ثمن الكتابة
دماء في ميدان التحرير
تشريح الجثة
سعدية وفؤادة في السجن
شاكر
مع التيار
في بيت رجل
الفصل من الجورنال
كوكب الكميلي
بدرية
صفحة غير معروفة
قرار الزواج
كاتبة فقط
حميدة
سعدية
على شاطئ الإسكندرية
الشيخ متولي
الإجهاض
منصب جديد
الأرق
في السجن
صفحة غير معروفة
محظورات
هنادي
داليا
في الكافيتيريا
كوكب
الحب الثاني والثالث
الأمل الوحيد
اللحظة الخاطفة
في الخيم
القاهرة أم نيويورك
صفحة غير معروفة
اللقاء
هدف واحد
خيمة الأم
تأنيب ضمير
ثمن الكتابة
دماء في ميدان التحرير
تشريح الجثة
سعدية وفؤادة في السجن
شاكر
مع التيار
صفحة غير معروفة
في بيت رجل
الفصل من الجورنال
كوكب الكميلي
بدرية
قرار الزواج
كاتبة فقط
حميدة
سعدية
على شاطئ الإسكندرية
الشيخ متولي
صفحة غير معروفة
الإجهاض
منصب جديد
الأرق
في السجن
محظورات
هنادي
داليا
في الكافيتيريا
كوكب
الحب الثاني والثالث
صفحة غير معروفة
الأمل الوحيد
اللحظة الخاطفة
في الخيم
القاهرة أم نيويورك
اللقاء
هدف واحد
خيمة الأم
تأنيب ضمير
إنه الدم
إنه الدم
صفحة غير معروفة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات ، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
صفحة غير معروفة
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوه يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - إنتي اللي مش معقولة. - إزاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
صفحة غير معروفة
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
دماء في ميدان التحرير
إنها مدينة القاهرة، تبدو للعين الكليلة مساحة لا متناهية من شيء يشبه الأسمنت له لون الرماد، يشقها مجرى رفيع رمادي يتلوى تحت كتل الأسمنت على جانبيه، يعلوها دخان وبخار وقتام ورمال، وغبار يهب ويتجمع من فوقها على شاكلة سحابة سوداء، إنه الشتاء أيضا والشهور والليالي التي يهب فيها الناس من النعاس ويراق فيها الدم.
جلست فوق حجر بجوار خيمتها، كانت تلهث قليلا، الزحام شديد، لا مكان لقدم، الملايين من المتظاهرين خرجوا إلى الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام.
خلعت شالها الصوفي الأخضر من حول كتفيها، فرشته فوق الحجر لتجلسها، كانت تجاهد للوقوف، تشد عضلاتها، تقاوم الانحناء، يعود قوامها إلى وضعه المستقيم، عظام ظهرها قوية متينة، لها قوة أربعين رجلا وعشرين حصانا، كما كانوا يقولون عنها ، لكنها لم تعد شابة، وليست كهلة، كلمة عجوز لا تنطبق عليها، لا أحد يعرف عمرها.
