظفين والحلاقين، وفي دورة المياه بالقطار، تطل عيناه عليها وهي جالسة فوق المرحاض، تهتز الخطوط فوق جبينه مع الاهتزازات فوق القضبان، ويشتد غضبه حين يراها تمسح المرحاض بالجورنال، وصلت إلى محطة باب الحديد، ركبت الأوتوبيس إلى شارع التحرير، تمشي بخطوتها السريعة، الناس يرمقونها وهي تمشي، يحملقون في ظهرها المشدود ورأسها المرفوع، نوع من الكره تثيره في الرجال والنساء، يكرهون كيانها وكبرياءها، جسمها ممشوق مثل جسم شاب رياضي لكنها فتاة، خطوة واسعة واثقة تنم عن الكرامة، ليست خطوة أنثى، عيناها شاخصتان إلى الأمام تتحديان الأنوثة والذكورة معا، لم تكن ترى أحدا وهي تمشي، لا تتلفت هنا وهناك، كأنما الكون خال من البشر، تمشي نحو الأفق، حتى التقاء الأرض والسماء، تمشي كأنما إلى اللامنتهى، زوجها شاكر كان ينتظرها، بشرته بيضاء، شعره أسود كثيف إلا صلعة صغيرة في منتصف الرأس، عنقه رفيع يطل من فتحة القميص المفتوح، صدره أملس ليس عريضا وليس فيه شعر، عضلات ذراعيه قوية، يمارس الرياضة في النادي. - مكتب الرئيس طلبك مرتين. - الرئيس أنهوه؟ - مش عارفه. - رئيس التحرير؟ - عاوز يقابلك. - بخصوص؟ - قرار فصلك.
حدقت إلى عينيه الخضراوين من خلال زجاج النظارة البيضاء، في صوته رنة سرور غامض وهو ينطق «قرار فصلك»، يخفي الصراع في أعماقه بابتسامة أو بنصف ابتسامة، شارك في التظاهرات، هتف للحرية والعدالة والمساواة، دخل السجن وخرج، صدر له كتاب عنوانه تحرير المرأة: فصلني خلاص عاوز يقابلني ليه؟ - يمكن يرجع في قراره. - لا يمكن أرجع الجورنال. - بلاش مشاكل جديدة يا فؤادة.
يتحسس مؤخرة رأسه بأطراف أصابعه، حركة لا إرادية، منذ خرج من السجن قرر ألا يدخله مرة أخرى، يرمق زوجته بغضب مكبوت، تعيش في الخيال غير معترفة بالواقع، تصفع الناس برأيها من دون أن تفكر في العواقب، كان الأفضل أن يتزوج ابنة عمه سوسو، ليست ذكية ولا جميلة، لكنها أنثى رقيقة، تحب رعاية الأطفال وتجيد الطبخ وأعمال الإبرة، ليس لها طموح خارج البيت والأسرة، لكنه اختار فؤادة، ليس بسبب الحب أو الجنس، زوجته في نظره باردة، تفتقد ضعف الأنوثة، لا تطيع إلا عقلها، كانت له علاقات بنساء شبقات غير مختونات، يفضل الفتيات العذراوات دون سن العشرين، لكنه تزوج فؤادة بعد خروجه من السجن، كان متعبا معزولا عن الحياة، أراد زوجة قوية الشخصية تعيده إلى الحياة، تحمل عنه أعباء البيت ومصاريف الأسرة، جميلة ممشوقة يفخر بها في الحفلات، ولا مانع من أن تكون مثقفة أو كاتبة، شرط ألا تعوقها الكتابة عن واجباتها الزوجية، دخلت فؤادة الحمام، تركت نفسها تحت مياه الدش تغسل الرمال والماء المالح، ناسية جسمها تحت المياه المتدفقة، علاقة طفولية تربطها بالماء والبحر، قالت لها جدتها وهي طفلة إنها كانت «سمكة» تسبح تحت الماء، وجدوها على الشاطئ فأخذوها إلى البيت، سمكة نوعها إيه يا جدتي؟ تضحك جدتها من دون أسنان، تستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، عرفتي منين أنواع السمك يا عفريتة؟
كانت فؤادة طفلة في الرابعة من عمرها، تسمع جدتها تنشد مع الراديو الأناشيد الوطنية، النصر المجيد، الصوت يدوي في الإذاعات انتصرنا، تحدق إلى عيني جدتها، التحديقة المخيفة مثل العفاريت، تريد أن تسألها عن الحرب والنصر، لكنها تسألها عن أنواع السمك، تعد الجدة الأسماء على أصابع يدها المعروقة، التي يعلوها نمش أسود: البلطي والبوري والبياض والقراميط والثعابين وسمك موسى. تتذكر الطفلة قصة سيدنا موسى التي حكتها الجدة فتسألها: وسيدنا محمد له سمك كمان؟ تخبط الجدة على صدرها مستعيذة من الشيطان الرجيم أستغفر الله العظيم، سيدنا محمد ما لوش سمك. صوت زوجها يأتيها من وراء باب الحمام: رئيس التحرير ع التلفون، خرجت تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، جففت يدها المبللة، وأمسكت السماعة: آلو، آلو. - لأ يا أستاذ، النهارده مش ممكن أنا في أجازة. - بكرة الساعة عشرة الصبح يا فؤادة؟
الفصل من الجورنال
ممكن. وضعت السماعة وزوجها يبحلق فيها، ملامحها هادئة خالية من أي قلق، كأنما لم تفصل من الجورنال، واقفة تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، شق رفيع طويل في البشكير يكشف عن فخذها الناعمة الممشوقة المحروقة من الشمس، يهبط إلى ساقها الطويلة حتى قدمها الحافية المبللة بالماء فوق بلاط الصالة، تحركت شهوته قليلا، أراد أن يأخذها إلى الفراش، لكن الرغبة لم تكن كافية، جسدها منذ ليلة الزفاف لم يشبعه جنسيا، تعود إشباع شهوته مع نوع آخر من النساء، جسم ممتلئ باللحم، طري يلين تحته من دون جهد، أو بجهد قليل، لا يحب أن يبذل جهدا في الفراش، تكفيه الجهود الأخرى خارجه، يفضل أن تأخذ المرأة المبادرة، وتقوم هي بالعمل، دخلت غرفتها وأغلقت الباب من خلفها، كانت لها غرفتها الخاصة وسريرها، ومكتبها، ومكتبتها، وخزانة ملابسها، لكل منهما الاستقلال الكامل، لا يسيطر أحدهما على الآخر، لهما قانون خاص، بالبنود التي يتفقان عليها، في غرفتها تمددت فوق سريرها، تنشد الراحة والاسترخاء بعد الحمام الساخن، تستعيد دفء الماء الذي يغرق جسمها، منذ الطفولة تعشق النوم، على الجدار فوق مكتبها صورة ملونة لأمها وأبيها بملابس البحر، تتمدد هي تحت الشمس، من حولها الأطفال يبنون القصور من الرمال ثم يهدمونها، يعيدون بناءها وهدمها، أبيات شعر وقصاصات ورق مثبتة بدبابيس على لوحة خشبية، فوق المكتب مذكرة هامة، لا تنسي موعدك ...
ثم غلبها نوم لذيذ، انتفضت على صوت زوجها من وراء الباب الساعة التاسعة يا فؤادة، ميعادك الساعة العاشرة مع رئيس التحرير، زوجها يحرص على المواعيد، أدخله أبوه المدرسة الألمانية في الطفولة، أعجبته شخصية هتلر وبطريق الكنيسة والسلطة الإلهية المطلقة، وهو في العاشرة من عمره انفصل أبوه عن أمه وتزوج فتاة تصغره بأربعين عاما، كان يناديها ماما، تضربه في غياب أبيه وتلسعه بالمكواة من دون سبب، ثم تغمره بالقبلات حين يعود أبوه، مبنى المؤسسة الصحفية في عمارة شاهقة جديدة في شارع متفرع من ميدان التحرير، ناطحة سحاب جدرانها زجاج ذات أعمدة من خرسانة حديد وأسمنت، من الطراز التجاري الأمريكي السريع، يشغل مطعم ماكدونالد نصف الدور الأرضي، تفوح منه رائحة الهامبورغر، النصف الآخر يبيع أجهزة الفيديو والديسكو، تتصاعد منه تسجيلات أغاني موسيقى راقصة صاخبة، لا يعلو عليها إلا أصوات الميكروفونات تذيع الصلوات والتسبيحات من الجوامع المجاورة، يشغل الجورنال الأدوار الحادية عشرة بعد الأرضي، مكتب رئيس التحرير في الدور الثاني عشر تشغل السكرتيرة غرفة واسعة هادئة إلا من أزيز خافت لجهاز التكييف، لها نوافذ كبيرة زجاجية تكشف نهر النيل وجبل المقطم وقلعة محمد علي، ترتدي السكرتيرة ثوبا هفهافا قصيرا، يكشف جزءا من الفخذين الرشيقتين، خطوتها سريعة خفيفة مثل خطوات راقصات الباليه، تنتعل حذاء فضيا مفتوحا من الأمام، تمتص السجادة السميكة فرقعة الكعب العالي الرفيع، تبتسم بإتقان مثل نجوم الشاشة أو العرائس فوق المسرح، سارت فؤادة وراءها بحذائها الأسود المعفر وقميصها الواسع الأبيض من القطن والبنطلون الرصاصي من الجبردين، مكتب رئيس التحرير ضخم، مفروش بالسجاجيد العجمية، فوق رأسه صورة ضخمة لرئيس الدولة، من تحتها صورة وزير الثقافة ثم رئيس المجلس الأعلى للأدب والصحافة وصور رؤساء تحرير الجورنال السابقين، في صف طويل، ثم صورته في آخر الطابور داخل إطار ذهبي، رأسه من فوق المكتب الضخم صغير الحجم يخلو من الشعر، إلا شعيرات سوداء نافرة وراء أذنيه، فوق المكتب أوراق ومجلات مصرية وعربية وأجنبية، وأجهزة تلفون متعددة مختلفة الألوان، منافض بلورية ملأى حتى الحافة بأعقاب السجائر، دخان يتصاعد إلى السقف، علب سيجار وسجائر مرصوصة في جوار أكوام الكتب والورق، سيجارة مشتعلة بين إصبعين صفراوين في يده اليسرى، يده اليمنى تمسك القلم الذي يتحرك فوق الورق بخطوط عشوائية، صوته متحشرج، جفونه المتورمة مسدلة قليلا، كأنما يحاول الاستيقاظ من النوم. حاولت كثيرا أن أمنع هذا القرار لكن الأغلبية في المجلس وقفوا ضدك، الأستاذ رئيس المؤسسة وقف ضدك بعنف وهدد بالاستقالة إن لم يصدر قرار فصلك، لا بد وأنه عانى منك الكثير، فعلا عانى مني الكثير، ليه التطرف ده يا بنتي؟ لك قلم ممتاز ومستقبل جيد في الصحافة، ألا تهتمين بمستقبلك الصحفي؟ - لا. - أنا أحاول مساعدتك، وقد أعطيتك فرصا كثيرة سابقة أتنكرين ذلك؟ - لا أنكر.
أشعل سيجاره وراح ينفخ الدخان، فؤادة تسبب له ضيقا، عيناها تحدقان إلى عينيه بثبات، ليس في التحديقة وقاحة بل انتباه وتركيز، اسمعي يا بنتي، الصحافة لها أصول وتقاليد، هل تظنين أنك قادرة على كسر الأصول والتقاليد؟! هذا عبث، جنون. - نعم. - حين أطلب إليك حذف أجزاء من مقالك، هل هذا يغضبك؟ - طبعا يغضبني. - أعطيك فرصة أخيرة. - شكرا. - سأضطر إلى تنفيذ القرار، سوف تندمين. - لن أندم، كنت أنوي الاستقالة منذ مدة، تعودت أن أقرر لنفسي ولا أنتظر قرارات الآخرين، كان يجب أن أترك الجورنال من زمان، أنا بصراحة لا أحب الصحافة، لا أشعر فيها بأي متعة، الصحافة ليس فيها إبداع أو تجديد، معظمها نفاق وكذب.
نفخ رئيس التحرير عمودا من الدخان وصمت طويلا، شيء ما يجذبه فيها، ليس كلامها بل طريقتها في التعبير وتحديقة عينيها. - النفاق طبيعي في الصحافة يا فؤادة، اسمه ذكاء سياسي، والإبداع والتجديد ممكن تطبيقهما في الصحافة، تجارب الماضي وضرورات الحاضرة مهمة، العملية الإبداعية في الصحافة طويلة بطيئة تدرجية جماعية، تقتضي التعاون بين الجميع واحترام رأي الأغلبية ، الاحترام غير الخضوع، مش عارف إنتي عاوزة إيه؟ - عاوزة أعبر عن نفسي، عاوزة أكتب اللي في دماغي. - أنا عاوز الحقيقة يا فؤادة؟ - أيوه يا أستاذ. - الحقيقة أن دماغك دي عاوزة الكسر، إنتي عارفة قيمة قلمك عندي المشكلة دماغك، مطلوب كسرها، إحنا بنعيش في دولة فاسدة من قمة رأسها لأسفل مؤخرتها، النفاق يكسب في كل مجال خصوصا الصحافة، لا يمكن أن أستمر فوق الكرسي بدون إراقة ماء وجهي، لازم أحط مناخيري في الأرض، الوزير مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيسه مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيس الكل عارفاه مين؟ - ربنا يا أستاذ محمد؟ - ربنا يجعل كلامنا خفيفا على قلبه يا فؤادة، اسمعي كلامي كفاية مبادئ وكلام فارغ، شعب إيه وثورة إيه؟ في التاريخ كله النظام واحد في الكون كله، لا يمكن يتغير. - ممكن يتغير يا أستاذ. - اسمعيني وكفاية عبط ومثالية، أفلاطون لم يكن مثاليا، كان يؤمن بالقوة فوق الحق، لا يوجد شيء اسمه حق دون قوة، القوة هي كل شيء، أنا أصدرت قرار فصلك تحت ضغط القوة العليا من فوق رأسي، لازم أنفذ الأمر وإلا أقعد في البيت وعيالي يموتوا من الجوع فاهماني؟ - لكن يا أستاذ محمد ... - أرجوكي لا تقاطعيني، أخطر شيء أن العيال يجوعوا، أبويا الله يرحمه جوعنا كلنا من أجل رأيه الحر، أمي اشتغلت في البيوت، وأنا خرجت من المدرسة واشتغلت في ورشة ميكانيكي، كان يضربني في بطني بكعب جزمته، أنا ممكن أضحي برأيي الحر من أجل أولادي، أبويا كان أناني يفكر في نفسه في رأيه وخلاص، أنا أفكر في أولادي، لازم يتعلموا كويس ويعيشوا كويس ويكون لهم كرامة، أنا مستعد يا بنتي ألغي قرار الفصل بشرط أنك تغيري طريقتك وتمشي في الصف، كلنا ماشيين في الصف، موافقة؟ - لأ مش موافقة يا أستاذ محمد. - مش فاهم إنتي عاوزة إيه؟ - عاوزة أعمل الشيء اللي باحبه. - إيه هو؟ - الكتابة. - شغلنا كتابة في كتابة. - الصحافة غير الكتابة، عاوزة أكتب أدب؟ - أدب إيه يا فؤادة، إنتي عايشة في الخيال، حاولي تعيشي الواقع، الأدب الحقيقي أو الإبداع الحر لا يمكن يوكل عيش، قوليلي اسم أديب واحد عايش على الأدب، كلهم موظفين في الدولة في الصحف والمجلات، كلهم ماشيين في الصف فيه ناس تمردوا وكتبوا أدب حقيقي، زي مين؟ - الكاتبة بدرية البحراوي. - بدرية البحراوي كاتبة موهوبة لا يمكن حد ينكر، لكن شوفي هي عايشة إزاي، كان ممكن تكون في قمة الأدب وتعيش في المجد لكن مين يعرف بدرية البحراوي النهارده؟ اسمها اختفى تقريبا، اسمعي نصيحتي يا بنتي، فكري بعقل، أنا كنت الوحيد في المجلس اللي دافع عنك، كلهم وقفوا ضدك. - عارفة أيوه عارفة. - الأفضل تغيري طريقتك، موافقة؟ - لأ.
يصمت رئيس التحرير لحظة، يرمقها في صمت، ينفث الدخان من أنفه، يراها تحدق إلى عينيه، لا يرى في تحديقة عينيها وقاحة، بل ثقة بالنفس ونوعا من الأدب، كان مثلها في طفولته، قبل أن يضربه الميكانيكي بكعب حذائه في بطنه. كلهم بيتهموكي بالتطرف أو بالجنون، اعذريني لصراحتي معك. - أعذرك طبعا. - اسمعي، لازم أنفذ قرار فصلك، أنا آسف. - ما فيش داعي للأسف يا أستاذ، كنت عاوزة أتحرر من عبء عمل لا أحبه، ولا أجد فيه أي متعة، مهنة الصحافة لا تناسبني، لا أستطيع الخضوع لتقاليد هذه المهنة، أنا أحب الكتابة الأدبية، إنها متعتي الوحيدة، الكتابة الأدبية مهنة أيضا لها تقاليدها ومدارسها وأساتذتها الكبار، لا يمكنك الخروج على قواعدها، ممكن الخروج على أي قاعدة يا أستاذ، الإبداع هو خلق قواعد جديدة. - ألا تعترفين برواد الأدب الكبار المعروفين اللي حصلوا على أعلى الجوائز؟ - التاريخ يا أستاذ محمد هو اللي يحكم ويفرز الرواد الحقيقيين من الرواد المفروضين بالدولة ورئيسها، وكل إنسان مبدع رائد في مجاله يا أستاذ محمد، طبعا الدراسة والقراءة ضرورية في العلم والفن، ليس في الأدب فقط لكن الإبداع ينبع من الحياة، من الملاحظة الدقيقة للواقع والخبرة والتجربة والحساسية والمشاعر والتفكير، الشكل لا ينفصل عن المضمون، الجلد لا ينفصل عن اللحم، كل قصة لها تكوينها، كل قصة كائن حي له بصمته وصفاته المميزة.
يرمقها في صمت، ينفث الدخان في السقف ، في أعماق عينيها إيمان بما تقول، يستمع إليها بشيء من الدهشة، ليس كلامها الذي يدهشه بل الطريقة التي تتكلم بها، حماستها لما تقول من دون أن يطرف لها جفن، من أين لها هذه الثقة العارمة بنفسها؟ يقلب الملف فوق مكتبه الخاص بسيرتها الذاتية، عمرها ثلاثة وعشرون عاما، تخرجت في كلية الهندسة، لم تتخرج في كلية الآداب أو الإعلام، قليلة الاختلاط بزملائها وزميلاتها في الجورنال، لا تحضر اجتماعات التحرير، لها زميلة تتبادل وإياها الحديث هي كوكب، وصديقة لها تعمل في المطبعة اسمها حميدة. يا فؤادة لمن تكتبين؟ - أكتب لنفسي. - مش عاوز قراء وجمهور؟ - أكتب لنفسي وبعد ذلك للآخرين. - والكتابة هدفها إيه؟ - هدفها الكتابة. - ده مش معقول.
دق جرس التلفون فوق مكتبه، تركه يدق وراح يفكر، جنونها معقول، لا يريد أن يخسرها الجورنال، بالرغم من جنونها لها قلم، لها شخصية لا يمكن تجاهلها، بالرغم من غرابتها ليست غريبة، ضميره يؤنبه لأنه يفصلها، يبذل أقصى جهده لإبقائها، وهي لا تحاول مساعدته. إنتي خطيرة يا فؤادة. - يعني إيه خطيرة؟
مد يده ورفع سماعة التلفون: آلو، أيوه، جاي حالا.
نهض واقفا.
حاولي مراجعة نفسك، اسألي صاحبتك كوكب، هي صحفية ممتازة، عاقلة متزنة، قررنا جميعا ترشيحها لجائزة الدولة، ممكن ترشيحك السنة القادمة لو عقلت وبطلت الجنون، أنا أعطيتك وقت أكتر من اللازم، أمامك فرصة أخيرة للتفكير. - أنا فكرت خلاص. - خلاص.
كوكب الكميلي
تنهدت رافعة ذراعيها «خلاص» كأنما ترفع عن قلبها عبئا ثقيلا، رمقها من ظهرها وهي تخرج من الباب، طويلة ممشوقة الجسم، مثل شاب رياضي، خطوتها واسعة خفيفة، كأنما تنطلق بسرعة إلى موعد هام، أهم من الجورنال ومن كل شيء، القاعة الضخمة ملأى بالمئات من المثقفين، الرجال والنساء من مختلف الأعمار، وجوه معروفة تظهر في الصحف والإعلام، صحفيون، أدباء، مفكرون وما يقال عنهم صفوة المجتمع، جالسون في مقاعدهم ينتظرون، يتطلعون إلى المنصة العالية، الكراسي من خلفها مغطاة بالقطيفة الحمراء ومطعمة بالذهب، سبعة آلاف سنة لم تتغير الكراسي منذ الإله آمون، نقل العالم شكل الكرسي ومعناه عن الحضارة المصرية القديمة، لا ينفصل الشكل عن المعنى، خمسة كراسي يلمع ذهبها تحت الأضواء القوية يتوسطها الكرسي الأضخم الأكثر ذهبا الأثمن قطيفة، يجلس فيه رئيسهم، يأتي متأخرا بعد أن تمتلئ الكراسي جميعا، ويدب الصمت ثم يدوي الصوت الجهوري الجمهوري: السيد رئيس الجمهورية. يدوي التصفيق والأجسام تنتفض وقوفا، والأعناق تشرئب نحو كتلة الضوء، تصبح العيون عمياء من شدة الكهرباء، يبدو وجهه كوكبا مضيئا من دون ملامح واضحة، إلا الجبهة المسطحة وأرنبة الأنف المعقوفة والشفة السفلى الممطوطة في اشمئزاز وكبرياء مصطنعة، يلقي وزير الثقافة خطابا ركيكا حافلا بأخطاء النحو والصرف والتاريخ والجغرافيا، تصبح مصر هي قمة العالم، رئيسها هو رئيس القمة العالمية، فيلسوف القرن الواحد والعشرين، يعطي توجيهاته للجميع من وزير الثقافة إلى وزير الحربية والبوليس والتعليم والأمن والاقتصاد والسياسة، والدين والأدب والعلم وحماية الأخلاق والبيئة، وجمع القمامة ورعاية أطفال الشوارع، هو رب العائلة البشرية الذي صنع كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ بإرادة الله طبعا أيها السادة، يقدم الوزير فخامة الرئيس، يتمطى فخامته ويمط الكلام، يخرج صوته بطيئا مشمئزا، شفتاه الممتلئتان النديتان المشربتان بالحمرة، وعصير الفواكه والكسل، تتحركان في بلادة، العيون والآذان وقرون الاستشعار تتابع الحركة والصوت والضوء، ثم يبدأ توزيع الجوائز، يتقدم الفائزون والفائزات في صفوف منتظمة، ملابسهم أنيقة نظيفة، ملامحهم مغسولة لا يظهر منها إلا الابتسامة العريضة الممدودة بين الأذنين، والعنق ينحني مع الرأس لحظة امتداد فخامة اليد بالجائزة الرفيعة، ويدوي التصفيق دويا كبيرا، كوكب الكميلي بعد أن تسلمت الجائزة وجلست في مقعدها تدور بعينيها في القاعة باحثة بين الوجوه عن وجه معين، تدرك منذ تسلمت الجائزة أن العيون ترمقها، كوكب الكميلي عيناها سوداوان يكسوهما بريق الذكاء والانتباه، شفتاها ناعمتان ملونتان بحمرة عاقلة متزنة تشبه العذرية، تحوم عليهما ابتسامة تنم عن فرحة مكتومة، لا تظهري فرحك للناس وإلا كرهوك، إن الله لا يحب الفرحين، درس تعلمته في البيت والمدرسة، ترفع رأسها وهي جالسة بزهو، تدرك أنها جميلة، وأن جمالها أمر طبيعي من عند الله، ميزها الله من الآخرين والأخريات ، إنها كوكب الكميلي نجمة الأدب والصحافة، نائبة رئيس التحرير، بطلة السباحة والكرة الطائرة، حصلت على أعلى الأصوات في الانتخابات، أصغر الأعضاء سنا، عيون الرجال تلتهمها حبا، عيون النساء تأكلها حسدا، هذا الحشد من المثقفين جاء ليشهد حصولها على الجائزة، تدور عيناها على الرءوس في القاعة محاولة معرفة عددهم، في القاعة خمسمائة كرسي جميعها ممتلئة من دون استثناء، بعض الناس يقفون وراء الصف الأخير على الجانبين، جميعهم يعرفون موهبتها الصحفية والأدبية، إلا زميلها أحمد عارف الذي تصور أنه الفائز بالجائزة، لكنها صرعته في المنافسة، بالجهد المتواصل والصبر والعرق والأرق، تهمس لنفسها، نعم اشتغلت يا كوكب الكميلي مثل كلب لتصرعي غريمك أحمد عارف، لم يعد لديك منافسون بعد أحمد عارف، ثم ابتلعت كوكب الكميلي لعابا مرا، شعرت فجأة بغصة في حلقها، تنزلق الغصة من الحلق إلى المعدة، تشبه الكرة الصلبة الباردة الخاوية من الداخل، مثل ثقب الأوزون الأسود، أو فراغ من هواء مضغوط، يتحول من بخار في المعدة إلى قطعة صلبة، تتحرك في أحشائها، كتلة متراكمة من القلق والحيرة والشك داخلها الثقب، هل أنت يا كوكب الكاتبة الموهوبة التي تستحق هذه الجائزة؟
عيناها تدوران في القاعة بحثا عن وجه أحمد عارف، لمحت وجهه النحيل الشاحب بنظارتيه الطبيتين البيضاوين فوق عينيه اللامعتين تحت الأضواء، ابتسمت في وجهه وهزت رأسها بتحية، يتخفى الزهو تحت التواضع، يرد لها التحية بانحناءة رأس مستسلم، وابتسامة كبرياء مهزومة، تشعر كوكب بدوار لذيذ، كأنما شربت كأس نبيذ معتق، نشوة النصر على أحمد عارف، أقوى المنافسين لها، دعي العيون تشهد يا كوكب الكميلي كيف تتفوقين اليوم على أحمد عارف وغيره من الكتاب والصحفيين، في نهاية الحفلة وقفت بقامتها الطويلة الرشيقة بين كبار الأدباء ورؤساء التحرير، الأديب الكبير خالد الحموي، الحائز جائزة مبارك يبتسم في وجهها، يشد على يدها بقوة وحرارة، مبروك يا أستاذة عقبال جايزة مبارك. وزير الثقافة يربت كتفها بحنان الأب، مبروك يا بنتي لك مستقبل أدبي مرموق يفخر به الوطن. يعانقها الزملاء والزميلات مهنئين، تستمع إلى عبارات التهنئة والتقدير بفرح كبير، تتذكر صديقتها فتشتد فرحتها، لم تعد منافسة خطيرة لها بعد فصلها، كانت هي تخص كوكب بصداقتها، تعاملها برقة وتساعدها على الكتابة، لم تكن كوكب تجيد الكتابة باللغة العربية، مقالاتها ملأى بالأخطاء، لا تتأخر عن تصحيحها إن طلبت إليها كوكب ذلك، أحيانا تعيد كتابة المقال أو فقرة تراها ناقصة، كتبت لها مقالا كاملا حين سافرت في الإجازة، مدحه رئيس التحرير كثيرا، هنأ كوكب عليه، نشره في مكان مميز أعلى الصفحة، مع صورة كوكب داخل إطار، في الليل تحلم كوكب بكابوس يثقل قلبها، تبدو صديقتها هي الكابوس أو الشبح الذي يطاردها في الظلمة، تتمنى أن يأخذها الله؟ ثم تقول لنفسها في الحلم: ما ذنبها يا كوكب إذا كان الله هو الذي يعطي الموهبة لمن يشاء ويحرم من يشاء؟ لكن أين العدل يا رب؟ تتشكك كوكب في عدالة الله في أثناء النوم، حتى يطلع النهار فيعود إليها الإيمان كاملا، طردت كوكب الشبح بهزة قوية من رأسها، فازدادت الأصوات المهنئة من حولها، يقول لها أحمد عارف: «ألف مبروك يا كوكب يجب أن نحتفل بك الليلة في النادي الثقافي، الوزير سيحضر، وكبار الأدباء ورؤساء التحرير جميعهم.» شكرا يا أحمد أنت كاتب ممتاز كنت تستحق الجائزة أكثر مني لكن معلهش السنة الجاية تاخذها. لم تحضر صديقتها فؤادة الحفلة كعادتها، لم تكن تحب الحفلات والحياة الاجتماعية الأدبية والثقافية، تمنت كوكب أن تراها في الحفلة، لتشهد مع الآخرين فوزها، تجول عيناها في القاعة باحثة عنها، لم تكن فؤادة في الحفلة، أصبح غيابها غصة في حلق كوكب، إبرة تنخس صدرها، أرادت أن تقرأ على وجهها ما قرأته على وجه أحمد عارف والمنافسين لها؛ الحسد، لكن فؤادة لم تحضر حفلة الجائزة في الصباح، ولا حفلة المساء، لم تتصل بها كوكب منذ فصلها من الجورنال، ركبت سيارتها بعد الحفلة، عازمة على زيارة فؤادة في بيتها، أقنعت نفسها بأنها زيارة واجبة دافعها الصداقة، يداها تدوران مع عجلة القيادة وهي شاردة، يتحلق الأطفال في الشوارع حول سيارتها يمسحون زجاجها، يبيعون علب مناديل الورق المعطرة، أو زهور القرنفل، عقود الياسمين، أو لا يبيعون شيئا، لكن يحملقون من خلال الزجاج المغلق بعيون واسعة جائعة، يقشعر جسمها خوفا وهي ترى التحديقة في عيونهم، تدوس بقوة دواسة البنزين منطلقة بالسيارة، فتحت فؤادة الباب لترى كوكب أمامها تلهث، وقد صعدت الأدوار في الظلمة، كان المصعد معطلا، أنوار السلم منطفئة، كانت فؤادة ترتدي قميص نوم أبيض مجعدا، وكان شعرها ملفوفا فوق رأسها في ضفيرتين، مدت كوكب يدها نحوها بزهرة قرنفل وعقد ياسمين، كنت عاوزة أزورك قبل كده لكن الشغل كتير إنتي عارفة. مبروك الجائزة يا كوكب. الجائزة مش مهمة، المهم إنت يا فؤادة، أنا قلقت عليكي من يوم قرار الفصل. أنا نسيته يا كوكب. حد ينسى قرار مهم بالشكل ده؟ - أنا زعلت منهم في الجورنال، قلت لهم إزاي تفصلوا أكتر واحدة موهوبة فينا، عارفة تقديري لك يا فؤادة؟ - عارفة يا كوكب. - عاوزة آخد رأيك في موضوع مهم. - رأيي أنا يا كوكب؟ - رأيك كان دايما له قيمة عندي.
ضحكة خافتة وهي تحدق إليها: إيه الموضوع يا كوكب؟
الأستاذ محمد رشحني لرئاسة تحرير مجلة المرأة الجديدة، العدد الأول سيصدر في عيد النصر الجاي؟ مش عاوزة أسيب الجورنال، مين فات قديمه تاه، إيه رأيك؟
اختاري الشيء اللي تحبي تعمليه يا كوكب. مش باحب حاجة في الصحافة ولا تحرير المرأة ولا حاجة من الكلام الفارغ عاوزة إيه يا كوكب، مش عارفة، عاوزة أحب يا فؤادة، عاوزة الراجل اللي أحبه بحق وحقيقي، اتجوزت بكري من غير حب، ثم تطلق كوكب ضحكتها العالية المجلجلة التي تنتهي بشهيق عميق كالنشيج، ثم تحكي لها قصة حبها القديمة قبل الزواج، لا يمكن أنساه يا فؤادة مش عارفة ليه، هو الوحيد اللي حبيته وكنت عاوزة أتجوزه، لكن هو كان بيحب واحدة غيري دايما نبص للشيء في إيد غيرنا مش كده والا إيه يا فؤادة؟ - إيه يا كوكب.
وانفجرت الصديقتان بالضحك، قادت فؤادة سيارتها الصغيرة صباح اليوم التالي، كانت بدرية البحراوي تسكن في الناحية الأخرى من المدينة ، في شقة بسيطة من غرفتين، غرفة لمكتبها ومكتبتها، وغرفة للنوم، ومائدة الطعام في المطبخ، وصالة بها بعض المكاتب، انتقلت إلى هذه الشقة الصغيرة بعد تقديم استقالتها من سطرين:
لا تهتم الدولة بفتح العقول، شعب مغلق العقل يسهل حكمه، انفض الناس عنها بعد فقدانها المنصب، لم يعد اسمها يظهر في الصحف، وبعد منع كتاباتها أصبحت تنشرها في مجلات الشباب غير المعروفة، لا يزورها في مكتبها إلا القليل، شابات وشباب متمردون فقراء يشقون طريقهم بصعوبة.
بدرية
عانت بدرية البحراوي العزلة، أصبحت تكره المدينة وشوارعها الملأى بالقمامة، وجوه الناس المعفرة المرهقة، أكثر ما تكره الوجوه المغسولة في الصحف المنشورة، تجلس وراء مكتبها، الساعة وراء الساعة، اليوم وراء اليوم تمد يدها قبل النوم إلى الصحف، ترى صورهم داخل البراويز، منشورة مقالاتهم وقصصهم ورواياتهم مع الرئيس والوزير، الكاتب الروائي والمفكر والأديب العالمي، تلقي بالصحف في صفيحة القمامة، قادت فؤادة سيارتها في الحواري المتربة المتفرعة من الشارع الرئيسي، أكوام القمامة تسد مدخل المباني والعمارات، أطفال الشوارع ينبشونها مع القططة والكلاب الشاردة، وجوههم تشبه وجوه العجائز وعيونهم يأكلها الذباب، امرأة عجوز عمياء تجلس مسندة ظهرها إلى الحائط، ذراعها ممدودة ويدها مفتوحة، لا ينظر إليها أحد، كل يجري إلى رزقه، ألقت فؤادة في اليد الفارغة قطعة نقود، فانفرجت الجفون المغلقة عن شق رفيع وصوت مشروخ: كتر خيرك يا بنتي. ابتسمت، تفعل الابتسامة ما تفعله قطعة نقود، أمام العمارة توقفت، صعدت السلم إلى الدور الثاني، فوق لوحة نحاسية صدئة قرأت الحروف المحفورة: بدرية البحراوي. دقت الجرس، فتحت لها فتاة طويلة نحيفة عيناها سوداوان تلمع فيهما ابتسامة، في الصالة بعض من المكاتب الصغيرة، تحمل أكواما من الكتب والأوراق والمجلات والصحف، الرفوف من الأرض إلى السقف ملأى بالكتب، في ركن الصالة مائدة دائرية يجلس من حولها عدد من الشباب والشابات يتناقشون، لم ينتبه أحد إلى دخولها فجلست في أقرب مقعد وراحت تتصفح المجلات والكتب، انقضى ما يقرب من نصف ساعة، ثم نادتها الفتاة الطويلة النحيلة، كانت الأستاذة بدرية البحراوي تجلس وراء مكتبها مرتدية قميصا أبيض واسعا، من خلفها لوحة للبحر، اسمك ايه؟ - فؤادة. - جيتي هنا ليه؟ - لأقابلك. - ليه؟ - كتاباتك. - كتاباتي؟
شجعتني، راحت تحملق في الوجه أمامها، حركت الكرسي قليلا لتراها عن قرب، لفؤادة وجود يحس به الآخرون بشكل غامض، عيناها الثابتتان بهذه التحديقة انتبهت بدرية فجأة، لم تدرك وجودها إلا هذه اللحظة التي تحدق إليها، ماذا تريدين مني؟ - أريد أن أعمل معك. - أنا لا أعمل شيئا. - ألا تكتبين؟ - كنت في زمن مضى. - لماذا لا تفتحين مدرسة للإبداع الأدبي؟ - سيغلقونها. - لأ يا أستاذة. - استمري في عملك بعيدا عني. - ليس لي عمل. - كيف؟ - فصلوني بقرار وزاري. - أصبح لديك وقت أكثر للكتابة. - فعلا. - مبروك، أنت محظوظة.
ابتسمت بدرية، تغير وجهها مع الابتسامة، بدت شابة وليست كهلة.
صوتها أصبح أكثر دفئا:
أنت لا تصلحين للعمل في هذا الجو الملوث، بؤرة فاسدة، أهنئك على خروجك منه سليمة، لا يمكن لمبدعة العمل في هذا المجرور باكابورت يا أستاذة بدرية، أعرف أعرف؛ لهذا يفصلون كاتبة مثلك، لا يطيقون الصدق لأنه يكشف كذبهم، كالمرآة تعكس صورهم المشوهة، أطرقت طويلا، تهدلت عضلات وجهها، بدت فجأة مثقلة بالحزن، متى قررت أن تكوني كاتبة؟ - مذ كان عمري تسع سنين. - في السن الصغيرة دي؟ - أيوه. - ليه قررتي تكوني كاتبة؟ - ماعرفش، كرهت المدرسة، وكرهت البيت، أقول لك الحقيقة كلها؟ - قولي الحقيقة كلها. - كرهت المدرسة والبيت، أبويا لأنه بيظلم أمي، وكرهت أمي لأنها تقبل الظلم كرهت الدنيا كلها، ابتديت أكتب لأكشف الظلم، كنت باحلم بالعدل. - الناس لا تتكلم بهذه الصراحة، أنت مختلفة؟ - أيوه. - لا أقصد أنك شاذة. - نعم. - أنت طبيعية لكنك شاذة في نظرهم. - أيوه.
سكتت بدرية، بدا عليها التعب والضجر، ثم قالت كأنما تكلم نفسها: أنا قررت العزلة الكاملة عن الناس، لا أريد أن يأتي أحد منكم إلي، اذهبوا وتمردوا بعيدا عني، لا أريد تحمل مسئولية أحد، أنت لا تعرفين خطورة اقترابك مني، الثمن باهظ لا يمكنك دفعه، أنت تسيرين نحو تحطيم نفسك، الأفضل لك ألا تأتي إلى هنا مرة أخرى، أنا قررت العزلة ولا أريد رؤية أحد. مرت لحظة صمت طويلة، يا أستاذة نحن في حاجة إليك، لست وحدي، جيلنا بأجمعه الشابات والشباب في حاجة إليك، أرجوك افتحي مكتبك وسأعمل معك من دون أجرة. ومن أين تأكلين؟ الكتابة تأتي بعد الأكل لا أحد يموت من الجوع يا أستاذة، حدقت بدرية إلى وجه فؤادة، ملامحها طفولية لم تكسرها الحياة بعد، أشفقت عليها من مشقة الطريق الذي تريد أن تمشي فيه، اسمعي يا بنتي لا تضيعي وقتك، لا فائدة من التعلق بفكرة مثالية يستحيل تحقيقها، روحك الجميل لن يستريحوا حتى يحطموه، تملكين العقل المفتوح، لا شيء يثير حقدهم مثل العقل المفتوح، لا تكوني صادقة؛ فالصدق لا يفيدك بل يضرك، هل أنت يا أستاذة التي تقولين هذا؟ هل أنت كذبت لتحققي ما تريدين؟
بالطبع لا، لكن لست أنت بدرية البحراوي، لا أعني أنك أفضل مني أو أنني أفضل منك، كل منا تختار طريقها وتتحمل مسئولية قرارها، أنا جئت إليك بملء حريتي وبمسئوليتي عن نفسك، واثقة بذلك، لكني لا أنصحك بالسير في طريقي، ألم يحذرك أحد من هذا الطريق الشاق؟
يا أستاذة كثيرون حذروني، لكني لا أحترم رأيهم، لا أريد أن أكون مثلهم، لن تكوني مثلهم، لديك موهبة ليست لديهم، أنا أعرفهم وهم يعرفونني، يحترمون رأيي وإن اختلفوا معي، يأخذون من أفكاري ما يشاءون من دون ذكر اسمي، يمكنني أن أعطيك خطاب توصية للوزير الجديد، لقد كان يعمل تحت رئاستي وهددته بالفصل، كان يسرق أفكار غيره من دون أن يذكرهم، لكنه يحترم رأيي وسوف يعينك على الفور في المجلة الأدبية الجديدة، لن يعجبك العمل معهم لكن سوف تتعودين هل توافقين؟ لا أوافق، أنت لم تفعلي هذا يا أستاذة، نعم لم أفعله؛ لهذا أقوله لك بصدق، لو كنت مثل الآخرين لما قلته لك لكنك مختلفة يا فؤادة، أنت تحبين الكتابة، الكتابة هي حبك الحقيقي، هذه هي اللعنة، الحب الصادق الحقيقي واضح في عينيك، يراك الناس ويخافون الصدق، ألا ترين الخوف في عيون الناس؟ - أنا لا أنظر إليهم. - ألا تعرفين ما فعلوه معي؟ - لم تخافي منهم. - الخوف يؤدي إلى الكراهية. - نعم. - أتريدين أن تكوني مثلهم؟ - ليتني أصبح مثلك.
أشكرك، لكن أحذرك يا فؤادة، قد تندمين وتقولين لنفسك، بدرية البحراوي شجاعة كتبت ما تريد، قد تتمنين الموت من أجل ما تكتبين، ربما يبدو لك الموت جميلا، لكن لا تجهدي نفسك كما أجهدت نفسي عشرين عاما من أجل قضية خاسرة، لم تكن خاسرة يا أستاذة وإلا لما جئت إليك؟
لا أريد أن أشعرك باليأس يا فؤادة، لكن لا أريد أن أخدعك أيضا، قد يأتي يوم تلعنين بدرية البحراوي واليوم الذي جئت إليها، تجدين نفسك في البيت، وحيدة، حزينة، تنظرين إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبك غير المنشورة، تريدين تمزيقها، تنظرين إلى أصابعك حول قلمك، تكرهين أصابعك وقلمك، تريدين كسر القلم، وعظام أصابعك، تريدين كسرها مع القلم، تلعنين اليوم الذي أحببت فيه الكتابة واليوم الذي ولدتك فيه أمك، قد تسيرين في الشوارع جائعة مثل القططة الشاردة، تركبين الترام أو الأوتوبيس أو القطار من دون تذكرة حتى تري الكمساري قادما فتسرعي إلى النزول، لكنه يمسكك من قفاك ويأخذك إلى رجال البوليس، يتعرفون وجهك من صورك القديمة في الصحف ويقولون لك: «عيب كده يا أستاذة بدرية.» قد يقع بصرك على صورة أحد تلاميذك البلداء يتسلم الجائزة الكبرى، يصفقون له في القاعة الفسيحة الفاخرة، يقدمونه بلقب الكاتب العالمي الكبير، وأنت تسيرين في الشوارع المتربة وأصابع قدميك تلتهب داخل الحذاء القديم، وحلقك جاف من العطش، والدنيا قبيحة ملأى بالكره والكذب وكل الموبقات، ولكن.
ولكن ...
ولكن إيه؟
قد تقرئين قصة بقلمك غير منشورة، تتوقفين أمامها مشدوهة، لا تصدقين أنها كلماتك أنت، وإبداعك أنت، وتتبدل الدنيا بسرعة في عينيك، تصبح جميلة ملأى بالصدق والجمال والحب، يدب فيك الحماسة والأمل، تحملين القصة في حقيبتك مخافة أن يبلغك الموت قبل تسليمها إلى رئيس التحرير، توقفك السكرتيرة عند الباب متأففة من منظرك، ترمق كعب حذائك المتقطع بعينيها المكحلتين، تقول لك: «إن رئيس التحرير في اجتماع هام مع الوزير، لن يأتي قبل ساعتين .» تنتظرين في مكتب السكرتيرة حتى يأتي رئيس التحرير، يقول لك: تعالي غدا. في الغد تذهبين إليه، تتمنين أن تظهر قصتك إلى النور ويقرأها الناس، تنظرين إليه وهو يقرؤها بعينين ملؤهما الفتور واللامبالاة، تلعنين نفسك لأنك تعرضين إبداعك لمثل هاتين العينين الوقحتين، كأنما تعرضين عليهما جسدك العاري وروحك الغالي، يمط شفتيه متأسفا ويعتذر لك لأن صفحات الجورنال كلها مشغولة، ولا مكان لك، ترين قصة ركيكة تحتل صفحة كاملة بقلم زميلتك كوكب أو غيرها، تعودين إلى بيتك، هل تعرفين ما تفعلين في بيتك؟ تبكين يا فؤادة، تبكين دموعا ودما حتى تفرغ عيناك من الدموع والدم، حتى تنفجر عيناك ولا يبقى لهما أثر، أترغبين بعد هذا كله يا فؤادة في الكتابة؟ - نعم.
أطرقت بدرية في إرهاق واضح، أغلقت جفونها، مسحت قطرات العرق فوق جبهتها بمنديل أبيض، بدت حزينة يائسة، جالسة في مقعدها منحنية قليلا إلى الأمام صوتها المشروخ يهمس، هذه أول مرة أبوح بهذا الكلام. - أشكرك.