منذ العاشرة صباحا حتى الثانية بعد الظهر كانت تمشي في جوارها وسط الصفوف، خمس ساعات وأكثر، من الجنوب إلى الشمال، فوق الكباري القديمة والجديدة التي تجتاز النيل، كوبري الجيزة، كوبري الجامعة، كوبري الجلاء، كوبري قصر النيل، كوبري 6 أكتوبر، الزحام شديد فوق الكباري وفي الشوارع، في المدن والقرى، في كل المحافظات، الملايين من المتظاهرين يهتفون: يسقط النظام. فوق الحجر الذي وضعت عليه شالها الصوفي الأخضر أجلستها، لم يعد البريق في عينيها كما كان، بصرها لا يزال قويا حادا، كانت ترى من بعيد مثل زرقاء اليمامة، البؤبؤ الأسود كبير لونه كلون الليل، لم تورثني سواد عينيها ولا بشرتها السمراء، ورثت بشرتي البيضاء من أبي، ولون عيني من عينيه الخضراوين، وقصر نظري من قصر نظره أيضا الذي يسمونه «مايوبيا»، وقد كان أبي يضع نظارة طبية منذ طفولته، خلعت نظارتي بعد اكتشاف العدسات اللاصقة، عيناي خضراوان لونهما لون الزرع، تلمعان في مرآة حقيبتي، كعيون القططة، كان أبي يسميني القطة المتوحشة، لاحظت أنها تلهث وريقها جاف، وقد لاحظت حالتها قبل أن تلحظها هي، أخرجت من حقيبتها زجاجة ماء معدنية صغيرة، ناولتها إياها إذ كان معها سندويتش جبنة بيضاء مع شرائح صغيرة من الطماطم، التهمتها بشهية الأطفال وشربت الماء كمسافر جف حلقه في الصحراء، قالت رافعة وجهها نحوها: «تعيشي لنا يا أمي.» أشرق وجهها بالابتسام، خلعت الشال الأخضر، والبلوفر الصوفي السميك، بسطت ذراعيها الطويلتين كالجناحين، وصفقت في الهواء كما كانت تفعل وهي طفلة منذ العاشرة من عمرها، أترى هذه اللحظة في الحلم؟ هؤلاء الملايين، النساء، الشباب، الشابات، الرجال، الأطفال، العجائز، هذه الوجوه من كل الأعمار والأشكال والبقاع، ملايين، الملايين تملأ الشوارع والميادين، أصواتهم تدوي في صوت واحد، يهز عرش الأرض والسماء بكلمتين اثنتين: يسقط النظام! تلاشت خطوط الزمن فوق جبينها، انقشعت السحابة والتعب، عاد البريق إلى عينيها، ألقت البلوفر والشال وحقيبة يدها إلى الأرض، وانطلقت وسط الملايين تهتف معهم: يسقط النظام . الكلمتان تخرجان من بين شفتيها مع الشهيق والزفير، كأنما في السماء آذان تلتقط الصوت، وآذان الأرض أيضا في جهاز أمن الدولة، ينشق الكون عن عساكر جيش وبوليس ملابسهم عادية، بعضهم بالجلابيب والشوارب واللحى الطويلة، يحملون البنادق والسياط والنبال، هجموا على ميدان التحرير، داسوا الناس بالحوافر والعجلات، أطلقوا النيران والغازات، ارتفع الغبار في السماء مع الدخان وكرات من النار، زجاجة الماء تطير من يدها، هي نفسها تطير مع الزجاجة وتسقط على الأرض فبدت لها دماء حمراء.
دماء أمها تنزف فوق الأسفلت في ميدان التحرير أمام عينيها، كما نزفت فوق الأسفلت في السجن، أحاطتها بالشال الصوف الأخضر، البلوفر الأزرق أصبح لونه كلون التراب، قميصها الأبيض يغرق في الدم، حملوها إلى الخيمة، غطوها بالبطانية الصوف، تضاعفت الملايين، طافت التظاهرات في الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام. في وسط الصفوف كانت تمشي منذ دقائق، كان يبدو عليها الإعياء، لكنها تمشي، تمد عنقها إلى الأمام وتمشي، ترفع ظهرها وتمشي، أخذتها أمس إلى دورة المياه، دخلتا من الباب الخلفي للميدان، كان زحام من كائنات تختفي كل منهن تحت خيمة سوداء، واقفات في بركة مياه تتسرب من تحت أبواب المراحيض، ناولتها إحداهن منديل ورق وقالت: ليه راسكم عريانة؟
ردت: ليه راسكم اختفت؟
صفحة غير معروفة
انتفضت خيمة سوداء وخطفت منديل الورق من يدها، حاولت منعهما من الدخول لكنها دفعتها بيدها القوية، فسحت في الطريق لأمها كان الزحام شديدا، بعض المراحيض معطلة طافحة المجاري، غاص حذاؤها في المياه، براز يطفو على السطح، امرأة تغسل يديها من كوز صفيح، الرائحة غير محتملة، همست أمها: أرجوك لنخرج من هنا. رمقتهما النساء المتنقبات بعيون غاضبة.