قرار الزواج
يبدو شاكر للناس بارد المشاعر، عاطفته الجياشة تختفي تحت وجه جامد، لا يبتسم إلا نادرا، ضحكته إن ضحك ليس لها صوت عال، لم تسمعه زوجته يقهقه قط، لم تسمعه يقول لها كلمة أحبك، كتب لها قبل الزواج رسالة يقول فيها:
عزيزتي فؤادة
أشعر في كل مرة أقابلك أنك مختلفة عن النساء لا أعرف كيف، شيء فيك يجذبني إليك، لا أعرف ما هو، لم أتعود البوح بمشاعري، عشت في طفولتي وحيدا حزينا، أسمع من وراء الباب المغلق أبي وأمي يتشاجران، أرى أبي يضرب أمي حين يعود متأخرا في الليل تفوح منه رائحة الخمر، اكتشفت أمي أنه تزوج في السر ممثلة في السينما من درجة الكومبارس، عاشت أمي الحزن أسمعها تبكي وحدها في الليل، تهمس لنفسها، لو كانت فنانة محترمة لكنت سامحته لكن كومبارس؟ كرهت أبي وكرهت الله، كيف يمنح الرجل حق الزواج بأكثر من امرأة؟ أليس هذا ظلما وإهانة وقهرا لأمي ولجميع النساء؟ وسألت الله عن الفقر والجوع وبؤس الأطفال، كانوا يرمقونني وأنا أمشي بعيون واسعة ملأى بالهوان، في أعماقي ثورة على الظلم أدخلتني السجن، وحزن عميق منذ الطفولة أبعدني عن الحياة، فهل تستطيعين إعادتي إلى الحياة يا فؤادة؟ لا أملك سلطة أو مالا أو جاها، لكن سأحاول أن أمنحك ما تستحقين من حب وحنان ورعاية، سأكون مخلصا لك، لن أجعلك تندمين لأنك قبلت الزواج بي ربما تفخرين بي، حين أحقق لك ولأطفالنا ما يريدون في هذه الحياة.
شاكر
لم يكن لشاكر موهبة أدبية تجذبها، أو ملامح الفتى الذي يعيش في خيالها، يكتب بلغة الصحافة وليس الأدب، قامته متوسطة ذكاؤه متوسط، ملامحه وسيمة متوسطة من دون جاذبية، لا يخفق شيء تحت ضلوعها حين تراه، يرتدي دائما بذلة أنيقة وحذاء لامعا، لون الجورب متسق ولون القميص والبذلة وربطة العنق، يبدو بصوته الرصين وملامحه الجامدة مثل الأستاذ الجامعي، بشرته بيضاء متوردة قليلا تنم عن الراحة، لكنه كان متواضعا يحاول الاقتراب من البسطاء والفقراء والضعفاء والنساء، حين وصلتها الرسالة بدأت فؤادة تدرك وجوده، كانت خارجة من قصة حب تركت في قلبها جرحا غائرا، قررت عدم تكرار التجربة، أوحى إليها شاكر أنه يستحق الثقة، حكت له كل حياتها، وهو حكى لها عن أمه وأبيه وطفولته الحزينة، لم يحك شيئا عن حياته الأخرى. وراء مكتبها الفاخر جلست كوكب تنظر في مرآتها الصغيرة، تلامس بالفرشاة أنفها وخديها، تختفي البثور الدقيقة تحت البودرة، يختفي الشحوب تحت لمسات باللون الأحمر، بعد عشر دقائق بالضبط ستأتي فؤادة إلى مكتبها، تحافظ دائما على موعدها، تبتسم كوكب لنفسها في المرآة، أسنانها صغيرة بيضاء منتظمة «صفي لولو» كما يقول الأستاذ، كلمة الأستاذ تعني الرئيس لهذه المؤسسة الضخمة، الأستاذ يكبرها بعشرين عاما وأكثر، متزوج وله ثلاثة أبناء يدرسون في الخارج، يخفق قلبها حين يرمقها بعينيه العميقتين في أثناء اجتماع المجلس، يدعوها إلى مكتبه أحيانا للتحدث، يستطلع رأيها في بعض قراراته، وخصوصا التعيينات الجديدة، لعبت دورا في تعيين أحمد عارف مديرا لمكتبها، بدرجة نائب رئيس تحرير، دقت الجرس، ظهر أحمد عارف على الفور، أصابت ظهره انحناءة خفيفة، صوته أصبح خفيضا ، ناولته ماكيت العدد الجديد ثم نظرت إلى ساعتها، يا أحمد بعد سبع دقائق ستأتي الأستاذة فؤادة إلى مكتبي أتعرفها؟ - أيوه طبعا قرأت كتاباتها. - إيه رأيك فيها؟
كاد يتسرع ويقول: كتاباتها بديعة. لكن حاسة الشم المرهفة لدى مديري المكاتب، جعلته يسكت لحظة ثم يمط شفتيه بامتعاض، قائلا: موش بطالة يا أستاذة كوكب. أنا رأيي يا أحمد أن موهبتها متوسطة، لكن ممكن تتحسن لو اشتغلت معانا في المجلة، إيه رأيك؟ - الرأي رأيك يا أستاذة.
كاتبة فقط
جلست كوكب وراء مكتبها تنتظر دخول فؤادة، انتزعت من الأستاذ الموافقة على تعيينها في المجلة، تتأمل الغرفة الواسعة الفاخرة، المكتب، المكتبة، أصص الزرع الأخضر في الأركان، السجاجيد، النجفة الكريستال تتدلى من السقف، دخلت فؤادة بقامتها الطويلة الممشوقة، رأسها شامخ كأنما لم تعرف الألم والهوان، جلست في مقعدها تنظر إلى كوكب بتلك التحديقة، لم يتغير شيء فيها، ينقبض قلب كوكب، يثقل ويغوص في أحشائها، لا تتصوري يا فؤادة فرحتي، قرار تعيينك يصدر اليوم أو غدا ستكونين معنا في المجلة، أتوافقين؟ - أوافق بشرط يا كوكب. - بشرط إيه؟ - شرط أن أكتب ما أريد، لا أحد يتدخل في عملي، سأكون كاتبة فقط، لا علاقة لي بتحرير المجلة أو إدارتها، أتوافقين؟ - أوافق.
بدا السرور على وجه كوكب. - ستحبين العمل معي يا فؤادة.
شعرت كوكب بلذة وهي تقول: «معي» وتعني تحت رئاستي، ثم قالت: المؤسسة أكبر المؤسسات في الشرق الأوسط، ومجلتنا الأولى في مصر والعالم العربي، ده مكانك يا فؤادة، مش مع بدرية البحراوي. - بدرية البحراوي أعظم كاتبة لا أسمح لك. - متأسفة يا فؤادة، مش قصدي حاجة.
دق جرس التلفون، انشغلت كوكب في المحادثة.
استغرقت فؤادة في تأمل اللوحات على الجدران، صور رئيسات التحرير السابقات للمجلة، رئيس الدولة أو الوزير يقدم لإحداهن الجائزة التقديرية، صورة كوكب في آخر الطابور، أنهت كوكب المكالمة التلفونية، اتجهت نحو فؤادة: نحتفل بالتعيين الجديد؟ إيه رأيك ناخد درينك سوا؟ عندهم هنا في الكافيتيريا نبيذ أحمر عمر الخيام؟ - شكرا يا كوكب، ليس لدي وقت.
تحركت الغصة في حلق كوكب، ابتلعت لعابا لا يخلو من مرارة، لم تتوقع أن تقبل فؤادة العمل معها أو تحت رئاستها، أما وقد قبلت فهذا يثلج صدرها إلى حد ما، والأفضل أن تتركها تمضي قبل أن تتراجع وترفض، لكن شيئا غامضا خارج إرادتها يجعلها تستمر في الكلام، تعالي ناخد كاس نبيذ والا النبيذ حرام؟ - مش حرام طبعا لكن عندي شغل. - فيه حاجات أهم من الشغل. - زي إيه يا كوكب؟ - حاجات إنسانية. - إنسانية؟
قصدي يا فؤادة أنك ترفهي عن نفسك شوية، إنتي أخلاقية أوي، إنتي جادة زيادة عن اللزوم، الحياة مش كلها شغل، الترفيه مهم والاسترخاء، ابتسمت فؤادة، كانت جالسة في مقعدها مسترخية، أنا في حالة استرخاء يا كوكب أعرف، لكن ليه ترفضي دعوتي؟ - أقبلها ليه؟ لأي سبب يا كوكب؟
هل كل شيء عندك له سبب يا فؤادة؟ ألا تفعلين شيئا بدون سبب؟ لمجرد الترفيه أو التسلية مثل غيرك من الناس، حياتك وشخصيتك وكلامك كله جد، كل حاجة عندك مهمة، كل دقيقة من وقتك مهمة، حتى وأنت قاعدة ساكتة في الكرسي، ألا يمكن أن تكوني غير مهمة مرة واحدة في حياتك. - لأ. - ألا تشعرين بالتعب من مناطحة القدر، من حكاية البطولة دي؟ - بطولة إيه؟
ماعرفش يا فؤادة، يمكن لم تقومي بعمل بطولي لكن شكلك وكلامك وطريقتك وشخصيتك كلها توحي للناس بالبطولة، لا أفهمك يا كوكب، يمكن كلمة البطولة غلط يا فؤادة، قصدي إنك مختلفة عن كل الناس، كأنك تضعين نفسك في جانب والعالم كله في الجانب الآخر، أنا أختلف معك يا فؤادة، لا أريد أن أغرد خارج السرب، أريد الانتماء إلى هذا العالم، إنه مليء بالأشياء الجميلة، ليست الحياة كلها حربا وقتالا. - قتال إيه يا كوكب؟ - أيوه قتال، أنت تقاتلين العالم يا فؤادة، قد ترتكبين جريمة قتل لتكتبي ما تريدين.
ماذا يضايقك في طريقتي يا كوكب إذا كنت راضية عن طريقتك؟
سكتت كوكب لا تعرف الرد، ثم سألت: ليه بتكرهيني يا فؤادة؟ - أنا مش باكرهك يا كوكب. - طيب ليه مش بتكرهيني؟ - وليه أكرهك يا كوكب ؟
يبدو الحوار بينهما غريبا مضحكا، تريد كوكب أن تتوقف عن الحديث وتتركها تمضي، لكنها لا تستطيع، شيء في داخلها يدفعها إلى الاستمرار. - أعرف يا فؤادة أنك لا تحبينني لأنك لا تحبين ولا تكرهين أي أحد. - مش فاهمة يا كوكب! - أنت لا تشعرين بوجود أحد، إلا ... - إلا إيه؟ - إلا أنت. - غير صحيح. - ما هو الصحيح إذن؟ - لا شيء يا كوكب، أظن أنك تشعرين بالإرهاق والأفضل أن تستريحي قليلا. - سأراك الإثنين المقبل يا فؤادة. - إلى اللقاء يا كوكب.
عندي سؤال أخير: إنتي بتشوفي حميدة؟ - أحيانا. - كانت زميلتي في المدرسة. - أيوه عارفة يا كوكب. - وكانت بليدة وبتسقط في الامتحانات. - ما فيش علاقة بين البلادة والسقوط في الامتحانات. - إزاي ده؟ - بعدين نتكلم إلى اللقاء يا كوكب.
كان شاكر يقود سيارته الخاصة بنفسه، أكبر من سيارة زوجته ومن طراز أحدث، يميل شاكر إلى السيارات الكبيرة الحديثة، بخلاف زوجته، كان عائدا إلى بيته حين لاحظ في المرآة سيارة زرقاء تتبعه، يضع السائق نظارة سوداء، في جواره رجل يضع كاسكيت يخفي نصف وجهه الأعلى، انحرف إلى شارع صغير متفرع من شارع التحرير، تبعته السيارة الزرقاء، أيقن أنه مراقب والأفضل ألا يتوقف عند البيت، فوق المقعد في جواره كانت حقيبته الجلدية السوداء منتفخة بالأوراق والصحف والمجلات، ومنشورات الحزب السرية وكان عنده موعد مهم لم يسجله في مفكرته الصغيرة خوفا من أن تقع في يد زوجته، لم تكن فؤادة تراقبه أو تشك فيه، منحته ثقة كاملة وكانت هي مشغولة بالكتابة، لا تكاد ترفع وجهها عن المكتب، تعود شاكر منذ طفولته إخفاء أشياء عن الآخرين، كانت له حياته التي لا يمكن البوح بها، منها العادة السرية في المراهقة، في مكتبها كانت فؤادة جالسة مستغرقة في الكتابة، حين دخلت كوكب حاملة بعض الأوراق وضعتها فوق المكتب، وقالت: فؤادة ممكن تراجعي المقال ده، أنا كتبته بسرعة، لازم يروح المطبعة خلال ساعة، عندي اجتماع دلوقتي مع الريس. خرجت كوكب بسرعة قبل أن تنتبه فؤادة، قبل أن تحدق إليها، قبل أن ترى هل غضبت أم لم تغضب، وهل جرحت كرامتها؟
لكن فؤادة راجعت المقال، كان ركيكا حافلا بالأخطاء، صححته قدر الإمكان وأرسلته إلى المطبعة، بعد أيام قليلة، دق جرس التلفون في مكتب فؤادة، جاءها صوت سكرتيرة كوكب، يا أستاذة فؤادة، سعادة رئيسة التحرير تطلب حضورك إلى مكتبها حالا. تذهب فؤادة وتستمع إلى ما تقوله كوكب رئيسة التحرير، تشكرها على تصحيح المقال ثم تعطيها مقالا آخر لتصححه أيضا، في البداية تخوفت كوكب، هل فؤادة تغضب؟ لكن فؤادة تأخذ المقال وتراجعه وترسله إلى المطبعة، تشجعت كوكب وبدأت تعطي أوامرها لفؤادة، تشعر بلذة غامضة ترتعش لها جوارحها وهي تعطيها أمرا، تتوقع غضبها، تتمنى أن تجرح شموخها، أن تخدش كرامتها أي خدش وإن كان طفيفا، لكن فؤادة لا يظهر عليها أي غضب أو ضيق، تواصل تصحيح المقالات الركيكة وترسلها إلى المطبعة، تصورت كوكب أنها تكتم الغضب وسوف تنفجر يوما ما، لكن الأيام مرت، ستة شهور مرت، دون أن تفقد فؤادة هدوءها، كلما ازدادت هدوءا ازداد غضب كوكب وكادت تنفجر.
كانت فؤادة قد بدأت تكتب رواية طويلة، تستغرق النهار والليل، في المكتب والبيت والشارع، تمشي كالنائمة مستغرقة في الرواية لا ترى أحدا، تخطو بحذر فوق الرصيف خشية الاصطدام بشيء، لا تحس بشيء خارج الرواية، إن قامت القيامة وسقط النظام، إن اشتعلت المؤسسة بالنار، أو سقطت السماء على الأرض، أو مات الناس فهي منصرفة إلى الكتابة لا تدري بشيء، يدق جرس التلفون وهي تكتب، يأتيها صوت كوكب أو أي صوت كأنما من كون آخر، تقول: أيوه، نعم، حاضر. كمن تتكلم في النوم، ثم تضع السماعة وهي مغمضة، لا تصحو إلا وهي تكتب، لا تنتبه لشيء إلا ما يدور في الرواية.
كان مكتب فؤادة في الدور فوق المطبعة، تسمع أزيز ماكينات الطباعة وهي جالسة في مقعدها، كان الصوت يضايقها مثل الأصوات الأخرى التي تضج بها المدينة، أبواق السيارات، صفارات سيارات الحريق والإسعاف، والبوليس، الميكروفونات فوق المآذن والمباني، تذيع الصلوات والتكبيرات أو الغناء والرقص.
كانت تسد أذنيها بقطع من القطن أو المطاط ، وتغلق النافذة بإحكام.
كل هذه الأصوات لم تعد تسمعها، كأنما تموت حواسها كلها وهي تكتب إلا حاسة واحدة؟
شيء غريب يحدث لها وهي تكتب، يموت فيها كل شيء ليصحو شيء جديد لم تعرفه البتة، أو قديم جدا عرفته منذ الطفولة، يختفي أزيز المطبعة إلا همس خافت، مثل حفيف نسمة هواء، أو موسيقى ناعمة تدغدغ مشاعرها، تصحو ذاكرتها النائمة منذ بدأت تتعلم الحروف، تنقضي الساعات وهي تكتب، لا يوقظها إلا جرس التلفون، صوت كوكب، أو حميدة العاملة في المطبعة، يسألها عن شيء في المقال المصحح، كانت حميدة قد عرفت خط فؤادة، وعرفت أنها تصحح مقال رئيسة التحرير، رأتها في مدخل المبنى فتوقفت. - الأستاذة فؤادة؟ - أيوه. - أنا حميدة في المطبعة. - أهلا يا حميدة. - عندي بن برازيلي محوج. - محوج؟ - تشربي معايا فنجان قهوة؟ - طبعا يا حميدة.
حميدة
لم تستطع فؤادة رفض دعوتها، كانت ترفض دعوات الآخرين في المؤسسة من الصحفيين والكتاب والكاتبات، وجدت نفسها تسير وراء حميدة، تهبط معها السلم دورين إلى المطبعة، تجلس معها في الكافيتيريا الصغيرة الخاصة بعمال المؤسسة، تراقبها وهي تضع الماء على النار في كنكة صغيرة، تغسل فنجانين بالماء والصابون لونهما أبيض وحوافهما ذهبية، تغسل الملعقة الصغيرة، تجففها جيدا بفوطة بيضاء نظيفة، تخرج برطمان البن من حقيبتها الكبيرة المصنوعة من قماش قلع المركب، ملفوفا في فوطة زرقاء ذات مربعات بيضاء، تفوح رائحة البن المحوج وهي تفتحه، تضع في الكنكة ثلاث ملاعق، تقلبها مرة أو مرتين، بعد دقيقة أو دقيقتين ترفع الكنكة قبل أن تفور القهوة على النار، تجلس حميدة أمامها وبينهما منضدة ذات سطح مصقول من الفرومايكا، ترشف فؤادة القهوة، يلتهب طرف لسانها بألم لذيذ، مع الشهيق العميق تملأ رئتيها بالنكهة القوية، تذكرها رائحة البن بأمها وجدتها، تنطلق منها ضحكة طفولية، باحب ريحة البن المحوج!
عينا حميدة سوداوان واسعتان تثبتهما في العينين أمامها، شيء في هاتين العينين يشدها إلى شيء آخر في أعماقها لا تعرفه. كان نفسي أطلع لمكتبك من شهرين يا أستاذة فؤادة. بلاش أستاذة دي. كان نفسي أكلمك يا فؤادة. تكلميني؟ - أيوه. - كنت مترددة. - ليه يا حميدة؟ - أنا عاملة مطبعة وإنت كاتبة مهمة. - أنا موظفة هنا في المؤسسة زيك تمام. - قريت لك قصة من شهرين لا يمكن أنساها.
اتسعت عينا فؤادة بدهشة.
تواصل حميدة الحديث وهي ترشف القهوة، تحدق إليها فؤادة من دون حركة، فنجان قهوتها فوق المنضدة يبرد، كنت على وشك الانتحار بعد تجربة مؤلمة، بالضبط مثل بطلة قصتك، كنت في الواحدة والعشرين، أكبر منها بسنتين، تعلمت منها أن الألم يمكن أن يقتلني، ويمكن أن يخلقني من جديد، قررت تغيير حياتي. كانت حميدة جالسة، في ثوب العمل الأزرق المبقع بحبر المطبعة، أصابع يدها اليسرى تضم فنجان القهوة، يدها اليمنى بأصابعها الطويلة النحيفة فوق المنضدة، تعلوها رعشة خفيفة غير مرئية، مدت فؤادة ذراعها فوق المنضدة لتمسك يدها بيدها، كنت حامل في شهرين، رحت عيادة دكتورة، حكيت لها كل حاجة، عملت لي العملية في ساعة ونص ساعة، رفضت تاخد مني أي فلوس، خرجت من عيادتها أجري في الشارع عاوزة أطير من الفرح، حسيت أن الدنيا حلوة وفيها إنسانة حلوة لها قلب كبير، فرحت بيها زي ما فرحت بيكي هنا في المؤسسة. إنتي بتكتبي يا حميدة؟
ضحكت حميدة. - أكتب؟ - أيوه. - باكتب كتابات الناس ع الكومبيوتر يا فؤادة، بيدفعوا لي بالكلمة، الماهية يدوب أسدد بيها الإيجار. - وكتاباتك إنتي يا حميدة؟
تتنهد حميدة. - آه! كتاباتي أنا؟ كانت زمان لما كان عندي جهد ووقت. الكتابة بتفرض نفسها يا حميدة، أيوه لكن يا أستاذة فؤادة الكتابة عاوزة وقت وراحة وأنا هنا في المطبعة من سبعة الصبح لسبعة بالليل، وفي البيت يا دوب آكل وأنام، الساعة خمسة أصحى، ساعتين في المواصلات على الأقل، أكتب إيه وامتى يا فؤادة؟ - كلنا حياتنا صعبة يا حميدة، أنا متأكدة إنك كاتبة. - كاتبة حتة واحدة؟ - أيوه. - عرفتي منين؟ - من عينيكي.
ضحكت حميدة غير مصدقة مندهشة.
تحت ضلوعها انتفضت العضلة القديمة منذ كانت طفلة. - عندي كراسة تحت المرتبة باكتب فيها، تعرفي الأستاذة بدرية البحراوي؟ - طبعا قريت كل اللي كتبته. - إيه رأيك نتقابل عندها؟ - يا ريت.
حين عادت حميدة إلى بيتها، أخرجت من تحت المرتبة كراسة أوراقها مكتوبة بخط يدها، داخل كيس من الدمور، أضاءت اللمبة الخافتة في جوار سريرها، قرأت بضع صفحات ثم وضعتها في حقيبتها، وسقطت في النوم من شدة التعب. انتهت فؤادة من كتابة الرواية، وضعتها في مظروف كبير لونه أبيض، وضعت المظروف داخل دوسيه بلاستيك، تحملها بعناية داخل حقيبتها، تتحسسها مثل كنز ثمين، لم يشأ أحد أن ينشرها، تعود إليها مع هذه الكلمات؛ «نأسف ليست هذه هي الكتابة التي نريدها، القراء لا يقبلون على هذا النوع من الكتابة، روايتك بطيئة الحركة لا تتماشى مع سياسة الجورنال، نحن في عصر السرعة، البزينيس والربح السريع، اخطف واجر، نحن نقول الصدق ولا نخدعك، اكتبي رواية أخرى تجاري السوق، هذه الرواية لن تبيع، السوق عرض وطلب، هذا الأدب غير مطلوب، الناس يبحثون عن الأدب المكشوف، الجنس العاري أدب الفراش وليلة الزفاف، اسمك غير معروف في السوق، لا ننشر إلا للأسماء المشهورة.» بعضهم كان يبتسم في إشفاق، يعبر عن إعجابه بالأسلوب أو المعنى الجديد، يمدح إبداع الأجيال الجديدة من الشابات والشباب، بديع جدا لكن غريب جدا، مثل كل الخيالات في هذه المرحلة من العمر، طموح جميل لكن الكتابة المطلوبة شيء آخر، يرد إليها الرواية مزهوا بنفسه ونجاحه، فشلها يزيد من إحساسه بالنجاح، بعضهم يبدي اللامبالاة، ينظر إلى كلماتها على الورق من دون اكتراث، قد يطلب إليها الناشر رؤية الرواية، تمد يدها فوق مكتبه بروايتها، تخلع عنها غلافها أمام عينيه، تحس بأن عضلات يدها تتقلص كأنما تخلع ملابسها وتعرض جسدها، يدها مبللة بالعرق والعار، ليس لأنها تعري روايتها، بل لأنها تعريها أمام عيون لا تكترث. وراء نافذتها في بيتها تجلس فؤادة، تطل على المدينة عاجزة عن الكتابة، السيارات تمر من بعيد من دون صوت، المباني تتخفى وراء السحابة، الشقة غارقة في الظلمة، الصمت ثقيل ينم عن خطر غامض، الأيام خالية والعمر خاو، يرمقها الفراغ بعين سوداء كالموت، أصابعها حول القلم مرتخية، عرفت هذه الحالة من قبل، تبدو وكأنما لم تعرفها، كأنما أصابعها لم تمسك القلم قط، كأنما لم تكتب في حياتها حرفا، كأنما لن تكتب بعد هذه اللحظة أبدا، إحساس مرير بفقدان الثقة بنفسها بل بفقدان نفسها كلها، تطبق جدران الغرفة عليها، تكاد تختنق، تهرب إلى الشارع، تمشي في الظلام، تحاول استنشاق الهواء، المباني من حولها تتمايل نحوها تكاد تسقط عليها، الشارع مهجور لا أحد فيه، تسمع وقع حذائها فوق الأسفلت كشخص يتبعها، تستمر في المشي لا تعرف إلى أين لا تستطيع التوقف ولا النظر إلى الخلف، رفعت ياقة الجاكتة تخفي نصف وجهها، وضعت يديها في جيوبها، أسرعت الخطى، في ضوء سيارة سريعة رأت ظلها الطويل يخرج من بين قدميها، ومن بطن الأرض يخرج مارد طويل أسود، تصورت أنه الشيطان يتبعها، كادت تصرخ، ثم تذكرت أنها لا تؤمن بوجود الشياطين، تنفست الصعداء، شهيق عميق وزفير عميق، استعادت هدوءها واستدارت عائدة إلى بيتها.
سعدية
في السابعة صباحا تدق سعدية الجرس، تعرف طريقتها في دق الجرس، تختلف عن دقات الجرس الأخرى، وخصوصا الطريقة التي يدق بها شاكر الجرس أو ابنتها داليا، أو جارتها أم رءوف.
تشعر بالفرح حين تأتي سعدية، تترك لها مفاتيح البيت والدواليب وكل شيء. - صباح الخير يا أستاذة. - صباح الخير يا سعدية.
تأتي ابنتها هنادي معها في الإجازات أيام الدراسة، كبرت هنادي وأصبحت في الخامسة عشرة، تدرس في معهد الكومبيوتر، أصبحت فتاة ممشوقة الجسم، تساعد أمها في الطبخ، قد تعطيها فؤادة بعض صفحات من الرواية لتكتبها على الكومبيوتر، قد تجلس مع ابنتها داليا تتفرجان على التلفزيون، تجلس هنادي على السجادة فوق الأرض، وتجلس داليا على الكرسي أو تستلقي فوق الكنبة المبطنة بالقطن، تسند ظهرها إلى شلتة ذات كيس ملون، ترى وجه هنادي شاحبا ينم عن التعب، تعالي يا هنادي إلى الكنبة. - كتر خيرك يا ست داليا. - ست إيه ده أنا عندي خمستاشر سنة زيك. - العين ما تترفعش عن الحاجب. - إيه الكلام الفارغ ده؟ - كل الناس بتقول كده. - ناس إيه ده إحنا مولودين سوا في السجن. - في السجن؟
وتضحك داليا، وكذلك هنادي لكن تحت ضلوعها عضلة تنتفض.
تحت لمبة النور المجاورة لسريرها أخرجت فؤادة الكراسة من الكيس الدمور، وضعت نظارة القراءة وفتحت كراسة حميدة، ولدتها أمها فوق الأرض في المستشفى المجاني، وتركتها إلى جوارها غارقة في الدم، وسقطت في النوم العميق أو الموت، من حولها في عنبر الأمهات أجساد كثيرة ممدودة فوق الظهر أو البطن، أو متكورة حول نفسها كالجنين، أرداف وأثداء متهدلة تطل من جلابيب المستشفى الدمور، ملوثة بالطين والدم، وأطفال عراة أشبه بلون الدود، إناث وذكور يزحفون فوق الأرض صامتين أو يئنون أنينا مكتوما، تعرفت الأم وجه ابنتها، التقطت عيناها الوجه المألوف من بين المئات أو الألوف، يشبه وجهها في الصورة، مدت إليها يدها عبر أكوام اللحم والدم، فأطبقت الأصابع الخمس الدقيقة على إصبع الأم، بقوة أكبر من جاذبية الأرض، خرجت الطفلة مع أمها خارج المستشفى بعد أن همست في أذنها بالحلم، معها أمهات مع أطفالهن بعد أن قرر المستشفى إخراجهن في ليلة العيد، في المساء كانت الأمهات يتجمعن حول التلفزيون، تظهر على الشاشة صور الفنانين والفنانات، تتذكر كل منهن حلم طفولتها، تمسح بكفها المتشققة دموعها الجافة، كانت الطفلة حميدة تحدق إلى وجه الفنانة فانحفرت الملامح في عقلها من طول التحديق إليها، مرت السنون وهي تحدق إلى الوجه حتى أصبحت شابة طويلة القامة ممشوقة الجسم، ترمقها عيون الرجال بنظرات مشتعلة بالجوع، من المراهقين دون سن العشرين ومن العجز فوق الثمانين، كانت الشمس على وشك المغيب، رأت سيارته البيضاء تبرق تحت الشعاع الغارب، ممدودة كاللبؤة الناعسة أمام الباب الحديدي، طويلة رشيقة كالطائرة، رأسها مدبب مثلث، مؤخرتها مربعة مكتنزة، مدقوقة فيها اللوحة البرونزية بأربعة مسامير، حفظت أرقامها السبعة من طول التحديق إليها، السائق أدكن السمرة يزداد سوادا في جوار بياضها الناصع، يدعك ظهرها المقوس بفوطة صفراء، قطرات عرقه يجففها بمنديل منقط بالأحمر والأزرق والأصفر الباهت، المرة الأولى أزوره في بيته، بعد تردد طويل اتخذت قراري، أوقفني رجل الأمن من وراء مكتبه في مدخل العمارة، نظر إلى صورتي في البطاقة ثم رمقني بنظرة عرفتها، منذ الطفولة أشم رائحة الذكر في عين الرجل، نظرة الشبق في عيونهم، في البيوت والشوارع والحوانيت، جميع اللابسين السراويل البيضاء والبناطيل السوداء، يبرز من تحتها لمجرد اللمس شيء صلب مدبب، بدا في طفولتي ورما خبيثا مصنوعا من العظم، أو رأس ثعبان يتلوى من الألم، ركبت المصعد إلى شقته، أول مرة يصعد جسدي إلى هذا الارتفاع، المصعد الحديدي ينغلق وينفتح وحده أو بقوة الجان، ورد ذكرهم في القرآن كما سمعت من أمي، تحت ضلوعي عضلة ترتجف، يزيد السحر من جاذبية الجن، كنت أومن بالسحر مثل جميع الأطفال من حولي في الزقاق، أرهف السمع لما يدور بين النمل من همس، ورد ذكره في الكتاب، أتوضأ وأصلي لأطرد الشيطان قبل أن أنام، ارتديت الحجاب وعمري أحد عشر عاما ثم ارتديت النقاب في الثالثة عشرة والقفاز الأسود يخفي يدي الاثنتين، توقف المصعد فجأة، انفتح بابه الحديدي فانطلقت إلى الخارج أجري، ليست أول مرة أركب المصاعد الكهربائية، يلازمني الخوف في كل مرة، يراودني حلم مزعج متكرر، المصعد الكهربائي يتوقف بي بين الأدوار، تنقطع الكهرباء، الباب لا ينفتح، أدق الباب بقوة، أصرخ أنادي لعل أحدا ينقذني، لا أحد يسمعني، أموت وحدي داخل الظلمة، لم أعرف قدر أمي إلا بعد موتها، كنت أشخط فيها من دون سبب، أو بسبب مؤخرتي المكتنزة، تصورت أنني ورثتها منها، لم يكن لأمي أخت أو أخ، ولا أحد يزورها في الزقاق، سمعتها تقول: الفقير مكروه من أهله. كانت أمي تضعني في حضنها، تحميني من البنات الكبيرات، يقرصنني في صدري أو يضربنني بالشلاليت على مؤخرتي، يقلن لي: يا بنت الخدامة. تبصق أمي في وجوههن، الخدامة أشرف منكن. في الليل لا يغمض لي جفن، أحدق إلى عين الجن، أصفع بيدي القدر والمصير، وكل وجوه البنات في الزقاق، أصرخ في النوم: لن يكون مصيري مثل مصير أمي والشغالات المطحونات، سأكون فنانة مثلها نسيت اسمها لكن ملامحها محفورة في خيالي. باب الشقة من الخشب لونه بني أدكن، اسمه أحمد شاكر محفور فوق قطعة من النحاس المجلوة.
توقفت لحظة، هدأت أنفاسي والخفقات تحت ضلوعي، مددت يدا مرتعشة تدق الجرس، كنت أرتدي ثوبي الأرجواني الغالي، الذي يشبه فستان الفنانة في الفيلم، يلتف حريره الناعم مشدودا حول الردفين الممتلئين بأنوثة بارزة متحفزة، فتحة صدره واسعة تكشف الشق العميق بين النهدين، يتفجران بالشبق العنيد، اشترى هذا الثوب لي رجل اسمه أشرف نور، يرفعني هذا الثوب من طبقة الشغالات وخريجات السجون إلى طبقة الدكاترة وسيدات الطبقة العليا، كانت أمي تعرف بيوت العائلات الراقية، في حي الزمالك وجاردن سيتي، والشقق المفروشة للسائحين العرب والأجانب، تدعك ظهورهم ومراحيضهم، ثم تشتري لي البسبوسة وتدفع إيجار الغرفة ومصاريف المدرسة، ضميري ينزف دما يا أمي، كنت لا أطيق ملمس يديك المشققتين، ولا رائحة المراحيض في أنفاسك المتقطعة، يصحو ضميري في النوم ليؤنبني، في الصباح أنسى أمي وكل نزيلات السجن، أرتدي ملابسي وأندفع نحو الشغل، حلم الطفولة لا يفارقني، هو بنفسه فتح الباب، وليس الخادم أو الخادمة، كان وحده في الشقة، زوجته مسافرة، والخادمة في إجازتها الأسبوعية، خفق قلبي في توثب، هو بنفسه حدد الموعد والمكان، اقترحت أن يكون لقاؤنا في حديقة الأتيليه، حيث يلتقي الأدباء والأديبات في أول التعارف، تكتسي القصص الغرامية بأغطية سياسية، وتتخفى شهوات الجسد تحت قصائد من الشعر، لم أكن أديبة أو فنانة معروفة أو غير معروفة، كنت «لا شيء»، لم أدخل مدرسة، لم أتعلم الأدب أو الفن، فتاة معدمة معدومة الأهل، مولودة في الزقاق، اشتغلت أي شيء لأعيش، كانت أمي تقول: العيش فوق كل حاجة يا بنتي، الجوع كافر مالوش رب. بعد موتها بدأت أفحت الأرض، وأحش البرسيم، أحمل السباخ وروث الجاموس على رأسي، ادخرت أجرة القطار إلى القاهرة، في أعماق رأسي صورتها محفورة، أرسمها بالقلم على قصاصة ورق، أرسم العينين والأنف والفم والخدين، ملامحها تشبه ملامح الفنانات على الشاشة وخصوصا العينين والأنف، في عالم القاهرة الضخم عشت، قطرة في بحر أو ذرة تذروها الرياح، ليس لي اسم ولا أهل ولا بيت ، أعيش تحت جبل المقطم، في حي القبور، بيوت الأحياء الموتى، يرقدون في قبر واحد، رجال ونساء وأطفال لا جنس لهم ولا عمر، كالقرش الممسوح تتلاشى ملامح الوجوه، ينامون مع البراغيث والناموس والبق، وذباب الليل والخنافس والدود، يبلعون الدخان مع السم، أملا في الموت والنسيان، كنت أعيش على مبالغ صغيرة من أعمال غير نظيفة، ورثت مهنة أمي في دعك المراحيض، ذهبت لتنظيف بيت أستاذ من سويسرا اسمه «جوزيف جورج»، نشأ بيننا نوع من العلاقة استمرت ستة شهور، ثم عاد إلى بلده، كان يمنحني أجرة قيمة تقيني الأعمال غير الشريفة، يحوطني بذراعيه في حنان، يضعني على السرير الناعم الوثير، يقبل شعري وعنقي وفمي، ويمص الحلمتين كالطفل الرضيع، يهبط بشفتيه حتى أسفل بطني، يفرق شعر العانة ويقبل الشفتين النديتين بخشوع، يقبل كل شيء باحترام يقترب من التقديس، ثم يدخلني برفق، برقة شديدة، لا أشعر بألم أو هوان، يبدو جسدي من تحته مقدسا بالرغم من العري الكامل، ناديته مرة أبويا، تصورت أن الأب يكون على هذه الشاكلة، لم أعرف شكل أبي، سمعت أمي في الليل تقول: كان أبوك يسكن في قصر على النيل، لونه أبيض، حواليه جنينة ملأى وردا وزهورا، في وسطها تمثال لملاك له جناحان. كانت أمي تصف لي الشارع، تقول: كان اسمه شارع الجنائن، تظلله الأشجار، وشبابيك القصر لونها أخضر، كان أبي يطل من الشرفة على النيل، مرتديا بذلة أنيقة من الصوف الإنكليزي لونها رصاصي، فيها خطوط زرقاء رفيعة، ربطة العنق براقة من الحرير، لونها أحمر فيها خطوط زرقاء أيضا، ولون جوربيه من لون ربطة العنق. عرفني جوزيف جورج، قبل سفره، بصديق له من السويد اسمه غريب يصعب نطقه، عشت معه شهرا واحدا ثم سافر، كان مثل جوزيف في الرقة والحنان، بكيت في حضنه الليلة الأخيرة، علمني جوزيف شيئا من الإنكليزية يكفي للتحاور البسيط، لماذا تبكين يا حميدة؟ - أريد أن أكون امرأة محترمة. - أنت امرأة محترمة يا حميدة. - إذا كنت محترمة فلماذا لا تأخذني معك إلى السويد؟ - السويد؟ - ممكن أن أشتغل هناك . - تشتغلي إيه يا حميدة؟ - أشتغل فنانة.
ابتسم السويدي في حنان، وهو يربت كتفي. - سأكتب لك من السويد يا حميدة.
لم يكتب رسالة واحدة، وصلتني منه بطاقة صغيرة في السنة الجديدة فيها كلمتان فقط بحبر أحمر، هابي كريسماس ثم لم أسمع عنه، عرفني جوزيف قبل سفره بمنتج في السينما اسمه «أشرف نور»، من أثرياء الخليج العربي، قال: وجهك فوتوجينيك. خبطني على مؤخرتي بيده، طيزك مغرية يا بت. أردت أن أصفعه على وجهه أو أركله في بطنه بقدمي، لكني ابتلعت الإهانة، تدربت على ابتلاع الإهانات من أجل العيش، صوت أمي «العيش فوق كل حاجة.»
الجوع كافر ما لوش رب، كنت أومن بوجود ربنا، لكن حين يقرصني الجوع أو يهدر رجل كرامتي أكف عن الإيمان بشيء، كان أشرف نور سمينا مربعا أبيض، وجهه مستدير مثل القمر، دون الجاذبية أو الجمال، كان يسكن في الزمالك في جوار بيت أم كلثوم، أنام وأحلم بأن أكون محترمة مثل أم كلثوم، كانت فقيرة مثلي وأصبحت فنانة كبيرة، وأسأله هل تأخذني فنانة في فيلمك الجديد؟ يقبض بأسنانه على شفتي السفلى فأصرخ، تشتعل شهوته مع شدة ألمي، يهمس في أذني بخوار ثور، أنت فنانة في الحب، صدره يغطيه شعر أسود كثيف، له عضو ضخم لونه أحمر، يندفع داخلي بسرعة النفاثة، أحس بأنه في عمق بطني، يضربني في أحشائي برأس شاكوش، ضربتين أو ثلاثا ثم ينسحب متأوها، مرتخيا صغير الحجم، مبللا كالخرقة البالية برائحة منفرة، ثم أسمع شخيره بعد أن ينام فجأة، أتركه نائما وأتقيأ في الحوض، لا شيء في معدتي إلا ماء أصفر كلون الكركم، بطعم المرارة والمهانة، ذقت طعم الاحترام مع رجال من سويسرا والسويد، يعتبرون المرأة إنسانا وإن كانت فتاة ليل، أسوأ نوع من الرجال هم أثرياء النفط، يعتبرون المرأة بلغة ينتعلونها في القدم، أو نعجة يركبونها في الليل، كنت أحلم بالسعادة والاحترام، مثل نجوم السينما، أمي قرأت أسرار الغيب في قاع الفنجان، قالت: حتبقي نجمة فنانة. غرست أمي في عقلي بذر الطموح، استحال في جسدي فيروس مرض، زحف السم الزعاف في كل كياني، ينخر عظامي، يجري في عروقي مع الدم، سرقت من «أشرف نور» مبلغا من المال، كان يخبئ أوراق البنكنوت تحت البلاطة بلا عدد، داخل جراب من الجلد تحت السرير، دخلت بالمبلغ المسروق مدرسة الكومبيوتر، تفوقت على زملائي في حركة الأصابع فوق الحروف، بدأت أكسب رزقي في الكتابة على الكومبيوتر، رسائل الدكتوراه والماجستير لطلبة الجامعات، أو سيناريوهات أو روايات مكتوبة بخط اليد، أقوم بنسخها على شاشة الكومبيوتر، ثم حظيت بوظيفة سكرتيرة لرجل أعمال في شركة بمصر الجديدة، نام معي ثلاث مرات في أسبوع واحد، دفع لي راتب ثلاثة شهور، بدأت سمعتي تسوء، ترمقني عيون الرجال بنظرة أعرفها، أصدها عني كالموت، الموت أخف من الهوان، قررت أن أترك الشركة وأبدأ حياة نظيفة، قبل أن يهجرني «أشرف نور» عرفني بأديب اسمه شاكر، كان ينوي إنتاج روايته للسينما، عنوانها رغبات دفينة، تتسرب من صفحاتها الخمسمائة والخمسين رائحة العقم والشيخوخة، وشيء من المراهقة المتأخرة، يغرق بطلها العجوز في خيالات شبقية كلما وقعت عينه على لوليتا الصغيرة، خط يده أيضا كان لا يقرأ، دفع لي مقدما لأكتبها على الكومبيوتر، معتذرا عن خطه الرديء، لكن روايته كانت أصعب في القراءة من خط يده، ناولني الأجرة داخل مظروف أبيض بأصابع مرتعشة مكرمشة، تعلوها بقع نمش سوداء، يلعق شفته السفلى بطرف لسانه وهو يتكلم، من تحت النظارة الطبية السميكة يرمقني، يتطلع إلى لوليتا البريئة، كنت أرتدي وجهي العذري بمهارة تدربت عليها وبذكاء فطري، أجلسني في الصالة التي تغطي جدرانها رفوف الكتب، الأغلفة الجلدية الرصينة، يستمد من رصانتها ملامح الأستاذ الكبير، يرتدي بذلة لونها رصاصي فيها خطوط بيضاء رفيعة، من الصوف الإنكليزي، الجو يميل إلى الحرارة أول الربيع، من وراء الصالة شرفة كبيرة تطل على كورنيش النيل. - تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟ - ولا حاجة يا أستاذ. - لازم تشربي حاجة يا حميدة.
خلع علي بسرعة لقب الأستاذة، حافظت على لهجتي المتحفظة، لا ألغي المسافة الضرورية لاحترامي، تدربت ألا أرفع الكلفة بيني وبين الرجال، يرتفع ثمني بازدياد المسافة، فهم النظرة في عيني: تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟
كانت موسيقى حالمة تنبعث من ركن المكتبة، يحوطه ضوء غير مباشر، يكشف عن تمثال برونزي للإلهة إيزيس، ترتدي ثوبا شفافا لا يخفي نهديها وفخذيها، تحمل فوق رأسها قرص الشمس. - تشربي إيه يا أستاذة؟ - ولا حاجة يا أستاذ شاكر. قلتها بحزم ودخلت في الموضوع: كان ممكن أكتب رواية حضرتك ع الكومبيوتر لكن أنا مسافرة الإسماعيلية خالتي عيانة، عندي زميل ممتاز مستعد يكتبها. - إنتي عارفة خطي كويس يا حميدة، وأخطائك قليلة، عندك دقة في شغلك، بتاخدي بالك من الهمزة والنقطة والفواصل، أكتر شيء يتعبني هو التصحيح ع الكومبيوتر، معظم خريجي الجامعات النهارده ما يعرفوش مبادئ اللغة، وكمان مهملين، إنتي يا أستاذة حميدة أنقذتيني من العيال دول. - زميلي مختلف عنهم يا أستاذ، ومجتهد، وعنده ضمير، حضرتك جربه في الرواية دي، والرواية الجاية أنا أكتبها. نهض ليرد على جرس التلفون، ظهره منحن نحيف منكمش، يشد عضلات ظهره ليبدو أكثر طولا، مفاصله ليست مرنة، يمط عضلات عنقه ويمشي بخطوة يجعلها رشيقة، كانت ضفائري مصففة لأبدو في العشرين أو أكثر قليلا، لم يعد أمامي إلا ثلاث سنوات وأصبح في الأربعين، كلمة عانس تؤلمني مثل الخنجر، فكرت في اصطياده كزوج، لكن عندي بعض مبادئ، لا أسبب ألما لامرأة مثلي ولا أقبل أن أكون زوجة ثانية، يبدو لين العريكة من نظرته المنكسرة، سهل الوقوع في الحب، كلما تقدم الرجل في السن أصبح فريسة سهلة، في عينيه شيء من حنان، يذكرني بجوزيف وصديقه السويدي، أنا في حاجة إلى حنان الأب قبل الحب والجنس، لا توحي يده أنه قادر على الضرب، كرهت أعضاء الرجال الضخمة القوية، ترتعش أصابعه قليلا وهو يمسك القلم أو الفنجان، ليس ممشوقا، وليس لجسده جاذبية الرجولة، البذلة الأنيقة لا تكفي، تخيلته في السرير عاريا، قلت لنفسي: لا يمكن أن أدخل معه الفراش وإن دفع مال قارون. تشربي عصير لمون؟ - كوكا كولا يا أستاذ. - أنا لا أشجع المنتجات الأمريكية يا أستاذة. - متأسفة، هل أنت شيوعي؟ - أنا اشتراكي مش شيوعي. - وإيه الفرق يا أستاذ شاكر؟
الشيوعي عضو في الحزب وأنا مستقل تماما. بسط ذراعيه في الهواء وهو يردد: مستقل تماما. كأنما يهم بالطيران فارتطمت ذراعه برأس نفرتيتي فوق رف المكتبة، سقط التمثال البرونزي على السجادة العجمية السميكة من دون صوت، انحنى ببطء وأعاده إلى الرف، نهضت أستعد للخروج على مهل، لم أشأ أن أفقده الأمل، تعودت أن أترك الباب مفتوحا أو مواربا أمام الرجل، أملا في العودة عند الحاجة، روايتك عجبتني جدا يا أستاذ، كان نفسي أكتبها ع الكومبيوتر لولا السفر.