بصقت واحدة ناحيتهما وصاحت: كلكم في الجحيم والثعبان الأقرع يضربكم بذيله في أعماق قبوركم. قالت لها: أنتم الجحيم فوق الأرض. رجال من ذوي اللحى الطويلة كانوا عند المدخل، يرتدون جلابيب بيضاء متسخة بالطين والتراب، يشمرونها حتى الركب، يحمل كل منهم خيزرانة ومطواة من قرن الغزال مختفية في جيب سرواله، تتركز عليهما الأضواء، اقترب أحدهم منها ولسعها فوق ظهرها بالخيزرانة ، شدت منه العصا وضربته على ظهره، انضم إليه رجل آخر يتحرش بها، نزعت أمها العصا من يده وانهالت عليه ضربا، لم تكن ضرباتها قوية، ابنتها في ريعان الشباب، تقدم أربعة رجال نحوها ينزعون عنها ثيابها، تمتد أياديهم بين نهديها وساقيها، انقضت الأم عليهم كالجبل يسقط فوقهم، استعادت قوتها القديمة، مارد نائم في أعماقها لا يصحو إلا عند الخطر، أنقذت ابنتها من بين أيديهم، والهتاف يدوي: يسقط النظام. جلست تحت خيمتها في الميدان حين هبط الظلام، كان لها خيمة من قماش أزرق هو قلع مركب، يلجأ إليها الشباب والشابات للراحة بعد التعب، يتناولون شيئا من الطعام أو الماء، يجلسون ويتحدثون حتى الفجر، كان منهم جلال أسعد وفؤادة وسعدية وهنادي وداليا وحميدة وبدرية البحراوي، ينصرفون إلى بيوتهم قبل هجمات البوليس، وقد يبيتون في الخيمة أيام الاعتصامات مع أمهات الشهداء والشهيدات، قتل الآلاف بالرصاص الحي أو الغازات أو التعذيب، لم تعثر الابنة على جثة أمها، ولم تعثر الأم على ابنتها، كانت الجثث تختلط بعضها ببعض، تتلاشى الفروق بين البشر، يساوي الموت بينهم، تهمس في الليل أصوات مبحوحة: لو أشوف ابني بين الجثث؟ مش عارفة عايش والا ميت؟ لو أشوف أمي بعيني في المشرحة يمكن النار في قلبي تبرد!
مش عارفة جثة بنتي راحت فين؟
في مشرحة زينهم الزحام شديد، الموتى أكثر من الأحياء، يدخل رجل يرتدي ملابس عسكرية، ينحني له الدكتور المدير، يناوله ورقة رسمية ويخرج مسرعا، رائحة الموت نفاذة، فوق منضدة جثة يشرحها طبيب، ملامح الميت تشبه ملامح الطبيب، يدخل رجل يرتدي بذلة مكوية أنيقة ومن حوله حرس ينادونه سعادة الباشا، أحدهم يدس في يد الطبيب ورقة من مائة جنيه، تسري حمرة خفيفة في الوجه الخالي من الدم، يتقاضى الطبيب 9 جنيهات لتشريح الجثة الواحدة حسب اللائحة، ويتقاضى مساعده 125 قرشا، تقدمت الأم بظهرها المنحني من الممرض متوسلة إليه: فين بنتي؟
لم يكن في جيبها إلا ثلاثة جنيهات، دفعها الممرض بيده القوية خارج المشرحة، ممنوع الدخول هنا، مفهوم؟ لكن الابنة الشابة دفعت الممرض بيدها القوية ودخلت إلى المشرحة تزعق: يا لصوص، يا مرتشين، يا مزوري التقارير. وكان الممرض أيضا يبيع الجثة لطلبة كليات الطب بالقطعة، يتقاسم المدير والطبيب والممرض الدخل اليومي كل حسب درجته في الكادر الحكومي.
تشريح الجثة
خرجت التظاهرات تطالب بالقصاص من القتلة.