اتجهت عيناي إلى عينيه مباشرة، لا أخشى النظر إلى عمق عينيه.
لا يملك القدرة على رؤية الكذب في عيني إلا الأذكياء الموهوبون، لمعت عيناه الذابلتان بالفرح الطفولي. - صحيح عجبتك روايتي؟ - جميلة جدا يا أستاذ.
لم أعد أشك في قدرتي على الكذب كما كنت منذ عشر سنوات، تدربت خلايا جسدي وعقلي على امتصاص السموم وهضمها من دون أن يهتز لي جفن، روايتك يا أستاذ جميلة قرأتها بمتعة.
نطقت كلمة «متعة» بشفتين مرتعشتين بإتقان، عيناي لم يرف لهما رمش، أثبتهما في عينيه بنظرة مفعمة بالصدق، تدريب طويل على التمثيل أمام الكاميرا في شقة أشرف نور في الزمالك، أراد أن يجعلني ممثلة في فيلمه الأخير، كانت شهوته الجنسية تتغلب على رغبته الفنية، وانتهى بي الأمر إلى عملية إجهاض نزفت فيها نصف دمي، بعد موت أمي خلعت الحجاب والنقاب والقفازين الأسودين، لكني عدت لأومن بوجود الله، المنتقم الجبار، انتقم لي من أشرف نور، قرأت خبره في الجورنال، وقع حادث أليم للفنان أشرف نور، انقلبت سيارته في الطريق الصحراوي بعد اصطدامها بعربة لوري، فاضت روح الفنان الكبير في مستشفى الهرم بعد منتصف الليل بعشر دقائق، تشيع الجنازة من جامع عمر مكرم الحادية عشرة صباح الغد، بعد أكثر من شهر جاءني صوت الأستاذ شاكر في التلفون، كان متوترا وغاضبا، زميلك طلع عيني يا حميدة، السطر الواحد فيه عشرون غلطة، غير السطور الساقطة والنقط والفواصل الناقصة، صححت ثلاث صفحات في أسبوعين، لا يمكن أن أكمل، لازم تكتبي إنتي الرواية، ما فيش غيرك هيكتبها. حاضر يا أستاذ أنا تحت أمرك. أصبحت أتردد إلى شقته، يراجع معي الأخطاء على الكومبيوتر، نشرب عصير الليمون في الشرفة المطلة على النيل، يعد لي كوب الشاي الأخضر، ويملأ له كأس النبيذ الأحمر، سألته مرة عن زوجته الكاتبة، قرأت لها رواية في ليلة واحدة، لم أتركها لحظة واحدة لأفرد ساقي أو أشرب كوب ماء، روايتها جميلة حقيقي يا أستاذ. التقطت أذنه كلمة «حقيقي» فانقبضت عضلة تحت عينه، ارتفعت يده تدلكها بحركة بطيئة، هل تشعر بالغيرة من زوجتك يا أستاذ شاكر؟ - بالعكس أنا بافرح لنجاحها. - الرجل لا يشعر بالغيرة إلا من الرجال.
ثبتت عينيها في عينيه وابتسمت، زم شفتيه وغير الموضوع. - فقدنا فنانا كبيرا، أشرف نور. - يمهل ولا يهمل يا أستاذ. - مش فاهم. - ربنا منتقم جبار يا شاكر بيه. - إنتي مؤمنة بوجود ربنا؟ - طبعا، وأنت مؤمن؟ - أنا لا أتكلم في الدين أو السياسة مع البنات الجميلات.
هذه العبارة أعجبته في رواية من الروايات، أصبح يكررها مع الفتيات. - إنتي جميلة جدا. - شكرا. - أخذت من وقتك كتير. - أبدا. - الحوار معاكي ممتع، احكيلي عن حياتك يا حميدة. - الدنيا ظلمت يا أستاذ لازم أروح. - أستلم الرواية ع الكومبيوتر إمتى، قوليلي؟ - بعد أسبوعين. - شكرا يا حميدة. - والمبلغ يا أستاذ؟
تدربت أن أطلب حقي عن أي عمل، كنت أخجل وأتلعثم عند الحديث عن الفلوس، ثبت عينيه الخضراوين الضيقتين في عيني، أفاق لحظة من نشوة النبيذ، وقال: عاوزة كام؟ - حسب السعر في السوق. - قولي عاوزة كام؟ - زي السوق يا أستاذ مش أكتر. - يعني كام؟ - الرواية كام كلمة؟ - هي بالكلمة والا بالصفحة؟ - بالكلمة يا أستاذ.
رأيته يرمقني بنظرة مخلبية، نظرة رجل إلى رجل، بعد خروجها شرب شاكر كأسا من الويسكي البلاك ليبل، أراد أن يمسح الإهانة بالخمر، يقول عقله من حقها أن تطلب أجرتها عن شغلها، قلبه يحدثه أنها منجذبة إليه، لماذا تأتي إلى بيته؟ كان يمكن أن تصر على لقائه في مكان عام مثل الفتيات المستقيمات، نهض متثاقلا يدلك عظام ظهره، إن جلس طويلا يشعر بآلام العمود الفقري، يقولون مرض الأدباء هو الانزلاق الغضروفي، يسعده الانتماء إلى الأدباء بأي شيء وإن كان انزلاق الغضاريف، فتح التلفزيون، رأى وجه زوجته يطل عليه وهي تتحدث في مؤتمر نيويورك، يقف في جوارها رجل طويل ممشوق يرمقها بإعجاب، ضغط بإصبعه الزر فأظلمت الشاشة، نهض متثاقلا، يسير بخطوة بطيئة وظهره منحن، دخل الحمام، أفرغ مثانته في المرحاض ثم بصق في الحوض متخلصا من المرارة.
على شاطئ الإسكندرية
تمددت فؤادة فوق شاطئ البحر بالإسكندرية، تلامس أشعة الغروب الدافئة ساقيها الناعمتين، يرفع الهواء الحنون ثوبها الهفهاف الأبيض، من تحت نظارة الشمس السوداء تتأمل جسد زوجها الممدود فوق الشيزلونج يقرأ الجورنال، يوحي الشيزلونج العتيق بأرستقراطية قديمة، عظامه مثل أرجل الشيزلونج، المايوه من النوع الحديث آخر صيحة، لا يخفي إلا العورة، لونه الأحمر الزاهي يزيد من شحوب بشرته، من تحت نظارته الزجاجية رآها تتأمله طويلا: أتعرف ما أريد أن أقوله؟ - تريدين أن تقولي إنك لا تحبينني. - متيقن؟ - أنت لا تحبين أي رجل. - متيقن؟ - أنت لا تحبين أحدا. - متيقن؟ - أنت لا تحبين إلا نفسك يا فؤادة. - أنت تتكلم مثل كوكب يا زوجي العزيز. - لو عرفت الحب ما أغرقت نفسك في الكتابة.
منذ التقينا وأنت تحملقين في وجهي، تشككين في أنني زوجك، أنت لا تحبين شخصي، هذه هي الحقيقة، نعم الحب يدفع الإنسان إلى عمل الاستثناءات، أشياء لم يفعلها قط، لو أنك عرفت الحب لشعرت بالرغبة في الخضوع والطاعة، بالرغم من اعتراضك على الخضوع والطاعة. وماذا عنك يا زوجي العزيز لو أنك عرفت الحب لفقدت الرغبة في السيطرة بالرغم من اعتراضك على السيطرة. - نعم. - نحن ندفن رءوسنا في الرمل مثل النعامة، نحن نتظاهر بما ليس فينا، أصبح الخداع متقنا فلا نتعرفه أنت وأنا؟ - نعم نحن الاثنان معا. - نواجه الحقيقة بعد مائة عام؟ - وبعد ألف عام. - نواجه التاريخ المزيف بعد سبعة آلاف عام! - ليه لأ يا زوجي العزيز؟
تقلبت سعدية فوق المرتبة النحيفة من البلاستيك، جسمها نحيف مهدود من التعب ، عظام عمودها الفقري تحتك بالبلاط تحت المرتبة، تتقلب من جنب إلى جنب عاجزة عن النوم، يدوي أذان الفجر بصوت متقطع متحشرج، قبل أن تضع جسدها المنهك فوق المرتبة أجهشت بالبكاء الجاف، جفت دموعها من طول ما بكت، تورمت جفونها والتهبت وقلبها احترق، مصائبها تهون أمام هذه المصيبة، ابنتها هنادي راقدة في جوارها على المرتبة المشققة الرمادية، غارقة في نومها، تمد ذراعها تريد أن تضمها إلى صدرها كما تفعل كل ليلة، ذراعها الطويلة الناحلة تعجز عن الامتداد، تتقلص عضلاتها في الهواء، رائحة العرق تحت إبطها تملأ أنفها، تؤكد لها الهوان والفقر، يثقل قلبها أكثر مما كان، تسقط ذراعها إلى جوارها، طويلة نحيفة كذراع المكنسة من الخشب، ترمق ابنتها النائمة إلى جانبها، نهداها لم ترهما إلا اليوم، كأنما في ليلة واحدة برزا من بطن الأرض، برعمان دقيقان كل منهما بحجم زيتونة صغيرة خضراء، تهبط عينها وتثبت فوق ارتفاعة البطن الصغيرة تكاد لا ترى، تبتلع لعابا مرا كالعلقم، طفلتها حامل في شهرها الثالث، كان موتها أهون، بالأمس ضربتها حتى انكسرت ذراع المكنسة الخشبية، تسألها والدم يغلي في رأسها: قولي مين المجرم؟ مين هو؟ اسمه إيه عشان أشرب من دمه؟ - ماعرفش. - انطقي يا بت قولي اسمه ماعرفوش!
تنهال الضربات فوق رأس البنت، تحمي رأسها بذراعيها، وهي تلهث ماعرفوش، لا ينتهي الضرب حتى تنهار الأم من التعب، يسقط جسمها الضامر مهدودا فوق الأرض، تئن وتنشج بصوت خافت، تكتم الصوت بكفها فوق فمها، تخشى الآذان المتلصصة من وراء الجدران، وخصوصا أذن الشيخ متولي، يسكن الغرفة المجاورة، يتلصص على الجيران من شق في الجدار، جدران البيوت من الصفيح المدهون بالبويا، الخشب المطلي بالجير، الطين المجبول بالتبن، أو قماش قلع المركب القديم، تتشقق الجدران في الشتاء كما في الصيف والربيع، تحت ماء المطر والصقيع، ولهيب الشمس ورياح الخماسين تسمح الشقوق في الجدران بمرور الأصوات، وإن كانت خافتة كالنشيج المكتوم، والحشرات الصغيرة كالبق والقمل والبراغيث، أو متوسطة الحجم مثل الخنافس والصراصير والفئران الصغيرة، نظرت سعدية إلى الساعة في معصمها ، لها قرص أبيض كبير، تبدو الأرقام فوقه واضحة سوداء، أهدت إليها الأستاذة فؤادة هذه الساعة وعلمتها قراءة الأرقام والحروف، ارتدت بسرعة جلبابها الأسود، لفت رأسها بالطرحة البيضاء، وحملت الصفيحة الفارغة بين ذراعيها كالطفل، قبل أن تفتح الباب وتخرج لكزت ابنتها في كتفها برأس إصبعها المدبب كرأس الدبوس، قومي يا بت قامت قيامتك ورانا شغل. الطفلة غارقة في النوم، انقلبت من جنب إلى جنب وهي تموء بأنين مكتوم، لعنتها أمها ولعنت يوم زواجها بأبيها متعوس الرجا، طردته من ذاكرتها، وانطلقت مسرعة حاملة الصفيحة، الطابور الطويل سبقها إلى حنفية الماء الوحيدة في الزقاق، وجوه شاحبة أجسام ناحلة، يسكنون معها في الحي العشوائي وراء المقابر، ليس لها واسطة في الحكومة لتحصل على غرفة في مقبرة مبنية بالطوب الأحمر، حصلت على هذه الغرفة من الخشب بعرق جبينها، لم تفرط في شرفها، لا يبقى يا سعدية بعد الموت إلا الشرف، صوت المرحومة أمها محفور في رأسها، سوف تذبحه المجرم الذي اعتدى على شرف ابنتها، تدور بعينيها الحمراوين على الوجوه الواقفة في الطابور، تستقر عيناها على عيني الشيخ متولي، يقف داخل جلبابه الأبيض، من فوقه معطف أسود قديم منحول عند الكوع، يلف عنقه بكوفية صفراء كالحة، يبربش بعينيه الغائرتين داخل الجبهة العريضة المنحدرة إلى صلعة كبيرة، هو؟ مش هو؟
يدور السؤال في رأسها، في منتصف جبهته زبيبة سوداء علامة الصلاة والسجود والخشوع لله، في عينيه نظرة ملتوية أقرب إلى الشيطان منها إلى الله، أمامه في الطابور فتاة من عمر هنادي ابنتها، في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، رأسها ملفوف بحجاب ملون عدة لفات، تحمل زلعة فوق رأسها تمسكها بيديها الاثنتين، تبدو طالبة في المدرسة أو المعهد، سنة أولى مثل ابنتها، يتحرك الطابور ببطء، تنظر سعدية إلى ساعتها في قلق، تعود إلى فحص الوجوه الشاحبة الواقفة في الطابور، كل منهم يحمل صفيحته كمن يحمل صليبه، يتنافسون في الحصول على الماء، ينتصر الشباب ذوو العضلات، من بعدهم الشابات عضلاتهن أقل قوة، ثم الرجال الكهول ثم العجز والمرضى، في المؤخرة تقف النسوة الطاعنات في السن أو المريضات، قد تفترش الواحدة منهن الأرض من شدة الإعياء، ترمقهن سعدية من بعيد، عيون منكسرة تشوبها صفرة، وجوه طويلة شاحبة متغضنة، ملأى بالبقع والتجاعيد، كعوب سوداء تطل من شباشب بلاستيك، أياديهن مشققة تعلوها بقع بيضاء وزرقاء، أيمكن يا سعدية أن تصبحي واحدة منهن؟
أن تكوني امرأة ميتة في القبر يا سعدية أفضل من امرأة مريضة أو عجوز فقيرة ليس لها أحد في هذه الدنيا؟ نعم الموت أفضل لك يا سعدية، لكن ... أين سيدفنونك يا سعدية وليس عندك قبر؟
تكلم نفسها أو تخاطب الرب.
آه يا رب، أتعرف مين المجرم؟ اسمه إيه يا رب؟ شكله إيه؟ بني آدم أو حيوان؟ يعتدي على طفلة زي هنادي؟
تتطلع بعينيها إلى السماء تبحثان عن وجه الرب أو وجه الرجل الذئب؟ أيختفي وراء هذه السحابة السوداء أو ذلك العمود من الدخان؟
تستقر عيناها فوق الوجه الكبير المعلق بين السماء والأرض، فوق عمود النور الحديدي الطويل تثبت عيناها، فوق الوجه المربع في الصورة، فوق العمود صورته معلقة وفوق كل الأعمدة في الزقاق، والأزقة كلها في الحي، وخارج الحي في الشوارع كلها، من شارع المعهد المتوسط إلى شارع المعهد العالي، إلى شارع قصر العيني الرئيسي، حتى ميدان التحرير، الوجه في الصورة تعرفه منذ انفتحت عيناها على الدنيا، قد يتغير حجم الأنف الكبير، يقل طوله أو عرضه قليلا، أو تزحف شعرات رمادية أعلى الصدغين، لكن شعر رأسه يظل أدكن كلون الليل، كأنما يصبغه بالحناء البغدادية، عظام الصدغين قوية، فكاه نتوءان بارزان تحت أذنيه، جبهته عريضة، تنحدر إلى صلعة كبيرة حتى منتصف رأسه، عضلات شفتيه منقبضة في تكشيرة عريضة تشبه الابتسامة الواسعة، أسنانه مدببة بيضاء حادة، العيون في الطابور ترمق الصورة من تحت الجفون، يكتمون أنفاسهم، أجهزة حديثة تلتقط أي نفس يفلت من بين الشفتين، أو تنهيدة أو زفير يخرج من الصدر، أو كلمة يهمس بها أحدهم، تبربش عيونهم تتطلع نحو فجوة في عمود النور تطل منها أسلاك كهربائية، يتساءلون: أجهاز تسجيل في هذه الفجوة أم يختفي وراء برواز الصورة؟
الشيخ متولي
يدور الهمس الخافت، ثم يرتفع صوت الشيخ متولي، يسب الفتاة الواقفة أمامه في الطابور، يحاول الالتصاق بها لتترك له مكانها في الصف، لكنها تصده عنها بقوة فيتراجع إلى الوراء، يدوس قدم رجل عجوز يقف خلفه، يبسمل ويحوقل ويلعنه والدنيا، في مؤخرة الطابور امرأة مريضة بالحمى تفترش الأرض وتلهث، سعدية واقفة منتصبة وفي رجلها شبشب بلاستيك أصفر، تتكئ بركبتها اليسرى على الصفيحة الفارغة، عظامها قوية إلا مفصل الركبة اليسرى والفقرات الأخيرة أسفل ظهرها، شعرها أسود قاتم سوى شعرات بيض قليلة، تصبغها بالحناء البغدادية، تخشى أن تستبدلها الأستاذة بشغالة أكثر منها قوة أو شبابا، تلقي نظرة على ساعتها من حين إلى حين، تخشى أن تتأخر عن موعد الشغل، في السابعة صباحا تنتظرها الأستاذة فؤادة وزوجها شاكر بيه، لتعد لهما الفطور قبل خروجهما إلى الجورنال، الشيخ متولي اشتبك في عراك مع شاب اسمه جلال أسعد، أشفق على المريضة في آخر الطابور وفسح لها في المكان في أول الصف.
يغضب الشيخ متولي مزمجرا: الرجالة وراهم شغل يا جلال، النسوان مش مفروض يخرجوا. تزمجر الفتاة الواقفة أمامه: إحنا بنشتغل أكتر منكم يا رجالة؟! - بتخرجي ليه وسط الرجالة؟ - أكل عيش يا شيخ. - مكانك البيت يا بت؟
ينتهز فرصة اندفاعة الأجسام من خلفه ليحتك بردفيها النافرين، تدفعه بقوة بعيدا عنها. - عيب عليك يا شيخ يا بتاع ربنا.
تغمز بعينها جلال أسعد، قامته طويلة ممشوقة، ترمقه بإعجاب، لا يلتفت إليها، يخاطب الشيخ متولي: ما فيش في قلبك رحمة يا شيخ؟
أحد الشباب يشد الشيخ من شراشيب كوفيته، يا شيخ يا عجوز مناخيرك أد الكوز. يقهقه الشباب ساخرين، يتصدى لهم جلال أسعد: كفاية يا جدعان ده زي والدكم. سعدية واقفة تنقل جسمها من قدم إلى قدم، تتكئ بركبتها على الصفيحة، تزيد الآلام في ظهرها وركبتها مع طول الوقوف في الطابور، وفي منزل الأستاذة فؤادة أمام الحوض تغسل الصحون والحلل، أعطتها الأستاذة بلوفر صوف قديم لونه أزرق باهت، أصبحت ترتديها تحت جلبابها في الشتاء، لا تبخل عليها الأستاذة بشيء، أعطت ابنتها هنادي الصيف الماضي فستانا حريريا أحمر بهت لونه، ولم تعد ابنتها داليا ترتديه، داليا طفلة تصغر هنادي بثلاث سنين لكنها أطول منها قامة، عظامها تكبر أسرع منها، تأكل كل يوم الفراخ أو اللحم أو السمك مع الخضراوات والفواكه كلها فيتامينات، ابنتها تأكل الخبز مع الجبن أو الفول المدمس أو قطعة طعمية، قد تناولها الأستاذة قطعة بسبوسة أو قطعة من الكنافة أو التورتة، جيرانها في الحي يحسدونها، الأستاذة فؤادة وزوجها شاكر بيه من أكرم الناس، لا يبخلان عليها بما أعطاهما الله، حتى الشيكولاتة من سويسرا تلفها الأستاذة في الورقة الفضية من الألومينيوم وتعطيها لابنتها، آه يا هنادي يا بنتي إزاي يضحك عليكي المجرم؟
دفعت لك مصاريف المعهد من سلفة الأستاذة، كان ممكن تتخرجي بعد سنتين وتبقي أستاذة محترمة، تقعدي على مكتب وتكتبي ع الكومبيوتر، وربنا يتوب عليكي من وقفة الطابور دي وشيل صفيحة الميه على راسك، آه يا هنادي حطمت قلب أمك سعدية؟
تمسح سعدية دموعها الجافة بكفها المشققة، بعد ساعتين أو أكثر من الوقوف على قدميها تصل إلى حنفية الماء، تملأ الصفيحة، تلف الحواية ثم ترفع الصفيحة الثقيلة بذراعيها القويتين وتضعها فوق رأسها، تسير بين الأزقة الضيقة مستغرقة في أفكارها، تسرع الخطى حتى لا تتأخر عن الأستاذة، تصل إلى الزقاق الشبيه بشق الثعبان، تسده أكوام قمامة تجري بينها كلاب وقططة شاردة، تضع الصفيحة على الأرض أمام باب الغرفة، تخرج المفتاح الكبير الصدئ من الجيب العميق في جلبابها، تفتح الباب الخشبي المشقق، تملأ أنفها رائحة قيء عفن، ابنتها هنادي متكورة حول نفسها في الركن تمسك بطنها بيدها وتفرغ ما في جوفها، تئن بصوت خافت، ترمقها أمها بغضب، تلكزها في كتفها، يعني ناقصين مصايب؟ قومي امسحي الأرض من القرف ده. غسلت سعدية ذراعيها وتحت إبطيها، ارتدت جلبابا نظيفا، هل تشم الأستاذة رائحة العرق في ملابسها؟
في طريقها إلى بيت الأستاذة رأت سعدية التظاهرات في الشوارع، شبابا من الطلبة والعمال، والطالبات والعاملات ، وربات بيوت، وموظفين وفلاحين وعاطلين بدون عمل، ملايين من الناس معظمهم شباب يهتفون:
يسقط يسقط حكم الجيش،
مش كفاية لبسنا الخيش،
جايين يخدوا رغيف العيش!
يسقط يسقط حكم العسكر،
هو يلبس آخر موضة،
وإحنا بنسكن عشرة في أوضة.
كفاية دين عاوزين تموين.
كفاية صلاة وزعيق عاوزين نعيش.
الإجهاض
تركب سعدية الأوتوبيس حتى تصل إلى باب الشقة، تدق الجرس، تعرف الأستاذة فؤادة أنها سعدية من رنين الجرس، موعدها في السابعة صباحا لا تتأخر إلا نادرا ولسبب خارج عن إرادتها، ودخلت سعدية المطبخ، خلعت جلبابها النظيف، علقته في الشماعة وراء باب المطبخ، ارتدت الجلباب الآخر الذي تشتغل به، وضعت كيس نقودها ومفتاح الغرفة في درج صغير أسفل دولاب الحلل، رأتها فؤادة تبكي وهي واقفة أمام الحوض، غسالة الصحون جاية أول الشهر يا سعدية. - كتر خيرك يا ست فؤادة. - وميعاد العملية يوم الخميس الساعة عشرة الصبح. - أنا خايفة عليها يا أستاذة. - عملية بسيطة جدا.
تعرف سعدية أنها عملية إجهاض، تفقد ابنتها طفلها وهي تفقد حفيدها، هل كانت تحلم أن يكون لها حفيد، وأن تعيش ابنتها حياة أفضل من حياتها.
ترمق بطرف عينها بطن الأستاذة المرتفعة قليلا تحت الفستان.
تتحسس فؤادة بطنها بيدها الناعمة، تعد الشهور على أصابعها الطويلة الرشيقة، أظفارها نظيفة مقصوصة بعناية.
ترمق سعدية ارتفاع بطنها، تقول لنفسها: إشمعنى يا رب بنتي تعمل إجهاض، وغيرها لأ. تطبق شفتيها وتبعد عينيها عن الأستاذة، تشعر بتأنيب الضمير، أتقابل المعاملة الطيبة بالحسد والحقد؟ - فاضل خمس شهور يا سعدية. - يفوتوا حالا يا أستاذة وتجيبي أخ للمحروسة بنتك. - يمكن تطلع بنت مش ولد. - أنا عارفة أنه ولد. - عرفتي منين يا سعدية؟ - كانت المرحومة أمي بتعرف الولد من البنت من ريحة قميصها. - ده علم جديد ما حدش من الدكاترة يعرفه.
وتضحك فؤادة، يسرها أن تتبادل الحديث مع سعدية، تقول عنها الشغالة وليس الخادمة، لم تدخل مدرسة لكن عقلها ورث جينات الحضارة القديمة والذاكرة الجماعية منذ إيزيس وأوزوريس. - أيوه يا أستاذة لو دخلت المدرسة كنت بقيت ست محترمة. - إنتي محترمة يا سعدية من غير مدرسة؟ - مين يحترم خدامة في البيوت يا ست فؤادة؟
تزم سعدية شفتيها، تبتلع المرارة، تدعك قاع الحلة المحروق بالسلك، تنظر إلى أصابعها المشققة الملتهبة بالصابون والصودا الكاوية، تختلس نظرة إلى أصابع الأستاذة الناعمة.
كان يمكن لهنادي لو أكملت التعليم في المعهد أن تجلس خلف مكتب بدلا من أن تدعك الحلل والمراحيض. - آه يا أستاذة لو تعرفي.
ينقطع صوتها، يخرج الهواء الساخن من صدرها.
لم تعد قادرة على الكتمان، تريد أن تفضفض عن نفسها، ليس لها أحد في الدنيا إلا السيدة فؤادة وزوجها. - آه يا أستاذة لو تعرفي إيه اللي جوه قلبي. - يا سعدية عملية الإجهاض سهلة!
في الصالة جلست الأستاذة فؤادة على الأريكة المبطنة بالقطن، المغطاة بقماش حريري أزرق منقوش بزخارف خضراء، خطر لها أن تدعو سعدية للجلوس على الأريكة في جوارها، لكن سرعان ما طردت الفكرة من رأسها.
تركتها تجلس على الأرض فوق السجادة العجمية، حيث تجلس بعد الانتهاء من العمل تخيط الجوارب والأزرار الساقطة، تعد فنجان شاي تشربه في كوب بلاستيك أزرق، تضعه على الرف العلوي بالمطبخ مع علبة الشاي، ليس الشاي الدارجيلنيج الثمين، الذي تشربه الأستاذة وزوجها وضيوفهما، في فناجين رقيقة صينية حوافها منقوشة. - هنادي كانت عاقلة وذكية يا ست فؤادة. - أيوه يا سعدية كانت بنت ممتازة. - أيوه يا أستاذة، دفعت لها مصاريف المعهد من السلفة، كنت باحلم أنها تتخرج وتبقى ست محترمة، لكن نعمل إيه للشيطان؟
تمص سعدية شفتيها بحسرة. - ما شيطان إلا بني آدم يا سعدية، لازم نعرف المجرم، إزاي يعتدي على طفلة عمرها ستاشر سنة؟ - لازم سقاها حاجة مخدرة؟
تمسح دموعها بكفها.
كانت تتمنى أن يكون لها حفيد قبل أن تموت، أن ترى ابنتها جالسة محترمة خلف مكتبها مثل الأستاذة فؤادة، ولها زوج محترم مثل شاكر بيه، ولها مطبخ وحمام فيه دش وحنفيات ماء بارد وساخن. - خايفة عليها تموت في العملية يا أستاذة. - العمليات دي بقت سهلة جدا وما فيش فيها أي خطورة وأنا مستعدة أدفع المصاريف. - سلفة تانية يا أستاذة وأسددها كل شهر؟ - ما تحمليش هم يا سعدية. - البركة فيك يا أستاذة. - إنتي بقيتي واحدة من العيلة يا سعدية.
في الليل وهما في الفراش، حكت فؤادة لزوجها شاكر الحكاية، اتسعت عيناه من دون اندهاش كبير، لم يعد هناك شيء يدهشه في الكون، تحكي له زوجته، يستمع إليها وهو راقد فوق ظهره داخل المنامة الحريرية البيضاء، شاخصا إلى السقف.
لا يرتدي شاكر بيه إلا المنامة المكوية، تقف سعدية ممسكة المكواة بيدها اليمنى، يدها اليسرى فوق ظهرها حيث الألم، تكوي قمصانه الإفرنجية ومناماته، وجواربه أيضا لا يلبسها إلا مكوية، لون الجورب يتسق ولون ربطة العنق، وياقة القميص ترتفع فوق عنقه منشاة.
ينام محملقا في السقف مستغرقا في أفكاره، لا يحكي لزوجته عن شيء، تعود الكتمان منذ الطفولة، عاش طفلا وحيدا، يتكلم مع نفسه، في المدرسة يمشي في الفناء وفي يده كتاب، في الجامعة كان له صديق واحد يسكن في الفيلا المجاورة بجاردن سيتي. - مش غريبة دي يا شاكر؟ - غريبة ليه؟ - طفلة تبقى حامل؟ - هي عمرها كام؟ - ستاشر سنة. - البنات بيجوزوا في الريف سن عشر سنين يا فؤادة ويخلفوا كمان. - خسارة البنت تفقد مستقبلها يا شاكر. - تفقده ليه؟ المشكلة بسيطة يا فؤادة. - بسيطة؟ - بالنسبة إلى المشاكل في الدنيا، أقله لها حل، عملية إجهاض في ساعة واحدة، وتكمل تعليمها في المعهد. - أنتم الرجالة لا يمكن تحسوا بمشاكل النساء، تصور أم تفقد طفلها بالإجهاض؟ تصور بنت تصبح أم وهي طفلة ومن غير زواج؟ تصور مشاعر سعدية أمها؟ - أتصور كوارث أكبر، البلد النهارده على كف عفريت، التظاهرات بالملايين في الشوارع في مصر كلها، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى أسوان، الشباب والنساء والرجال، الطلبة والعمال وكل المناطق الشعبية، والعاطلون والمعدمون، نصف الشعب تحت خط الفقر، النظام لازم يسقط، سياسة القروض تسببت بالاحتلال البريطاني لمصر، الحكومة ماشية في ركاب أمريكا والبنك الدولي وصندوق النقد، حلقة مفرغة، زيادة القروض يعني زيادة الديون وزيادة فوائدها ويزيد التضخم وترتفع الأسعار.
القروض لها شروط تخرب البلد، رفع الدعم يعني رفع الأسعار، لا يمكن أن تنتهي التظاهرات، إذا لم يتغير النظام فستقوم ثورة الجياع. - أنا خايفة على حياة هنادي، أمها سعدية مسكينة وغلبانة. - أنا خايف على البلد كلها. - أنا خايفة عليك وعلى نفسي وبنتي داليا والطفل اللي جاي في السكة. - كل الناس تعبانة مش إحنا بس. - مش كفاية اللي حصل لنا.
فاكر يا شاكر؟ - أيوه فاكر يا فؤادة. - أنا مش عاوزة طفل تاني يا شاكر في الظروف دي. - الظروف دايما كده ويمكن يكون ولد ظريف نسميه ظريف.
يضحك شاكر من دون صوت وتزم شفتيها في وجوم.
كان رجال البوليس قد هجموا على البيت.
وضعوا الحديد في يديه وقادوه إلى التخشيبة ليقضي الليلة واقفا على قدميه مع القتلة والمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، من دون ماء أو طعام أو مرحاض أو نافذة. واقف على قدميه محاط بأجسام واقفة متلاصقة، تنز عرقا وغضبا في غرفة صغيرة، كان يمكن أن يختنق ويلفظ أنفاسه، في اليوم التالي أخذوه إلى سجن القلعة، وهو سجن قديم منذ عصر محمد علي، نزعوا من يديه الكلابشات وقضى يومين في حبس انفرادي داخل زنزانة لها بابان؛ باب داخلي خشبي وباب حديدي خارجي، رقد على الأرض بملابسه وحذائه الجلدي، كان مرتديا بذلة والبالطو من الصوف، طلبت زوجته فؤادة أن يرتدي البالطو، لكنه اعترض، أراد أن يثبت لضباط البوليس أنه رجل خشن يتحمل البرد، ولا يطيع زوجته، اعترض البوليس على البالطو أيضا، لكن فؤادة أصرت، وأخيرا خضع الضباط وحمل شاكر البالطو على يده.
في جنح الليل انفتح البابان ودخل شباب إلى الزنزانة تنزف منهم الدماء، في اليوم التالي في منتصف الليل نقلوهم إلى سجن الاستئناف بباب الخلق، حيث كان مئات من المعتقلين في التظاهرات.
استمرت المناقشات في السجن، اشترك فيها المسجونون مع السجانين، شكر السجانون الشباب الثوار وقالوا لهم: أنتم انتصرتم على الحكومة يا شباب.
في الصباح أحضر الشاويش لهم الصحف، المانشيت الكبير في الصفحة الأولى يقول: تم القبض على رءوس الفتنة.
لم تنم فؤادة منذ جاء رجال البوليس إلى البيت وأخذوا معهم زوجها، وإن غفت لحظة تصحو فزعة على صوت الجرس.
تم حظر التجوال ونزلت القوات المسلحة إلى الشوارع.
قتل الآلاف من الشباب، الأعداد الحقيقية لا يعرفها أحد.
لم تسمع فؤادة الجرس ذلك الصباح، تعرف دقة سعدية فتشعر براحة عميقة، تنتشلها سعدية من عبء أعمال البيت والمطبخ، ليس من السهل العثور على شغالة مثلها، تواظب على مواعيدها كالساعة، تحمل العبء صابرة كالجمل صامتة كالجبل، لا تشكو ولا تطلب شيئا، نظيفة لا تشم في ملابسها رائحة عرق، ذات كبرياء وعزة نفس.
فؤادة لا تكره في الدنيا مثل شغل البيت والمطبخ، لم تدربها أمها على هذه الأعمال، متكررة متشابهة، تقوم بها الآلات، والزوجات والخادمات من قاع المجتمع، بالأمس لم تذهب فؤادة إلى الجورنال، غسلت الصحون المتراكمة في الحوض، أخرجت قطعة اللحم المجمدة من الثلاجة، قشرت الثوم والبصل، دمعت عيناها فعطست، وضعت الحلة على النار ثم أسرعت لترد على التلفون في الصالة، انخرطت في نقاش حاد مع رئيس التحرير: أنا المسئولة عن كتاباتي يا أستاذ موش إنت. - أنا رئيس التحرير المسئول موش إنت يا أستاذة فؤادة.
يستمر النقاش الحاد حتى تنبعث من المطبخ رائحة دخان، اللحمة اتحرقت يا أستاذ، تلعن الجورنال والصحافة ورئيس التحرير.
دق الجرس فانتفضت فؤادة مسرعة إلى الباب. - تأخرت يا سعدية. - معلهش يا ست فؤادة. - إزي هنادي؟ - الحمد لله. - المشكلة بسيطة ولها حل. - البركة فيك. - دكتور كويس هيعمل العملية. - كتر خيرك يا ست فؤادة. - ما فيش خطر من عملية الإجهاض.
انتفضت سعدية حين سمعت كلمة الإجهاض، خرجت الكلمة سهلة من بين شفتي الأستاذة، كأنها شكة إبرة وليست عملية جراحية لقتل الطفل في بطن ابنتها، تسد أذنها بيدها السمراء المشققة، لا تريد أن تسمع كلمة إجهاض، لا تحس الأستاذة بمأساة ابنتها، لا يهمها إلا أن تحضر سعدية في الموعد وتقوم بالشغل.
ترمق سعدية بطرف عينيها بطن الأستاذة المرتفع تحت البلوزة الحريرية، هي حامل مثل ابنتها في الشهر الثالث، زوجها شاكر بيه في جوارها، لا يفكر الأب والأم في إسقاط طفلهما، ولهما طفلة أخرى في المدرسة.
فين العدل يا رب؟
أطرقت سعدية وابتلعت دموعها ثم دخلت المطبخ، وهي تهمس لنفسها من دون صوت: ربنا يكفيهم شر العين والحسد، دول أطيب ناس، أستغفرك يا رب.
في الليل دار الحوار بين فؤادة وشاكر: - لازم نشوف دكتور يا فؤادة. - دكاترة الإجهاض حرامية يا شاكر. - ممكن نشوف دكتور كويس. - وإذا ماتت في العملية يا شاكر؟ - تموت ليه؟ - خايفة عليها. - العملية بسيطة. - لكن أنا قلقانة عليها.
سامعني يا شاكر؟
إذا ماتت نعمل إيه؟
سامعني؟
إنت نمت يا شاكر؟
راقدة في جواره في السرير العريض مفتوحة العينين ترمقه وهو نائم، كتب لها رسائل حب قبل الزواج، كان يدخل مكتبها في الجورنال، يمد يده بورقة مطوية أربع طيات، حروفه دقيقة يكتبها بحبر أزرق، جمعت رسائله في صندوق كبير يلفه شريط ملون. - إنت نمت يا شاكر؟ سامعني؟
ينام بسرعة، ما إن يضع رأسه على الوسادة حتى تسمع شخيره الخافت. - وإذا ماتت نعمل إيه يا شاكر؟ سامعني؟
راح شاكر في النوم العميق.
ترمقه بعينيها المفتوحتين، تتغير ملامحه في النوم، يصبح رجلا لا تعرفه، لم تقابله قط من قبل.
قابلته لأول مرة في اجتماع في الجورنال، كان يحرك عينيه الخضراوين من تحت النظارة البيضاء على الوجوه في الاجتماع. - سيتولى الأستاذ شاكر صفحة السياسة المحلية.
أصدر رئيس التحرير أمره وهو جالس وراء مكتبه الكبير من البلور.
منصب جديد
من فوق صلعته اللامعة تحت الضوء يطل الوجه المربع الكبير من الصورة داخل البرواز الذهبي، شعره أسود قاتم كأنما مصبوغ أو شاب في ربيع العمر.
المحررون يرمقون الصحفي الجديد بنظرة متوجسة، يضع نظارة طبية، عيناه من وراء الزجاج فيهما نظرة فاحصة على غرار عيون الأطباء، قال المسئول عن صفحة السياسة المحلية: وأروح أنا ورا الشمس يا أستاذ؟ - لأ انتم الاتنين تشتغلوا مع بعض. - إزاي يا أستاذ؟ المركب اللي لها ريسين تغرق.
يختلس الصحفي نظرة متشككة إلى القادم الجديد، ليس شابا حديث التخرج، يبدو في الأربعين، لم يسمع اسمه في مجال السياسة أو الصحافة، يرتدي بذلة كاملة، بالرغم من أن الجو ليس باردا، بشرته تميل إلى البياض، عيناه خضراوان، أيكون من مصر أو من الشام؟ أنيق المظهر، أيكون من عائلة ذات نفوذ؟ أتكون له واسطة كبيرة في الحكومة؟
لم يكن سهلا لحملة الدكتوراه والماجيستير الحصول على وظيفة عادية فما بال صحفي في جورنال مهم، ومسئول أيضا عن صفحة السياسة المحلية؟
قالت كوكب مسئولة صفحة المرأة: القيادة الجماعية أفضل من القيادة الفردية، ويمكن أن يكون للصفحة مسئول أو اثنان أو ثلاثة، مش مهم المنصب المهم الشغل.
رمقتها العيون في صمت وغضب مكبوت، تستطيع برمش عينها أن ترسل الواحد منهم وراء الشمس. - يا أستاذة كوكب يمكن لسعادة الأستاذ شاكر أن يتولى مع سعادتك صفحة المرأة؟
ضحك المحررون، تقلص وجه رئيس التحرير، غمزت كوكب بعينها الصحفي الجديد: ماعنديش مانع، عندك مانع يا أستاذ شاكر؟
عيناه الخضراوان تبتسمان من وراء النظارة في صمت، مزيج من السخرية والمرارة المكبوتة، أراد أن ينهض ويفر هاربا من النظرات القاسية غير المرحبة، إلا الصحفية كوكب، في عينيها رقة وإن كانت مصطنعة، ابتسم لها بتحفظ من دون أن يرد، همس لنفسه، أي رجل محترم لا يعمل في صفحة المرأة وإن آمن بالمساواة بين البشر، التفت شاكر ناحية رئيس التحرير وهو ينظر إلى ساعة يده: متأسف يا أستاذ.
ثم استوى واقفا.
قامته ليست طويلة، جسمه نحيف ممشوق، كتفاه بالرغم من حشوة البذلة الأنيقة نحيفتان، منحنيتان قليلا إلى الأمام، يشدهما مع عضلات صدره فتصبح قامته أطول، يمد عنقه إلى أعلى كالطاووس أو الديك الرومي، تختفي انحناءة ظهره، ياقة قميصه الناصع البياض منشاة، حول عنقه ربطة عنق لامعة مشدودة بإحكام، مشبوكة فوق صدره بدبوس يلمع. - متأسف، عندي موعد عاجل.
لم يكن لدى شاكر موعد مهم، أراد أن يخرج من القاعة الخانقة الملأى بدخان السجائر، لكن شيئا آخر يخنق أكثر من الدخان.
خرج من الشارع الجانبي إلى شارع النيل، ملأ صدره بالهواء، تطلع إلى الأشجار الطويلة على جانبي الطريق، وضع يديه في جيبي البنطلون المشدود حول خصره بحزام جلدي، توقف فجأة ، تذكر شيئا، بينما كان يدور بعينيه على الوجوه في الاجتماع، التقت عيناه عيني فؤادة، أول مرة يلتقيها، كانت جالسة في جوار النافذة خلف كوكب، عيناها تشردان خارج النافذة ثم تعودان، تتأمل مكتب رئيس التحرير كأنما تراه لأول مرة، الصلعة تلمع تحت الصورة الكبيرة ذات البرواز الذهبي، السقف المنقوش بالزخارف تتوسطه النجفة، الجدران المغطاة بالورق الملون المصقول، الوجوه الجالسة حول المائدة الكبيرة على شاكلة نصف دائرة، عيونها نصف مفتوحة.
عيناها من الجانب وهي شاردة يكسوهما بريق وحزن عميق.
التقت عيناه عينيها وهي تحرك رأسها من النافذة إلى الوجوه، هز رأسه مبتسما في تحفظ، هزت رأسها من دون أن تبتسم، ثم عادت عيناها إلى خارج النافذة.
عادت إليه ملامح أمه في شبابها، كان لها هذا الأنف المرتفع المستقيم، ممشوقة الجسم قوية العضلات، ينجذب هو دائما إلى المرأة القوية، تعود إليه طمأنينة الطفولة أو راحة مجهولة المصدر.
الأرق
تتقلب سعدية فوق المرتبة الإسفنج، لا تستطيع النوم، ابنتها غارقة في النوم، تقيأت أمس في الجردل، كتمت فمها بكفها، آذان الجيران وعيونهم تتلصص من شقوق الجدران، سألها الشيخ متولي وهي واقفة في الطابور، وفي عينيه الغائرتين نظرة ملتوية: ما لها بنتك هنادي؟ هي عيانة؟ - مين قالك إنها عيانة يا شيخ؟ - القيء يا سعدية من أعراض الكوليرا! - كوليرا إيه يا شيخ يا ضلالي؟
يغمزها بنصف عين، تبصق على الأرض. - شيوخ آخر زمن! إلهي ياخدك يا شيخ.
أيكون هو؟
لو كان هو الأب المجرم فسوف تشرب من دمه، سوف تذبحه وتقطع عضوه بالسكين، أرمل عجوز عقله بين فخذيه، تفوح منه رائحة عفنة، يبيع آيات الله بالزيت والسكر، والأصوات في الانتخابات والمسابح وإمساكيات رمضان.
ابنتها غارقة في النوم وهي لا يغمض لها جفن، لكزتها برأس السكين في بطنها. - قومي يا بت قامت قيامتك، قومي انطقي اسمه، مين هو يا بت؟
انتفضت ابنتها من النوم تدعك جفونها الحمراء المتورمة من البكاء. - قوليلي مين هو يا بت؟ - ماعرفش ماعرفش ماعرفش، قلت لك ميت مرة ماعرفش. - قولي اسمه وإلا دبحتك بالسكين .
في عيني أمها نظرة مفزعة، لم تعد تعرفها، تبدو امرأة غريبة لم ترها من قبل، في عينيها نظرة قاتلة، تخفي هنادي عينيها بيديها وتنشج. - انطقي يا بت.
تصرخ هنادي. - ماعرفش. - هو الشيخ متولي يا بت؟ - لأ. - أمال مين يا بت؟ - مش عارفة.
وضعت حد السكين على عنقها. - انطقي اسمه؟
تشهق البنت كأنما تلفظ النفس الأخير. - اسمه جلال يامه. - جلال إيه يا بت؟ - جلال أسعد، خلاص عرفتيه يامه؟ كفاية، سيبيني في حالي.
وتكورت هنادي فوق الأرض تجهش بالأنين حتى غطت في النوم. أخفت سعدية السكين تحت جلبابها الأسود، فتحت الباب وخرجت، قررت أن تواجه جلال أسعد، أن يعترف أنه اغتصب ابنتها، تشق عنقه بالسكين وتفضحه في الحي، توقفت فجأة تفكر ستكون الفضيحة لها ولابنتها أيضا.
إذا اعترف جلال أسعد بفعلته وأبدى استعداده للزواج بابنتها؟
جلال أسعد شاب محترم، سوف يتخرج في معهد الكومبيوتر، لن تتزوج ابنتها رجلا أفضل منه، سيوفر لها شقة وحماما، لن تقف في الطابور أمام الحنفية، وسيشتري لها جهاز العروسة، وسريرا ومخدات، ومطبخا فيه حلل وصحون، وفناجين شاي لها حواف منقوشة، واقفة في الشارع خيالها شارد مع أحلامها عن مستقبل ابنتها وزوجها جلال أسعد، انتبهت إلى الجسم الصلب تحت جلبابها، آخ السكين؟ أتقتل زوج ابنتها؟
استدارت عائدة، كانت ابنتها هنادي تغط في النوم، ابتسمت وهي ترمق ارتفاعة البطن، حفيدها سيكون اسمه مسعود؛ لأنه مسعود، يحمل اسم أبيه جلال أسعد، يكتب أبوه شهادة ميلاد رسمية باسمه الثلاثي، مسعود جلال أسعد، يدخل المدرسة والمعهد العالي، يصبح موظفا محترما يجلس خلف مكتب، خرجت من الباب بدون السكين، تمشي بخطوات سريعة، يندفع جسدها إلى الأمام بقوة، عاد إليها شبابها، لم تعد تحس بآلام ظهرها وركبتها، لم يكن جلال أسعد في بيته، باب الشقة مغلق بقفل، ورقة مثبتة بدبوس فوق الباب الخشبي، مكتوب عليها حروف لم تستطع قراءتها، آه لو تعلمت في المدرسة! الأستاذة دربتها على قراءة الأرقام وبعض الحروف، التقت عيناها كلمة «معهد» من الورقة المعلقة على الباب، لا بد أنه معهد الكومبيوتر، دفعت ابنتها المصاريف وها هي في سنتها الأولى، أمامها ثلاث سنوات وتتخرج، ياه تلات سنين يا سعدية؟ يا ترى مين يعيش؟ يمكنها تزويج هنادي من جلال أسعد في شهر أو شهرين، شهرين على الأكثر حتى لا يلحظ الجيران ارتفاعة بطنها، وتصبح ابنتها ست بيت لا تخرج مثلها كل يوم للشغل، لا بد أنه معهد الكومبيوتر، كانت تمر أمامه في طريقها إلى منزل الأستاذة، يمكن أن تذهب إليه بخطوتها السريعة في ساعة ونصف ساعة، لكن الأوتوبيس أسرع، وهي لا تستطيع الانتظار، أمامها مهام عاجلة، أهمها أن تشتري ملابس حفيدها من المحل الكبير في ميدان السيدة، عرفت أنه ولد من رائحة قميص أمه هنادي، آه يا بنتي ربنا يمتعك بالسلامة، نزلت من الأوتوبيس أمام باب المعهد، المبنى الأبيض الضخم له أعمدة عالية، خفق قلبها، مزيج من الرهبة والفرح، جلبابها الأسود أصبح كالحا أجرب إلى جانب الأعمدة البيضاء، الحوش كبير من الأسفلت لا يعلوه التراب، الأشجار خضراء تهتز تحت السماء الزرقاء، رائحة الهواء منعشة، الوجوه نضرة نظيفة، شباب أجسامهم طويلة ممشوقة، وشابات رشيقات يسرن بخطى سريعة، ملابسهن نظيفة أنيقة، انكمشت داخل جلبابها الأسود الذي يشبه لون التراب، سألت أحد الطلاب عن جلال أسعد، أشار إلى الركن البعيد في الفناء، وقال: ربما في «الكافيتيريا». رنت كافيتيريا في أذنها مثل كلمة في أغنية، أول مرة تسمعها في حياتها، راحت تتغنى بها وهي تمشي في الفناء كافيا تيريا، كافيا تيريا، يا كافيا خيرها وشرها.
كان جلال أسعد واقفا وسط ثلة من الطلاب يستعدون للخروج في التظاهرات، رأى جلال أسعد امرأة ترتدي جلبابا أسود تقترب منه، رأسها ملفوف بطرحة سوداء، وجهها طويل شاحب، عيناها سوداوان تنظران إليه في وجل. - أنت جلال أسعد؟ - أيوه أي خدمة؟ - أنا أم هنادي. - هنادي مين؟ - ما تعرفش هنادي؟ - هي في سنة إيه؟
يغوص قلبها إلى أخمص قدميها، تنطق بصعوبة: سنة أولى.
قال أحد الطلاب: يا دوب الواحد يعرف فصله.
وقال جلال أسعد: اسمها هنادي إيه؟ اسم والدها إيه؟
أطرقت تبتلع لعابا مرا: أبوها ميت.
قال أحدهم: الله يرحمه لكن اسمه إيه؟
مسحت حبات العرق فوق جبينها بكم جلبابها، لم تتوقع أن ينكر جلال علاقته بابنتها، أيكون نذلا إلى هذه الدرجة؟ وإذا غدر بها هل يغدر بابنه في بطنها؟
ربت جلال أسعد كتفها، أزاحت يده عنها، إيه المشكلة يا أمي يمكن نحلها؟
يتجمع الغضب في حلقها كالغصة، لا تستطيع النطق، يبدو أن ابنتها غابت عن باله، وانتهى الأمر بالنسبة إليه، يتظاهر بأنه لا يعرفها، تريد أن تبصق في وجهه وتقول له: يا مجرم يا سافل. تتلفت حولها مختنقة بالغصة في حلقها، لا تقوى على التنفس، إيه مشكلة بنتك؟
تبتلع لعابا جافا مرا وتنطق بصعوبة: تشربي شاي يا حاجة؟ - مش عاوزة شاي، عاوزة الحقيقة. - حقيقة إيه يا أمي؟ - حكايتك مع هنادي بنتي. - حكاية إيه؟
رفعت سعدية رأسها متحدية: ما تفتكرش إنك تعمل العملة وتهرب بجلدك. - أنا مش فاهم حاجة.
قربت فمها من أذنه وهمست بشيء، صاح جلال أسعد معترضا: أنا لا يمكن أن أخدع أي بنت، أنا عندي ضمير.
ثبت عينيه في عينيها، كانت واقفة تنتفض، تراخى جسدها فوق المقعد، أخفت وجهها بيديها وأجهشت بشهيق عميق، رأت في عينيه نظرة مباشرة، أحس قلبها أنه مستقيم، أطرق رأسه طويلا ثم رفع وجهه إليها، في عينيه حزن عميق: أنا عندي ضمير يا أمي. أنا عارفة يا بني. ابتلع دمعة لمعت في عينيه واختفت بسرعة. أنا عارفة إنك لا يمكن تخدع بنت غلبانة زي هنادي. أمي علمتني أقول الحق ولا يمكن أكذب على حد. وأمك عايشة؟ - أمي ماتت في السجن. - آه يا ضنايا ربنا يبارك فيك.
تستدير سعدية لتغادر المكان، الأرض تدور بها، تستند إلى الجدار، يضع يده في جيبه، ثم يناولها بعض الجنيهات، ترفع رأسها بشموخ وترفض، إنتي زي أمي. أيوه يا ابني. دي مساعدة بسيطة يا أمي. عندنا شرف وكرامة زي المرحومة أمك.
يراها تمشي بظهرها المحني وجسدها المكدود، يتذكر أمه في أيامها الأخيرة، كانت تخدم في البيوت لتنفق عليه وتدفع مصاريف تعليمه من عرق جبينها، لم تقبل مساعدة من خاله شقيقها، ولا من عمه شقيق أبيه، كانت تشتغل في بيت الدكتور محمود بك في الزمالك، تساعدها على الشغل أخته الصغيرة، يعملان معا إحدى عشرة ساعة كل يوم لدفع مصاريف تعليمه وأجرة الغرفة والطعام وملابسه الجديدة وأحذيته الجلدية، كانت أخته في الثالثة عشرة من عمرها، اعتدى عليها الدكتور البك، انكشفت الحقيقة حين ارتفعت بطنها بالحمل، أمسكت أمه سكينة المطبخ وغرزتها في قلب الدكتور، ماتت أمه في السجن، وقفزت أخته من فوق الكوبري وغرقت في النيل، في ظهرها المحني كان جلال أسعد يحملق، يكاد يناديها لتعود، صوته لا يطلع، تخنقه الدموع، يغمره الإحساس بالشفقة، عودته أمه منذ طفولته أن يشفق على الضعفاء والمساكين، يفكر كيف يساعدها؟
هل يتطوع مع زملائه للبحث معها عن المجرم؟
هل يبحث عن طبيب يجري عملية الإجهاض ويدفع أجرته؟
هل يتطوع للزواج بابنتها ويمنح الطفل اسمه؟
كان واقفا مثل تمثال حجري يحملق في ظهرها المحني وهي تبتعد، من حوله الطلاب يتأهبون للخروج في التظاهرة إلى ميدان التحرير، في أعماقه رغبة طفولية في التضحية، يمكن أن يضحي بحياته من أجل الوطن ويموت برصاصة في التظاهرة، فلماذا لا يقدم هذه التضحية البسيطة من أجل هذه الأم المطحونة وابنتها البائسة؟
رفضت الأم نقوده بكبرياء، فهل تقبل أن يتزوج ابنتها بدافع الشفقة؟
في عينيها رأى الكبرياء والشموخ بالرغم من الفقر والخضوع.
اختفى ظهرها المحني في زحام الطلاب لكن طيفها لم يبرح خياله، أصبح يلوح له في النوم.
شرعت سعدية تتقلب فوق المرتبة، راح الحلم وضاع الأمل الوحيد الباقي، لن يصبح لابنتها زوج محترم، ولا بيت فيه مطبخ وحمام، ستظل ابنتها تعيش في هذا الزقاق، تقف في الطابور المزدحم لتملأ الصفيحة بالماء، لن يكون لها حفيد يذهب إلى المدرسة والمعهد العالي، ويصبح رجلا محترما يجلس وراء مكتب.
آه يا ربي ليه تكسر قلبي؟ ليه تبهدلني البهدلة دي؟ ليه تاخد مني الأمل الوحيد؟ وإنتي يا هنادي يا بنتي، ليه تكدبي على أمك؟
لكزت ابنتها النائمة بطرف المكنسة : ليه يا هنادي تكدبي على أمك؟
تموء البنت بصوت قطة جريحة. - قومي يا بت قامت قيامتك.
لم تنهض ابنتها إلا بعد أن ضربتها بالمكنسة فوق رأسها وبطنها، وهي تصيح بصوت مذبوح: قومي يا بت اتأخرنا ع الأستاذة.
في الثامنة صباحا كانت سعدية تدق الجرس، من خلفها تقف ابنتها ترتعد، فتحت الأستاذة الباب، اتأخرتي يا سعدية. - معلهش يا ست فؤادة.
تنظر إلى الساعة بقلق. - العملية الساعة عشرة، يا دوب تغسلي الصحون، وتكوي قمصان البيه.
وقفت معها ابنتها أمام الحوض تساعدها، تجفف الصحون الصينية والكئوس الكريستال وترصها في الدولاب، أصابعها ترتعد، دخل شاكر بيه إلى المطبخ، عاوز فنجان قهوة يا سعدية. - حاضر يا بيه. - اعملي فنجان قهوة للبيه يا هنادي.
يلتفت شاكر بيه إليها: إزيك يا هنادي؟
أطرقت البنت ولم ترد.
انزلقت الكأس الكريستال من بين أصابعها المرتعشة إلى الأرض، وانكسرت بصوت حاد، أقبلت الأستاذة بسرعة إلى المطبخ تسأل: إيه حصل؟
شهقت سعدية وهي تلملم الزجاج المتناثر فوق البلاط، معلهش يا أستاذة، مش تاخدي بالك يا هنادي، أصلها خايفة يا أستاذة من العملية، دي بسيطة يا هنادي. تختفي البنت وراء أمها، تنشج بصوت مكتوم، اعملي القهوة بسرعة للبيه عشان نروح العيادة، العربية جاهزة.
ركبت الأستاذة وراء المقود في سيارتها الصغيرة، في جوارها جلس زوجها واضعا حقيبته الجلدية فوق ركبتيه، في الخلف جلست سعدية وفي جوارها ابنتها.
كانت العيادة في شارع جانبي متفرع من ميدان باب الخلق، عمارة عالية تحمل أسماء أطباء ومحامين ومحاسبين ومكاتب استيراد وتصدير وحلاقين ومدلكين وكل أنواع المهن الحرة.
أوقفت السيارة أمام باب العمارة، نزلت سعدية ومن خلفها ابنتها، بقيت الأستاذة وزوجها بالسيارة، قالت وهي تطل من النافذة: عيادة الدكتور في الدور السابع، الشقة جنب الأسانسير، كل شيء مدفوع يا سعدية، قولي للدكتور إنك من قبلنا. وانطلقت بهما السيارة.
دخلت سعدية ومن ورائها ابنتها مدخل العمارة الكبير، البلاط أبيض لامع، الجدران من المرايا، رأت سعدية نفسها في المرآة شبحا أسود اللون، شبشبها البلاستيك يحتك بالبلاط أو البلاط يحتك بشبشبها ، رأت أمامها باب المصعد ففتحته ودخلت من ورائها ابنتها.
أقبل البواب مسرعا، دفعهما خارج المصعد وهو يزعق: الأسانسير عطلان.
بعد لحظة، رأته ينحني ويفتح باب المصعد لرجل طويل مهيب، يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق حمراء، اتفضل يا سعادة البيه.
ابتلعت سعدية لعابها المر، وعدتها الأستاذة أن تأتي معها إلى عيادة الدكتور، لن تتركها حتى تطمئن إلى نجاح العملية وسلامة ابنتها، تركتها أمام باب العمارة وانطلقت مع زوجها.
هل ستموت ابنتها في العملية وقد تركتها الأستاذة وحدها؟
تلهث سعدية ومن خلفها ابنتها، يصعدان السلالم إلى الدور السابع، تطرد الهواجس والشكوك، الأستاذة من أطيب الناس، لا تتخلى عنك يا سعدية بعد هذه السنين؟
ترتعش عيناها فوق أسماء الأطباء، أبواب عياداتهم مفتوحة يطل منها الموت. - فين اسم الدكتور؟ - تعرفي القراية أكتر مني يا هنادي.
تبربش ابنتها، تتطلع إلى الأسماء بعينين حمراوين من بين جفونها المتورمة.
في نهاية الممر الطويل، تشير الابنة بإصبع صغيرة مرتعشة إلى باب أبيض مفتوح.
تدخل الأم وابنتها من خلفها، الصالة ملأى بنساء ملابسهن نظيفة أنيقة، تفوح رائحة عطر في الجو، تعثرت سعدية بشبشبها بالسجادة فوق الأرض، أقبل نحوها التمرجي بخطوة متحفزة، لهثت: إحنا من قبل الأستاذة فؤادة وشاكر بيه.
أشار إليها بقلم رصاص في يده إلى ممر داخلي أمام المرحاض وأمرها بالانتظار، وقفت سعدية مسندة ظهرها إلى الحائط الأبيض، الألم في عمودها الفقري وركبتها اليسرى، لم يكن بالممر مقاعد، تكورت هنادي فوق البلاط تلف جسمها بشال أمها الأسود، مرت ساعة ثم ساعة فثلاث ساعات، ثم أشار إليهما التمرجي بالدخول إلى غرفة العمليات.
جلس شاكر في جوار زوجته وهي تقود السيارة، يرمق أنفها المرفوع وهو يزم شفتيه، لا يعرف سبب الضيق بالضبط.
ارتفاعة أنفها غير مألوفة، كان لأمه هذا الأنف، كانت ذات إرادة قوية تتغلب على إرادة أبيه، يحب المرأة القوية كما أحب أمه وكرهها في الوقت ذاته، كره سلطة أبيه المطلقة وأحبها وأصبح يمارسها، احتقر أباه حين اكتشف أنه يكذب على أمه ويخونها في الخفاء، أصبح يكره الكذب والخيانة ويمارسهما في الوقت ذاته، كان يشعر بتأنيب الضمير فيجلد نفسه أو غيره ممن يقعون تحت سلطته، أفاق على صوت فرملة حادة، كاد سائق متهور يصطدم بسيارتهما لولا انتباه فؤادة وقدرتها الفائقة على القيادة، شوارع القاهرة مزدحمة بالسيارات، لا يحترم السائقون قانون المرور والإشارات، يترك لزوجته مهمة قيادة سيارتها لكنه لا يكف عن إعطائها التوجيهات.
سوقي على مهلك، خلي بالك من العربيات، ورانا لوري، اعملي الإشارة، العربية طالعة شمال، خليكي ع اليمين، يشعر بلذة وهو يعطيها التوجيهات، ينتهز أي فرصة ليوجه إليها النصائح، كان متفوقا في كلية الحقوق، كان يمكن أن يكون أستاذا مرموقا في القانون أو مستشارا في مجلس الدولة أو وزيرا للعدل، لكن يبتلع كلمة «لكن» مع لعاب مر، تدرب في حياته ألا ينطق كلمة «لو»، لا شيء يمكن أن يقضي عليه إلا الندم، العيون في الشوارع ترمقه جالسا في جوار زوجته، لا تقود المرأة السيارة وفي جوارها رجل، مهما ارتفعت المرأة لا ترتفع عن زوجها، عضلة صغيرة تنقبض تحت عينه اليسرى، تنقبض هذه العضلة دائما قبل أن يغضب، لمحتها فؤادة بجانب عينها، أصبحت تقرأ وجهه وحركة عضلاته، أوقفت السيارة في جوار الرصيف. - سوق إنت يا شاكر. - مين قال إني عاوز أسوق؟ - فيه حاجة عاوز تقولها؟ - مش عاوز أقول حاجة. - زعلان ليه؟ - مش زعلان.
تضغط دواسة البنزين وتواصل القيادة.
ترمقه من الجانب، أنفه مرتفع مقوس يشبه أنف أبيه، فتحة الأنف واسعة يسدها شعر يهتز مع حركة أنفاسه المسرعة، يزعق فجأة بغضب. - كنت عاوزة تروحي معاهم العيادة؟ - كان لازم أروح معاهم يا شاكر. - يعني إحنا ناقصين مصايب؟ - مصايب إيه يا شاكر؟ - مش عارفة مصايب إيه؟ - كنت أطلع معاهم للدكتور ع الأقل؟ - وتورطينا إحنا في جريمة؟ - جريمة إيه؟ - مش عارفة جريمة إيه؟ - دي عملية بسيطة. - وإذا ماتت؟ - إن شاء الله تعيش. - إن شاء الله تموت. - حرام عليك، فين الإنسانية يا شاكر؟ - عندك إنسانية أكتر مني؟
يرتفع صوته أكثر. - عندك شجاعة أكتر مني؟
يزعق منفجرا بالغضب. - عندك رجولة أكتر مني؟
تنطلق كلمة رجولة من بين شفتيه كالقذيفة.
فؤادة لا ترد، تدرك في صوته طبقات الكراهية المتراكمة المكبوتة على مدى السنين، المتنكرة بأشكال من الصداقة أو الحب أحيانا، تذوب مشاعره المتناقضة في شعور واحد بالغضب، منذ زواجها به تنتابه لحظات غضب لم تكن تعرف مصدرها، كانت تقول لنفسها ربما السجن يتراكم فيه الغضب المكبوت؟ كان يمكن أن يكون أستاذا بكلية الحقوق، وزيرا للعدل، قاضيا مرموقا، مستشارا قانونيا مشهورا، لكنه أصبح محررا مجهولا في صفحة السياسة المحلية، زوجته مسئولة صفحة السياسة الدولية، اسمها معروف، تحضر المؤتمرات في الخارج، راتبها من الجورنال ضعف راتبه، قامتها أطول من قامته، كتفها وهي تمشي في جواره أعلى من كتفه، ثلاثة سنتيمترات فقط.
قالت له وهي تضحك معه قبل الزواج: معظم الرجال يفضلون المرأة الصغيرة التي تتهشم عظامها في العناق.
قال لها: بالعكس أنا أفضل المرأة القوية الطويلة القامة، شرط ألا تزيد عني بأكثر من تلاتة سنتي.
تمسك فؤادة المسطرة وتقيس المسافة بين كتفها وكتفه، وتقول: بالضبط تلاتة سنتي.
ويضحكان وهما يشربان الليمون المثلج في النادي.
في الشارع الجانبي كان الموقف الخاص بالجورنال، تركت فؤادة مفاتيح السيارة للعم عثمان، له راتب كل شهر، يتشاركان في دفعه مثل كل النفقات في البيت وخارجه، حسابهما في البنك مشترك، لا تجيد فؤادة الحسابات وأعمال البنوك، يتقن شاكر هذه الأعمال، إنه دقيق عملي لا يجنح مثلها إلى الخيال، أخرج المحفظة من جيبه، تقدم نحو العم عثمان وناوله بضعة أوراق، رفع الرجل كفيه إلى السماء، ربنا يخليك يا سعادة البيه.
ابتسم شاكر، تراخت عضلاته المتقلصة، تلاشى في حلقه طعم المرارة قليلا؟
وقفت سعدية في الممر مسندة ظهرها إلى الحائط، رافعة ذراعيها إلى أعلى كالمصلوبة، تدعو الله أن يفتح باب غرفة العمليات وتخرج منه ابنتها سليمة، ذراعاها ملفوفتان حول صدرها، الخفقات تحت ضلوعها تتصاعد، يا رب أنقذها يا رب، يا رب ماليش غيرها. كلما انفتح الباب وخرجت ممرضة، تسرع نحوها تتصيد أي كلمة تطمئنها، بنتي حالتها إيه ربنا يخليكي، لم تعد تطلب من الرب إلا أن ينجي ابنتها من الموت، لا يهم أن يكون لها زوج محترم أو غير محترم، يجلس خلف مكتب أو لا يجلس، أن يكون لها مطبخ فيه فناجين مزركشة أو غير مزركشة، وحمام فيه ماء أو من غير ماء، المهم يا رب أن تعيش ابنتها، أن ترى وجهها في الصبح راقدة في جوارها، أن تلف ذراعيها حولها وتضمها إلى صدرها، مضى الوقت بطيئا، مرت ساعتان ولم تخرج ابنتها من غرفة العمليات، الأستاذة قالت إن العملية تتم في ساعة أو أقل، انتهزت فرصة خروج إحدى الممرضات وانفتاح الباب فاندفعت داخل الغرفة، رأت عددا من الأطباء والممرضات ملتفين حول المنضدة تحت الضوء وسط الغرفة، لم تر ابنتها من رءوسهم المتلاصقة، إلا قدميها المرفوعتين في الهواء فوق الرءوس، صغيرتان بيضاوان كأنما لم يبق منهما قطرة دم تحت المنضدة، سقطت عيناها فوق جردل مليء بالدم وكتل صغيرة متجمدة حمراء كأنما مقطوعة من الكبد، انطلقت الصرخة من صدرها من دون أن تدري: بنتي!
تجمعت حولها بعض الممرضات وسقنها خارج الغرفة، وهي تنتفض وتصرخ: بنتي ماتت؟ - بنتك بخير يا حاجة. - العملية نجحت؟ - أيوه نجحت يا حاجة. - وفين بنتي؟ - خارجة حالا بعد دقيقة، استريحي، هات لها كوباية ميه يا محمد.
وانطلق التمرجي وعاد بكوب الماء.
فوق المرتبة على البلاط رقدت هنادي تنزف وتصرخ من الألم، بقيت قطعة من الجنين ملتصقة بالرحم، تتقلص عضلاتها بقوة لتطردها مع قطع الدم المتجلطة، أمها سعدية في جوارها تسقيها الماء بالسكر، يا رب اشفيها يا رب ماليش غيرها.
غابت سعدية عن شغلها بعض أيام، جاءت الأستاذة تزورها ومعها كيس فيه تفاح، التفاح يعوضها عن الدم يا سعدية، إزيك يا هنادي؟
ترمقها هنادي بعينين حمراوين ولا ترد.
تمد يدها بتفاحة. - كلي التفاحة دي يا هنادي.
تدفع هنادي التفاحة من يدها بغضب فتسقط على الأرض، تلتقطها الأم بسرعة وهي تلهث. - عيب عليكي يا هنادي. - معلهش يا ست فؤادة، اعذريها، نزفت دم كتير وراسها سخنة زي النار.
باين عندها حمى، خايفة عليها تروح مني. - تروح منك ازاي يا سعدية؟ العملية نجحت والحمد لله وكلها يومين وتقوم بالسلامة، إديها قرص كل ست ساعات من الدوا ده لمدة تلات أيام، وخدي المبلغ ده سلفة تحت الحساب، اعملي لها فرخة وشوربة خضار، لازم تاكل كويس عشان تعوض الدم. - كتر خيرك يا أستاذة ربنا يطول عمرك يا رب، أرد جمايلك دي كلها ازاي؟ - يا سعدية ما تحمليش هم، إحنا عيلة واحدة.
كان العيال في الزقاق قد تجمعوا حول سيارة الأستاذة يتحسسون سطحها الأملس الناعم، تتلصص عيون الجيران وهم يتهامسون يا بختها سعدية بالأستاذة فؤادة، يمصمصون شفاههم، ربنا ياخد بيد بنتها هنادي، ينخفض الهمس فلا يكاد يسمع، فضيحة هنادي وأمها على كل لسان في الحي، لا تنام سعدية طوال الليل، ابنتها راقدة تهذي من الحمى، تبلل الأم منديلها بماء الصفيحة وتمسح جبهتها الساخنة، يجف المنديل فتعود تبلله بالماء، تجس الجبهة وتشهق، مولعة نار يا بنتي، ترفع كفيها نحو السقف الأسود من الدخان، تخاطب الرب يا رحيم يا كريم ماليش غيرها. يغلبها النوم فتغفو لحظة وهي جالسة، ترى نفسها داخل بركة من الدم، من حولها أجسام متكورة حول نفسها بالجلاليب الدمور، ملوثة بالطين والدم، وأطفال عراة يزحفون على الأرض مثل الدود، التقطت عيناها وجه ابنتها تزحف، يشبه وجهها وهي طفلة، مدت إليها يدها عبر أكوام اللحم والدم، فأطبقت الأصابع الصغيرة الدقيقة على إصبعها، تضمها إلى صدرها ترضعها، ثديها جاف تعتصره فلا تسقط منه قطرة لبن، ولدتها فوق الأسفلت في السجن، ضغطت بكفها على بطنها حتى خرجت المشيمة، مثل رغيف ساخن من الدم، حفرت بأصابعها حفرة في الحوش ودفنتها، قطعت الحبل السري بحجر له رأس مدبب، شدت الدوبارة من سروالها وربطت السرة، كانوا ينادونها باسم سعدية القتالة، تقول إنها لا تقتل ناموسة، كانت تشقى في الحقل طوال النهار وهي حامل، زوجها راقد في الدار يأكل ويدخن الجوزة، تخفي نصيب ابنها المريض من الخبز والجبن في حفرة بالجدار، والنقود تدخرها لتشتري له الدواء وتخبئها تحت الأرض، يسهر زوجها في الغرزة يدخن الحشيش ويعود آخر الليل، يأكل طعام ابنها المريض ويفتش عن النقود، إن لم يعثر على شيء يضربها حتى تعض الأرض، في يوم عادت من الحقل فلم تجد النقود، ابنها راقد يلفظ أنفاسه الأخيرة، مات ابنها بين يديها، لفت رأسها بالطرحة السوداء وسارت إلى الغرزة، رأته متربعا وسط الرجال يتعاطون الحشيش، أمسكت الشومة وضربته فوق رأسه، نقلوه إلى المستشفى وأخذوها إلى السجن، كانت حاملا بهنادي. فتحت ابنتها جفونها الحمراء الوارمة وشهقت، أمه إنتي فين؟ أفاقت سعدية وهتفت أنا هنا جنبك يا هنادي. عطشانة يامه. أسرعت الأم وناولتها كوب الماء، اشربي يا بنتي بالشفا، ناولتها قطعة من تفاح الأستاذة، وضعتها بين أسنانها ثم بصقتها على الأرض: مش عاوزين منهم حاجة يامه. - إحنا عايشين من خيرهم يا هنادي. - مش عاوزة منهم حاجة. - ربنا يشفيكي يا بنتي.
في السجن
غابت سعدية عن الشغل أسبوعا ثم عادت، نهضت الأستاذة تفتح الباب، تعرف أنها سعدية من دقة الجرس، تبتهج فؤادة بعودة سعدية، لا تستريح لأي شغالة غيرها، تشعر معها بالطمأنينة، أمينة لا تسرق شيئا من البيت، لا تختلس أي نقود مما تشتريه من السوق، مستقيمة الأخلاق، لا تصدر منها كلمة خارجة على الأدب، تعرف حدودها، لا تتعدى المسافة بين الخدم والسادة، ملابسها نظيفة دائما بالرغم من الفقر، لا تشم منها رائحة عرق، رغم التعب والشغل طوال النهار، كانت زميلتها في السجن، نزفت الدم فوق الأسفلت وهي تلد ابنتها هنادي، كما نزفت هي دمها في السجن ذاته وهي تلد ابنتها داليا، خرج شاكر بيه من غرفته مرتديا البيجامة البيضاء الحريرية. - اعملي النهارده صينية مكرونة بالبشامل. - حاضر يا بيه. - وحشتنا الصواني بتاعتك في الفرن. - ماتشوفش وحش يا بيه.
يجلسان في غرفة الطعام يتناولان الفطور، يقرآن الصحف في صمت، يعلقان على الأخبار بكلمات قليلة، يتناقشان في موضوع ما، يتبادلان بعض الفكاهات، ينظر شاكر إلى التايير الأنيق ويقول لزوجته: لازم عندك ميعاد مهم؟
تضحك فؤادة في مرح وتتساءل: ميعاد مهم؟ مع مين؟ - إيش عرفني أنا؟ - فيه حد مهم في البلد؟
يبتسم شاكر: طبعا فيه. - زي مين؟
غمزها بعينه: رئيس التحرير. - ده له صلعة وكرش ما شاء الله.
يضحكان في مرح.
تشعر سعدية بالتفاؤل حين تسمع ضحكاتهما، تريد لهما الحياة المستقرة، استقرارها جزء من استقرارهما، فرص الشغل قليلة والناس الطيبة مثلهما نادرة.
تقول فؤادة: لازم هنادي ترجع المعهد. - هي خايفة يا أستاذة. - ليه؟ - عرفوا الحكاية في المعهد. - عرفوا منين؟
أطبقت سعدية شفتيها، لم تقل إنها هي التي فضحت ابنتها، ذهبت لتقابل جلال أسعد وسط الطلاب، كان المفروض أن تقابله خارج المعهد. - عرفوا منين يا سعدية؟ - الناس بتشم الأخبار يا أستاذة. - الناس غرقانة في مشاكلها يا سعدية. - يا ريت تكلميها، هي بتسمع كلامك يا أستاذة. - هاتيها معاكي بكرة وأنا أقنعها. - لما تخف يا أستاذة وتقوم بالسلامة. - إذا احتجت سلفة قولي يا سعدية. - الأدوية غليت نار. - كل حاجة غليت يا سعدية. - اخصمي السلفة كل شهر من ماهيتي. - إنتي بقيتي واحدة من العيلة يا سعدية.
محظورات
كانت فؤادة تكتب مقالات في السياسة الدولية، يحذف رئيس التحرير ما يراه غير متفق مع سياسة الدولة، لم يكن مسموحا انتقاد الصداقة بين مصر وأمريكا والشراكة والتعاون ومعاهدة كامب ديفيد للسلام والهوية الإسلامية، والعلاقات الودية مع دول النفط والخليج.
يكتب شاكر مقالات في السياسة المحلية، أحيانا ينتقد سياسة الاستيراد من دون تخطيط، تكتظ الشوارع بالسيارات المستوردة، أصبح عدد السيارات في مصر أكثر من عدد الناس، يملك الفرد سيارتين أو أكثر، تحرم الأسر الفقيرة نفسها من الطعام لتملك سيارة، بدلا من إهدار العملة الصعبة والأموال في شراء السيارات الأجنبية، لماذا لا تصلح الحكومة المواصلات العامة، بدلا من أن يركب شخص واحد سيارة يركب خمسون في أوتوبيس، إنشاء مترو الأنفاق تحت الأرض يحل مشكلة المرور، القطار الواحد يحمل مئات، ويخف الزحام من الشوارع، ويقل التلوث بالغازات المنبعثة من عوادم السيارات، أصبح التلوث يهدد الحياة في مصر والعالم نتيجة ازدياد حجم الانبعاثات الكربونية، وارتفاع حرارة الكون، وذوبان الثلوج عن قمم الجبال، وارتفاع منسوب المياه في المحيطات والبحار ومنها البحر الأبيض المتوسط، مما يهدد بإغراق ثلث مساحة دلتا النيل تدريجا تحت مياه البحر في العقود المقبلة، وازدياد ملوحة الأراضي في الدلتا كلها، التي تنتج 65٪ من غذاء مصر، تغيرات المناخ خطيرة، والمفروض وضع استراتيجية من الآن للتخفيف من هذا الخطر.
يمط رئيس التحرير شفتيه. - يا شاكر بلاش كلمة استراتيجية، دي كلمة شيوعية، عاوز تروح تاني ورا الشمس، ده كلام يخدم الرأسماليين في مصر، مشروع مترو الأنفاق سيحقق مكاسب كبيرة لشركات القطاع الخاص، يا شاكر ابعد عن الشر وغني له. - يعني أكتب في إيه يا أستاذ؟ - اكتب في السياسة المحلية. - مشاكل المواصلات والمرور وتلوث البيئة سياسة محلية مش كده؟ - مكاتب استيراد السيارات فيها فوايد يا شاكر. - لمين يا أستاذ؟
يغمز رئيس التحرير بعينه مشيرا إلى الصورة فوق رأسه داخل البرواز ويهمس: هو واللي حواليه عارفهم يا شاكر؟ - كل الناس عارفاهم يا أستاذ.
كانت فؤادة تشعر في مكتبها بالغربة، لم تكن تحب الصحافة أو السياسة، دخلت قسم الصحافة في الجامعة لترضي أباها، كان يقول: الصحافة هي كل شيء، أكبر رأس في البلد يخاف من أصغر صحفي. تجلس فؤادة شاردة، تتحرك عيناها خارج النافذة، كيف تحرر نفسها من الجورنال، سعدية تحررها من أعباء البيت، تساعدها على الطبخ والتنظيف، تعمل من الساعة السابعة صباحا حتى الخامسة مساء، تسع ساعات كاملة من دون توقف، لن يكون عندها وقت للطفل الجديد القادم، لماذا تركت نفسها تحمل للمرة الثانية، تكفيها ابنتها داليا لا تملك الجهد لطفل ثان ولا تريده، حياتها الزوجية خالية من اللذة أو السعادة، تشعر بالغثيان كل صباح، تساورها فكرة الإجهاض، لا تستطيع تحمل عبء طفل جديد، وابنتها داليا تكفيها، أوتوبيس المدرسة يحملها كل صباح ويعود بها في الرابعة مساء، في الثانية بعد الظهر تعود هي وشاكر من الجورنال.
تساعد سعدية على إعداد الغداء بالرغم من الإرهاق.
يستلقي زوجها فوق السرير بالبذلة والحذاء شاخصا إلى السقف حتى تناديه: الغدا جاهز يا شاكر.
صوتها يشبه صوت أمه، حين كانت تناديه وهو طفل، كانت أمه درية هانم، تزورهما في العيد الكبير والصغير، وهما يزورانها في بيتها في عيد ميلادها، ويوم شم النسيم والكريسماس، نشأت صداقة بين زوجته وأمه، تجلسان معا وتتحدثان، تحكي درية هانم حكايتها لفؤادة وشاكر وتعيدها، لا تنسى منها شيئا وخصوصا ذلك المشهد مع الطبيب، ذهبت درية هانم إلى الدكتور مصطفى صديق والدها، وضع الطبيب يده فوق بطنها وقال: لا يمكن، عملية الإجهاض يا درية هانم خطرة جدا بعد الشهر الرابع.
أجهشت بالبكاء. - سيكون لك طفل جميل يا درية هانم. - مش عاوزاه يا دكتور كرهت. - فيه أم تكره ابنها؟ - أيوه يا دكتور إذا كرهت أبوه. - مش قادر أتصور يا درية هانم.
الرجل لا يمكن أن يتصور آلام النساء يا دكتور وإن كان طبيبا نسائيا.
ضحك الدكتور وقال: زوجك محترم من الجميع. - أنا مراته أقرب الجميع إليه فقدت احترامي له. - أنا مستعد أصلح بينكم يا درية هانم. - القلب اللي ينكسر لا يمكن يرجع سليم يا دكتور. - اسمعي مني النصيحة يا درية هانم، زوجك أحسن من غيره، أنا طبيب نساء عارف خبايا البيوت، كل الرجالة بيكدبوا ويخونوا زوجاتهم. - فيه رجالة عندهم ضمير يا دكتور. - إنتي ست طيبة وعلى نياتك، المسألة مش ضمير. - أمال إيه يا دكتور؟ - القانون الإلهي، ربنا حلل لنا الزواج بأربع نساء. - ده قانون غير عادل لا يمكن أقبله. - يا درية هانم لازم تكوني مؤمنة بالله وإلا ... - وإلا إيه يا دكتور؟
يضحك الطبيب ويسكت.
على الرغم من مرور السنين، لا تنسى درية هانم هذا الحوار بينها وبين الدكتور، تسأل ابنها بعد أن تنتهي من رواية قصة حياتها: تصور يا شاكر لو الدكتور عمل لي عملية الإجهاض؟
يبتسم شاكر لأمه نصف ابتسامة ويقول: كنت أنا ما جيتش للدنيا يا أمي.
يغمز فؤادة بطرف عين ويكمل كلامه: يمكن كان ده يبقى مفيد لبعض الناس.
تضحك فؤادة: قصدك أنا يا شاكر؟ - لأ مش قصدي.
هنادي
رقدت هنادي مريضة بالحمى تنزف دما أسبوعا كاملا، تتركها أمها وتخرج إلى الشغل، تنهض هنادي وتمشي في الغرفة، تملأ الكوز بالماء من الصفيحة وتشرب، تأكل نصف تفاحة أو نصف برتقالة أو بعض حبات عنب، فقدت الكثير من وزنها، تتماثل للشفاء ببطء شديد، تتساوى في أعماقها الرغبة في الحياة والرغبة في الموت.
كان يمكن أن تعود إلى المعهد، كان يمكن أن ينقذها التعليم من الفقر، لولا أمها، مثل الدب يقتل صاحبه بحجر ليهش ذبابة.
لكن يا هنادي أنت السبب؟ ليه كدبتي على أمك ليه؟
لم تعد أمها تسألها ليه كدبت يا بنتي؟ أصبحت هنادي نحيفة هزيلة، كالخيال تمشي داخل الغرفة، تخشى الخروج من الباب ومواجهة الجيران، تخفي وجهها بالنقاب حتى لا يعرفها أحد، تفكر سعدية في الهجرة إلى حي آخر، لكن لا يمكن أن تعثر على غرفة بهذا الثمن، ولا يمكن أن تطلب المساعدة من الأستاذة، يكفي أنها دفعت مصاريف العملية، سوف تسدد للأستاذة ديونها من راتبها كل شهر، كانت هنادي تساعدها على الشغل حين يأتي الضيوف وتزداد الأعباء، أو حين تتأخر الأستاذة وزوجها في حفلة أو اجتماع، تبقى هنادي مع ابنتهما داليا، كانت علاقة صداقة تجمع بين فؤادة وسعدية، تتحدث فؤادة أحيانا عن مشاكلها في الجورنال لسعدية، تقول لها إنها تكره الجورنال بكل من فيه، تراها مكبة فوق أوراقها تكتب الساعة وراء الساعة، تعد لها فنجان شاي أو قهوة، تقشر لها برتقالة أو تفاحة، كفاية يا أستاذة افردي رجليكي شوية. لازم المقال يخلص يا سعدية. - مقال إيه يا أستاذة؟ - السياسة الخارجية يا سعدية. - السياسة إيه يا أستاذة؟ - كدب في كدب السياسة يا سعدية. - كانت المرحومة أمي تقول عنها بوليتيكا يا أستاذة.
ترفع فؤادة وجهها من فوق المكتب: السياسة بالإنكليزي اسمها بوليتيكا يا سعدية. - ما لك ومال البوليتيكا دي يا أستاذة؟
تضحك فؤادة: الدنيا كلها بوليتيكا يا سعدية.
بعد أن تنتهي فؤادة من الكتابة تتمدد فوق السرير مبعدة ما بين ساقيها، قدماها تتورمان من طول الجلوس وراء المكتب في البيت والجورنال، تأتي إليها مرتين في الأسبوع ممرضة متخصصة في التدليك، اسمها خديجة، فتاة في العشرين تلف رأسها بإيشارب أبيض، تحمل حقيبة فيها جهاز كهربائي للتدليك وأنواع متعددة من الزيوت والدهانات ، حين تغيب خديجة تقوم سعدية أو ابنتها هنادي بالمهمة، تجلس فوق السجادة على الأرض وتدلك قدمي الأستاذة.
داليا
كان الأوتوبيس الأحمر يأخذ الطفلة داليا إلى المدرسة كل صباح، ما عدا أيام الإجازات، تأخذها معها فؤادة إلى الجورنال، تعطيها بعض قصص الأطفال، تجلس داليا على الكرسي في جوار النافذة المطلة على النيل، تشرد بعيدا أو تقرأ قصة، تحمل معها في حقيبة المدرسة مفكرة تكتب فيها خواطرها، تخفيها في مكان سري في غرفتها، تخشى أن تقع في يد أبيها أو أمها، كتبت داليا في مفكرتها: لا أحب أبي. ثم مسحتها، وكتبت: أحب ماما فؤادة وماما درية.
كانت تنادي جدتها ماما درية، تزورهم جدتها درية في الأعياد، تجلسها إلى جوارها على الكنبة وتحكي لها الحكايات، تشم في ملابسها رائحة عطر يشبه الياسمين.
نحيفة الجسم ممشوقة إلا انحناءة ظهرها، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، حين تجلس جدتها في جوار أبيها تبدو ملامحها متشابهة، تطبق شفتيها وهي تمضغ الطعام من دون صوت، بأطراف أصابعها تمسك الشوكة، مشيتها تشبه مشيته، نصفها الأعلى يندفع إلى الأمام، تشد عضلات عنقها إلى أعلى وكذلك ظهرها فتختفي الانحناءة، تواصل داليا الكتابة في مفكرتها، في ليلة حارة مشبعة ببخار الماء ولدتها أمها، خرجت إلى الدنيا صامتة من دون صراخ، وجهها شاحب أزرق مطبقة الشفتين مغلقة العينين جفونها متورمة، كأنما كانت تبكي بكاء مكتوما داخل الرحم، مدينة القاهرة تغطيها سحابة سوداء من الدخان والهوان، هزيمة من الهزائم المتكررة لم تسمع أمها الأخبار في جهاز التلفزيون داخل المكتبة في الصالة، كانت في غرفتها تكتب، في نظرها أن الأخبار ملفقة، ترسلها الجهات العليا إلى الصحف، انطلقت الإذاعات ذلك اليوم مؤكدة النصر المجيد بفضل الزعيم العظيم، لم يكن أبوها في البيت، قال لأمها قبل أن يخرج إنه في اجتماع طارئ بالحزب، جسمه نحيف يمشي منحنيا، يجلس واضعا ساقا فوق ساق، البنطلون من الصوف الإنكليزي له ثنية مكوية، ترتفع حين يرفع ساقه لتكشف عن جوربه ذي اللون النبيذي الشبيه بلون ربطة العنق، ومنديله يطل من جيب السترة معطرا بالأوسوفاج، عيناه خضراوان، بياضهما واسع تشوبه صفرة، تتخللها شعيرات دموية، يضع نظارة طبية، لا تفارق عيناه الجورنال أو الكتاب الذي يقرؤه، يتكلم مع أمها من دون أن ينظر إليها، لا يرتفع جفنه الأعلى عن البؤبؤ الأزرق الصغير إلا حين يغضب أو يندهش، يضع أوراقه في درج مغلق بالقفل، حقيبته الجلدية السوداء يفتحها ويغلقها بأرقام سرية، يشعر بلذة في إخفاء الأشياء، يقلد أباه في حركة شفتيه الممتلئتين، يمطهما إلى الأمام في وجه زوجته غاضبا. - مش من حقك تعرفي كل حاجة عني، أنا راجل حر. - الزواج مش سجن.
سمعت أم رءوف صوته من خلال الجدار، كانت الجدران في العمارات الجديدة مغشوشة هشة، تسمح بمرور أي صوت بين الجيران، قطرات ماء تسيل في الليل من صنبور قديم، شخير رجل غارق في النوم العميق، همسات الحب والشبق أو لكمات البغض والغضب.