نشرت الصحف:
أدلى الدكتور الطبيب الشرعي الذي شرح جثة جلال أسعد بأقواله أمام نيابة قصر النيل، قال: إن الوفاة نتيجة حادث تصادم وليست بسبب تعرض المتوفى للتعذيب، مشيرا إلى أنه عثر في الملابس على آثار احتكاك بجسم حديدي ولا توجد آثار ضرب، وواجه مدير النيابة الطبيب الشرعي بأقوال الشهود ومنهم الكاتبة الصحفية المعروفة كوكب الكميلي، قالت إن المجني عليه توفي نتيجة تعذيبه من قبل ثلة من ضباط البوليس داخل معسكر الأمن المركزي بالجبل الأحمر، لكن هذه الكاتبة الصحفية غيرت أقوالها لاحقا، وأقوال عامل موقف الحافلات بميدان عبد المنعم رياض، الذي قال إنه شاهد سيارة ميكروباس متجهة إلى كوبري 6 أكتوبر تصدم جلال أسعد، بالإضافة إلى أقوال الممرض المسعف وسائق سيارة الإسعاف التي نقلت جلال أسعد، قال الاثنان إنهما في أثناء وقوفهما في نقطة التمركز أمام المتحف المصري، أخبرهما شخص يستقل دراجة بخارية بوجود جثة شاب صدمته سيارة ملاكي مسرعة أمام مطلع كوبري 6 أكتوبر. أمرت نيابة قصر النيل بتشكيل لجنة ثلاثية لإعادة تشريح الجثة بناء على طلب محاميه، بعد معارك مع النيابة ومصلحة الطب الشرعي، حصل المحامي على نسخة من تقرير الطب الشرعي، الذي أكد أقوال النيابة وأن جلال أسعد لم يقتله التعذيب، بل مات فجاة في إثر حادث سيارة.
قذفت أم جلال أسعد عربة البوليس بالحجارة، ومن خلفها الأمهات والشباب والشابات مزقوا معطف الطبيب الشرعي وهم يصرخون: يا مجرمين يا لصوص. وانطلقت الملايين في التظاهرات وهي تهتف: يسقط النظام!
صفحة غير معروفة
أصبحت خيمتها في ميدان التحرير هي البيت والمسكن، كانت مرهقة من السير في التظاهرات، قلبها ثقيل، أمها نزفت حتى الموت، الآلاف من الشباب قتلوا بالرصاص، والآلاف ماتوا نتيجة التعذيب في المعسكرات، والآلاف فقدوا أبصارهم، كانت الرصاصة تنطلق من القناصة مباشرة إلى عيونهم، تختلط الجثث بعضها ببعض، لا تستطيع العودة إلى البيت ولا تريد أن تعود، خيمتها أصبحت بيتها، تتمدد فوق الأرض فوق كليم من وبر الجمال السميك، تتغطى ببطانية من الصوف الرصاصي، تطل من فتحة الخيمة إلى السماء، سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، الميدان هدأ قليلا بعد يوم عاصف، أنين المصابين يأتيها من مستشفى الميدان في الناحية الأخرى، فتحت عينيها في الظلمة، رأت طيف أمها جالسا عند باب الخيمة كأنما يحرسها، بدا الحلم حقيقة: ليه جيتي يا أمي؟ - قلقت عليكي يا بنتي. - الخيمة باردة عليكي. - الخيمة أدفا من البيت.