جاءت أم رءوف في اليوم التالي، سمينة مربعة الجسم تعرج قليلا، تلف شعرها بإيشارب ملون، تصبغ شفتيها باللون الأحمر، اشتغلت في شبابها ممرضة حتى تزوجت الدكتور جرجس وأصبح لها ولدان، تساعد أم رءوف في الطبخ مع أمها حين تغيب الخادمة سعدية.
عاد أبوها إلى البيت فرآها جالسة أمام التلفزيون، رمقها بنظرة سريعة من تحت جفنه الأعلى، كأنما لم يتعرف ملامحها، ساورته فكرة مرت كالبرق، ابنته أم لا؟ رمقته بنظرة من تحت جفونها نصف المغمضة، لم تميز وجهه، وخصوصا فمه الرمادي المطبق في صمت.
كان الصمت يخيم على الشقة، ترمقها أم رءوف بطرف عينها، تمص شفتيها وتقول إنها بنت، ثم تضيف إليها كلمة الهزيمة.
أصبحت فجيعتها اثنتين.
كان يكفي الإنسان أن يكون «بنتا» ليشعر بالفجيعة، فكيف إذا لحقت به الهزيمة أيضا؟
أخفت وجهها تحت الغطاء، تمنت أن تعود مرة أخرى إلى رحم أمها، من دون جدوى، لم يكن لأحلامها أن تتحقق بالتمني «وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.»
كانت أمها تردد هذا البيت أيام الهزائم، تشرح معناه لطفلتها.
يعني الدنيا مش سهلة، العمل مهم يا داليا.
تخرج أمها كل صباح إلى عملها في الجورنال، أحيانا تأخذ داليا معها، بلغت الثامنة من عمرها، كانت تسجل في مفكرتها السرية ما يدور في رأسها.
كان الواقع يذوب في خيالي والحلم يمتد بعد أن أصحو من النوم.
مكتب أمي كان واسعا يطل على النيل، الشمس ساطعة تملأ الدنيا بالدفء، أشعر بالسعادة حين أخرج معها، كانت تتركني في البيت قبل أن أدخل المدرسة مع أم رءوف، وجهها أسمر يقترب من السواد، أصابعها قوية وأظفارها طويلة تصبغها بالمونيكير، ترتدي فستان أمي الحريري في غيابها، تلون شفتيها بإصبع الروج، تأخذه من درج أمي، تضربني في الحمام، تضع سكين المطبخ فوق عنقي وتقول: أدبحك لو قلتي لأمك.
تجلس أمي وراء مكتبها مرتدية جاكيت من الجلد، لونه بني غامق، البؤبؤ الأسود في عينيها كبير الحجم بريقه لامع، ينطفئ البريق حين يدخل مكتبها رئيس التحرير، ولا يظهر في عينيها حين تكون في البيت، تمشي أمي فوق كعبين رفيعين، يدقان الأرض بصوت قوي مسموع، أحيانا تنتعل حذاء ذا كعب مربع يشبه حذاء أبي، فلا يكون لوقع قدميها أي صوت.
قلت لأمي ونحن في مكتبها: أنا أكره أم رءوف يا ماما. - ليه يا داليا؟ - ماعرفش.
كلمة «ماعرفش» كانت تلازمني في طفولتي. - دي ست غلبانة يا داليا. - مش باحب الغلابة يا ماما.
يطل أبي برأسه من وراء الجورنال، يرتفع الجفن الأعلى فوق البؤبؤ الأزرق، يرمقني بنظرة غاضبة: مش بتحبي الغلابة ليه يا داليا؟ لازم تعرفي أن الغلابة دول هم أصل البلد، لازم تتخلصي من أفكار والدتك البرجوازية.
يغمز أمي، يضحك بصوت غير مسموع أو يبتسم نصف ابتسامة، تضحك أمي ضحكتها المرحة وتقول بشيء من السخرية: بنتنا داليا مش برجوازية يا شاكر، عندها ميول اشتراكية زي الباشا الأحمر.
الباشا الأحمر هو اسمع الدلع، كانت جدتي تطلقه على جدي.
تزورنا جدتي في العيد، نحيفة الجسم، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، تتكلم ثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنكليزية، دماؤها خليط من بلاد البحر الأبيض المتوسط، أبوها كان سفيرا لمصر، يحمل لقب البك أو الباشا، يسافر إلى بلاد العالم، ترك لها بعد موته عزبة كبيرة في الزقازيق، وبيتا يشبه القصر في جاردن سيتي، حين تجلس جدتي في جوار أبي تبدو ملامحهما متشابهة، حركة عضلات الفم المطبق، مضغ الطعام من دون صوت، أطراف أناملها تمسك بالشوكة، الخطوة الخفيفة السريعة، نصفها الأعلى منحن إلى الأمام، رأسها مطرق قليلا بالرغم من الكبرياء، أبي يمشي رافعا رأسه، يمد عنقه إلى أعلى مثل الديك الرومي، شادا ظهره المقوس قليلا.
تردد جدتي مع أمي البيت القائل:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
كان الراديو يردده أيضا والتلفزيون والمعلمون والمعلمات في المدرسة، والناس في كل مكان، يعلو أصواتهم جميعا صوت يرج السماء والأرض، تقشعر له الأبدان، تنتفض له القلوب، تصورت أنه صوت الله وأنا في السادسة من عمري، كان هو الرجل الوحيد الذي أحبه وأخافه في وقت واحد.
كان الله في خيالي يبدو رجلا مثل أبي وجدي، يتكلم بصوت أقوى من كل الأصوات، ثم عرفت بعد أن بلغت السابعة أن الله ليس رجلا، ليس له جسد ولا لسان ولا صوت.
أصبح الله صامتا بعد أن جاوزت الثامنة من العمر، كنت أصحو من النوم أكبر مما كنت قبل أن أنام، قد يزيد عمري سنة كاملة أو نصف سنة في ليلة واحدة أو ليلتين.
التاريخ في النتيجة فوق مكتبي، كان يوما حارا وغائما، قالت أمي إنني أصبحت في الثامنة من عمري، ويمكن أن أفهم ما يحدث في البلد.
سمعتها تقول: التظاهرات الوطنية في الشارع تطالب بالحرية.
أبي قال: تظاهرات شعبية يقوم بها الفقراء من أجل العدالة، لكن الراديو والتلفزيون والمعلمات والمعلمين في المدرسة، كانوا يقولون: إنهم البلطجية والمجرمون يتآمرون مع المأجورين من الخارج على الوطن.
من فوهات الميكروفونات تنطلق عبارة «الله أكبر» من فوق الجوامع، من الإذاعات وأجهزة التلفزيون، تذوب الأصوات كلها في صوت واحد قادم من السماء، وتنتفض القلوب رعبا، يختلط الأمر في عقلي، لا أعرف السماء من الأرض وماذا تعني كلمة الوطن، كل شيء يبدو غير مفهوم، مراحل عمري أيضا لم تكن واضحة المعالم، تذوب طفولتي في شبابي وتمر كلها من وراء ظهري في أثناء نومي، الدنيا تذوب في الآخرة والجنة في النار والنهار في الليل والحياة في الموت، أصحو فجأة على جرس المنبه قرب رأسي، هناك دائما رنين جرس حاد يوقظني من النوم العميق، يمر الزمن في الليل وأنا غائبة فيما يشبه الموت.
كان جدي يزورنا مع جدتي، سمعته يقول لي: النوم ميتة صغرى يا داليا، الناس تفقد الوعي حين تنام.
لم تكن جدتي تسمع ما يقوله، تقول إنه وهو في الغرفة الأخرى رجل عجوز يفقد الوعي من دون نوم، لم يكن جدي يزورنا مع جدتي إلا في عيد السنة الجديدة، يحمل صندوقا كبيرا من الكرتون، ملفوفا بورق ملون وشريط أخضر رفيع، يشتري الحلويات من المحال الغالية، يرتدي بذلة أنيقة دكناء اللون من الصوف الإنكليزي، بذلة بيضاء من الشاركسن أيام الحر، مع ربطة عنق ملونة، حذاؤه الأسود الجلدي يلمع لا تعلوه ذرة تراب، نظارته لامعة بيضاء، يجلس واضعا ساقا فوق ساق، يشبه أبي في حركته وتقاطيع الوجه وخصوصا الأنف، لكن شعر جدي أبيض خفيف سقط عند منتصف رأسه، تاركا صلعة مستديرة محمرة اللون قليلا، انحناءة ظهر جدي أكثر من انحناءة أبي، صوتاهما متشابهان لكن صوت جدي يتحشرج من جراء دخان الغليون الكثيف والسيجار الغليظ الذي يتدلى من بين شفتيه، لم يكن أبي يدخن، أسمعه يقول لأمي إنه توقف عن التدخين في السجن، ترن كلمة السجن في أذني حادة مدببة جارحة، حمراء كالدم، مثل لون الوطن والدنيا والآخرة والملائكة والشياطين.
كنا نزور جدي في شقته في شارع الدقي، ونزور جدتي في بيتها في جاردن سيتي، سألت أمي لماذا لا يعيش جدي وجدتي معا؟
حكت لي أمي الحكاية، كانت جدتي فتاة جميلة من عائلة كبيرة، تزوجها جدي وهو طالب في الجامعة، أبوه فلاح فقير كان يشتغل في عزبة أبيها في الزقازيق، أنفقت جدتي على جدي حتى تخرج وأصبح أستاذا في الجامعة، وشخصية سياسية مرموقة ، عاش معها في بيتها بجاردن سيتي، أنجبت أبي، خرج جدي من البيت ذات صباح ليلعب الجولف في النادي، غاب يومين، وفي اليوم الثالث وجدت جدتي في صندوق البريد مظروفا صغيرا، يشبه مظاريف الحكومة والمحكمة، وقعت عينها على ورقة الطلاق من مأذون حي الدقي، عرفت خط زوجها وإمضاءه، كان يوقع به شيكات البنك التي يصرفها من حسابها على مدى أربعة وثلاثين عاما.
تضحك أمي ضحكتها الساخرة، بعد أن كبرت أكثر فهمت القصة، كان لجدها شقة سرية في الدقي تسمى جارسونيرة، معظم الرجال من هذه الطبقة كان لهم بيت سري، يرتفع عدد البيوت السرية بارتفاع المنصب في الحكومة أو الرصيد في البنك.
عرف جدها نساء كثيرات من الأنواع كافة، لكن هذه الفتاة الصغيرة رفضت تسليم نفسها له من دون عقد مكتوب، تدربت على فهم الرجال، عرفت أنهم يخدعون البنات ويخونون زوجاتهم، كانت تعمل في كاباريه النيل مع أمها، تتغلب بنات الليل على أعتى الرجال في الذكاء. وضعت الفتاة لجدها الشروط في العقد: (1) أن يطلق زوجته طلقة بائنة. (2) أن يسجل سيارة مرسيدس باسمها. (3) وشقة باسمها تطل على النيل. (4) أن تكون عصمتها بيدها.
فعل جدها ذلك كله، تزوجته ستة شهور فقط ثم هجرته إلى شاب تحبه، فشل جدها في إعادتها إليه وفقا لقانون الطاعة، كان لأمها محام ماهر مختص بقضايا الفنانات والراقصات، حاول جدها العودة إلى جدتها لكنها رفضت، وفشل أبوها في إقناع جدتها بالعيش مع جدها، تحررت جدتها من عبء الكره لزوج تراكم فوق صدرها أربعة وثلاثين عاما، أصبح جدها يعيش في شقته بالدقي يجتر أحزانه، حتى مات وحيدا في غرفة نومه، فاحت الرائحة بعد أيام فكسر جيرانه الباب.
غابت جدتي طويلا، سافرت إلى لندن في الصيف، ثم عادت بعد عامين وبصحبتها شاب إنكليزي اسمه روبرت، طويل القامة شعره أسود غزير يشبه غريغوري بيك، قدمت أمي لهما الكعك والبسكويت، بدت جدتي شابة من جديد، بشرتها ناعمة خالية من التجاعيد، تلون شفتيها بالروج الأحمر الخفيف، أصبح شعرها أسود بعد أن كان أبيض، ضفيرة طويلة تهتز فوق ظهرها كلما ضحكت وألقت برأسها إلى الوراء، أصبحت تمشي بظهر مستقيم من دون الانحناء إلى الأرض.
تحكي جدتي لأمي قصة حبها لروبرت. - الحب مالوش علاقة بالعمر يا فؤادة. - أيوه. - أنا في عز الشباب يا دوب خمسة وخمسين سنة، وهو أصغر مني بعشرين سنة بس. - أيوه. - ستنا خديجة أم المؤمنين مرات النبي
صلى الله عليه وسلم
أتجوزته وهي أكبر منه بعشرين سنة. - أيوه.
تجلس داليا تستمع إلى الحوار، ترمقها جدتها بعينين تلمعان وتهز رأسها. - جدك يا داليا اتجوز بنت أصغر منك، بينه وبينها تسع وأربعين سنة، لكن روبرت أصغر مني بعشرين سنة بس. - أيوه من حقك تعيشي حياتك.
والزمن بيجري.
لم أكن أشعر بمرور الزمن إلا حين أقف أمام المرآة، تطل من داخلها فتاة لم يعد لها وجه الطفلة، تشبه الفتاة في الصورة المثبتة في بطاقتي الشخصية، يتغير وجهي داخل المرآة بأسرع من الصورة في بطاقتي، أرى نفسي شابة محمرة الخدين ناعمة البشرة تتفجر حياة، إن اقتربت من المرآة أكثر وتأملت وجهي يتغير لونه مع حركة العين، أو الجفن، يصبح شاحبا مائلا إلى الصفرة أو الزرقة، تظهر تجاعيد فجأة من بين ثنايا الجلد، أرى أمامي فتاة حزينة في ربيع العمر أو امرأة كهلة لا أعرفها، يغوص قلبي في القاع حين أدرك أنني هذه الواقفة أمام المرآة، وأن مراحل عمري تمر والزمن يمضي من دون أن أدري.
قد يعود الزمن إلى الوراء وأنا أحملق في المرآة، يظهر أمامي فجأة وجه الطفلة، خداها متوردان يتفجر منهما الدم، شفتاها تنفرجان عن ابتسامة مشرقة كالشمس، عيناها تلمعان ملؤهما الضوء، في مفكرتي السرية كتبت ما كان يدور في خيالي من أسئلة:
هل تفعل أمي مع أبي شيئا سريا في الليل؟
هل يخفي أبي عن أمي شيئا خارج البيت؟
هل أبي هو أبي؟
هل الله هو الله؟
هل أباح لجدي خيانة جدتي؟
هل يحرقني في النار لأنه خلقني أنثى؟
أشطب بأصابع مرتجفة كلمة أنثى، سمعتها لأول مرة من فم جدي، لفظها بطرف لسانه كأنما يبصق ، ثم أخرج منديله الحريري النبيذي من جيبه ومسح فمه.
كرهت جدي وكرهت أبي والله، وجميع المعلمين في المدرسة، كرهت جدتي أيضا وأم رءوف وجميع النساء إلا أمي.
لم تكن أمي في نظري امرأة، كانت أمي، هي الوحيدة التي تحبني ويمكن أن تموت من أجلي، وهي الوحيدة التي يمكن أن أموت من أجلها.
سمعت أبي يقول إنه مستعد للموت من أجل الوطن، لكني لم أعرف ما هو الوطن، تصورت أنه المكان الذي يذهب إليه أبي في الليل ويمارس العادة السرية، لم أعرف معنى الموت حتى رأيت وجه أم رءوف الميت، ظل روحها بالرغم من موتها يأتي إلينا يدق جرس الباب، تصورت أن الموت ليس موتا بل مجرد الانفصال بين الروح والجسد، لم أعرف أن الروح والجسد يموتان معا.
صحوت من النوم فجأة على الرنين، ترتجف عضلة تحت ضلوعي لدى سماع الجرس، خوف غامض راسب في أعماقي منذ ولدت، أتوقع خبرا سيئا أو كارثة أو هزيمة جديدة، لما أعرف بعد معنى الهزيمة، أقفز من السرير، أرتدي ملابسي في غمضة عين، أخرج من دون فطور، أمشي إلى حيث ينتظرني الأوتوبيس الأحمر، عند ناصية الشارع أرى الرجل واقفا يقرأ الجورنال، أتعرف وجهه، يأتي إلى بيتنا يوم الإثنين من كل أسبوع، يتظاهر أنه لا يراني، تبربش عينه من وراء الجورنال ويرمقني بنظرة جانبية.
فوق عمود النور في الشارع أرى الصورة الضخمة معلقة، الوجه المربع بأنفه الطويل وشاربه الأسود وأسنانه البيضاء الحادة في ابتسامة تشبه التكشيرة، صورته كانت معلقة في صالة بيتنا، وفي المدارس والشوارع والأبنية وأعمدة النور، ترمقه عيون الناس في وجل، يهمسون من دون صوت «الراجل الكبير».
يخلع أبي الصورة من فوق الجدار في الصالة، إلا يوم الإثنين، حين يبقى في البيت مرتديا البذلة ومنتعلا الحذاء، بذلته أنيقة وحذاؤه لامع يشبه حذاء جدي، يقرأ الصحف في غرفة الصالون، ينتظر مجيء رجل نحيف أسمر اللون يرتدي بذلة صفراء شاحبة، يحمل حقيبة رمادية باهتة، تقدم أمي له القهوة أو الشاي، وقطعة من الكيك أو البسكوت، وأحيانا تناوله بضعة جنيهات داخل مظروف أبيض مغلق، تهمس في أذنه: مصاريف المواصلات يا أستاذ.
يخرج الرجل مع أبي من الصالون، الحقيبة تحت إبطه، يبتسم في وجهي، أسنانه صفراء مشرشرة، عند زوايا فمه لعاب أبيض متجمد.
ويسألني: اسمك إيه يا شاطرة؟ - داليا. - عمرك كام سنة؟ - ثمانية. - في مدرسة إيه؟ - ماعرفش.
تخرج كلمة «ماعرفش» من فمي مثل قذيفة ألقي بها في وجهه، في عينيه نظرة مخيفة تتخفى تحت جفونه، كنت في المدرسة النموذجية للبنات، أشعر بنوع من السرور حين أخفي عنه اسم مدرستي، في زوايا عينيه الغائرتين دموع متجمدة تشبه العمش، تبربش عيناه بحركة خفيفة، يتلصص على كل شيء في بيتنا، حتى صدر أمي يرمقه حين تنحني لتقدم له القهوة قبل أن يخرج.
يتطلع إلى الوجه المربع في الصورة المعلقة في الصالة، ينحني قليلا يؤدي له التحية، ثم يرشقني بنظرة فاحصة: معبود الجماهير، عارفاه يا شاطرة؟ - ماعرفوش.
تنطلق من فمي كلمة «ماعرفوش» حادة مدببة مثل قطعة لعاب متجمدة في حلقي.
بعد أن يخرج الرجل تقول أمي إنه مخبر في الجهاز السري. يضحك أبي من دون صوت أو يبتسم، كان الضحك غائبا في بيتنا، تنفرج شفتا أبي المطبقتان عن ابتسامة أو نصف ابتسامة، لم أسمعه يضحك بصوت مسموع، أمي تضحك بصوت عال مع الضيوف في غرفة الصالون، كانت لأمي ضحكة ترن في الجو فيزول عني الخوف الغامض الدفين، وأحيانا أسمعها تغني لنفسها أو مع الراديو، فأغني معها أغنية أم كلثوم، افرح يا قلبي، من دون أن يفرح قلبي، تحيطني أمي بذارعيها فنرقص معا على إيقاع الموسيقى، كان جسمي نحيفا خفيفا لكن قلبي ثقيل بالحزن، إلا لحظات قليلة مفاجئة يشق ضوء الشمس قلبي، تحت ضلوعي أحس بالخفقان، أتلفت حولي أتوقع شيئا يحدث، أن يدق الجرس ويدخل أبي.
كانت صورته معلقة فوق الحائط، ملامحه لا تشبه ملامح أبي.
أشعر بالفرح حين تصطحبني أمي إلى مكتبها، له نافذة كبيرة تكشف مدينة القاهرة من هضبة الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي ونهر النيل، كان لها زميلة في الجورنال اسمها كوكب، سمينة مربعة الجسم تترجح فوق كعبها العالي، تقرصني في خدي. - بنتك حلوة يا فؤادة. - أيوه. - مش شبهك ولا شبه جوزك. - أيوه. - يا ترى جيبتيها منين؟ - من عند ربنا؟ - زي ستنا مريم؟ - أيوه. - لا يمكن حد يغلبك يا فؤادة؟ - لا يمكن. - تمشي من إسكندرية لإيطاليا؟ - أيوه.
تضحك كوكب وتقهقه بصوت ناعم متقطع يشبه الشهيق أو النشيج، وتسير إلى مكتبها تفرقع بحذائها فوق الأرض الناعمة الممسوحة.
في الكافيتيريا
جلست كوكب تكتب مقالها الأسبوعي، أمامها فوق مكتبها عدد من بطاقات التهنئة بعيد ميلادها، فوق رأسها صورة ضخمة للوجه الكبير داخل البرواز، لا يختلف كثيرا عن الوجه السابق، سقط عنه شعر الرأس قليلا وانتقل إلى الذقن قليلا، تاركا مساحة من ظل خفيف فوق الجبهة العريضة، دق جرس التلفون، انتفضت في مقعدها. - كل سنة وإنتي طيبة يا كوكب. - شكرا مين بيتكلم؟ - أنا زيدان مش عارفة صوتي؟ - الحقيقة لأ. - إزاي تنسيني يا كوكب؟ - مشغولة جدا. - نتعشى سوا النهارده؟ - أنا مرتبطة ع العشا. - نتقابل ع الغدا؟ - لازم أخلص المقال يا زيدان. - حاولي تخلصيه يا كوكب، عندك ساعتين ونتقابل في الكافيتيريا الساعة اتنين ونص. - خليها ثلاثة ونص أكون خلصت المقال. - أوكيه يا كوكب.
زيدان زميل لها بالجورنال، يردد كلمة أوكيه كثيرا، طويل عريض بشرته سمراء، شعره أكرت مقصوص، حليق الوجه من دون شارب أو لحية، شفتاه ممتلئتان قليلا لونهما يميل إلى الزرقة، خليط من أب مصري وأم من السودان، صوته متحشرج بذكورة مذكرة، يقهقه بصوت عال، يتقد حماسة وطموحا إلى مراكز القوة، عضو في الحزب الحاكم، كلما قابلها مصادفة في الممر رمقها بنظرة شبقة، تثبت عيناه فوق صدرها أو ساقيها من الخلف، تحس بنظراته فوق ظهرها من دون أن تلتفت، لم يعد قلبها يخفق لأي رجل، انتهى حبها الأول وهي طالبة في كلية الآداب، وانتهت معه الخفقات تحت الضلوع، اقترن الحب في جسدها بالخوف منذ الطفولة.
يدعوها زيدان إلى الغداء في كافيتيريا الجورنال، يحفظ جميع النكات في البلد، ما إن يجلس أمامها حتى يسألها ضاحكا: سمعت آخر نكتة؟
ترد بسرعة: مش عاوزة أسمعها.
يمد عنقه ويهمس في أذنها بنكتة جديدة مقهقها بصوت عال. - أنت قليل الأدب يا زيدان.
يضحك بشدة أكثر كأنما تمدحه.
تفضل أن تتناول الغداء مع فؤادة أو وحدها في الكافيتيريا، أو في مكتبها، تأكل ساندويتش وتكمل كتابة مقالها، تقبل دعوة زيدان أحيانا أو زميل آخر، لا تعرف لماذا تقبل مثل هذه الدعوات، لماذا تتحمل صحبة مملة، ربما هو الحزن أو الاكتئاب الغامض منذ الطفولة، أو لأنها عاجزة عن الكتابة وشاعرة بالغضب من نفسها، لم تعد تشعر بمتعة أي شيء، حتى الكتابة فقدت لذتها، منذ طفولتها كان لها مفكرة تكتب فيها بلذة كبيرة، تخفيها في مكان سري، لم يكن لها متعة إلا الكتابة، لم تمارس العادة السرية في الطفولة أو المراهقة مثل بعض البنات، في المدرسة مقالها كل أسبوع في الجورنال أصبح واجبا ثقيلا على قلبها، الكتابة من دون إبداع مثل الجنس من دون حب، عمل تفرضه الحياة لمجرد الاستمرار في الحياة. - يا كوكب مش مصدقة ليه إني باحبك. - أنا مش فايقة لك النهارده يا زيدان. - ليه حصل إيه؟ - ماعرفش. - زعلانة من إيه؟ - ماعرفش. - الدنيا ما تستهلش يا كوكب خديها إيزي، عاوزة تاكلي إيه؟ - شوربة عدس وسلطة خضرا؟ - يا سلام ع الرجيم والرشاقة. - وإنت قررت تاكل إيه؟ - اسكالوب واسباجيتي وبابا غنوج وكريم كرامل للحلو. - إنت بقيت تخين زي الفيل يا زيدان.
يضحك بصوت عال مقهقها كأنما تمدحه. - إيه رأيك نتعشى سوا الليلة يا كوكب؟ - أنا مشغولة لميت سنة ع الأقل. - مشغولة بغيري؟ - ماعرفش. - مين هو؟ - ماعرفش. - يا كوكب أنا باحبك والله العظيم.
يظن زيدان أنه يحبها، أو أنها تحبه، أو أقله تفكر فيه أحيانا، كانت لا تذكره إن غاب، بل تنساه في حضوره وتفكر في شيء آخر، مرة واحدة في ليلة شتوية العام الماضي تناولت العشاء معه، كانت أمه قد ماتت منذ يومين، بدا منكسرا كالطفل اليتيم، يجلس في الكافيتيريا وحيدا مطرق الرأس، لم تر في عينيه هذه النظرة المكسورة، رجل هزمته الدنيا، حطمه الزمن، شعرت بالشفقة عليه، أرادت أن تربت رأسه بحنان أمه المفقودة، أن تمسك يده بيدها، أن تحيطه بحنانها وتخفف عنه الحزن، دعاها إلى العشاء تلك الليلة فلم ترفض، كانت تشعر بالشفقة عليه، لكنه لا يفهم الفرق بين إشفاقها وحبها، تناولت العشاء معه في مطعم يطل على الهرم، بعد كأسين من النبيذ فك الربطة المعقودة حول عنقه، تحرر قليلا من الحزن، ظهرت قطرات عرق فوق جبهته، جففها بمنديله وهو يحكي لها. قبل أن تموت أمه بيوم واحد دخلت غرفته، يبدو عليها الإرهاق والإعياء، وجهها يزداد شحوبه، عيناها يغشيهما لون أصفر باهت، تربت بيدها المعروقة الناحلة فوق ركبته وهو في سريره مستلقيا يقرأ، لم يرفع عينيه إليها، كان مشغولا بالقراءة، تعود ألا يراها وإن تحركت أمامه، ألا يسمعها وإن تكلمت بصوت مسموع، رأى أباه يعاملها بهذه الطريقة، لم تكن تشكو، تبكي في الليل وحدها، تجعل من نفسها مطية لزوجها وابنها، ليس لها مطالب إلا أن تراهما سعيدين، تلك الليلة فاض بها الألم، أرادت أن تتكلم مع ابنها الوحيد، تفتح قلبها المغلق له، تحكي له فجيعتها، تكشف له شيئا مما تكتمه، أملا في شيء من الراحة، تسع سنوات ونصف سنة تحمل العبء، بعد أربعين عاما انكسر قلبها، طعنها زوجها في ظهرها وهي تصد عنه الطعنات بصدرها، كتمت الحقيقة تسع سنوات ونصف سنة في قلبها، أرادت حماية ابنها من الألم، لم تشأ تشويه صورة أبيه في نظره.
زيدان يحكي بصوت مشروخ، جفونه محمرة متورمة، قضى الليل يبكي بعد موتها مسترجعا صوتها وهو راقد يقرأ في سريره، يرد عليها بضجر من دون أن ينظر إليها.
سامعني يا زيدان؟ سامعني يا بني؟ أيوه يا ماما سامعك. أنا تعبانة يا ابني عاوزة أقولك حاجة. عاوزة تقولي إيه أنا مشغول. يا ابني أنا أمك وإنت ابني الوحيد، أكلم مين غيرك؟ الكلام ده سمعته منك كثير يا ماما، وأنا مشغول والله العظيم مشغول. أيوه يا بني إنت مشغول ربنا يعينك يا حبيبي، لكن يا زيدان نفسي إنك تسمعني مرة واحدة قبل ما أموت يا بني. يا ماما أنا حاموت قبلك والله العظيم. يا بني بعد الشر عنك ده أنا أفديك بعمري، لولا إني تعبانة وخايفة أموت قبل ما أقولك اللي مكتوم في قلبي من تسع سنين. أيوه يا ماما عارف اللي مكتوم في قلبك من تسع سنين، عارف حكاية أبويا والبت الشرموطة، أكلت عقله وصرف عليها تحويشة عمرك، كل الرجالة يا أمي أندال، الخيانة بتجري في دمهم يا أمي. لأ يا بني مش كلهم، فيه رجالة عندها ضمير وأخلاق زيك يا زيدان يا بني. أنا يا أمي زي كل الرجالة وأنذل منهم كمان، أرجوكي سيبيني ورايا شغل. طيب يا بني تصبح على خير.
يمسح زيدان دموعه بمنديل ورق، كان ممكن يا كوكب أرد عليها وأقول لها وإنتي من أهل الخير يا ماما، كان ممكن أعمل أي حاجة تخفف عنها الحزن، لكن الأنانية يا كوكب، أنا اتربيت على الأنانية وأبويا اتربى على الأنانية، زي كل الرجالة، أمي اتعذبت في حياتها كتير، كان ممكن أقف جنبها واخد حقها من أبويا، لكن كنت بافكر في نفسي ومشغول بنفسي وبس، عندي إحساس بالندم يا كوكب، عندي إحساس بالذنب وتأنيب الضمير، كنت عارف ان أبويا ظلم أمي ومص دمها، وبعد لما كبرت وصحتها تعبت سابها وراح لبنت شرموطة، كان ممكن أمنعه، كان ممكن آخد منه حقها على الأقل، كان ممكن أعمل حاجة تريحها في آخر عمرها لكني كنت أعمى مش شايفها، شايف نفسي بس، لو كنت سمعتها الليلة الأخيرة في عمرها يمكن كان ضميري يرتاح، لو الليلة دي ترجع تاني يا كوكب، لكن الزمن لا يمكن يرجع، وضميري عمره ما يرتاح.
ينشج زيدان، يبكي، يكتم النهنهة بالمنديل، تربت كوكب كتفه، تمسك يده بيدها، تلف ذراعها حوله، تخفف عنه وتبكي معه. أرجوكي يا كوكب، إنتي الوحيدة اللي ممكن تخففي عني، أرجوكي خليكي معايا.
في عينيه استجداء، رجل منكسر يسترحمها، يطلب إليها الشفقة، قلبها يفيض شفقة عليه وعلى نفسها وجميع الناس، تذيب الشفقة قلبها تتأهب روحها لبذل العطاء، ينتفض كيانها بلذة غامضة مع تأهبها للعطاء، يزيد ضعفه من قوتها، احتياجه إليها يؤكد استغناءها عنه، يمتلئ روحها بالثقة بنفسها ويفيض على غيرها، يمكنها أن تمنحه أي شيء في هذه اللحظة حتى نفسها من دون أن تنقص شيئا، إحساس بالاكتمال يصاحب إحساسها بالاستغناء.
تشعر بدوار خفيف له لذة النبيذ، نسمة الليل ورائحة الياسمين، موسيقى خافتة تأتي من مكان ما، ضوء فضي يترقرق فوق موجات النيل، تحيطه بذراعيها، تغمض عينيها، تغيب ملامحه في الظلمة وتظهر ملامح وجه آخر، تعرفه ولا تعرفه رأته من قبل في زمان ومكان آخر، ثم فتحت جفونها المغلقة، رأته نائما عاريا غارقا في النوم، يشخر بصوت مسموع، ساقاه معوجتان، بطنه منتفخ، سارت على أطراف أصابعها إلى الحمام، تقيأت الضلوع المشوية مع النبيذ الأحمر الذي أصبح لونه أسود.
في الكافيتيريا كان يقول: هتعملي إيه الليلة يا كوكب؟ - هاقعد في البيت أكمل المقال يا زيدان. - مقال إيه يا كوكب ماحدش بيقرا مقالات دلوقتي، خلاص التلفزيون والفضائيات غلبت الصحافة. - مش عاوزة أخرج معاك. - ليه يا كوكب؟ - مرة واحدة حصلت وأخيرة. - ليه يا كوكب؟ - ماعرفش ليه.
كانت في جوارهما مائدة يجلس إليها زميل لهما اسمه بكري، قريب من رئيس التحرير، أو مقرب منه، أنيق وسيم، يرتدي بذلة كاملة وربطة عنق لامعة، تلتقيه أحيانا في الممر من دون أن يرفع عينيه إليها، تشعر بكراهية غامضة نحوه، أنيق أكثر من اللازم، طموح أكثر من اللازم، ربما له صلة بمكتب الأمن، يختلف عن بقية الصحفيين في شيء ما، على الرغم من التشابه في الصوت وحركة اليدين، ربما يكون في منصب أعلى من زملائه في الحزب، ربما يكون ضمن الدائرة الضيقة للأعضاء المميزين، ليس من الأتباع المطيعين الممسوحين مثل زيدان، ذو شخصية مستقلة نوعا ما، لا ترى على وجهه سمات الولاء، ربما تعبر ملامحه عن الذكاء.
كان زيدان يلتهم الإسكالوب بنهم، ينتفخ شدقاه بالطعام، يمضغ بصوت مسموع، يتكلم بفمه المملوء، تتناثر بعض ذرات من بين شفتيه الزرقاوين، تقل زرقتهما قليلا مع حركة الفكين، يلعق شفته السفلى بلسانه، ينظف أسنانه بعود كبريت أو بعود رفيع من الخشب يأتي دائما مع صحون اللحم، كان له ضرس ذهبي يظهر في فكه العلوي مع اتساع فمه، يخلعه بإصبعين ينزع عنه بقايا الطعام بمنديل الورق كلينكس، ثم يعيده إلى مكانه في الفجوة بين الضروس، أنا مستعد أتجوزك يا كوكب؟ - قلت لك ميت مرة لأ. - ليه يا كوكب؟ - من غير ليه. - إيه السبب يا كوكب؟ - مافيش سبب. - أنا متأكد إنك بتحبيني. - إنت غلطان. - هل أنا غبي؟ - جدا.
يقهقه بالرغم من كلمة جدا، غباوة العقل أم غباوة الإحساس، يظن أنها تحبه لمجرد لحظة حزن عابرة منحته فيها نفسها مرة واحدة، سقطت من ذاكرتها، راحت في العدم، لكنه لا ينساها، يتصور أنها تحبه أو يمكن أن تتزوجه لمجرد هذه المرة الوحيدة في حياتها. - يا كوكب، السنين بتجري مش خايفة من سن اليأس؟ - مش خايفة من حاجة؟ - مش عاوزة تكوني أم لأطفال حلوين زيك؟ - مش عاوزة أطفال. - أمال عاوزة إيه؟ - ماعرفش.
تخرج من فمها كلمة «ماعرفش» كالقذيفة في وجهه، حركت رأسها في ضجر إلى الناحية الأخرى، كان بكري يتحدث مع آخرين وقفوا في جواره وهو جالس، تحرك رأسه ناحيتها فالتقت عيونهما في لحظة خاطفة كالبرق، كأنما انفتحت خلية في عقلها ثم انغلقت، برغم سرعتها انتقلت رسالة منه إليها: أنا أشعر بما تشعرين به، أعرف كراهيتك لكل هذا الرياء، أعرف الكره المتراكم في قلبك لهذا النظام، لكن لا تقلقي أنا أفهمك وواقف إلى جانبك.
مرت الرسالة مثل بارقة ضوء انطفأت كأن لم تكن، عاد وجه بكري جامدا كما كان، لحظة حدثت وانتهت، لم تتيقن قط حدوثها، ربما كانت من صنع خيالها.
عادت إلى مكتبها وجلست ساهمة، زميل لها في الجورنال يشعر مثلها بفساد العالم، يكره الحزب الحاكم مع أنه من أعضائه البارزين، ربما ينتمي إلى المتمردين من أعداء النظام؟ كانت تسمع الهمس يدور في الجورنال عن جماعات وخلايا سرية من الثوار تعمل تحت الأرض، تطلعت حولها تتفقد الجدران، كانت أجهزة حديثة توضع داخل الحيطان في المكاتب والبيوت، تلتقط أي نفس وأي حركة توحي بالتمرد.
كوكب
اعتقل سكرتير التحرير منذ يومين، التقطت الأذن السحرية حديثه مع زوجته في غرفة النوم، قبض عليهما البوليس في الصباح قبل أن يرتديا ملابسهما، وقدما للمحاكمة بتهمة الخيانة الوطنية. الساعة فوق مكتبها تشير إلى الواحدة والربع، ساعتان إلا ربعا أمامها لتنتهي من كتابة مقالها الأسبوعي، كل يوم أربعاء يظهر المقال في الصفحة الأخيرة، أشادت الصحف العالمية بالديموقراطية في مصر، نشرت النيويورك تايمز أخبار الانتخابات المصرية في الصفحة الأولى، نجح الرئيس بأغلبية كبيرة، أعلن الرئيس الأمريكي وقوفه مع الرئيس المصري في خطواته الحثيثة نحو الديموقراطية، صدر قرار من رئيس التحرير بخصوص سفر الصحفية كوكب إلى مدينة نيويورك لتغطية المؤتمر الصحفي الدولي عن الديموقراطية، لم يبق على موعد السفر إلا أسبوع واحد، كان رئيس التحرير قد كلمها عبر التلفون الشهر الماضي، مقالك الأربع اللي فات كان رائع يا كوكب، ناس كثير مدحت المقال منهم معالي الوزير، سألني عنك، قلت له دي أحسن صحفية عندي في الجورنال، ولها قراء كتير، سألني هي حلوة زي صورتها المنشورة مع المقال، قلت له هي أحلى من الصورة مليون مرة. يقهقه رئيس التحرير من خلال سماعة التلفون، تهتز الأسلاك مع الجدران مع الصورة فوق الحائط، إنتي عارفة يا كوكب إن الوزير بتاعنا من أقرب الناس للراجل الكبير، ويمكن تبقي رئيسة التحرير وأنا أروح في شربة ميه.
هذه هي طريقة رئيس التحرير في التعبير عن أي حدث، ربما لم يحدث شيء على الإطلاق، وربما حدث العكس، أي أن الوزير أبدى غضبه من مقالاتها، لا يمكن معرفة إن كان رئيس التحرير جادا أم هازلا. - أنا مش عاوزة أكون رئيسة التحرير. - عاوزة تكوني إيه؟ - عاوزة أكون زوجة وأم. - اتجوزي بكري هو غرقان في حبك لشوشته.
الاجتماع الكبير في قاعة التحرير، حضرته كوكب قبل سفرها، كانت القاعة مزدحمة بالمحررين، أصوات مناقشات وصخب ودخان سجائر، وغليون بني غامق من هافانا يهتز بين شفتي رئيس التحرير، وشفاه المحررين الكبار ذوي الأعمدة اليومية، بينما هي جالسة رأت بكري جالسا في الصف الأمامي، يتابع ما يدور باهتمام كبير، أنفه من الجانب مقوس قليلا شفتاه مطبقتان، يبدو عليه الاستغراق، أو النوم العميق وعيناه مفتوحتان.
كان رئيس التحرير يتحدث بصوته الجهوري عن الديموقراطيات في ظل الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة في القرن الواحد والعشرين، يقول: إن العالم سيشهد نوعا جديدا من الديموقراطية، يجمع بين مزايا الرأسمالية ومزايا الاشتراكية، إيجابيات القطاع الخاص وإيجابيات القطاع العام، لن يكون للدولة سيطرة على رجال الأعمال إلا بالقدر الضروري لضمان حرية التجارة، والديموقراطية، وعدم هروب المستثمرين الأجانب.
قال محرر في الصفوف الخلفية: إن دور الدولة لا بد أن يزداد، وإلا طغى المال على السياسة وتجاوز الفساد ما هو عليه الآن.
دب الصمت في القاعة، اتجهت أضواء الكاميرات والفلاشات إلى الوجه المغمور في الصف الأخير، بدا طويلا نحيلا أصفر شاحبا يزداد شحوبا، ثم عادت الأضواء إلى وجه رئيس التحرير. في لحظات أصبح مقعد المحرر المغمور خاليا، أين اختفى لم يعرف أحد، أكد رئيس التحرير أن الشيوعية والنازية والفاشستية وجميع النظم الشمولية كلها سقطت في مزبلة التاريخ إلى غير رجعة؛ لأنها تقوم على الدكتاتورية والاستبداد وعدم حرية التعبير، وأن طريق المستقبل الوحيد نحو الديموقراطية هو الرأسمالية التي ثبت نجاحها في كل البلاد شرقا وغربا، حتى الصين وروسيا أيها السادة اتجهتا إلى نحو الرأسمالية.
انتهى الاجتماع بالتصفيق، وتدافع الجميع خارجين من القاعة، لمحت بكري يمشي أمامها ببضعة صفوف، يختفي ظهره في الزحام بين الأجسام، يهرولون بخطى مسرعة نحو مناطق النفوذ، رجال ونساء يتطلعون إلى الأضواء، يهرول زيدان مع المهرولين، راحت تجري متمايلة فوق كعبها العالي الرفيع، خارج القاعة رأته واقفا، اقترب منها وصافحها كل سنة وإنتي طيبة يا كوكب. قبل أن يسحب يده ترك في كفها ورقة صغيرة مطوية.
دخلت مكتبها وأغلقت الباب، أطفأت النور، ربما هناك عين سحرية تلتقط الكلمات في الرسالة، جلست ساهمة وفي كفها الورقة مطوية لم تفتحها، ربما يكون بيتها أكثر أمانا من المكتب، علقت حقيبتها الجلدية بالحزام في كتفها، هبطت السلالم إلى الدور الأرضي، خرجت من الباب الخلفي إلى موقف السيارات، ركبت سيارتها إلى البيت، كانت أمها في السرير تئن بصوت خافت. - ما لك يا ماما؟ - تعبانة شوية يا كوكب. - أطلب الدكتور؟ - لأ، مش ضروري. - يمكن شوية إرهاق؟ - يمكن. - قلت لك يا ماما لازم تستريحي. - ما قدرش يا كوكب. - ليه يا ماما؟ - اتعودت ع الشغل. - اتعودي ع الراحة يا ماما. - مين يصرف ع البيت؟ - أنا يا ماما. - مش كفاية. - كفاية جدا. - مهنة الصحافة يا كوكب على كف عفريت. - لكن أنا مستقرة في شغلي يا ماما. - ما فيش أمان في الزمن ده، فيه جرانيل كتيرة جديدة عاوزة محررين ومحررات، طيب يا بنتي أقوم أسخن لك الأكل؟ - أكلت في الكافيتيريا ولازم أكمل المقال قبل ما أنام.
أسرعت كوكب إلى غرفتها، خلعت ملابسها، استحمت ثم ارتدت قميص النوم، دخلت فراشها الناعم وفتحت الورقة المطوية:
كوكب، هل يمكن أن نتحدث معا قبل سفرك إلى نيويورك؟
أرجو الاتصال بي في أقرب وقت.
خط يده حروفه دقيقة صغيرة، توحي بالدقة والتردد، متعرجة قليلا فوق السطر توحي بعدم الاستقامة، تكاد تشبه حروف أبيها، لا تميل إلى أبيها منذ الطفولة.
غلبها النوم وهي تفكر في أبيها، يشهد كثيرون أنه إنسان كفء في عمله مخلص للوطن، قضى في المعتقل ستة شهور قبل أن تولد، كانت جريمته المقال الوحيد الذي نشره، يربط فيه بين القوانين الاشتراكية الاقتصادية والديموقراطية السياسية.
قبل أن تستغرق تماما في النوم تذكرت بكري، الرسالة المتبادلة بينهما عبر النظرة السريعة، كانت أقوى تأثيرا من رسالته المكتوبة.
هل يكشف خط اليد حقيقة الإنسان أكثر من عينيه؟ هل تستطيع العين إخفاء الحقيقة أكثر من حروف الخط؟
لم تذهب إلى مكتبها في اليوم التالي، أصابها أرق فلم تغف إلا قرب الفجر، صداع حاد في نصف رأسها يصاحبها دائما مع الشعور بالاكتئاب، سمعت جرس المنبه فانتفضت رعبا، لكنها عادت إلى النوم حتى أيقظها جرس التلفون، جاءها صوت الدكتور طبيبها النفسي: يا كوكب كان معادك امبارح؟ - آه نسيت يا دكتور. - يبقى الحالة أحسن؟ - الحالة زي ما هي يا دكتور. - عاوزة تيجي النهارده؟ - أنا تعبانة في السرير. - تعبانة من إيه؟ - شوية برد وزكام. - استريحي يومين. - حاضر يا دكتور. - وبعدين كلميني. - حاضر.
أغمضت عينيها وغطت في النوم، دخلت أمها توقظها. - رئيس التحرير ع التلفون. - أنا نايمة يا ماما. - قلت له إنك نايمة. - شكرا يا أمي. - قالي صحيها. - باشتغل في عزبة أبوه؟ - قلت له ما قدرش أصحيها. - برافو عليكي يا أعظم أم في الدنيا. - كرامتك يا كوكب فوق الكل.
أمي الوحيدة أحس منذ طفولتي أنها تحبني، في عينيها نظرة مستقيمة غير ملتوية، العيون الأخرى تلتوي إن أطلت النظر إليها، حتى أبي لم تكن عيناه تثبتان في عيني، تنحرف إلى الناحية الأخرى بنظرة جانبية، عيون الناس ومنهم جدي وجدتي وعمي وعمتي كلها تلتوي بحركة غير مستقيمة.
كانت أمي الوحيدة صديقتي وعائلتي ووطني، وكل من لي في الدنيا، الوحيدة التي أحس أنها من دمي وجسدي وعقلي وروحي، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل أمي فقط، لم أشعر أن الوطن هو وطني أو أبي هو أبي لأموت من أجلهما.
في اليوم التالي، جاءها صوت رئيس التحرير: إنتي فين يا كوكب؟ - أنا عاوزة إجازة مرضية يومين. - مش ممكن المفروض تسافري نيويورك. - ما اقدرش أسافر. - ليه؟ - عيانة. - عيانة بإيه؟ - عندي حرارة أربعين والدكتور أمرني أبقى في السرير أسبوعين. - أسبوعين ليه؟ هي أنفلونزا الطيور؟ - ماعرفش يمكن أنفلونزا الخنازير! - اسمعي يا كوكب لازم تحضري المؤتمر في نيويورك. - ماقدرش أسافر. - الوزير قرر إنك تسافري. - أنا مش باشتغل عند الوزير. - كده؟ - أيوه كده.
جسدها ينتفض رعبا، قد يصدر الوزير قرارا بفصلها، في أعماقها تود أن يصدر قرار الفصل وترتاح من عبء كتابة مقالها الأسبوعي، من عبء الكذب على القراء كل أربعاء، إلا أنها في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبها في الجورنال، كتبت مقالها في ساعة واحدة وسلمته إلى المطبعة، اتصلت برئيس التحرير وقالت إنها تحسنت ويمكن أن تسافر لحضور مؤتمر نيويورك.
تحت لمبة النور تواصل فؤادة القراءة من كراسة حميدة، تسرب الحلم الممنوع إلى سريري ذات ليلة، رأيته يمشي خلسة مثل دودة الحرير تحت اللحاف، لم أدون شيئا عن هذا الحلم قبل أن أتعلم الكتابة. «الكتابة» تصرخ أمي «لعنها الله الكتابة.» عبارة واحدة من كلمات ثلاث لم أفهمها، أحس بها فقط حين تنطقها بقشعريرة برد، ورجفة تبدأ أسفل البطن وتنتهي بأطراف أصابعي، حتى بلغت الرابعة من عمري، قبل أن أتعلم الحروف أدركت أن الكتابة مثل جريمة القتل، تؤدي إلى السجن والموت ثم الجحيم بعد الموت (تقول أمي إن بابا يعيش في الجحيم بعد موته في السجن)، أدركت قبل النطق أن ما قبل الموت يمتد إلى ما بعد الموت، حروف الكلمات حين تنطقها أمي تتحول فوق جسدي إلى كائنات حية دقيقة، لها أرجل مشرشرة مثل أسنان المنشار، تترك فوق جلدي بقع دم مريبة، تلتقطها عين أمي في البيت وعين الله في السماء، وعيون الجيران المتلصصة من شقوق النوافذ والأبواب، قبل أن أتعلم الكتابة أدركت أنني أعيش رهن الرقابة الدائمة، عيون كثيرة تطل على سريري في اليقظة والنوم، في الأرض والسماء (كانت الأرض تبدو ممدودة في السماء لتصبح جزءا منها)، تصورت أن أبراج المراقبة الكونية تدون تفاصيل الحلم من تحت اللحاف، في خيالي صورة لها ترضعني، قطرات لبنها تملأ فمي مع دموعها، لم أفرق بين لبن الأم ودموعها في طفولتي المبكرة، كلاهما دافئ ناعم أبتلعه من دون وعي، حتى تعلمت تركيز نظرتي لأدقق الرؤية، أصبحت أفرق بين عين أمي وحلمة ثديها، لولا صورة أبي فوق الجدار لتصورت أنه لم يكن موجودا، كل الأشياء تبدو لي غير موجودة حتى أحسها بيدي، لا أكف عن ملامسة الصورة بأصابعي داخل إطارها الأسود؛ لأدرك عن يقين أن أبي عاش في الحقيقة، حتى اليوم بعد أن قاربت الثلاثين يبدو أبي حلما ... أسمع أمي تهمس لجارتنا فتحية «عنيدة زي المرحوم أبوها.» تقرب فتحية فمها من أذن أمي «راكبها عفريت اسمه الكتابة.» بعد أن تعلمت لغة الكلام عرفت أن ضمير الغائب في أحاديثهما الهامسة يعود إلي «أنا»، أحيانا ألتقط اسمي حميدة حين تسقط كلمة من بين أسنانهما المضمومة في لعاب داخل فم واحد، أتظاهر أنني لم أسمعهما، أخشى عقاب أمي (لم أتخيل في الحقيقة أنها أمي)، تقرصني في ذراعي أو فخذي، قرصتها لادغة غائرة تترك في اللحم حفرة حمراء تصبح زرقاء، لم يكن لشفتيها قدرة على الابتسام حين تلتقي عيناها عيني، كان أبي في الصورة يبتسم لي دائما، إن غيرت مكان الصورة فوق الجدار أو غيرت مكاني فوق الأرض، لا تتغير ابتسامة أبي، كنت أقضي الساعات في غرفتي، أغلق بابي بالمفتاح وأخلو إلى أبي، أنظر إلى صورته من الزوايا كافة، من اليمين واليسار والوسط، أصعد فوق الخزانة لأنظر إليها من فوق، أهبط إلى الأرض وأرقد فوق بطني لأنظر إليها من تحت، لم تتغير ابتسامة أبي ولا النظرة في عينيه المشعة بالضوء.
كنت مشغولة بسؤال يراودني قبل النوم وبعد النوم، يمتد النوم في اليقظة دائما، والحلم يمتد في النهار أيضا، أسأل نفسي منذ الرابعة من عمري (حتى هذه اللحظة لم تتغير الأسئلة منذ طفولتي): هل أحببت أبي لأني أحبه أم لأني أحب نفسي؟ هذا السؤال كان يراودني كالإثم كلما وقعت في الحب، أول حب في حياتي كان حب الله، ثم سمعت أمي تهمس في أذن فتحية «ربنا وضع بابا في السجن.» بعد موت أبي سمعتها تقول: «بابا مات في السجن بإرادة ربنا.» هكذا شفيت من الحب الأول.
الحب الثاني والثالث
كان الحب الثاني في حياتي لأبي، وكان الحب الثالث لأمي، تصورت أن أبي يستحق الحب أكثر من أمي، كان الناس ينادونني باسمه، يمتد الحب من الجسم إلى الاسم، كان لي زميل اسمه عوضين، يهمس في أذني: كان والدك وطنيا عظيما لكن ... يصمت طويلا، يرمق رجال الأمن عند المدخل، ترتجف أصابعه رجفة غير مرئية، ألتقطها بعين سحرية في عصب بالمخ، لم أسمع أحدا يتكلم على حاسة تزيد على السادسة، احتفظت بالسر لنفسي، خشيت أن يتهموني بخفة العقل أو الجنون، لم تعجبني النظرة في عيني عوضين، لكن عينه كانت مثل مغناطيس، يلتقط جسدي من ذرات الكون الهلامية، يخصني بالحديث عن الرئيس المستبد، والحكومة الفاسدة، والانتخابات المزورة، وينتهي حديثه معي بتركيز عينه على نهدي الأيسر.
كان بيتنا من غرفة واحدة في بدروم إحدى العمارات، تحيط بها عمارات الجيران، منها عمارة الحاج منصور، انتقلت أمي إلى البدروم بعد موت أبي، بقالة الأب جرجس كانت خلف المكتبة، الجامع عند الناصية الشرقية له منارة أو مئذنة تمتد إلى السماء، والكنيسة عند الناصية الغربية لها جرس يرتفع إلى الرب، كلمة «الرب» تعني «الله» بلغة ماريانا ابنة جرجس، قالت: الرب شيء والله شيء آخر. أمي أصبحت ترتدي الحجاب ثم النقاب، وبدأت تضع كلمة الله في كل عبارة تنطقها، الله يرحم بابا يا حميدة، الله يرحم جدك، الله يرحمنا جميعا، الله يغفر لنا ذنوبنا، إرادة الله فوق إرادة الجميع، في شهر رمضان تزيد أمي من نطق كلمة الله، وتدوي كلمة الله من الجامع المجاور وكل الجوامع وكل الإذاعات ...
بيت كوكب كان لونه أبيض، من دورين تحيط به حديقة كبيرة، يلتف حولها سور حجري تتسلقه أشجار الياسمين والبوجانفيليا من كل الألوان، «الجهنمية»، شرفات البيت واسعة مرفوعة على أعمدة مستديرة في نعومة الرخام، في الحديقة الخلفية ثلاث غرف، أكبرها للسائق، الوسطى للطباخ، الصغرى لامرأة كبيرة السن سمينة بيضاء البشرة، تناديها كوكب «دادا»، مكتبة الحاج منصور تجاور البيت، يفصلها عنه مشتل كبير للزهور ضمن أملاك الحاج، فوق باب المكتبة يافطة سوداء مكتوب عليها بحروف بيضاء «هذا من فضل الله»، كانت المكتبة تنمو العام وراء العام مع حركة السوق، ظهرت يافطة أكبر فوق اليافطة الأولى مكتوب عليها «سوبر ماركت الإيمان»، تأخذني كوكب إلى داخلها المزدحم بالناس مثل خلية النحل، يصيبني الدوار وأنا أمشي في الممرات الطويلة المتشعبة، أتطلع حولي بعينين نائمتين في الحلم، الرفوف اللانهائية تحوي كل نعم الله، أغدقها الله على الحاج منصور، من الإبرة إلى الصاروخ، كما تقول فتحية، تؤكد أن الله يعطي من يشاء بغير حساب، تمشي كوكب أمامي مزهوة بثراء أبيها، كان أبي لا يملك شيئا إلا راتبه الصغير، أرسم على وجهي ابتسامة الانبهار، ثم تتقلص عضلات وجهي بتكشيرة، لم تفهم كوكب قط تقلبات وجهي، قلت لها إن الثراء الفاحش هو نتاج ظلم فاحش. هذه العبارة عثرت عليها في أوراق أبي، لكن كوكب كانت تؤمن بأن الخير يأتي من عند الله وبأن الفقر يأتي من عند الله، أصبح عوضين يردد كلامها، لم يعد يقترب مني أو يتكلم على أبي، يتبادل ورجال الأمن الابتسام، أصبح يركب السيارة مع كوكب حتى بيتها، يساعدها على كتابة مقالاتها الركيكة، كان لكوكب أصدقاء كثر، لكنها تزوجت نائب رئيس التحرير، اسمه بكري، جاءتني بالبريد دعوة إلى حضور حفلة زفافهما في فندق هيلتون النيل يحضرها الوزير ورئيس التحرير، أرسلت إليهما باقة ورد مع كلمتين «تهنئتي القلبية»، ثم دخلت الحمام لأغسل طبقة من الرماد تلتصق بجلدي، كانت حروف الكذب تتناثر من حولي، تتساقط رمادا على جسدي، أحك جلدي بالليفة والماء الساخن، أستبدل الليفة بالفرشاة ذات الأسنان السلكية الخشنة، يلتهب جلدي تعلوه كدمات مدماة وجروح، من دون أن يزول التراب، تظل الكلمتان الكاذبتان «تهنئتي القلبية» تسريان من أذني إلى رأسي، تختلطان بشعيرات الدم الدقيقة على نحو ذرات رماد لا يمكن غسلها ...
قبل أن تملك كوكب السيارة كانت تركب حنطورا له مظلة كبيرة تختفي تحتها، ما عدا قدميها المكشوفتين اللتين أراهما داخل حذائها الجلدي الناعم اللامع ذي الرأس المدبب، كلما مر الحنطور في جواري وأنا أمشي في الشارع، يكاد يدوسني لولا رنين الجرس المعلق في عنق الحصان، وسرعتي في القفز بعيدا عن العجلات بالرغم من حقيبة كتبي الثقيلة، كانت حرارة الشمس تذيب الأسفلت فيصبح طريا كالعجين، يغوص فيه كعب حذائي فينخلع من قدمي لحظة القفز، تدوسه إحدى العجلات فيغوص أكثر، أضع حقيبتي على الرصيف لأشده من الأرض بيدي الاثنتين، ثم أدس قدمي فيه وأسرع إلى المدرسة، لم تكن هذه العملية تستغرق دقيقة واحدة، لكن العيون في الشارع كانت ترقبني، وكذلك العيون الأخرى في أبراج المراقبة التي لا أراها، لكني أعرفها وأكاد أراها لولا سطوع الشمس، كانت كوكب تسبقني إلى المدرسة راكبة الحنطور، أسمع من بعيد حوافر الحصان تدق الأرض، صوت الكرباج يلسع الهواء قبل أن يسقط على جسده، لا تنتفض عضلة في جسد الحصان ولا شعرة، يندفع إلى الأمام يشق الهواء برأسه الشامخ فوق عنقه القوي الذي لا ينحني، يتحول رأس الحصان في الحلم إلى رأس أبي، تسبقني كوكب إلى الفصل كما تسبقني في الامتحان، تجلس دائما في الصف الأول، تقيم المدرسة لأبيها احتفالا كبيرا آخر العام، كان يتبرع بمبلغ خمسة آلاف جنيه لمجلس الأهل في المدرسة كل سنة، تحول إلى ألف دولار بعد أرباحه في البورصة، كنت أفرح حين أمرض وأغيب عن المدرسة، أجلس في الصف الأخير، في جوار نافذة خلفية صغيرة، مفتوحة على السماء، أتطلع نحوها لأسرح بعيدا من المدرسة والبيت والجيران والحنطور وكوكب وأبيها، تراودني صورة أبي الميت في السجن، تتكور الدموع في حلقي كالغصة فأصمت طوال الحصة، أتابع بزاوية عيني اليمنى حركة شفتي المدرس، لكن عيني اليسرى في ناحية النافذة حيث أرى طفلة فقيرة تمشي في الشارع أظن أنها أنا، أصبحت لي هذه القدرة على الفصل بين العين اليمنى واليسرى، كل عين ترى شيئا، وأصبحت صورة الطفلة الفقيرة تشغل نصف عقلي الأيسر، يراجع نصف عقلي الأيمن الدروس وأنجح في الامتحان آخر العام بدرجة مقبول، تقول كوكب إنها أذكى مني لأنها تنجح بامتياز أو أقله جيد جدا، وتقول إنها ورثت الذكاء من أبيها؛ لأن الصفيح يتحول في يده ذهبا، لكن أبي لم يكن ذكيا في نظرها؛ لأنه لم يعرف كيف يجمع الفلوس ومات في السجن فقيرا منبوذا ...
كنا نخرج من المدرسة الساعة الخامسة والنصف، والشمس لا تزال ساطعة ساخنة، في شهور الشتاء يحل الظلام قبل الخامسة، أعود إلى البيت حاملة حقيبة كتبي الثقيلة، كنت أخاف الظلمة لأن الأرواح والعيون الخفية تتخفى فيها، أنظر خلفي وأنا أمشي، حيث كنت أتخيل أن أحدا يمشي خلفي، أو عينا ترقبني؛ إذ إنني رأيت مرة شبحا طويلا يمشي ورائي، تملكتني رغبة في الجري لكني تجمدت في مكاني كتمثال، كان قلبي ينتفض لكن عضلات وجهي تحجرت، توقف الشبح أمامي يرمقني بعين واحدة، أما الثانية فلم تكن موجودة، بدت العين الواحدة مرعبة أكثر من عينين اثنتين، تصورته كائنا غير بشري، قبل أن أجري تحول جسدي إلى صخرة، العين الواحدة بيضاء تماما ترمقني، تشبه عين الله حين يغضب إن لمست يدي تحت اللحاف الجرح المفتوح في جسدي، أغمض عيني وأحدق إلى العين الواحدة بكل قدرتي على التحديق من تحت الجفون، أصبحت أثق بأنني أحمل أبي في أحشائي، تنطلق من عيني روحه مثل لسان من اللهب أو النار، تحميني النار من الشبح الراكض خلفي في الليل، كانت الأشباح كلها تتبدد حين أحدق إليها بعيني أبي الميت، أو تتراجع أمام نظرتي المسدلة جفونها ...
كانت ماريانا جرجس في المدرسة تجلس عن يساري، وفاطمة عبد الله تجلس عن يميني، كان لأبيها محل للحلوى خلف الجامع، نشترك نحن الثلاث في المقعد الخشبي، لكل منا درج ليس له قفل نضع فيه كتبنا وكراريسنا وأقلامنا، وما نحضره من البيت من طعام، كانت والدة ماريانا تحشو لها رغيف الفينو بالجبنة الرومية والبسطرمة من بقالة أبيها جرجس، وكانت والدة فاطمة تلف لها فطيرة بالسكر الناعم، أو قطعة جاتو تعلوها طبقة من الشيكولاتة من محل أبيها الحلواني، في أثناء الفسحة كنا نخرج إلى الحوش لنأكل، كنت أجلس وحدي على دكة خشبية خلف الفناء في جوار المكتبة، لم يكن معي شيء آكله، أخرج من دون فطور في السابعة صباحا، وأعود إلى البيت لأتناول العشاء، كان الجوع يقرصني في فسحة الغداء، أقضي الوقت في المكتبة حتى يرن الجرس، تمر ساعة الغداء من دون أن أحس بها وأنا أقرأ، كنت أرفض أن آخذ أي طعام من أحد، أحيانا تأتي كوكب أو ماريانا لتجلس معي، قد تقدم لي واحدة منهما قطعة من الساندويتش، أو إصبع موز أو نصف برتقالة، كنت أدعي أني أكلت، مرة واحدة قرصني الجوع ورائحة البسطرمة تفوح، ناولتني ماريانا قطعة من الساندويتش فأخذتها، كان يمكن أن آخذها منها لأنها صديقتي، فاطمة تقول عنها إنها نصرانية «عضمة زرقا مصيرها جهنم الحمرا.» أما كوكب فسوف تدخل الجنة لأن أباها زار قبر الرسول محمد، وفي عيد الأضحى يرسل إلى الفقراء مصارين الخروف ...
كانت فاطمة عبد الله توزع الكعك في العيد بعد شهر رمضان، تعطي كل بنت كعكة واحدة، إلا كوكب تحظى بكعكتين اثنتين، لم تكن تعطيني شيئا، ترمقني وأنا جالسة على الدكة وحدي، تمر أمامي مع بعض البنات، تهمس لهن بشيء فأسمع ضحكاتهن من بعيد، ذات صباح رأيت كلمتين محفورتين بسن القلم فوق المقعد الخشبي أمامي «بنت الشيوعي» صعد الدم إلى رأسي وارتج قلبي تحت ضلوعي، كلمة شيوعي رنت في أذني رنينا شائنا، حرف الشين ينطوي على الشر، تبدأ بحرف الشين كلمات مثل شريرة، شقية، شيوعية، شيعية، شعبوية، شيطانية، شبقية، لم أكن أفهم هذه الكلمات حتى دخلت المدرسة الثانوية، لكن كلمة الشيوعية التصقت بي، أصبح الأطفال في الشارع يرددون ورائي: بنت الشيوعي أهه أهه. تجرأ صبيان الشوارع على قذفي بالطوب، أو شد حقيبتي من يدي، أو شد حلمة ثديي من فوق المريول، أصبحت كلمة الشيوعية جزءا من اسمي محفورة في جسدي، تطاردني في النوم واليقظة، من المدرسة إلى المعهد، حتى بعد أن بدأت العمل في المطبعة، لم تكف الكلمة عن مطاردتي، كانت فاطمة عبد الله تضع في درجها علبة ملأى بالأقلام، تتهامس دائما مع الزميلة الجالسة أمامها أو خلفها، مددت يدي في لحظة خاطفة وأخذت من العلبة قلما أزرق، لم تلحظني فاطمة أو أي زميلة في الفصل أو المعلمة، كانت تتطلع خلفها إلى السبورة فلم ترني، تعودت الكتابة بقلم حبر أزرق، ثم بدأت أستخدم الأقلام الجافة الزرقاء، أشتريها من المكتبة مع الورق الأبيض غير المسطر، أحيانا أدس القلم في حقيبتي من دون أن يراني أحد، قلبي ينتفض وألهث من الرعب، أخرج من المكتبة بخطى بطيئة ثابتة كأنما لم أقترف جريمة، بعد أن أصبح في الشارع أجري إلى البيت ضاغطة تحت إبطي الحقيبة، داخلها الكنز الثمين، تجتاحني سعادة طاغية فأغني في البيت، أرقص أمام المرآة، سعادتي بالقلم الأزرق الجديد الذي لم أدفع فيه شيئا، وسعادتي بالإفلات من رجال البوليس، جريمة السرقة والفضيحة والسجن نجوت من الثلاثة بإرادة الله، أومن بالله حين يغمض عينه عن جرائمي، أتحسس القلم في يدي، ناعم حنون كصدر أمي، أمر به على السطح الأملس مغمضة العينين، تذوب الحروف الزرقاء في الورقة البيضاء في أثناء النوم، أدونها في الظلمة تحت اللحاف من دون أن أفتح عيني، يظهر اللون الأزرق واضحا فوق السطح الأبيض، يتسرب ضوء خافت من تحت اللحاف، يمشي ناعما تحت جفوني له دفء الدموع، أرى أمي تصحو من النوم، تجلس أمام المرآة تصفف شعرها بمشطها المربع من العاج الأبيض، عيناها مكحلتان، أنفها من الجانب مرفوع، أبي في هذه اللحظة يكون واقفا وفي يده كتاب، يرتفع الكرباج في الجو محدثا صفيرا يشبه الريح، يسقط الكرباج فوق رأس أبي الواقف دوما، من دون أن يسقط الكتاب من يده، ومن دون أن تتحرك عضلة أو شعرة في جسده، يظل واقفا برأسه المرفوع والكتاب في يده، مات أبي مرفوع الرأس قبل أن أصحو من النوم، قبل أن أرسم ملامحه بالقلم، قبل أن أتعلم الكتابة، كان الجيران يحكون عن أبي: كان المرحوم شامخ الرأس مثل جواد جامح، رأيت شعر أبي في النوم لونه أبيض كلون الحصان، كوكب داخل الحنطور لا يظهر منها إلا حذاؤها اللامع تحت المظلة، يرتفع الكرباج في يد الحوذي ثم يسقط فوق رأس الحصان المرفوع، يظل الحصان شامخا يشق الكون نصفين، من دون أن ترتعش في جسده شعرة أو ينحني رأسه ...
في الليل تجلس سعدية فوق المرتبة وفي جوارها ابنتها هنادي نصف نائمة ونصف غائبة فيما يشبه الغيبوبة، منذ عملية الإجهاض لم يكف النزف، فقدت هنادي الكثير من وزنها، أصبح وجهها طويلا شاحبا وعيناها ازدادتا حجما واتساعا واشتعالا، تود أمها لو تضمها إلى صدرها، لولا الإحساس الغامض بالكره، لم تعرف سعدية أن الأم يمكن أن تكره ابنتها، أو أن الإحساس بالكره يمكن أن يتحول إلى غصة، إلى حبة فول تسد حلقها، حصاة أو قطعة زلط في حذائها تحك باطن قدمها، تتراكم أحزانها وأوجاعها منذ ولدت، وتتجمع في نقطة ملتهبة أسفل ضلوعها فوق المعدة، تضغط عليها بإصبع واحدة فتحس بأن المرارة تمتد من حلقها إلى أحشائها.
آه يا رب! كيف تصمت على هذا القهر المتراكم فوق ظهر امرأة واحدة، حتى كادت تبرك على الأرض كالجمل ينوء تحت حمله؟
كيف تبدد الأمل الوحيد الباقي في حياتها؟
الأمل الوحيد
كانت هنادي هي أملها الوحيد بعد أن راح ابنها، زوجها، وكل من كان لها.
ترمق ابنتها بكره، سلبت منها ابنتها الأمل، نهشت حلمها الباقي، كسرت قلبها وزادت من العبء حتى انقصم ظهرها، خانت أمها وكذبت عليها، آه يا هنادي تفعلين ذلك بأمك التي ماتت من أجل أن تكوني امرأة محترمة، لو أنك اعترفت لأمك بالحقيقة.
فتحت هنادي جفونها، رأت النظرة في عيني أمها فارتعدت، أيمكن أن تضربها أمها بالشومة فوق رأسها كما فعلت مع أبيها؟ كانوا ينادونها في السجن سعدية القتالة، تعتكر عيناها أحيانا وتطل منهما هذه النظرة القاتلة المرعبة. - صاحية يا هنادي؟ - أيوه يا أمي. - ليه تخبي عن أمك الحقيقة؟ - خايفة يا أمي. - خايفة من مين؟ - خايفة منهم؟ - مين هم؟ - مش عارفة.
انتقلت سعدية وابنتها من الغرفة في الزقاق إلى الخيمة في ميدان التحرير، لم تعد قادرة على تسديد إيجار الغرفة، لم تعد قادرة على مواصلة الذهاب يوميا إلى بيت الأستاذة، جاءت الأستاذة إلى الخيمة، تحمل لهما الطعام والفاكهة لكن سعدية تقول لها: لا يمكن أن آكل إلا من عرق جبيني يا أستاذة. - إنتي بتشتغلي يا سعدية وده حقك. - أنا مش قادرة أشتغل وبنتي عيانة. - بكرة هنادي تخف وتبقى زي الحصان. - ربنا يسمع منك يا أستاذة. - الدوا ولع نار يا سعدية. - كل الأسعار ولعت. - خدي السلفة دي. - أنا لسه باسدد السلفة اللي فاتت. - إنتي واحدة من العيلة يا سعدية. - كتر خيرك. - وهنادي زي بنتي داليا، الاتنين مولودين في السجن مش فاكرة؟ - أيوه فاكرة يا أستاذة. - الدنيا برد في الخيمة. - الخيمة أدفا من البيت. - أيوه صحيح. - الناس كتير حوالينا كأننا عيلة واحدة. - داليا عاوزة تعيش معاكم في الخيمة. - معانا بنات كتير من عمرها وعمر هنادي. - المظاهرات جمعت ناس كتير. - تعالي الخيمة إنتي كمان يا أستاذة. - كفاية علينا المظاهرات أنا وشاكر. - إنتو عملتو خير كتير، ربنا يحميكم يا رب. - لكن الخيمة حلوة ودافية يا سعدية. - بوجودك يا أستاذة. - فاكرة أيام السجن يا سعدية؟ - كانت حلوة، أحلى من عيشة الزقاق.
وتضحك فؤادة وسعدية كأنهما صديقتان حميمتان، كما كانتا تضحكان في السجن، الأسفلت تحت الخيمة يشبه الأسفلت في السجن، تجلسان متجاورتين فوق الأرض لا شيء يفرق بينهما، إلا أن فؤادة ترتدي بالطو من الصوف المتين وسعدية لا ترتدي بالطو.
قبل أن تغادر الخيمة خلعت فؤادة البالطو، وغطت به هنادي الغارقة في النوم.
فتحت هنادي جفونها في الصباح، عيناها حمراوان تتطلعان إلى قطعة من السماء تطل من باب الخيمة، تسمع الهتاف يدوي في الميدان، يسقط النظام.
سخونة شديدة تتدفق من قلبها إلى عنقها إلى رأسها، وبرودة شديدة تجعلها تنتفض مع العرق الغزير الذي يجري إلى قدميها، تحس بأنهما شيء خارج جسدها، أمها في جوارها تغطيها بالبالطو الصوف وبشالها الأخضر، تدلك قدميها المثلجتين حتى يجري فيهما الدم. - آه يا بنتي لو تقولي الحقيقة يمكن ربنا يشفيكي.
كانت هنادي تخاف على أمها من الحقيقة، لكن هتاف الملايين بأنفاسهم الساخنة المحمومة، كأنما أذابت القفل الحديدي في رأسها، وامتدت السخونة من رأسها إلى صدرها وبطنها حتى الجرح النازف أسفل البطن.
عادت إليها ذكرى اليوم المشئوم حين كانت واقفة في المطبخ تصنع كوبا من اليانسون لشاكر بيه، كانت الأستاذة فؤادة في الإسكندرية مع ابنتها داليا في إجازة نصف السنة ولن تعودا إلا نهاية الأسبوع، وكانت أمها سعدية تعاني الوجع في عظام ظهرها، فأرادت أن تأخذ إجازتها السنوية، أرسلتها أمها بدلا منها لتنظف البيت وتطبخ البازلاء التي يحبها البيه، وتكوي ملابسه وجواربه.
كان شاكر بيه مستلقيا في السرير داخل منامته الحريرية البيضاء يئن بصوت خافت، دخلت هنادي حاملة الصينية فوقها كوب اليانسون تتصاعد منه الأبخرة والنكهة المنعشة، وضعتها فوق الكوميدينو في جواره، ثم وقفت تنتظر لعله يأمرها بشيء آخر. - هاتي الإزازة من الدولاب في الحمام، مكتوب عليها فاليوم عارفاها؟ - أيوه طبعا عارفاها.
أسرعت هنادي إلى دولاب الأدوية الزجاجي، تعلمت بعض الكلمات الإنكليزية في معهد الكومبيوتر ومن الأستاذة فؤادة، تقرأ بسهولة كلمة فاليوم فوق الزجاجة، وكثيرا ما كانت تنظف الدولاب وتمسح الغبار عن علب الأدوية، وتتدرب على قراءة الحروف الأجنبية. - برافو عليكي يا هنادي إنتي بنت ذكية.
ابتسمت هنادي في سرور؛ إذ قلما تسمع كلمات مدح من شاكر بيه، هاتي الكرسي واقعدي هنا عاوز أسألك سؤال. - حاضر يا بيه.
وقفت هنادي قرب الكرسي من دون أن تجلس، لم تتعود الجلوس على الكراسي في البيت، لم يكن لديها الوقت لتجلس، وإن شعرت بالتعب فهي تجلس فوق السجادة على الأرض كما ترى أمها تفعل. - مبسوطة في المعهد يا هنادي؟ - أيوه. - أهم حاجة التعليم، والمستقبل أصبح للكومبيوتر. - أيوه.
يرشف شاكر بيه من كوب اليانسون، يا سلام اليانسون بتاعك ممتاز ممكن يعالج أي مغص، واقفة ليه يا هنادي؟ اقعدي. - حاضر.
تجلس هنادي على طرف الكرسي في حرج.
أنا عندي اجتماع مهم في الحزب الليلة لكن مش حاقدر أروح، يضع يده على بطنه ويتأوه، آه مش عارف سبب المغص ده إيه؟ يمكن تسمم غذائي. - بعد الشر عنك يا بيه. - كل شيء في البلد بقه مسمم، الأكل والهوا والميه، نظام فاسد مش كده يا هنادي؟ - أيوه يا بيه الناس كلها بتقول كده والمظاهرات بتهتف يسقط النظام. - بتمشي في المظاهرات يا هنادي؟ - أيوه لما يكون عندي وقت أروح الميدان مع المظاهرات. - لازم تخلقي الوقت للثورة يا هنادي، النظام ده لا يمكن يسقط من غير ما كل الناس تشارك في المظاهرات. - حاضر يا بيه.
يبتسم شاكر: حاضر يا بيه، كل حاجة حاضر يا بيه، إنتي مطيعة أوي لازم تتمردي تثوري شوية. - حاضر يا بيه.
يضحك شاكر بصوت عال، لأول مرة تسمعه يضحك بهذا الصوت. - إنتي عارفة يا هنادي إن كلمة بيه دي سقطت من القرن الماضي، وما فيش بيه ولا باشا والناس كلها ولاد تسعة، كلنا بنتولد بعد تسع شهور في البطن.
زمت هنادي شفتيها، لم تسمع شاكر بيه يتكلم بهذه اللهجة، رنت كلمة البطن في أذنها كأنها نابية، تأوه شاكر بيه وهو يضغط على بطنه، لو كانت مراتي تعرف واجبها تجاه زوجها ما كانتش تسافر وتسيبه تعبان، لكن طبعا هي الأستاذة الكاتبة العظيمة وأنا الزوج الغلبان، يعجبك الحال المعكوس ده يا هنادي؟ الست تبقى الراجل والراجل يبقى الست؟ - أنا مع تحرير النساء لكن الست لازم تفضل ست فيها أنوثة زيك يا هنادي.
تشعر هنادي بالارتباك، رنت كلمة أنوثة في أذنها نابية، لم يحدث أن سمعت مثل هذا الكلام من شاكر بيه، لم يحدث أن تكلم بهذه الطريقة على زوجته، كان يمدحها في كل مناسبة، يقول إنها أعادته إلى الحياة بعد عزلة السجن، شجعته على أن يفكر ويكتب بحرية، ومن هي حتى تقول رأيها فيما يخص حياته مع زوجته الأستاذة؟
إنها ليست إلا ابنة الخادمة، صحيح أن أمها سعدية تتمتع باحترامهما وثقتهما على مدى سنوات، لكنها تظل الخادمة، وهي أصبحت طالبة في معهد الكومبيوتر لكنها تظل ابنة الخادمة، إلا أنها شعرت بشيء من الزهو ليصبح لها رأي يستمع إليه شاكر بيه، لكن إحساسها بالزهو يشوبه إحساس بالغضب منه، كيف يمدح زوجته في حضورها ثم يذمها في غيابها؟
قرأ شاكر بيه التعبير على وجهها فتراجع قليلا.
أنا آسف يا هنادي إن خرجت مني كلمات غير لائقة في حق زوجتي المحترمة، لكن المغص، الألم في الجسم ممكن يؤثر في العقل.
أطرقت هنادي تفكر، كانت الأستاذة فؤادة أقرب إليها من شاكر بيه، وابنتهما داليا أقرب إليها من أمها وأبيها، هي الوحيدة التي تجعلها تجلس على الكنبة في جوارها في غيابهما، وتعطيها نصيبها بالتساوي من الشيكولاتة والبسبوسة، بعد داليا تأتي أمها الأستاذة فؤادة، تسألها عن أحوالها في المعهد، تشجعها على الاهتمام بدراستها والتخرج لترفع العبء عن كاهل أمها المكدودة.
اللحظة الخاطفة
لم يكن شاكر بيه ينظر ناحية هنادي فما باله يتبسط معها في الحديث ، أو يشكو لها من زوجته، لأول مرة يتحدث معها بهذه الطريقة، ربما يعاني الألم ويطلب مساعدة ما.
أحست هنادي بشيء من الشفقة نحوه، عضلة تحت ضلوعها لانت له وتحمست للمساعدة، جلست في الكرسي تفكر وعيناها منكستان تنظران إلى قدميها السمراوين الخشنتين تطلان من الشبشب، كانت مثل أمها تخلع حذاءها المتسخ بتراب الزقاق ما إن تدخل البيت، تخفي الحذاء تحت دولاب المطبخ، وتنتعل الشبشب الأصفر البلاستيك الذي أعطتها إياه الأستاذة، لا تنتعله إلا في البيت.
كان هو مستلقيا فوق السرير تطل قدماه البيضاوان الناعمتان من المنامة الحريرية، فصعدت عينيها إلى وجهه المحتقن بحمرة الدم، يبدو عليه الألم.
خطر لها للتخفيف من ألمه أن تدلك قدميه كما كانت تفعل مع الأستاذة حين تتورم قدماها من طول الجلوس خلف المكتب، تقول الأستاذة عن التدليك ماساج، أسرعت إلى الدولاب في الحمام وعادت ممسكة زجاجة زيت اللوز، جلسة ماساج واحدة وتخف يا شاكر بيه، زي الأستاذة.
ابتسم شاكر واسترخى في السرير فاتحا ساقيه.
كان لزيت اللوز الممزوج بالكولونيا رائحة ناعمة تشبه الموسيقى الحالمة التي تبعث في الجسم خدرا لذيذا. - الأستاذة كانت بتحب الزيت ده.
أغمض شاكر عينيه وهو يئن بصوت خافت. - الله يا سلام الماساج ده شيء ساحر! - الأستاذة كانت دايما تقول كده.
تقلصت عضلات وجهه فجأة وقال بغضب: الأستاذة، الأستاذة، ما عندكيش غير الأستاذة؟ هي الأستاذة دي ربنا سبحانه إذا كان ربنا موجود؟
انتفضت هنادي في الكرسي وكفت يديها عن الحركة، لم تسمع في حياتها أحدا يتشكك في وجود ربنا سبحانه. - أستغفر الله العظيم يا شاكر بيه. - متأسف يا هنادي أنا مش طبيعي النهارده، يمكن التسمم الغذائي ... - أعمل لك كمان كوباية يانسون؟ - أظن أن التدليك أحسن من اليانسون يا هنادي. - حاضر يا بيه. - إيه حكاية بيه دي؟
ارتجفت يداها وهي تدلك قدميه. - اطلعي فوق شوية يا هنادي، أيوه فوق السمانة ومفاصل الركبة آه، أيوه كده. - انت جواك تعب كتير يا أستاذ شاكر.
شعرت بثقة أكثر بنفسها حين قالت أستاذ بدلا من بيه.
سكبت قطرات الزيت فوق ركبتيه وراحت تدلكهما بحماسة، سمعته يتنهد ويهمس. - أيوه جوايا تعب كتير، الألم في كل جسمي، إنتي خبيرة في الماساج، أكثر من المتخصصين.
أرادت أن تضحك في سرور لكنها ابتسمت وقالت: المتخصصين درسوا الماساج زي ما أنا بادرس الكومبيوتر، كل شيء عاوز علم ودراسة. - برافو عليكي يا هنادي، الفرق بين الدول هو العلم والدراسة. - أيوه أمي دايما تقول كده، ولما أتخرج من المعهد هاشتغل ع الكومبيوتر وأمي تستريح من الشغل، حلم حياتي أن أمي تستريح.
لم يسمع شاكر بيه ما قالته هنادي لأنه كان ينقلب بجسمه فوق وجهه، كاشفا عن ظهره. - سلسلة العمود الفقري عاوزة تدليك قوي جدا يا هنادي. - حاضر يا أستاذ.
تحركت يداها فوق ظهره بقوة، بدت يداها أكثر سمرة وخشونة بالنسبة إلى ظهره الأبيض الناعم، يبدو بياضه شاحبا أبيض كأنما ليس فيه قطرة دم، مثل لون عجين العيش الفينو، أو لون الجير الأبيض على الحيطان النظيفة.
لأول مرة في حياتها ترى ظهر رجل نظيفا، ليس مثل ظهور الرجال في الزقاق، تطل من تحت قمصانهم البالية مسودة مشعرة خشنة كأنما من خشب مشقق، بدا ظهر شاكر بيه أبيض ناعما طريا مثل رغيف فينو من الفرن الإفرنجي. - آه يا سلام إيديكي فيها سحر يا هنادي.
ينتفخ صدرها زهوا بقدرتها على منحه كل هذه اللذة والراحة، كانت يداها تدلكان ظهره بقوة، تنزعان عن عضلاته السموم، تخرجان من بين فقراته التعب والإرهاق، شعرت هنادي بقوتها وأهميتها، تلاشى شاكر بيه المتكبر المتجهم القديم، أصبح تحت يديها شاكر آخر أكثر مرونة تستطيع أن تجدده بيديها، ليصبح إنسانا جديدا أو زوجا أفضل للأستاذة فؤادة، هي تستحق زوجا إنسانا يراعي مشاعرها، كانت تسمع شجارهما أحيانا من وراء باب غرفتهما المغلق، كانت ترى الأستاذة جالسة حزينة، أحيانا تلمح الدموع في عينيها، تفكر ماذا تقول لها لتخفف عنها، لكنها تسكت، تتذكر نصيحة أمها، يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا ريحتها.
هنادي منهمكة في تدليك ظهر شاكر بيه، الممدود في استسلام تحت يديها، يداها تتحركان كأنما بقوة إلهية أو شيطانية قادرة على نزع السم من ناب الثعبان، انزلي شوية يا هنادي، عند الفقرات اللي تحت في السلسلة. - حاضر.
وهبطت يداها تدلكان الفقرات أسفل ظهره، تتحرك أصابعها بحرص حتى لا تلمس الشق بين أليتيه، أول مرة في حياتها ترى ظهر رجل وأليتيه، تشعر بضيق في التنفس لكنها تواصل التدليك بهمة وحماسة، وانقضت لحظات لم تسمع فيها صوته، كأنما سقط في النوم، ثم رأته ينقلب فوق ظهره وأصبحت يداها فوق صدره الأملس بدون شعر، تدلكان الترقوة والعضلات بين ضلوعه الناعمة الدقيقة التي تكاد تتكسر تحت قوة عضلات يديها السمراوين، ازداد إحساسها بقدرتها على التحكم في جسمه فاشتدت حماستها لإتقان عملها، حتى بدأت أنفاسه تسرع بوتيرة غريبة مفاجئة، فتحول الزهو بنفسها إلى رهبة غامضة، ثم تحولت الرهبة إلى فزع حين رأت شاكر بيه يشدها إلى السرير لتصبح راقدة فوق ظهرها وهو يضغط كتفيها إلى أسفل، ليصبح نهداها تحت صدره وبطنها تحت بطنه، كانت اللحظة خاطفة فانخطف بصرها وتوقفت أنفاسها، فلم تشعر إلا بيده تفتح فخذيها ويدخلها بقوة جعلتها تطلق صرخة مكتومة من الرعب واللذة والألم، والمقاومة والخضوع والإثم والخوف والرفض والعبودية والاستسلام اليائس، كأنما هو القضاء والقدر جثم عليها وزهق روحها، أو كأنه هو الرب ذاته أمرها ونفذ الأمر، الرب الذي خلقها والذي يحييها ويميتها ويمنحها الحياة أو يقصف عمرها ولا راد لإرادته، ودب الصمت في أذنيها مثل صفارة طويلة ممدودة بين السماء والأرض، كأنما فرغ الكون من البشر والكائنات الحية وغير الحية، إلا هو وهي الاثنان الوحيدان اللذان يعيشان بعد سقوط القنبلة النووية فوق الكون، حتى أمها سعدية زالت من الوجود.
شاكر بيه فوقها تسمعه يهمس أوه يا إلهي أوه ... يتحرك داخل أحشائها وهي تضغط على شفتها السفلى، تكتم الألم حتى نزفت شفتها الدم، حاولت أن تدفعه بعيدا عنها لكن قوة أكبر منها كانت قد سحبت منها قوتها، والألم الحارق بإرادة الله واللذة الخارقة بإرادة الشيطان.
كان جسده يتلوى من تحتها مثل قرموط ثعبان بشرته ملساء بيضاء ناعمة، ما إن تقبض عليه حتى ينزلق تحت العرق الغزير وزيت اللوز، يفلت من بين يديها كالسمكة في البحر.
أفاقت من الغيبوبة وعادت إلى الوعي، رأته نائما فوق ظهره أو نصف نائم، فمه مفتوح في ابتسامة معوجة، يهذي بكلمات متقطعة مبتورة، أنا آسف أنا مغلوب على أمري ... مراتي غالباني ... مراتي لوح الثلج ... أصلها كاتبة مش امرأة ... يلعن دين الكتابة ...
دق جرس الباب أو جرس التلفون أو جرس دراجة في الشارع تجمد كل منهما في مكانه، فتح عينيه كأنما يصحو من النوم أو الموت، أمرها أن تذهب إلى المطبخ ونهض هو إلى الباب، لكنه انتبه إلى أنه ليس جرس الباب، بل جرس التلفون.
كانت ابنته داليا تتكلم من الإسكندرية. - داليا حبيبتي، وحشتيني.
كانت تسمعه وهي واقفة وراء الباب تمسح الدم من بين فخذيها بفوطة مطبخ قديمة، تندهش لقدرته على تقمص دور الأب، أن ينفصل عما حدث ويعود إلى شخصيته القديمة، أرادت أن ترفع يدها وتصفعه على وجهه، لكن يدها امتدت وأمسكت يده، أرادت أن تقبل يده وتقسم له أنها فتاة شريفة لم يلمسها أحد قبله، لكن يدها تجمدت في الهواء، وقفت عاجزة عن الحركة، عاجزة عن النطق، تحس كأنما هي غير موجودة، أصبح وجودها عبئا عليها أكثر من وجوده. - واقفة كده ليه يا هنادي؟ ولعي السخان بسرعة عشان آخذ حمام، واغسلي ملاية السرير.
ارتجفت أصابعها وهي تشعل عود الكبريت، تدخله في ثقب السخان فينطفئ، تشعل عودا آخر فينطفئ، وأخيرا نجح العود الثالث في إشعال السخان.
رأته يمشي عاريا ويدخل الحمام، أسرعت إلى غرفة نومه، رأت بقع دمها فوق ملاءة سريره، نزعتها وكورتها في يدها كأنما تخفي جريمة، وفي الحوض دعكتها بالماء الساخن والصابون حتى تلاشت كأن لم تكن، سمعته يدندن تحت مياه الدش بلحن لا تعرفه.
جلست على البلاط في ركن المطبخ تحس بالبرودة مع الألم تنفذ إلى عظامها، والدم يسيل من بين ساقيها على البلاط الأبيض، دمها يلوث أرضه النظيفة كما لوث ملاءته البيضاء المكوية، ومياه الدش الغزيرة تغسل جسده الأبيض الناعم من رائحة دمها الفاسد، رائحة الدم تتبعها مثل ظلها، فوق الأسفلت في الميدان، والدم في السجن فوق الأسمنت، والدم في المستشفى، والدم في الزقاق وفي كل مكان، تضع وجهها بين يديها وتبكي من دون صوت، تخشى أن يسمع نشيجها وهو في الحمام، تفكر في أمها فيرتعد جسدها، خرج من الحمام وارتدى البذلة الأنيقة المكوية، وانتقى الجورب الذي ينسجم لونه مع لون ربطة العنق، يتحرك في البيت بخفة، يصفر فمه وهو يمشط شعره كأنما لم يحدث شيء منذ دقائق، وكأنما لم يحطم قلب فتاة صغيرة، وسوف يحطم قلب أمها المكدودة، قبل أن يخرج قال لها: اسمعي يا هنادي اللي حصل حصل، إحنا الاتنين كان لازم نفكر بعقل، لكن نعمل إيه للشيطان، غلطة وفاتت وربنا يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك به، مش لازم حد يعرف اللي حصل، عشان سمعتك ومستقبلك.
في الخيم
تكورت أمها سعدية تحت الخيمة فوق الأسفلت، لم تعد تسمع الهتافات المطالبة بالقصاص من القتلة والمجرمين، وبسقوط النظام، لفت ذراعيها وساقيها حول نفسها لتتقي الرجفة التي شملت جسدها وعقلها وروحها، مثل الحمى تجتاحها رغبة ملتهبة في الانتقام الآن في هذه اللحظة من المجرمين جميعا، وعلى رأسهم هذا الرجل الذي يرتدي مسوح القديسين، والذي قضى على حلمها وحلم ابنتها في حياة فضلى، تفك ذراعيها وساقيها فيندفع جسدها خارج الخيمة صارخة اقتلوهم، اقتلوه. ثم يتهاوى جسدها إلى الأرض، تنتفض مثل الفرخة المذبوحة ثم يسكن جسدها من دون حراك، تتلفت حولها في ذهول، لا تعرف ماذا تفعل، ثم تنهض وتدخل الخيمة، تتكور فوق الأسفلت في جوار ابنتها تنشج من دون صوت، لم يكن أحد في الخيمة في أثناء النهار، فالجميع خرجوا في التظاهرات، الشباب والشابات من مختلف المهن والطبقات، والأطفال من مختلف الأعمار وكبار السن من النساء والرجال، ومنهم الكاتبة بدرية البحراوي، تركت بيتها مثل الآخرين وأقامت معهم في الخيمة، تهتف معهم: يسقط النظام.
أصبحت الخيام في ميدان التحرير الملجأ للكثيرين والكثيرات ممن ليس لهم بيوت أو ممن سئموا حياتهم في بيوتهم.
رقدت سعدية تنتفض من الكره المتراكم في جسدها منذ ولدت في الفقر والقهر والهوان، تحاول ابتلاع ريقها الجاف، في حلقها يتجمع الكره مع الرغبة في الانتقام كالغصة، تتحول المشاعر المكبوتة إلى ورح من اللحم يسد حلقها ويمنعها من التنفس، تشهق كأنما تختنق تخرج أنفاسها مثل صوت مشروخ بكلمات متقطعة ... إزاي يا رب تعمل فينا ده كله؟ فين العدل فين الرحمة؟
تذكرت سعدية ما حدث في حياتها، زوجها الحشاش في الغرزة، ابنها المريض يموت بين ذراعيها، ابنتها تنزف في عملية الإجهاض، الطابور الطويل أمام الحنفية في الزقاق، مفاصل ظهرها تئن فوق الأسفلت، تسري الكراهية من حلقها إلى عمودها الفقري، تمشي في عروقها مع الدم مثل رءوس الدبابيس، تنخس ظهرها وبطنها وذراعيها وساقيها.
آه يا رب! إزاي انخدعت في الراجل ده؟ شكله من بره ملاك ومن جوه شيطان؟ دخل السجن عشان الغلابة والمساكين؟ آه يا نصاب، نصبت على الناس كلها حتى على مراتك الأستاذة فؤادة الست الطيبة؟
انتفضت عضلة تحت ضلوعها بلذة قادمة، حين تكشف حقيقته للأستاذة، لكنها تفكر، تتراجع، لا يمكن أن تتسبب بكل هذا الألم للأستاذة، التي منحتها الصداقة والرعاية وكانت كريمة معها ومع ابنتها، أيمكن أن تهدم حياتها المستقرة مع زوجها ولهما ابنة وطفل مقبل في الطريق، الأفضل أن تواجهه وحده، أن تنزع بيديها القناع عن وجهه وتبصق عليه، لن تكفيها البصقة، لا بد أن تصفعه، لن تكفي الصفعة، لا بد أن تضربه على رأسه بالشومة كما فعلت مع زوجها، لكن إذا مات يا سعدية فسوف يأخذونك إلى السجن، وتصبح ابنتك هنادي وحيدة في هذا العالم، ابنتها هنادي قطعة من قلبها كما كان ابنها قطعة من قلبها، أقدمت على قتل زوجها من أجل ابنها، ويمكن أن تقتل شاكر من أجل ابنتها، أما هو فلا قلب له، يقدم على قتل ابنه بدم بارد بعملية الإجهاض؟
لم يطرف له جفن وهو يقول لها: يجب أن تجري هنادي العملية، كيف لأب أن يقتل طفله في رحم فتاة صغيرة بريئة شاركها في الفراش؟
ألم يشعر بتأنيب الضمير؟
تتكور سعدية حول نفسها، تسمع من بعيد الهتافات، كان شاكر يمشي بين المتظاهرين وهو يهتف ضد الظلم والفساد، أيمكن أن يهتف ضد نفسه؟ أم أنه لا يعرف ما يفعله؟ وكيف لا يعرف وهو يملك العلم والمعرفة والقوة والسلطة؟
إنه يملك كل ما لا تملكه هي، الخادمة الفقيرة الجاهلة، سوف تعطيه درسا في الأخلاق والإنسانية، فالأخلاق والإنسانية ليس لهما علاقة بالعلم والقوة والسلطة، بل العكس يا سعدية، تقل الإنسانية والأخلاق بازدياد العلم والقوة والسلطة، سوف تؤكد لشاكر بيه أن كرامة ابنتها لها ثمن غال، وأنه لا يمكنه امتهان ابنتها وسلب شرفها ومستقبلها من دون أن يدفع الثمن، ليس بالمال يا شاكر بيه؛ لأن كنوز الدنيا لن تعوض ابنتي ضياع حلمها للانعتاق من حياة الزقاق العفنة، والسكن في شقة نظيفة فيها سرير ومطبخ وحمام فيه ماء، وأنها هي أمها المكدودة من التعب، التي انكسر ظهرها تحت العبء ونزفت دما حتى أوشكت على الموت، لن تقف في الطابور الطويل كل يوم ساعتين لتملأ الصفيحة، وسوف تأخذ حقها وحق ابنتها بيدها.
أيوه يا سعدية برغم أنك لا تقرئين ولا تكتبين ولم تدخلي مدرسة، لكنك تعرفين عن ضميره الغائب وقلبه الفاسد أكثر مما هو يعرف، أكثر مما تعرف زوجته الأستاذة الكاتبة المتعلمة التي تشاركه في الفراش كل يوم.
تخبط سعدية بيدها السمراء المشققة فوق الأسفلت، تخبط الأرض الصلبة بيد أصلب من الأرض، تستمد القوة من صلابة الأسمنت تحتها في الخيمة، من أصوات الملايين التي تهتف: يسقط الفساد والظلم. تشعر سعدية بقوة جديدة تغزوها في مواجهة شاكر بيه، يمكنها بكلمة واحدة تخرج من بين شفتيها أن تهدم حياته وتخرب بيته، أن تحرمه سعادة الحياة مع زوجة محبة مخلصة له وابنته داليا الرقيقة الحنون وابنه القادم في الطريق.
أيوه يا سعدية لا بد أن تحطمي هذا الرجل كما حطم حياة ابنتك، ولا تدعيه يستمر في تحطيم البنات الأخريات.
تهب سعدية واقفة تنفض عن جلبابها التراب، ابنتها هنادي سقطت في النوم، غطتها بالشال الصوفي الأخضر الباهت الذي أعطتها إياه الأستاذة فؤادة في بداية الشتاء.
تخرج سعدية من الخيمة ومن الميدان، يدب في جسمها نشاط مفاجئ ودماء حارة تتدفق في عروقها، لم تعد تشعر بالآلام في ظهرها أو وجع المفاصل، تمشي بخطى واسعة سريعة، ظهرها مستقيم، عيناها مرفوعتان نحو السماء تتحديان الآلهة والشياطين.
هو الذي فتح الباب حين دقت الجرس، كان مرتديا البذلة الكاملة استعدادا للخروج، بادرها قائلا: الأستاذة في مؤتمر في نيويورك، وأنا مسافر مع داليا إسكندرية، خدي إجازة خمس أيام يا سعدية وتعالي السبت الجاي.
أرادت أن تفتح فمها وتقول شيئا لكن صوتها لم يخرج، كان واقفا محصنا داخل البذلة المكوية ذات الخطوط الحادة القوية حشوة الكتفين تكسبهما سماكة وصلابة، كان واقفا في المدخل محصنا بالبيت وبالجدران التي فوقها اللوحات والمكتبة الملأى بالكتب، يبدو أطول مما كان وأصلب، كأنما هو مصنوع من حجر، أو جبل لا يمكنه الصعود إليه فكيف ترفع يدها وتصفعه؟ أو تجري إلى المطبخ لاختطاف السكين من الدرج وغرزه في قلبه؟ أو تفتح فمها وتبصق عليه؟
ظلت واقفة أمامه تنتفض داخل جلبابها القديم الباهت، تنظر إلى قدميها السوداوين المتشققتين داخل شبشبها المتهرئ من البلاستيك. - تحبي أوصلك بالعربية يا سعدية؟
هزت رأسها بالنفي من دون أن تنطق.
القاهرة أم نيويورك
كانت الشمس مشرقة في مدينة نيويورك، والنافذة الكبيرة تكشف مساحات الخضرة الممتدة إلى الأفق، تملأ الكاتبة فؤادة رئتيها بالهواء النقي، عيناها تمتصان الخضرة بشهوة الظمأ إلى اللون الكثيف الأخضر مبللا بقطرات مطر أو ندى خفيف، بلورية رقراقة، فصوص لؤلؤ تهبط في الليل فوق الأشجار، تمتصه الأغصان والأوراق الخضراء عند الفجر، قبل خروج القرص الأحمر الساخن من بطن الأرض.
جفونها ثقيلة تسقط فوق عينيها المرهقتين في إغفاءة قصيرة أو طويلة، تتلاشى اللحظة الحاضرة والعشرة آلاف ميل التي قطعتها الطائرة بالأمس عبر البحار والمحيط، من قارة أفريقيا إلى قارة أمريكا، تعود ذاكرتها إلى الوراء حين كانت طفلة في التاسعة من العمر، في المدرسة الابتدائية، تظن أن قريتها هي كل الدنيا، قرص الشمس تظنه يولد من بطن الأرض، وقطرات الندى تهبط من السماء بأمر الله، كان الطريق الزراعي يمتد طويلا من البيوت الطينية المتلاصقة السوداء، إلى الحقول الخضراء الواسعة الممتدة حتى النيل، كانت تمشي عند الفجر وفي جوارها عبد الجليل ابن عمتها، يجر الجاموسة بحبل طويل ومن خلفه العنزة الصغيرة، التي كانت تنطلق من دون قيد تسبقهم إلى الحقل، فروتها بيضاء مثل القطن، إلا رأسها وذيلها فلونهما أسود، تتقافز هنا وهناك، ذيلها يهتز فرحا بحريتها، ربما تحمد الله لأنه خلقها عنزة وليس جاموسة يجرونها بالحبل.
كانت فرحة بحريتها كالعنزة، لا يجرها عبد الجليل بحبل، تسبقه إلى الحقل برغم أنه أكبر منها وساقاه أطول من قائمتيها، لكنه مقيد بحبل يربطه بالجاموسة البطيئة، تشده إلى الوراء من حين إلى حين لترعى العشب على جانبي الطريق، يسخر عبد الجليل من نفسه كعادة الفلاحين في مصر منذ عصور السخرة ويقول: أنا مربوط مع الجاموسة بالحبل يا فؤادة. تشفق عليه في أعماقها، مسكين عبد الجليل، أبوه فلاح فقير لم يدخل مدرسة، وأمه تشتغل في الحقل وتعجن روث الجاموسة، يداها متشققتان وكعباها سوداوان كلون الأرض، تجري على الطريق الزراعي، تشكر الله في سرها، لا بد أن الله يحبها أكثر من عبد الجليل، ابن الفلاح الفقير، وهي تحب الله أكثر من الآلهة الآخرين، رأت صورهم في كتاب التاريخ بالمدرسة، رع وآمون وأوزوريس وإيزيس ومعات، كان أجدادها في مصر القديمة يؤمنون بهم.
تنطلق ساقاها الممشوقتان تسابقان الريح، جسمها خفيف تكاد تطير كالعصفورة لولا جاذبية الأرض، لا تطير إلا مسافة محدودة ثم يسقط جسدها مشدودا إلى أسفل بقوة خفية، يساورها غضب خفي من الله، يحب الطيور أكثر من الناس فمنحها أجنحة؟
لكن الغضب سرعان ما يتلاشى خوفا من عقابه وناره الحارقة بعد الموت.
يبدو موتها بعيدا عنها أو مستحيلا، تنطلق، تجري بين الأشجار على جانبي الطريق كأنما إلى الأبد.
قطرات الندى فوق الأوراق الخضراء تلمع شفافة رقيقة، ثم تتبخر فجأة مع طلوع الشمس، تندهش لسرعة تغير الأشياء من حولها، لحظة بعد لحظة تختفي أشياء وتظهر أشياء، تتغير ألوان الشجر والأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم، تتغير رائحة الزرع في الحقول والزهور والهواء، تتألق الأضواء على صفحة النيل وتتكسر وتخبو، تتغير حركة الموجات الصغيرة تهبط مع التيار من الجنوب إلى الشمال، تنبهر، تندهش، ثم تزول الدهشة والانبهار ويصبح كل شيء عاديا، عيناها بالرغم من تعب الرحلة الطويلة تتسعان بدهشة طفولية، يتلاشى الزمان والمكان في غمضة عين، والأهل والوطن والجغرافيا والتاريخ، كل شيء من حولها يتغير، حتى جسدها على المقعد في جوار النافذة، لم يعد جسد الطفلة التي كانت تسابق الريح، أصبحت كاتبة وامرأة ناضجة زوجة وأما، جسدها لا يزال قويا مشدود العضلات، لكنها لم تعد تسابق به الريح، ترتدي قميص نوم جديدا غير مألوف، اشتراه لها جورج نلسون في المطار، قال الموظف في شركة الخطوط الجوية الأمريكية وهو يقرأ من شاشة الكومبيوتر أمامه: نحن في أشد الأسف على تخلف حقيبة الأستاذة في مطار القاهرة، وسوف تصل الحقيبة صباح الغد على طائرة أخرى، ثم اتجه إليها وقال: يمكنك يا أستاذة شراء ما تحتاجين إليه هذه الليلة من ملابس داخلية، تسدد الشركة ثمنها تعويضا من تأخر الحقيبة، لكن أرجوك لا تشتري قميص نوم شهرزاد بألف دولار.
ضحك الموظف كاشفا عن أسنان بيضاء لامعة تشبه الصور في الإعلانات عن أنواع معجون الأسنان الأمريكية، يتكلم لغة إنكليزية بلكنة أمريكية شمالية متآكلة الحروف.
لم يضحك جورج نلسون، ربما لم تعجبه الفكاهة غير المناسبة للأستاذة المصرية، يغازلها موظف المطار بالطريقة الأمريكية الفجة، يتصنع خفة الدم، يخاطبها كأنما هي أنثى جذابة مثل شهرزاد ونساء ألف ليلة وليلة، وهي أستاذة ذات قيمة أدبية محترمة.
ضحكت فؤادة متخففة قليلا من التعب، وسألت موظف المطار: ماذا تعرف عن شهرزاد؟
قال الموظف بسرعة كمن حفظ الكلمات عن ظهر قلب: كانت زوجة الملك شهريار أخضعته لإرادتها بذكائها، وأنقذت حياتها وغيرها من البنات، قرأت القصة في المدرسة الابتدائية ولم أنسها قط. - برافو مستر؟ - اسمي ديفيد. - برافو يا مستر ديفيد.
جورج نلسون واقف في جوارها، وهي تملأ الأوراق الخاصة بحقيبتها المفقودة، تشعر بوجوده، كما شعرت به في أول لقاء منذ عشرة أعوام، لها قرون استشعار منذ الطفولة، ورثتها عن جدة بعيدة من جداتها القديمات، أقدم من الجدة معات، قبل آمون وأخناتون، لم يكتشف العلم مصدرها، أو الجينات التي تكونها، ويمكن توارثها عبر آلاف الأجيال، هناك فئات من البشر تلقاهم فؤادة مرة واحدة في العمر، ولا تنساهم، وهناك فئات أخرى، تلقاهم ألف مرة، ولا يبقى لهم في ذاكرتها أثر.
جورج نلسون، بقي في خيالها بدون أن تعرف السبب، أمه بيضاء كاثوليكية من كندا، أبوه مسلم من السنغال، جده الكبير أرثوذوكسي من إيطاليا، وجدته الكبرى بوذية من الهند، خليط من الدماء، يرفع بعض الناس فوق الحدود المرسومة، لكن الأمر ليس تعدد الهوية أو الدماء المختلطة المنابع فحسب، بل هناك شيء آخر غامض ربما هو الحضور أو الوجود.
لم يتغير إحساسها بوجوده منذ عشرة أعوام.
السؤال يدور في رأسها.
إحساس ينبع من أين؟ مكان غامض في عقلها؟ في الجسد أو الروح؟ ذبذبة خفيفة في صمام البطين داخل القلب؟
بطرف عينها ترمقه وهو واقف في جوارها، يده اليمنى فوق الطاولة، أصابعه طويلة ممشوقة، مفاصله بارزة قليلا، ظهر يده أحمر اللون محروق بالشمس، تتخيله في قريتها يشتغل بالفأس مثل عبد الجليل الفلاح ابن عمتها، أو في النادي الرياضي قابضا بيده على مضرب التنس، طويل القامة مستقيم الظهر، يرتدي قميصا أبيض من دون ربطة عنق، وبنطلون رصاصي أدكن اللون، تتركز الزرقة في بؤرة عينيه وهو ينظر إلى موظف المطار، ويسأله: وما حدود ثمن القميص الذي تستطيع شركتكم دفعه للأستاذة؟
قال الموظف: مائة وخمسون دولارا أو مائتان على الأكثر.
يحمل جورج نلسون لقب بروفيسور، أستاذ دكتور، كان في استقبالها في المطار، ليس من عمله استقبال أحد، لكنها تحتل مكانة خاصة عنده لا يعرف ما هي بالضبط، لم يلتقها منذ عشرة أعوام، كانت فؤادة مرهقة بعد الرحلة الطويلة من أفريقيا إلى أمريكا، ولا يمكنها التجوال في سوق المطار لشراء القميص، بادر إلى القول: هل أنوب عنك ؟ أتثقين باختياري؟
هزت رأسها بالإيجاب.
عاد إليها بعد نصف ساعة بقميص حريري شفاف ثمنه مائة وثمانون دولارا، صاحت: هذا القميص يناسب فتاة مراهقة ليلة زفافها، كما أنني لا أنام إلا في قميص من القطن المصري طويل التيلة. وضحكت. - ومن أين أحصل على هذا القطن هنا في أمريكا؟ - ألا تستولون يا جورج على القطن المصري مثل الاستعمار البريطاني؟
ضحك جورج. - نحن في الحقيقة أشد شراسة من الاستعمار القديم.
هذه المشاكسات حدثت بينهما منذ أول لقاء، ينتمي مثلها إلى الفكر الاشتراكي الناقد للاستعمار والسوق الحرة والعولمة، مؤلفاته ومحاضراته حرضت الطلاب والطالبات على المشاركة في التظاهرات ضد النظام الرأسمالي والحروب الاقتصادية والعسكرية، تركها جالسة مسندة رأسها إلى الحائط، عيناها محمرتان قليلا نصف مغلقتين، راح يبحث في السوق بالمطار، عاد إليها بعد نصف ساعة ومعه قميص مكتوب عليه «مائة في المائة» من القطن. - شكرا يا جورج.
ضحكت، تتخفف من الحزن، في أعماقها حزن غامض متراكم، وتحت ضلوعها ترفرف عضلة صغيرة فرحا بشيء جديد، أهو القميص من القطن المصري مائة في المائة؟
بالرغم من نعومة القميص والتعب، أصابها الأرق تلك الليلة، فتحت جفونها تنظر إلى السماء من خلال الزجاج المغلق، بدت السماء المظلمة السوداء هي سماء القاهرة، تذكرت أن الشمس تطلع في مصر قبل أمريكا بسبع ساعات، في القاهرة الآن الضوء ساطع في منتصف النهار، يغلبها الحنين إلى طفلة ولدتها في الوطن ثم ماتت وهي تحبو، أو إلى جدة قديمة عاشت وماتت قبل أن تولد.
تتقلب في الفراش الوثير الذي له نكهة معطرة تنعشها قليلا، يقفز خيالها فوق القارات والبحار والمحيطات وجسدها تحت الغطاء.
هل كانت أمس في القاهرة؟ هل هي اليوم في شمال الولايات المتحدة الأمريكية؟ يعود إليها الشك الطفولي في ما حولها، كأنما العالم الخارجي غير موجود إلا في خيالها، أو أنه يتغير ويتشكل وفق مزاجها وإرادتها، انتهى الليل وطلع النهار، أشرقت الشمس قوية دافئة تشبه شمس قريتها، بعض سحب بيضاء قليلة في الشمال ناحية كندا، الهواء مشبع بالخضرة المروية برائحة تشبه طمي النيل أو طين الترعة، تحمل قريتها معها أينما سافرت، لم تعش في القرية إلا فترة قصيرة من طفولتها، جذورها راسخة في الأرض، في خلايا عقلها، يستحيل اقتلاعها من ذاكرتها وإن أرادت، مدينة القاهرة مجرد فرع من القرية، مهما قويت وتجبرت القاهرة تضيع من ذاكرتها، تنساها بالرغم من أنها ابتلعت حياتها كالحوت، ابتلعت مراهقتها وشبابها وعمرها كله، حوت ضخم من الأسمنت المسلح، مدينتها عاشت عمرها في جوفها الحديدي وكرهتها، تود الفرار من فكيها القابضين على عنقها من دون جدوى، تسحقها المدينة التي يسمونها القاهرة، المقهورة بحكامها، القاهرة لأهلها منذ قرون السخرة والعبودية، وصلت حقيبة ملابسها في اليوم التالي حتى غرفتها في الفندق، في الدور الثلاثين تطل على مدينة نيويورك وناطحات سحابها جاردن فيليج، فندق من خمسة نجوم لا ينزل فيه إلا الشخصيات الكبيرة، والأستاذات والأساتذة من ذوي الدرجات العالية، لا يقبل عقلها فكرة أنها واحدة من هذه الطبقة المتجمدة فوق القمة، ربما يكون جورج نلسون غير هؤلاء، في أعماقها تنتمي إلى المعذبين في الأرض، ليست فقيرة مثل عبد الجليل ابن عمتها أو الفلاحين في قريتها، لكن هل تخرج طفلة من قرية مظلمة مدفونة في بطن النيل؟
كل شيء من حولها يبدو عاديا، رأته من قبل، في حياة أخرى، يلوح لها وجه أمها غارقا في الدماء، ثم يتلاشى كالحلم.
تصحو فؤادة من النوم غارقة في العرق، ترتعش من البرد، لا تعرف أهي مدينة القاهرة أم نيويورك، تحمل غرفتها الرقم واحد في الدور الثلاثين، تطل نوافذها الكبيرة الزجاجية على الخضرة الدكناء، والأشجار الكثيفة الأغصان والأوراق، وزهور متعددة الألوان، عيناها تمتصان الخضرة والألوان، محرومتان من الخضرة والألوان على مدى السنين، منذ أن تركت القرية وأصبحت من أهل المدينة، بدت القاهرة من نافذة الطائرة على شكل كتل من الأسمنت والخرسانة والحجر والطوب، مساحات من البيوت المتلاصقة الممتدة إلى ما لا نهاية، بحثت عيناها عن شجرة واحدة من دون جدوى، يأكل الأسمنت الشجر والزرع؟ تزحف الصحراء إلى الوادي وينكمش النهر؟ لم يعد النيل هو الإله القديم ، أصبح خطا رفيعا يتلوى كالثعبان، مخنوقا وسط كتل صلبة لونها كلون القطران.
يعني جاردن فيليج باللغة العربية «قرية الحديقة» هي الحي الأخضر في هذه المدينة على غرار «جاردن سيتي» في القاهرة.
مدينتها لا يمكن الفكاك منها، مدفونة في بطن عقلها تحت خط الفقر والمرض والجهل، الثالوث المزمن، قبل أن تولد لم يكن يحمل لقب «صاحب الجلالة» إلا الله والملك، فاروق الأول ملك مصر هو الأخير من حكامها غير المصريين، آخر سلالة محمد علي باشا، الجندي الألباني، الذي حكم مصر عشرين عاما، كانت هي تنطلق خارج الرحم تشهق بأول نفس، ومصر تنطلق من تحت الحكم العبودي، يغني الراديو: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، مصر مصر أمنا، يرتفع صوت جمال عبد الناصر يعلن الحرب على الثالوث المزمن الاستعمار والإقطاع والرأسمالية المستغلة.
كانت طفلة تحبو حين سمعت صوت عبد الناصر يعلن تأميم قناة السويس، الراديو يبث أناشيد النصر الوطني، تنجذب عيناها إلى البريق في عيني عبد الناصر، أنفه يبدو لها أطول من اللازم، وصوته يهز جدران الراديو والبيت، أمها تنصت إلى خطب عبد الناصر وتصفق فرحا حين خرج الإنكليز من مصر ويوم تأميم قناة السويس.
كان خالها محمود يكره عبد الناصر، يقول عنه متآمر مخادع يدغدغ مشاعر العمال والفلاحين بوعود كاذبة بإعادة الثالوث المزمن، الفقر والجهل والمرض.
تختلف أمها معه، تقول له: عبد الناصر اشتراكي مش شيوعي زيك يا محمود. - إيه الفرق بين الاشتراكية والشيوعية يا أختي العزيزة؟ - يسألها بسخرية محاولا أن يكشف لها جهلها، وأنها لا تعرف الألف من كوز الذرة في السياسة. يمتد الحوار بينهما حتى يعود أبوها من الجامعة، ويعلن أن مصر لن تتحرر بالخطب الثورية، اشتراكية شيوعية أو اشتراكية أو إسلامية، كان أبوها يقول: العلم هو الإله، لا تقنعه الأحزاب السياسية، يقول إنها ظواهر صوتية، من حزب الوفد إلى الليبراليين إلى الناصريين إلى الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين.
يلوح بيده ضجرا ويقول: كلهم يتاجرون بمعاناة الشعب الفقير يا محمود. - مش كلهم يا محمد بيه. - مين فيهم مخلص يا محمود؟ - إحنا الشيوعيين مخلصين يا محمد بيه. - يمكن إنت يا محمود مخلص لأنك شاب مثالي، لكن قياداتكم كلها مغرضة.
يأتي عمها مصطفى (شقيق أبيها) في زيارة من حين إلى حين، ويشارك في الجدل الدائر، كان مصطفى عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، يقول: إن الإسلام هو الحل لكل المشاكل.
لا تفهم الطفلة شيئا من النقاش الدائر بين أبيها وأمها وخالها وعمها، قد تعلو أصواتهم الزاعقة وهي نائمة في غرفتها، تتصور أحيانا أن معركة ستنشب، ويضرب كل منهم الآخر بالكراسي أو اللكاكيم، لكن سرعان ما تهدأ أصواتهم، ثم تسمع ضحكاتهم المرحة في غرفة الطعام، واصطكاك أسنانهم وملاعقهم وسكاكينهم، في أثناء تناولهم العشاء الشهي من اللحم المشوي، رأت أمها تبكي ذات يوم وتصب اللعنات على عبد الناصر وأعوانه. - شوية عساكر مجرمين يا فؤادة، حطوا خالك محمود وعمك مصطفى في السجن. الكلمة ترن مفزعة بصوت أمها. - السجن؟
تشرح لها أمها ما حدث، محمود ومصطفى وغيرهما من الشباب في السجون، يعاقبون على نقدهم «سياسة عبد الناصر» بالحرق بأعقاب السجائر المشتعلة، ونفخ بطونهم بالخراطيم والضرب بالشوم. - شوية عساكر مجرمين يا فؤادة.
لم تكن تفهم بعد لا في السياسة، ولا في الشيوعية، ولا الإخوان المسلمين، رأت أمها تبكي ذات يوم، وأبوها يلوح بيده في وجه مذيع الأخبار في التلفزيون ويزعق: هزيمة منكرة مش نكسة يا عبد الناصر يا كذاب.
لم تعرف حينئذ ما الفرق بين الهزيمة والنكسة، كان زميل لها في المدرسة الابتدائية، اسمه جابور، أبوه ملحق ثقافي في سفارة المجر، أمه من أب إسباني وأمها جزائرية وجدتها نرويجية، خليط من الدماء والأجناس يبدو ساحرا، طويل القامة ممشوق الجسم، يلعب التنس ويعزف على الكمنجة، أصابعه طويلة نحيفة ممشوقة العظام.
لم تكن تحب الأولاد من ذوي الأصابع القصيرة السمينة، مثل خالها محمود، كانت أصابعه قصيرة سمينة، تشبه أصابع أمها، عمها مصطفى كانت له أيضا هذه الأصابع القصيرة البضة، بالرغم من أنه شقيق أبيها.
كانت فؤادة معجبة بقامة أبيها الطويلة النحيفة، يمارس الجري والسباحة في النادي، وأحيانا التنس، ورث أبوها قامته الفارعة من جدته، لم تدخل جدته مدرسة، علمت نفسها بنفسها، وكتبت قصائد الشعر منذ طفولتها، كان جابور أول حب في حياة فؤادة من أول لقاء، أصابعه النحيفة تضرب أوتار الكمنجة بقوة، تصورت أنها يمكن أن ترحل معه إلى المجر أو إلى آخر الدنيا.
لم تكشف سرها الخطير إلا لزميلة لها في المدرسة، تسكن في بدروم العمارة المجاورة لها، أبوها عامل فقير في مصنع لكنه أب حنون، يحب ابنته وزوجته، ويشتري لهما الجمبري، تأكل فؤادة مع صديقتها الجمبري الذي تطبخه أمها، تندهش الأم لأن ابنتها لم تصادق من بنات العمارة إلا ابنة العامل ساكن البدروم، كانت تترك لابنتها بعض الحريات غير الضارة، مثل حرية اختيار الصديقات، أما جابور فلم تعلم عنه الأم شيئا، إلا بعد سنوات من رحيله مع أبيه إلى المجر.
يوم الوداع أعطى كل منهما الآخر خصلة من شعر الرأس، خلط كل منهما قطرة دم من إصبع الآخر، تبادلا القسم على الزواج بعد أن يكبرا ويستقلا عن الأب والأم.
شاركت فؤادة، وهي طالبة في الجامعة، في تظاهرات الخبز، نسيت حبيبها القديم جابور بمرور الأيام وحرارة الأحداث، وقعت في حب ماجد أحمد زميلها في الجامعة، لم يكن حبها الجديد «قويا» مثل السابق في المراهقة، ربما نضجت أكثر، أو أن «ماجد أحمد» لم يكن هو الحب.
كان ماجد أحمد متوسط الطول، لم يكن ممشوقا أو رياضيا، لم يعزف على الكمنجة أو العود أو البيانو، لم تكن تهتز حين تراه، كما كانت تهتز حين ترى جابور أو ابن عمتها الفلاح عبد الجليل.
في مفكرتها تحت وسادتها كتبت بالقلم الرصاص: «الحب أمر غامض، يحدث أو لا يحدث، من دون سبب أعرفه.»
علامة الحب فقط تراها، البريق المشع من العينين، تراه في عيني من تحبه أو من يحبها، هل شعرت أن ماجد أحمد يحبها؟
ربما كان معجبا بها، كان لها بعض معجبين في الجامعة لا تنتبه إليهم، بالرغم من عدم اهتمامها بهم، أو بسبب ذلك، كانوا يهتمون بها، لم تحس بوجودهم كجنس آخر، ربما تأثير أمها وأبيها فيها، غرس فيها بذور الطموح في العلم أو الأدب، ليس في الزواج والأطفال.
في المدرسة الثانوية، تفوقت بالرغم من انغماسها في الحب، لا تنسى واجب المدرسة ومراجعة دروسها، تحب أن تحل مسائل الحساب وعمليات الجبر والهندسة، وعلم الأحياء والكيمياء، لكن أكثر ما تحب هو الأدب الإنكليزي والعربي، روايات فيرجينيا وولف ومي زيادة.
كانت تحصل على أعلى الدرجات في الأدب، يتنافس المدرسون والمدرسات في استعارتها إلى فصولهم حين يأتي مفتش اللغة العربية أو الإنكليزية، يجلسونها في الصف الأول، تجيب عن أسئلة المفتش، يصفق لها ويهنئ الفصل بها، يمنح المدرس أو المدرسة تقريرا ممتازا، وبعد انصراف المفتش تطرد فؤادة إلى فصلها.
اكتسبت في الجامعة مكانة بين الأساتذة وزملائها، تنافس في حبها ثلاثة من الطلاب، وأستاذها د. يوسف عبد الله طلب يدها من أبيها زميله في الجامعة.
كان الدكتور يوسف في السبعين من العمر، يدرس الأدب العربي، من أشعار عمر الخيام إلى قصائد أبي نواس، يضع وردة حمراء في عروة البذلة الأنيقة من الصوف الإنكليزي، يصبغ شعره الأبيض بالحناء السوداء مثل كبار رجال الدولة، كان يشرف على رسائل الماجيستير والدكتوراه للطلبة والطالبات، في يوم من أيام الربيع ضبط في أحد المدرجات الخالية بمحاولة تقبيل طالبة، لم ينله أي عقاب، لكن الطالبة فقدت سمعتها وأخرجها أبوها من الجامعة.
لم تكن فؤادة تطيق النظر إليه، قصير القامة مترهل الردفين، ذو كرش بارزة، ناعم الصوت مع الطالبات، خشن قاس مع الطلبة، كان صديقا لأبيها بالرغم من الاختلاف بينهما، يزورهم في البيت أحيانا، تسمعهما يتناقشان في الصالون في السياسة أو الأدب أو أي شيء آخر: - إزاي يا يوسف تفكر في بنت من عمر أحفادك؟ - الحب يا محمد. - حب إيه ده اللي يلغي عقلك؟ - شيئان يا محمد لا يمكننا مقاومتهما. - إيه وإيه يا يوسف؟ - الشيخوخة والحب. - كلام فارغ يا أخي وفين المسئولية؟ - الحرية فوق المسئولية يا محمد. - حريتك في المتعة لا تكون فوق مصلحة الآخرين يا يوسف. - الذات أولا يا محمد، ربنا حلل لنا الزواج بأكثر من واحدة، والرسول قال: ابدأ بنفسك. وإلا انسحقت الذات تحت اسم مصلحة الآخرين، أنا ليبرالي مش شيوعي زيك يا محمد. - أنا لا شيوعي ولا ليبرالي يا يوسف، أنا مع الحرية لكن بشرط المسئولية، لا يمكن يا يوسف أن نحقق ملذاتنا على حساب الغير. - ولا يمكن يا محمد كبت رغباتنا ومشاعرنا تحت اسم مراعاة مشاعر الآخرين ورغباتهم، الفرد أولا، لا يمكن سحق الفرد من أجل المجموع. - نعيش في مجتمع إنساني وليس غابة يا يوسف، المصلحة العامة فوق أهواء الفرد، على العموم الرأي يرجع إلى فؤادة هي صاحبة القرار.
صرخت فؤادة فزعا: معقول يا بابا أتجوز العجوز ده أبو كرش؟
بدا ماجد أحمد جميلا رشيقا جذابا إلى جانب أستاذها د. يوسف، لكن ماجد لم يكن قط فتى أحلامها، أهو غياب البريق في عينيه؟
ليس أي بريق، بل البريق الخاص الذي يهز أعماقها على نحو خفي؟
ترك لها أبوها حرية اختيار شريك حياتها بعد التخرج، لم تعرف لماذا تزوجت شاكر، ربما يئست من العثور على فتى أحلامها، أو أدركت أخيرا أنه غير موجود، ليلة الزفاف لم تهتز شعرة في جسدها؟
كان كيانها كله يهتز حين ينظر إلى عينيها جابور، مجرد النظر من بعيد من دون تلامس، كان الحزن الغامض يتسرب إلى أعماقها، يشبه الهزيمة، هزيمتها الخاصة في عمق جسدها، هزائم الوطن كانت سياسية عامة، تؤلمها عقليا، لا تترك جروحا غائرة في القلب أو الروح.
كانت أمها أقرب إليها من أبيها، تفضل الحياة في القرية في بيتهم القديم الذي يسمونه الدار، تكتب قصائدها في الليل وتنشرها أحيانا في مجلة الشعر، ذات يوم أحاط البوليس بالدار وقاد أمها إلى مركز الشرطة، قضت فيه يوما كاملا، من الخامسة صباحا حتى التاسعة مساء، ثم أفرجوا عنها.
رآها أهل القرية تدخل الدار في التاسعة مساء، فتحت الباب ودخلت بقامتها الفارعة المرفوعة، لم تكن شابة ولم تكن عجوزا، كأنما ليس لها عمر، أضاءت مصابيح البيت وجلست في الشرفة المطلة على جسر النيل، توافد عليها أهل القرية مهنئين، أقاموا احتفالا صغيرا بعودتها سالمة من التخشيبة، تبارى شباب القرية في إلقاء قصائدهم، تشجعهم أمها على كتابة الشعر وقراءة ما تنشره الكاتبة بدرية البحراوي.
نشأ الطفل ماجد وحيدا حزينا، أبوه من أسرة متوسطة بسيطة، من الموظفين في الدولة، لم يتميز أحد في أسرته في العلم أو الأدب أو السياسة، يحتل أبوه منصب وكيل وزارة أو مدير عام، ويظل كما هو شخصية باهتة تشبه القرش الممسوح، تصك الحكومة موظفيها مثل قطع العملة أو النقود، فهم شكل واحد، فصيلة واحدة من البشر، يعيش الموظف ويموت من دون أن يتغير شيء في العالم.
لم تختلف أمه عن أبيه كثيرا، تطيع زوجها كما يطيع زوجها رئيسه في الحكومة، اشتغلت أمه في وزارة التعليم (ناظرة أو مديرة إدارة)، كانت توفق دائما بين طاعة زوجها ورئيسها المباشر في العمل.
كانت جدته متفوقة في الدراسة، بالرغم من التربية الصارمة لأبيها، كان أحد أقطاب حزب الوفد القديم، كان ماجد قريبا من جدته منذ طفولته، يناديها «ماما الكبيرة» هي والدة أمه، غرست في عقل حفيدها طموحا إلى الحياة السياسية، السياسة تقود إلى الحكم، لكن الأدب يقود إلى السجن.
تقص عليه الحكايات عن أمجاد أبيها في حزب الوفد، بعضها حقيقي وبعضها من نسج أحلامها: جدك كان راجل عظيم يا ماجد، هو اللي كان ورا سعد زغلول، لولا جدك الله يرحمه لا يمكن كان سعد باشا يقف قصاد الإنكليز، لكن الدنيا حظوظ، جدك كان يكره المظاهر ويحب يشتغل بهدوء وإخلاص، بعيدا عن الدعايات والصحافة.
أصبح ماجد أحمد يتشبه بجده، يعمل بجد بعيدا من الأضواء، لا يتمتع بصفات الزعامة، أو الشخصية القيادية، موظف مجتهد يخدم الزعيم من دون أن يظهر.
لم يكن ماجد في الجامعة من زعماء الطلبة، طالب مجتهد سياسي جاد، يقف كالجندي المجهول وراء الزعيم أو القائد، يلمح فؤادة تمشي في الفناء وسط مجموعة من الطلبة والطالبات، قامتها طويلة كالعنقاء، في عينيها بريق، طموح خفي غير قابل للخضوع، في أعماقه أراد أن يمتلكها، أن يلوي هذا العنق الطويل ويدمي شفتيها بأسنانه ، رغبة دفينة في اكتساب الرجولة، غرستها فيه جدته منذ الطفولة: جدك يا ماجد كان راجل من ضلع راجل، مش زي الرجالة بتوع النهارده، الواحد منهم يمشي ورا مراته ويسمع كلامها، رجالة خرعين أوعى تكون زيهم، ارتبطت الرجولة في عقله بالسيطرة على زوجته وعدم السير خلفها أو سماع كلامها، كما ارتبطت لذة الجنس في أعماقه برغبة الامتلاك، ولذة الإيلام والقسوة، بالرغم من مظهره الهادئ شبه المستسلم كموظف مطيع للرؤساء، أول لقاء بينهما كان في رحلة جامعية إلى معبد أبي سنبل، في قارب على النيل جلس في جوارها، ومن حولهما مجموعة من الطلبة والطالبات، يتحاورون في السياسة في ليلة قمرية تتخللها نسمات نيلية طرية، مع كأس من الشمبانيا، أخرج أحد الزملاء الأثرياء من حقيبته الزجاجة الطويلة ذات العنق الرشيق، فرقعت السدادة في الهواء فضحك الجميع، كان ذلك في نهاية الخريف بعد اغتيال السادات بقليل وصعود مبارك إلى الحكم، مبارك شكله غبي وعبيط، لكنه حويط وغويط، إزاي يا أخي يكون قاعد جنب السادات، كتفه في كتفه، ويخرج من معمعة الرصاص، زي الشعرة من العجين، خرج سليم مية المية من غير رصاصة واحدة؟ - عاوز تقول إنه اتفق مع الأمريكان على خطة الاغتيال؟ - ليه لأ؟ - هما الأمريكان دول ربنا يا أخي، عندهم كل القوى الجهنمية الخفية دي؟ - ليه لأ؟ - نظرية المؤامرة دي خطيرة، شماعة الأمريكان والسي آي إيه والعفريت الأزرق وإحنا يا أخي إيه؟ إيه يا عزيزي؟
ورنت الضحكات على صفحة النيل والموجات الصغيرة تترقرق تحت ضوء القمر. - إيه رأيك يا ماجد؟
كان ماجد قليل الكلام يبدو شاردا حزينا وحيدا بالرغم من الصخب من حوله، لم يشعر باكتمال رجولته بين الرجال، يتفوقون عليه في السيطرة على قلوب النساء، يضحكون، يقهقهون بصوت ذكوري قوي، وهو يبتسم في هدوء، يبدو مترفعا عن السباق في معارك الكلام السياسية، التي يعشقها الطلاب، يبدو عميقا متكبرا على الشباب من عمره، يسمونه الأستاذ ماجد، مزيج من الهزل والجد. - عاوزين نسمع رأي الأستاذ ماجد، اسكتوا يا جماعة.
يظل صامتا، يتأملهم كأنه أستاذ يطل على التلاميذ، يزيدهم صمته تشوقا إلى سماع رأيه.
أخيرا يتكلم ماجد أحمد بصوت هادئ، عميق بطيء، مثل الأساتذة الكبار ويقول: أنا لست ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة يا جماعة، لكن اغتيال السادات مثير للشكوك، هناك أدلة أن السادات كان في شبابه مجندا في المخابرات الأمريكية ويتقاضى أجرا، لكن هل استمر في هذا العمل بعد أن أصبح رئيسا لمصر؟ ثم إذا كان السادات خادما لأمريكا فلماذا تقتله؟
رد الطالب صاحب زجاجة الشمبانيا، واسمه زكي، كان ثراؤه يكسبه ثقة بالنفس وشجاعة، يتحدى ماجد أحمد، ليس في أمور السياسة فحسب، بل أيضا في أمور الحب وجذب انتباه الطالبات، وقد لاحظ أن ماجد حرص على الجلوس في جوار فؤادة، البريمادونا، كما يسمونها، قال زكي: إن السادات أصبح ورقة محروقة في نظر الأمريكان، وبعد ما حقق لهم الصلح مع إسرائيل في كامب ديفيد وزرع الفتنة الطائفية في مصر، اتفقوا على التخلص منه، سواء بالتواطؤ مع مبارك أو من غير تواطؤ، فمبارك في أيديهم في كل الأحوال ويعمل معهم.
سكت الجميع يفكرون ثم قال زكي: إيه رأيك يا فؤادة؟
سألها زكي باهتمام، كان ثريا وسيما تتنافس فيه الطالبات، لكنه غير جذاب لعينيها البراقتين، قالت وهي ترشف الشمبانيا باستمتاع، وتتأمل ضوء القمر على صفحة النيل، وتملأ صدرها بالهواء: الكلام في السياسة يفسد جمال القمر.
هلل الجميع وشربوا نخب الجمال، لكن زكي اعترض متحديا فؤادة، وقال: القمر جميل والسياسة قبيحة فعلا، لكن يا جماعة إحنا طبقة طفيلية عايشين من عرق الفلاحين، إزاي نفكر في القمر الجميل وننسى الغلابة الفقرا؟
ضحكت فؤادة وردت: خلاص يا زكي بقيت شيوعي؟
فانفجر الجميع بالضحك، وأخرج زكي زجاجة ثانية من الشامبانيا. - أنا معاكي يا فؤادة إحنا مش حنحرر الفقرا هما يحرروا أنفسهم بأنفسهم وإحنا نحرر أنفسنا بأنفسنا، ابدأ بنفسك كما قال رسول الله، تحيا الحرية.
ورفع الجميع كئوسهم إلى أعلى، يتخللها ضوء القمر، متكسرا فوق السائل الشفاف، تلك الليلة أكمل الطلاب والطالبات سهرتهم في الفندق، لكن فؤادة انسحبت إلى غرفتها، كانت تشعر بالحزن ، بحرمان غامض من الحب، الرجل الذي يمكن أن يهز قلبها غير موجود؟
نسيت جابور وعبد الجليل وجميع من عرفتهم من قبل، لم تلتق الرجل الذي تحلم به.
من هو هذا الرجل؟ هل له وجود أم حلم؟ ليس هو ماجد أحمد يقينا ولا زكي ولا أحدا من الطلبة أو الأساتذة. دخل ماجد غرفته قرب الفجر بعد السهرة في الفندق، أصابته الشمبانيا بنشوة وشجاعة، فكر أن يسير إلى غرفة فؤادة ويدق بابها، تخيل أنه رأى بريق الحب في عينيها وهي في جواره في القارب، أتنتظره في غرفتها؟
ثم عاد إلى رشده بعد أن خلع ملابسه، نظر إلى جسده في المرآة، بدا جسده العاري ضئيلا هزيلا، وخصوصا القفص الصدري، ضلوعه نحيفة بارزة، صدره ليس عريضا كما تقتضي الرجولة، العمود الفقري مقوس قليلا عند لوحي الكتف، عيناه باهتتان لا يطل منهما بريق، ابتلع لعابا مرا مع فقدان الثقة بنفسه، صعد إلى السرير الناعم الوثير، داعب النوم عينيه المحمرتين من أثر الشامبانيا، امتدت أصابعه المخدرة قليلا تداعب الشيء أسفل بطنه، حركة تعودها منذ الطفولة، انتفض بعد لحظات عدة انتفاضات باللذة الحادة السريعة، ثم سقط في النوم العميق.
الصالة واسعة فيها أريكة فاخرة بيضاء تقابل التلفزيون الكبير المنتصب فوق قطعة أثاث عريق، خشب أسود مشغول برسوم ذهبية، الأريكة والكراسي من الطراز نفسه، خشب يشتد سوادا ولمعانا في جوار الأغطية والجدران الأنيقة الناصعة البياض، ثلاث غرف كبيرة للنوم والأكل والمكتب، المطبخ كبير فيه كل الأدوات الحديثة، والحمام واسع أبيض الجدران، كامل التجهيز وكل شيء في مكانه، السرير كبير، ملوكي الحجم من بطن التاريخ العريق، يتسع لإمبراطورة وزوجها الإمبراطور لا عمل لهما إلا الأكل والجنس، كل منهما يزن مائتي كيلو غرام، يتحركان من غرفة النوم إلى غرفة الطعام فوق عربة تجرها الخيول، أغلقت جفونها تنشد النوم، تتشمم عطر الملاءات البيضاء الجديدة، تدفن وجهها في نعومة الوسادة الحانية، تسيل دموعها وحدها من بين الجفون، حزن قديم غامض منذ الطفولة، فرح جديد أكثر غموضا، شدة التعب أو شدة الراحة، أو الاثنان معا، لا يكشف لذة الراحة إلا ألم التعب، في الصباح جاءت إلى شقتها «مارلين» طالبة جامعية في الثالثة والعشرين، تم تعيينها مرافقة لها، عيناها كبيرتان سوداوان، أبوها من العراق وأمها أمريكية، تتقن العربية والإنكليزية، طويلة القامة ممشوقة، شعرها غزير أسود كلون الليل، تجمع بين السمرة الخمرية لأهل دجلة والفرات، والعيون الزرق القاتمة الخضرة لأهل أوروبا والشمال، سحر الهوية المتعددة، والدماء المختلطة من الشرق والغرب، ولدت مارلين في بغداد، قبل غزو صدام حسين الكويت بعامين، عاشت مع أمها وأبيها أهوال الحروب المتتالية على العراق، أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها، بدأت تدرك عمق الخلاف بين أمها وأبيها، كرهت أباها، أصرت على البقاء مع أمها بعد الطلاق، حرمها أبوها ماله فلم تعبأ، تركت له العراق وما فيها ورحلت إلى أمريكا مع أمها، تحكي قصتها لفؤادة وهي تقود سيارتها الحمراء عبر شوارع نيويورك: اشتغلت يا أستاذة فؤادة وأكملت تعليمي من عرق جبيبني، تزوجت أمي رجلا أمريكيا قاسيا غليظا يشبه أبي العراقي، تركتهما وعشت وحدي، أعد الآن لدرجة الدكتوراه في علوم المرأة والجندر، يعيش معي في بيتي صديقي بيل، إنسان رقيق حساس، ليس مثل أبي أو زوج أمي، تعلمت درسا من حياة أمي التعيسة، أن يكون لي عملي وحسابي في البنك وبيتي وسيارتي وكل ما أريد، وإن أعجبني رجل يسكن معي في بيتي، ولا أسكن في بيته، عاشت أمي مع أبي عشرين عاما وهي تكرهه وتعجز عن الانفصال عنه، كان يملك البيت والسيارة والحساب في البنك.
أقامت الجامعة حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر، جلس جورج نلسون في جوار فؤادة، ألقى رئيس الجامعة كلمة قصيرة، ثم تكلم نائبه (البروفوست) ثم تكلم جورج نلسون، ثم تكلمت الأستاذة باتريشيا، في قسم علوم المرأة والجندر، صديقة قديمة لفؤادة، كانت أستاذة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، خمس سنوات عاشتها باتريشيا في القاهرة ونمت الصداقة بينهما، همست باتريشيا في أذنها، ألا تشتاقين يا فؤادة إلى كأس نبيذ أحمر عمر الخيام؟ - ما ألذ نبيذكم المصري عمر الخيام، لا أنساه.
أقبلت مارلين ومعها شاب طويل أسود البشرة، أقدم لك بيل صديقي، البوي فريند، أسنانه بيضاء تلمع في وجهه القاتم السواد، تنم ملامحه عن هدوء ورقة وثقة بالنفس، كانت تفزع مثل أمها من الرجال السود ذوي الملامح الزنجية، بقايا عنصرية تخلصت منها بعد أن تعودت رؤية نساء ورجال سود البشرة في أمريكا. - أهلا بيل، أعتذر لك لأني أشغل مارلين عنك ساعات كثيرة. - مارلين سعيدة بوجودك هنا، وأنا سعيد لأنها سعيدة.
ثم أقبل جورج نلسون يحمل لها صحن الفاكهة في يد، وفي يده الأخرى كوب عصير برتقال. - لم تأكلي شيئا يا فؤادة؟
انشغلت كعادتها بالكلام عن الأكل، التقطت بالشوكة حبة من الفراولة الحمراء، وتذوقت عصير البرتقال برشفة واحدة لم تكررها، قال جورج: لم يعجبك العصير بالطبع، فهو ممزوج بالكيماويات، يلسع الحلق مثل كل أنواع العصير الأمريكية ومنتجات الرأسمالية الجشعة.
قالت باتريشيا: أنا آكل البرتقال الطازج بقشره ولا أشرب أنواع العصائر الكيماوية السامة. وانفجر الجميع بالضحك.
تنتمي باتريشيا إلى الحركة النسائية الراديكالية، تقاطع منتجات السوق الحرة، لا تأكل اللحوم ولا الفراخ ولا البيض، مثل كثير من النساء الفيمينيست في العالم، تأكل الفاكهة والخضراوات بتربتها من الحقل.
قادت صباح السبت سيارتها الفولكس فاجن الصغيرة (تكره السيارات الأمريكية) مسافة ساعتين، لتشتري طعام الأسبوع من مزرعة صديقها إرنست، الذي يملك قطعة أرض صغيرة، في جوار النهر، يزرعها بيده، يأكل منها هو وأسرته، ويبيع ما يفيض لزبائنه وأصدقائه في القرى المجاورة.
دعت باتريشيا فؤادة وجورج إلى المزرعة، همست في أذنها، يشارك إرنست مع جورج في تنظيم التظاهرات ضد الحكومة وتجار وول ستريت وضد الحروب في العراق وفلسطين وأفغانستان، وضد صفقات الأسلحة وأجهزة القمع التي تشحنها حكومتنا إلى حكومتكم يا فؤادة.
وقال جورج: شحنات من القنابل ومقذوفات الغاز ترسلها الحكومة الأمريكية إلى الحكومة المصرية لمساعدتها على التصدي للتظاهرات والثوار أو من يسمونهم مثيري الشغب، بعد إزالة اسم الشركة الأميركية المصدرة للعبوة، تلعب حكومتنا دور عصابة إرهابية تحت اسم المعونات والمساعدات الإنسانية، وقالت باتريشيا: فؤادة تعرف كل هذا يا جورج، نريد أن نسمع رأيها في هذه المزرعة.
قالت فؤادة: أنا أحب الأرض التي تنبت الخضرة كأنما أعود إلى أصلي وجذوري.
شيء ما يربط فؤادة بالأرض ورائحة المياه والزرع، يذكرها جورج نلسون بقريتها وابن عمتها عبد الجليل، البشرة المحمرة بالشمس وهواء النيل، القامة الطويلة مثل الأشجار، الأصابع القوية الممشوقة تعزف على الجيتار.
في بيت إرنست المطل على النهر، تمددت فؤادة فوق الأريكة ترشف النبيذ الأحمر، وهي تستمع إلى اللحن الهادئ المفعم بالشجن يعزفه جورج، سمعته يقول لها: فؤادة، لماذا الحزن في عينيك؟
ابتلعت الدموع وابتسمت: وهل أنت سعيد يا جورج؟ - كيف نشعر بالسعادة في مثل هذا العالم؟ - هل يمكن أن نغيره يا جورج؟ - ممكن. - ممكن يا جورج؟ - ممكن يا فؤادة.
يضحكان ويرددان معا: عالم جديد ممكن.
كان في جوارها جورج جالسا على شلتة فوق الأرض وهي متمددة فوق الأريكة، مد يده وأمسك يدها، الخفقات القوية التي تحت ضلوعها لم تكن تحس بها منذ الطفولة. - فؤادة أتعرفين؟ - ماذا؟ - أنني أحبك؟
دب الصمت، لم تعد تسمع إلا الدقات تحت ضلوعها.
بدت كلمة الحب بالإنكليزية مختلفة، محملة بشحنة أكبر من العمق والجدية، قال: منذ أول لقاء لنا منذ عشر سنوات، وأنا أحبك يا فؤادة.
دخلت في تلك اللحظة باتريشيا وهي تحمل باقة من الزهور، ومن خلفها إرنست يجر عربة صغيرة محملة بالخضراوات الطازجة من المزرعة، ويهتف: هيا يا أصدقائي إلى المطبخ، حان موعد الطعام، خبزت لكل واحد منكم رغيفا بحجم القمر من دقيق الذرة، ولكل منكم طاجن أرز بني بالشعيرية في الفرن وصحن صلطة كبير، مع طماطم وخس وبصل وجزر وخيار وكرفس وكل ما تخرجه الأرض، وأنت يا باتريشيا عليك أن تفتحي زجاجة الشامبانيا لأن عضلاتك أقوى من عضلاتي. وانطلقت الضحكات، وساروا إلى مائدة الطعام الصغيرة في المطبخ الكبير، جدرانه من الزجاج، تكشف المزرعة والسماء وضوء القمر المنعكس على النهر، وفي ركن من المطبخ نافورة ماء تحيط بها نباتات وشجيرات خضراء، وحول المائدة أربعة كراسي، قال إرنست: لا ندعو إلى المزرعة إلا اثنين فقط ممن نحبهم. وسرى الدفء وحرارة الصداقة والصدق بالرغم من البرودة في الخارج.
اللقاء
بعد العشاء، ارتدوا المعاطف وخرجوا يتمشون في جوار النهر، أمسكت باتريشيا يد إرنست، وأمسك جورج يد فؤادة، انطلقت باتريشيا تجري وتصفق بذراعيها وتهتف: يسقط النظام.
وراح الجميع يرددون وراءها: يسقط النظام.
همس جورج في أذن فؤادة: هل تأخذينني معك إلى الخيمة في ميدان التحرير؟ - متى تأتي يا جورج؟ - أي وقت تشائين. - سأكتب إليك من القاهرة.
في مطار كينيدي تعانقا، تعاهدا على اللقاء، ناولها باقة ورد أبيض وأحمر، لم تنظر إلى عينيه، ابتلعت دموعها وتشاغلت بالبحث عن أوراق السفر في حقيبة يدها، لوح لها بيده وهي تختفي وراء الحاجز، وعاد في طريقه وهو يشعر بشيء ثقيل في صدره، وبين جفونه دمعة محبوسة لم تسقط.
في مطار القاهرة، كانت داليا تنتظر وفي جوارها أبوها، التقطت وجه أمها من بين كتل الأجسام، شعرها الأسود القصير الغزير، بشرتها السمراء عيناها تبرقان. - ماما.
شقت داليا الزحام حتى عانقت أمها. - وحشتيني يا ماما.
جاء زوجها من خلفها يمشي بخطوته البطيئة وهو يبتسم بهدوء، قائلا بصوته الخالي من الحرارة: حمد الله ع السلامة يا فؤادة.
أخذ منها الحقيبة ذات العجلات، وأخذت داليا باقة الورد الأبيض والأحمر. - أخبار سعدية إيه يا داليا؟ - هي في الخيمة مع هنادي وحميدة. - ومين بيشتغل في البيت؟ - أنا باعمل شغل البيت وبعدين أنزل الميدان. - والدراسة يا داليا؟ - الدراسة سهلة يا ماما.
وقال شاكر: الثورة باتت عبثا، البلد في أزمة اقتصادية خطيرة والكل متوقع ثورة الجياع. - الناس كلها في التحرير يا بابا حتى الأستاذة بدرية البحراوي.
مط شاكر شفتيه بضيق: مين هي؟ ما حدش يعرفها. - ناس كتير يعرفوها يا بابا.
وقالت فؤادة: وإنت عارفها يا شاكر وقريت كتاباتها. - أنا؟ - أيوه إنت.
رمق زوجته بغضب وقال: يمكن نسيت حافتكر إيه والا إيه.
لم ينس شاكر أنه كان يشتري كتب بدرية البحراوي من مكتبة صغيرة في بدروم إحدى العمارات بمصر القديمة، صاحب المكتبة شاب اسمه محمد، عاطل عن العمل مثل معظم خريجي الجامعات، كان يحب القراءة منذ سن مبكرة، وخصوصا كتب الفلسفة، من سقراط إلى ابن رشد، إلى أبي العلاء المعري، إلى سارتر وسيمون دي بوفوار، أصبح يجمع الكتب القديمة من سور الأزبكية، ويخبئ كتبا جديدة ممنوعة في مخزن تحت الأرض في المكتبة، تعرضت مكتبة محمد لهجمات البوليس كما أخذوه هو إلى السجن، لكنه لا يزال مدمنا القراءة، وتجميع الكتب الممنوعة داخل المكتبة.
هدف واحد
نقل محمد مكتبته إلى خيمة في ميدان التحرير، يبيع فيها الصحف والمجلات والأعلام ومنشورات الثورة، حفر في الأرض تحت الخيمة مخزنا صغيرا للكتب، ألقى رجال الشرطة قنابل الغاز على الخيمة، وهاجموها بخراطيم المياه والرصاص الحي، فقد محمد عينه اليسرى بطلقة واحدة من قناص ماهر، لكنه بقي حيا، وبقيت الكتب في المخزن في أمان يبيعها لمن يطلبها.
خبأ شاكر كتاب بدرية البحراوي الأخير في درج مغلق بالقفل أسفل مكتبه، كان يقوم بتأليف كتابه عن تحرير المرأة، يفتح الدرج في الليل بعد أن تنام زوجته وابنته، فينقل ما يشاء من كتاب بدرية البحراوي ثم يغلق الدرج.
نال كتاب شاكر نجاحا كبيرا، كتب مقدمته الأستاذ رئيس التحرير، تنافس كبار المفكرين في الكتابة عنه، نشرت الصحف بعض أجزاء من الكتاب، ظهرت صورة شاكر على الشاشة في حوار طويل، سأله المحاور بمن تأثرت في أفكارك التحررية عن المرأة؟
مط شاكر عنقه إلى أعلى، وشردت نظراته في الأفق البعيد مثل الفلاسفة الكبار، وردد بعض الأسماء إلا اسم بدرية البحراوي.
كان الحزن يدهم شاكر، لا تعرف زوجته الأسباب، تحاول التخفيف عنه لكنه كان كتوما، لا يصرح لها بأسراره، وفي الخفاء يذهب إلى طبيبه النفسي. أحزان كثيرة تثقل قلبه، أكثر مما أثقلته في السجن، يقترب أحيانا من الانهيار العصبي، لم يعرف إن كانت الهموم العامة هي السبب أم همومه الخاصة.
طبيبه النفسي صديق له، كانت له عيادة غير بعيدة من مكتبه، يمشي إليها حين يشعر بالوحدة أو يشتد به الاكتئاب، تمدد فوق الأريكة المريحة وراح يرشف الويسكي بالثلج من دون ماء.
سأله الطبيب: يا شاكر حاول تكتشف بنفسك سبب شعورك بالاكتئاب. - مش عارف السبب يا دكتور. - إنت شاركت في التظاهرات؟ - طبعا مشيت في أغلب التظاهرات أنا وفؤادة، مشينا في وسط الملايين وكان عندنا أهداف الثورة نفسها، حرية عدالة كرامة، لكن ... - لكن إيه يا شاكر؟ - مش عارف، مش عاوز أسمع سيرة تظاهرات أو مبادئ الثورة، إنت عارف الأوضاع السياسية كلها بقت سيئة. - إنت شاركت في الثورة إزاي يا شاكر؟ - في كل التظاهرات وفي المناقشات والحوارات والفيس بوك والتويتر. - ليه شاركت في الثورة والحزب الثوري يا شاكر؟ - أنا أؤمن بالنضال الجماعي يا دكتور. - ليه يا شاكر؟ - لا أؤمن بالعمل الفردي، لازم أشعر بالانتماء إلى شيء أكبر مني، لازم أشعر إني جزء من شيء كبير، وإني فعال ومؤثر ولي دور كبير في تحرير الوطن وتغيير النظام، أنا باكتب والناس بتناقشني في كتاباتي سواء سياسية أو أدبية لكن الكتابة مش كفاية. - هل نجحت يا شاكر في تغيير شيء؟ - الثورة يا دكتور لا يمكن تنجح بسرعة، التغيير بياخد وقت طويل. - وإيه المشكلة دلوقتي يا شاكر؟ - مش عارف يا دكتور ليه فقدت حماسي وشهيتي للحياة. - وفؤادة أخبارها إيه يا شاكر؟ - انفصلنا للأسف. - ليه؟ - خلافات بسيطة يا دكتور بتحصل لكل زوجين، المشاكل العامة أخطر من أي مشكلة خاصة، الوضع السياسي والاقتصادي في البلد أصبح خطير، الفقر والجوع والبطالة، الناس كلها تعبانة وفقدت الأمل في الثورة. - وفؤادة رأيها إيه يا شاكر؟ - أنا رأيي يا دكتور إن الثورة فشلت والتظاهرات عبث. - وفؤادة رأيها إيه يا شاكر؟
بدا الغضب على شاكر: فؤادة، فؤادة؟ إيه يهمك من رأي فؤادة؟ المهم رأيي أنا، وأنا شايف إن البلد بتغرق رغم الكلام الكتير عن الإنقاذ، البلد بتغرق، أنا خايف على مصر يا دكتور. - ليه قررت فؤادة الانفصال عنك يا شاكر؟ - مين قال إن هي اللي قررت الانفصال؟ قرار الطلاق في إيد الرجل، كان قراري أنا، أنا بعت لها ورقة الطلاق، والصحف نشرت الخبر يا دكتور. - مين بعت الخبر للجرايد يا شاكر؟ - مش فاكر يا دكتور. - مش فاكر ازاي يا شاكر؟ - حافتكر إيه والا إيه يا دكتور. - إنت اللي نشرت الخبر؟ - يمكن أنا يا دكتور. - ليه؟ - لازم الناس تعرف يا دكتور. - تعرف إيه؟ - إني أنا اللي طلقتها مش العكس. - وسبب الطلاق إيه؟ - كل يوم تروح ميدان التحرير وتقعد في الخيمة مع الخدامين وشوية عيال، أهملت شغلها وواجباتها الزوجية، شجعت بنتنا داليا وزميلاتها على التمرد. - إزاي؟ - طريقة ملابس البنات بقت مثيرة غير محتشمة، والاعتصام في الخيام بالليل والنهار، شباب وشابات في خيمة واحدة، الثورة لا تعني التسيب الأخلاقي، البنات المتبرجات دول مسئولين عن انتشار التحرش والاغتصاب.
ضحك الطبيب: إنت انضميت للحزب الإسلامي يا شاكر؟
رد شاكر بغضب: الإسلاميين أخلاقهم أحسن من العلمانيين يا دكتور. - وإيه كمان يا شاكر؟ - عاوز الحقيقة؟ - أيوه. - الحقيقة إن فؤادة كانت هي راجل البيت، هي الكاتبة المعروفة وأنا الكاتب المغمور، كل الدعوات والمؤتمرات تيجي باسمها، والناس يطلبوها في التلفون وأنا ما فيش حد يطلبني، طبعا كنت عارف ده قبل الجواز، وتصورت إن بعد الجواز يمكن الأمور تتغير، لكن فؤادة لا يمكن تتغير. - وتتغير ليه يا شاكر؟ - الزوجة غير الكاتبة يا دكتور. - إزاي يا شاكر؟ - الزوجة مفروض تكون تابعة لزوجها مش العكس يا دكتور. - إنت في كتابك قلت كلام تاني يا شاكر. - أيوه؛ لأن الحياة الحقيقية غير الكلام في الكتب. - وإيه تاني يا شاكر؟ - فؤادة بقت تقول كلام سخيف. - زي إيه؟ - تقول لي إن الخيمة في ميدان التحرير أدفا من بيتنا، والحزب بتاعي تخلى عن مبادئ الثورة وعمل مفاوضات سرية مع الحكومة والجيش والتيارات الإسلامية وأمريكا كمان، وقالت إن أنا من المسئولين عن إجهاض الثورة لأني انتخبت الإسلاميين. - وإنت انتخبتهم يا شاكر؟ - أيوه ما كانش فيه بديل لهم إلا الثورة المضادة وفلول النظام السابق، لكن مراتي ما تفهمش في السياسة زي كل النسوان. - النسوان؟ - إنت عارف يا دكتور عقلية النساء؟ - إنت نشرت في كتابك يا شاكر إن عقل المرأة يساوي عقل الرجل. - أيوه لكن الطبيعة تتغلب في النهاية. - إنت بتشعر بالذنب يا شاكر؟
اتسعت عينا شاكر في دهشة: الذنب؟ - تأنيب ضمير مثلا يا شاكر. - ليه يا دكتور؟ - إنت عارف ليه. - مش فاهم يا دكتور. - حاول تفهم يا شاكر.
خيمة الأم
الهتافات تدوي من بعيد، والظلمة شديدة في ميدان التحرير، تهدمت بعض الخيام نتيجة هجمات البوليس، لم يبق إلا خيام قليلة صامدة في وجه العواصف، منها الخيمة الكبيرة التي يسمونها «خيمة الأم»، التي أصبحت ملجأ الشباب والشابات والأطفال الذين من دون مأوى، والأمهات كبيرات السن اللواتي خدمن الأسرة طوال العمر، ثم تثاءب الزوج العجوز قائلا: «أنت طالق.» فأصبحت الأم منهن في الشارع، واحتلت بيتها طفلة عروس تصغر زوجها بخمسين عاما.
يجلسون على الكليم والسجاجيد القديمة فوق الأسفلت، تحيط فؤادة ابنتها داليا وهنادي بذراعيها، تدفئهما في حضنها، كفت هنادي عن الأنين، خف عنها الألم ونهضت تتحدى القدر، صوت بدرية البحراوي يسري في أذنيها كحفيف هواء دافئ، لا شيء اسمه القدر والمصير، نحن نقرر مصيرنا بإرادتنا، تشرئب الآذان لسماعها، تتفتح عيون الأطفال والبنات والشباب من مختلف الأعمار والفئات، كان جلال أسعد جالسا مع بعض زملائه في الركن البعيد من الخيمة، تخفق العضلة تحت ضلوعه حين تلتقي عيناه عيني الفتاة الجالسة هناك التي لم يعرف اسمها، لأول مرة يلتقيها، يأتي إلى الخيمة كثيرون من الشباب والشابات الذين لا يعرف أحدهم الآخر.
تخلفت سعدية عن المجيء، كانت ترقد فوق منضدة في المشرحة أو في معسكر اعتقال في الجبل الأحمر، أو في مكان آخر لا يعلمه أحد.
صوت بدرية البحراوي يسري في الآذان والعيون المشرئبة: نحن نحقق أهداف الثورة بأنفسنا، ننتزعها بأيدينا، الحرية والعدالة والكرامة تؤخذ ولا تعطى.
تهب هنادي واقفة، تتدفق سخونة الدم في جسمها من الرأس إلى القدمين، تنزع عن كتفيها الشال الصوفي الأخضر، تمشي خارج الخيمة، تملأ صدرها بهواء الفجر، لا تشعر ببرودة الجو ولا تسمع طلقات الرصاص.
خرج وراءها جلال أسعد. - اسمك إيه؟ - هنادي. - اسمي جلال أسعد. - إنت في المعهد؟ - أيوه. - أمي سعدية القتالة تعرفها؟ - سعدية أعرفها، قتلت مين؟ - قتلت أبويا، ولدتني في السجن، واشتغلت أمي في البيوت عشان تدفع لي مصاريف الدراسة. - أمك عظيمة يا هنادي زي المرحومة أمي شالت حجر على ظهرها زي العبيد عشان أبقى إنسان حر، كنت أتمنى إنها تكون عايشة عشان أرد لها الجميل.
أطرق جلال أسعد وابتلع دموعه. - وأنا كنت حاموت في عميلة إجهاض. - عملية إجهاض؟ - أيوه. - عمرك كام يا هنادي؟ - ستاشر سنة.
مد يده وأمسك يدها: إنتي شجاعة يا هنادي. - كلام الأستاذة بيشجعني أكتر. - الأستاذة كاتبة عظيمة. - عشان كده اضطهدوها. - لكن الثورة قامت يا هنادي. - أنا خايفة يجهضوها. - ما فيش خوف بعد النهارده. - أيوه. - أنا معاكي يا هنادي. - وأنا معاك يا جلال.
أحاطها بذراعيه وأحاطته بذراعيها.
أقام لهما الميدان حفلة زفاف عزف فيها الشباب والشابات موسيقى الثورة وأغانيها، أنشد الشعراء والشاعرات قصائد عن الحرية والعدالة والكرامة.
جلست بدرية البحراوي تحت الخيمة ومن حول كتفيها بطانية صوف، وفي جوارها داليا وحميدة وأعداد من الثوار والثائرات.
لم يعرف أحد أن جلال أسعد لن يعيش بعد هذه الليلة إلا بضعة أيام، كانت عيون السلطة تترصده، بدأت وزارة الداخلية تصطاد الشباب الثوار واحدا وراء الآخر، مستخدمة وسائل مختلفة للتخلص منهم، مجندة البلطجية لخطفهم في الليل، أو سيارة تصطدم بهم، أو تلفيق تهم لهم، ثم إيداعهم السجن وتعذيبهم حتى الموت. تلقى جلال أسعد ذلك اليوم مكالمة تلفونية عبر تلفونه المحمول وهو جالس في الخيمة، تطلب حضوره فورا إلى مركز بوليس قصر النيل، خرج من الخيمة مسرعا، سار نصف ساعة حتى باب مركز البوليس، كان أمام الباب زحام من أهالي المفقودين وأمهات المقتولين والمعتقلين، قبل أن يدخل من الباب هجم عليه رجل ضخم يعمل لحساب الشرطة، ضربه بمطواة من قرن الغزال في فخذه، ثم هرب قبل أن ينتبه إليه أحد، سقط جلال أسعد على الأرض ينزف دما، عرفه بعض الأهالي، كان جلال أسعد شخصية معروفة بين الثوار، كان هو الأدمن، مسئول الصفحة الإلكترونية التي توجه الشباب، وتنظمهم، يكشف فيها المسكوت عنه، ذو أسلوب بسيط مركز مباشر بالصورة والخريطة والفيلم، يتصل بالآخرين ويتفاعل معهم بسرعة ومهارة، يتحدث الجميع عن شجاعته واستعداده للتضحية من أجل الثورة، كان يتطوع لمساعدة الأهالي في البحث عن أبنائهم، والدفاع عنهم مع المحامين الثوار، حملوه إلى داخل مركز الشرطة وهو ينزف دما، تلكأ رجال الشرطة عن طلب الإسعاف، فغضب الأهالي ونشبت معركة بينهم وبين رئيس الشرطة، انتهت بطرد الأهالي من المركز بالقوة، بقي جلال أسعد راقدا على الأرض ينزف دما بينما يحقق معه أحد رجال البوليس، أنت متهم بإشعال النار في مقر الإخوان المسلمين فما هي أقوالك؟
يحاول جلال أسعد أن يرد بصوت قوي بالرغم من النزف: دي تهمة ملفقة لأني مش بلطجي والكل عارفني.
استمر التحقيق ساعة ونصف الساعة وهو ينزف دما، ثم حملوه إلى المعتقل.
زحفت الآلاف من أهالي المقتولين والمفقودين إلى مشرحة زينهم، تقودهم هنادي وداليا وحميدة وفؤادة وبدرية وجميع سكان الخيام، والبيوت من الخيش والصفيح في الأزقة والقبور، هجموا على المشرحة، حملوا جثث أولادهم وبناتهم إلى الشارع، من بينهم صلاح محمد (19 سنة) قتل بطلق ناري في رأسه أثناء التظاهرة في شارع محمد محمود، عمر محمد (21 سنة) قتل برصاصة في رأسه فوق كوبري قصر النيل، زكي حسين (23 سنة) قتل برصاصة في العنق أمام قصر الاتحادية، أحمد جابر (26 سنة) قتل نتيجة ارتجاج في المخ بعد أن دهسته عربة بوليس، هادية شمس قتلت برصاصة في رأسها في أثناء التظاهرة في ماسبيرو، سميحة محمد قتلت برصاصة اخترقت عينها اليمنى إلى المخ أمام المتحف، ثمة جثث لشباب وشابات تغيرت ملامحهم ولم يتم التعرف إليهم، تحولت الجنائز إلى تظاهرات شارك فيها الملايين في الشوارع والميادين وهم يهتفون ضد رئيس الدولة، ارحل ارحل، يسقط النظام، يسقط القمع، يسقط التعذيب والخراطيش وقنابل الغاز.
تقارير الطب الشرعي مزورة، في اجتماع تحت الخيمة قالت بدرية البحراوي: يتبع الطب الشرعي وزير العدل والمفروض أن يكون جهازا مستقلا عن الحكومة حتى تعبر التقارير عن الحقيقة، لكن الطبيب الشرعي يخاف أن يشهد بالتعذيب وإلا تعرض للعقاب أو الفصل؛ لهذا لا يثق أحد بتقارير الطب الشرعي.
في غرفته المكيفة بالجورنال، كان رئيس التحرير في اجتماع عاجل مع كبار المحررين والكتاب. جاءت اليوم إشارة من الرئاسة بتكذيب الخبر، الذي نشرته بعض الصحف المأجورة من الخارج، أن جلال أسعد مات بالتعذيب في السجن وليس في إثر حادث سيارة، تم تفتيشه بعد أن صدمته السيارة ووجد في جيبه مطواة من قرن الغزال وطبنجة ونبلة، اتسعت عينا شاكر بدهشة وتساءل: نبلة؟ - أيوه يا أستاذ، نبلة.
وكتمت كوكب الضحك بيدها، فأكمل رئيس التحرير: النبلة يستخدمها البلطجية في ضرب الثوار الأبرياء، يتم تسديد النبلة إلى العين، لدينا تقارير عن فقء بعض عيون الأبرياء بالنبلة. رجال الشرطة يخدمون الوطن وبعضهم تعرض للقتل من قبل هؤلاء البلطجية، مطلوب منكم مقالات عن المؤامرات الخارجية على مصرنا الحبيبة، كيف يضحي رجال الشرطة بحياتهم من أجل مصر، تحولت الثورة إلى فوضى، لم يعد الشعب المصري يحتمل استمرار هذه التظاهرات المأجورة التي تهدف إلى انهيار الدولة، الاقتصاد ينهار، السياحة انهارت، البطلجية انتشروا في كل مكان، لا بد من الحفاظ على هيبة الدولة وإلا فالعوض على الله.
قالت كوكب عن رؤيتها للتظاهرات في نيويورك ولندن: أنا شاهدتهم بعيني يا أستاذ، وأعتقد أن الحركة الثورية في نيويورك معظمها من الشيوعيين، يريدون القضاء على السوق الحرة والديموقراطية، الثوار في لندن تابعون للشيوعيين في نيويورك، التظاهرات في لندن قامت بتغيير اسم ميدان سان بول إلى ميدان التحرير، مما يدل على أن التظاهرات في بلادنا تحركها الشيوعية العالمية لإضعاف مصر والعرب والقضاء على الإسلام، أنتم تعرفون أن الفكر الشيوعي يقوم على الإلحاد وقلب نظام الحكم بالعنف وليس بالانتخابات والوسائل الديموقراطية السلمية، لكن الحمد لله لقد نجح بوليس نيويورك في فض التظاهرات التي سموها «احتلوا وول ستريت»، بعد أن هددوا باحتلال الشركات الكبرى في وول ستريت. - برافو يا كوكب، عاوزين مقال في السياسة الدولية عن الموضوع ده. - حاضر يا أستاذ. - وإنت يا شاكر عاوزين مقال في السياسة المحلية ومشروع النهضة. - آسف يا أستاذ. - يعني إيه آسف يا شاكر؟ - معناها إني آسف ما قدرش أكتب عن مشروع وهمي.
قبل أن يغادر المبنى أرسل شاكر استقالته مكتوبة إلى رئيس مجلس الإدارة.
خرج من العمارة الضخمة للجريدة الكبرى، متجها نحو شارع النيل، توقف لحظة يلتقط أنفاسه، ثم جلس فوق دكة خشبية يرمق انسياب مياه النهر تحت الكوبري، شيء في حركة الموجات الهادئة الصغيرة يهدئ الغضب المتراكم داخله منذ الطفولة، منذ أن ترك أبوه أمه من أجل نزوة عابرة وأصبح طفلا وحيدا، منذ أن ضربه البوليس وأخذوه إلى السجن، منذ أن حرقوا جسده بأعقاب السجائر وصعقوه بالكهرباء، تراءى له وجه فؤادة وهنادي ونساء وفتيات ضاعت ملامحهن من ذاكرته، أراد أن ينفس عبرهن عن غضبه المتراكم، نهض متثاقلا لا يعرف إلى أين يذهب، فكر أن يسير إلى خيمة الأم في ميدان التحرير ثم طرد الفكرة، بعد قليل وجد نفسه في عيادة صديقه الطبيب النفسي. - تعبان جدا جدا. - إيه اللي حصل يا شاكر؟ - استقلت من الجورنال، مش قادر أستمر في البلد دي. - كل البلاد زي بعض يا شاكر. - يعني إيه؟ - أنظمة الحكم كلها فاسدة قائمة على القوة. - أيوه عارف. - المهم أنت يا شاكر. - أعمل إيه؟ - راجع نفسك. - غلطت كتير وعندي ندم كبير. - بلاش الندم يا شاكر، الندم يضعف الإرادة. - عاوزني أعمل إيه؟ - كلنا بنغلط، المهم عدم الاستمرار في الخطأ. - يعني أعمل إيه؟ - ماعرفش يا شاكر. - إنت دكتور ما تعرفشي؟ يعني إيه؟ - يعني إنت اللي تتحمل مسئولية أعمالك مش أنا.
صمت شاكر ثم همس لنفسه: فعلا أنا المسئول مش أنت.
كان الطفل محمد يحمل الصحف كل صباح إلى سكان الخيام في ميدان التحرير، بينما كانت فؤادة تمر بعينيها على صفحة أخبار العالم، قرأت هذا الخبر: سقط ثلاثة قتلى وأربعة عشر جريحا من بين المتظاهرين في حركة «احتلوا وول ستريت»، في أثناء هجوم بوليس نيويورك عليهم أمس، أحد القتلى أستاذ بجامعة نيويورك اسمه جورج نلسون، حمله المتظاهرون بسرعة إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة بسبب الدم الغزير الذي نزف منه، واشتعلت التظاهرات بعد وفاته يقودها الطلاب والطالبات في جامعات نيويورك.
قالت فؤادة تخاطب سكان الخيمة: جورج نلسون قتلوه في نيويورك كما قتلوا جلال أسعد هنا ، هذه هي الطريقة الحديثة في عصر الإنترنت لتصفية الثوار جسديا، خطف واغتيال أكثر الشباب نشاطا في الثورة وعلى رأسهم الأدمن، وهم المسئولون عن صفحات الاتصال الإلكتروني في الإنترنت، يتولى الشاب أو الشابة منهم تحرير صفحته للتواصل مع الشباب وتعبئتهم للوحدة والتظاهر والضغط من أجل تحقيق أهداف الثورة، الحرية والعدالة والكرامة، يكشف الأدمن في شبكة تواصله الاجتماعي عن خبايا الظلم والقهر للأغلبية الساحقة في المجتمع، من النساء والأطفال والفقراء والمهاجرين وجميع المقهورين بالقوانين الرأسمالية العسكرية الأبوية العنصرية الدينية البوليسية. كان جورج نلسون في نيويورك هو الأدمن لصفحة «احتلوا وول ستريت»، ينظم التظاهرات ضد جشع أقطاب وول ستريت كما فعل جلال أسعد هنا ضد فساد الحكم الطبقي الديني الأبوي، أصبح الشباب الأدمن المسئولون عن صفحات الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، هم القوة المنظمة للتظاهرات والثورات الشعبية الجديدة في البلاد كافة، نحن نعيش في عالم واحد تحكمه أقلية جشعة رأسها في البيت الأبيض في واشنطن، تمارس الشعوب المقهورة ثورتها بطريقة جديدة تهدد النظم الحاكمة عالميا ومحليا، هذه النظم تستخدم الأديان والسلاح والمال والإعلام لإجهاض الثورات الشعبية الجديدة من نيويورك إلى القاهرة؛ لهذا يتجه سلاح القتل والخطف إلى الثوار من النساء والرجال مثل جورج نلسون وجلال أسعد، وسعدية المرأة التي لا نعرف أين هي، خطفت وهي تقود أكبر تظاهرة ضد النظام الفاسد، الذي جعلها تشقى طوال عمرها حتى انكسر ظهرها ثم اغتالها غدرا، لكنها أنجبت فتاة ثائرة هي هنادي، التي انتصرت على القهر ونهضت وأصبحت قوة جديدة للثورة، تكلمي يا هنادي.
نهضت هنادي، فتاة طويلة القامة ممشوقة في عينيها بريق التحدي والثقة بالنفس: أمي سعدية شقيت من أجلي لأكون إنسانة محترمة لها بيت فيه حمام، كانت أمي تقف بالساعات في الطابور عشان تملا صفيحة ماء، أمي عاشت وماتت من أجلي، كان نفسي إنها تعيش وتشوفني باحقق حلمها، أنا أصبحت إنسانة قوية باعتمد على نفسي لتحقيق أحلامي، أنا نضجت من خلال الألم والدم، الثورة نضجت من خلال دم شبابها وشاباتها، لازم ندفع ثمن الحرية بالدم، جلال أسعد وكل اللي نزفوا دمهم من أجل الثورة عايشين معانا، لا يمكن يموتوا، لازم ناخد حقهم، لازم نكشف التقارير المزورة اللي قالت إنهم ماتوا في حوادث عادية بالصدفة، لازم نثبت أنهم ماتوا بالرصاص وبالتعذيب في السجون والمعتقلات، لازم نحقق أهدافنا بأنفسنا، زي ما قالت الأستاذة بدرية: إحنا اللي نحقق أهداف الثورة بأيدينا، الحرية تؤخذ ولا تعطى، العدالة والكرامة تؤخذ ولا تعطى.
تأنيب ضمير
وجد شاكر نفسه في مكتب كوكب الكميلي، كانت تكتب مقالها الأسبوعي، اعترض مدير مكتبها طريقه لكنه أزاحه بيده، لازم أشوفها دلوقتي. - هي مشغولة يا أستاذ.
واتجه شاكر مباشرة إلى بابها المغلق، فتحه ودخل.
نهضت كوكب مرحبة به وقالت: فيه إشاعة إنك استقلت من الجورنال يا شاكر؟ - حقيقة مش إشاعة يا كوكب. - ليه استقلت يا شاكر؟ - خلاص مش قادر أستمر. - يا ريت تسلفنا شوية شجاعة يا شاكر. - الحكاية مش شجاعة يا كوكب. - أمال إيه؟ - تأنيب ضمير. - ضميري مات من زمان. - إزاي؟ - ما فيش أمل خلاص. - لأ يا كوكب فيه أمل.
أطرقت كوكب وساد صمت طويل، ثم رفعت رأسها باديا عليها الإعياء والتعب، أنا ما قدرش أستقيل يا شاكر. - ليه؟ - أسباب كثيرة، منها الماهية الكبيرة والاسم الكبير. - ممكن تعملي حاجات غير الاستقالة. - زي إيه؟ - مش عارف، إنتي أدرى مني. - إنت بتتكلم زي الدكتور النفساني بتاعي. - إنتي بتروحي لطبيب نفسي يا كوكب؟ - وباخد حبوب ضد الاكتئاب كمان. - وقال لك إيه الدكتور؟ - قال لي ضميرك تعبان. - أيوه. - وسألته أعمل إيه؟ - قال لك إيه؟ - قال لي إنتي أدرى مني. - فعلا الأمر في إيدك. - أيوه لكن ... - لكن إيه؟ - المسألة صعبة جدا. - ما فيش حاجة صعبة يا كوكب. - سمعت عن استقالتك من يومين وفكرت أعمل حاجة. - زي إيه؟ - أغير أقوالي في النيابة وأقول الحقيقة، لكن ... - لكن إيه؟ - خايفة يرفدوني. - الخوف مرض يا كوكب. - مش قادرة أتخلص منه. - كنت خايف أستقيل وبعد الاستقالة راح الخوف. - أيوه. - الخوف وهم يا كوكب. - وإيه أخبار فؤادة؟ - فؤادة في الخيمة. - فكرت أزورها لكن خفت يضربوني بالطوب. - ليه يضربوكي؟ - إنت عارف ليه؟ - عشان غيرت أقوالك يا كوكب؟ - أيوه. - كلنا بنغلط، المهم عدم الاستمرار في الخطأ. - جلال أسعد مات بالتعذيب في معسكر الجبل الأحمر، دي الحقيقة اللي قلتها يا شاكر، هددوني واضطريت أغير أقوالي وأقول إن عربية صدمته. - هددوكي بإيه؟ - بالفصل وحاجات تانية كتير ممكن يلفقولي أي تهمة وإنت عارف يا شاكر. - أيوه عارف، لكن الجرانيل كثيرة عاوزة ناس تكتب فيها وإنتي لك اسم كبير، والجورنال بتاعنا أصبح سيئ السمعة، وما حدش بقه يقراه يا كوكب. - الجرانيل التانية مقروءة أكثر لكن أنا زهقت من الصحافة، الصحافة والسياسة أعمال غير نظيفة. - أيوه صحيح يا كوكب.
في صباح اليوم التالي، وزع الطفل محمد الصحف على سكان الخيام في الميدان، كانت فؤادة جالسة أمام الخيمة تحت أشعة الشمس حين لمحت المانشيت الكبير الذي يقول: الأستاذة الكاتبة الصحفية كوكب الكميلي سحبت أقوالها الأخيرة، وأكدت أن شهيد الثورة جلال أسعد، مات بالتعذيب في معسكر الأمن بالجبل الأحمر، وليس إثر حادث سيارة.
ودب في الخيمة نشاط جديد.
كانت الملايين في الشوارع والميادين تهتف: يسقط النظام. وبدأ العصيان المدني في كل المحافظات من أسوان إلى الإسكندرية.
همست داليا في أذن هنادي: فاكرة السجن وإحنا بنلعب سوا؟ - كانت أيام حلوة يا داليا.
وانطلقت ضحكاتهما وهما تسيران بين الصفوف.
اهتزت أرجل كرسي العرش وهو جالس في استرخاء، لم يعد شعر رأسه أسود، أصبح لونه رماديا ونبتت في وجهه لحية. - فيه إيه بيحصل في البلد؟ - ولا حاجة يا فخامة الرئيس. - أنا سامع أصوات؟ - شوية نسوان بيضحكوا مع بعض. - كده خليهم يتسلوا.
صفحة غير معروفة