جلست في جوارها فوق الكليم، أحاطت كتفيها بشالها الأخضر، همست في أذنها، سامحيني يا أمي، كذبت عليك، كنت خائفة منهم، كنت في حاجة إلى أن أنسى، النسيان يشفي الألم لكن منذ أن رأيت دمها فوق الأسفلت بدأ عقلي يصحو وذاكرتي تعود، خافتة كالهواء، تتسرب قطرات ضوء من وراء سحابة سوداء، دم فوق الأسفلت في السجن، يشبه الدم فوق أسفلت ميدان التحرير، يشبه الدم فوق ملاءة السرير، دمي ودمك وكل الدماء المراقة أمام عيني، حياتي مرت مثل الحلم، الأرض في الميدان صلبة كالرخام، لا أشعر بالألم، جسمي شبه مخدر، ليلة باردة كالصقيع، أرقد فوق الأسفلت، البرودة لا تصل إلى جسمي، كبرودة البحر في الحلم أسبح فيه ولا أبرد ولا أغرق، مع أنني عارية ولا أعرف السباحة، صوتها كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة، أو تأتي من قريب وهي بعيدة، قد تأتي من السماء أو من بطن الأرض، أو من السقف، أو تأتي من كل الجهات كهواء يملأ الأذن، لكنه ليس هواء بل صوت حقيقي أسمعه، وامرأة حقيقية من لحم ودم ترقد في جواري على الأرض، غادرت أمي الخيمة، لا أعرف أين ذهبت، ربما إلى دورة المياه، لم يعد في مقدورها أن تحبس البول ساعات طويلة، ضعفت عضلات الحوض والمثانة، تتسرب القطرات من بين ساقيها قبل أن تصل إلى المرحاض، أردت أن أذهب معها إلى دورة المياه ، على بعد خطوات، عند البوابة الخلفية، لكن النوم غلبني، لم أرها في الظلمة وهي تغادر خيمتنا، تصورت أنها راقدة في جواري وأنا أحكي لها، لم أكن أحكي لك يا أمي، غيابك يشجعني على البوح، الثورة كسرت حاجز الخوف، كنت أخاف ألسنة الناس أكثر من الموت، ظل الخوف ينمو معي، عشت الجحيم فوق الأرض، والجنة لم تكن تحت قدميك بعد موتك، الأرض، الأسفلت تحت ظهرك العاري، كان الأسفلت صلبا باردا كالثلج في شهور الشتاء، جسدك كان ساخنا ملتهبا يحوط جسدا أكثر سخونة والتهابا، داخل رحمك، جسد آخر ينمو ويشرب دمك، تشربين السم وتشرفين على الموت، وتبقى هي في رحمك متشبثة بالحياة، تنتصر إرادتها على إرادتك، هل كرهت ابنتك لأنها جاءت إلى الدنيا بالرغم من إرادتك؟ لم ترغبي قط في الحمل، لكنها المصادفة؛ سقطت الحبة من يدك وأنت تضعينها في فمك، أشياء صغيرة مثل حبة من حبوب منع الحمل قد تفجر الكون، الكون حدث مصادفة، الانفجار الكبير، تحبل الأمهات مصادفة، الحب لا يحدث إلا مصادفة، كل شيء صادق يحدث مصادفة، الجرائم تقتضي التخطيط والتربص وسبق الإصرار، جاءك المخاض في الليل، كما يأتي الأمهات دائما في الظلمة، كتمت الأنين كي لا توقظي الجميع، لا يوقظ النساء في السجن أي صوت، تنام الواحدة منهن كالجثة الهامدة وهي تحلم بالموت، دسست في فمك طرف ملاءتك، ضغطت عليها بأضراسك تسحقين الصرخة، كنت راقدة على الأسفلت فوق ظهرك، فاتحة فخذيك، ضاغطة بيدك اليمنى على بطنك، على رأس الجنين، يتقلص جدار بطنك تحت كفك فتضغطين أكثر، يقل الألم بازدياد الألم، بيدك اليسرى تضغطين على الأرض، ترفعين جسمك قليلا، تضغط عظام ظهرك على الرحم، تكتمين الهواء في صدرك، ويضغط الهواء على بطنك، يختنق الجنين بالضغط، من فوق ومن تحت، يقاوم الاختناق فتشق المولودة طريقها برأسها الصلب، خارجة إلى الهواء عبر قناة المهبل، تتلوى فوق الأسفلت غارقة في الدم، قطعة لحم نازفة ساخنة من فلذة كبدك، تلفين جسدها الملتهب بالبطانية الصوف، تفوح منها رائحة السجن، مزيج من دموع قديمة ودماء جديدة، نحل صوفها الرخيص بمرور الزمن، تغير لونها من سواد الرصاص إلى حمرة الدم الجديد، ومن البياض إلى صفرة البول والدموع القديمة، في الصباح حملتها فوق صدرك، وضعتها في الطشت في غرفة التنظيف، جففتها بملاءة السرير، نظرت إلى عينيها الخضراوين وأطلقت زغرودة متحشرجة قصيرة، هي غير الصفارة الحادة الممدودة التي يسمونها الزغرودة، والتي تطلقها النسوة، بأفواههن وأنوفهن وأصابعهن، في الأفراح والمآتم.
في الصباح بحثت عنك في الخيام، في دورة المياه بالميدان، الرائحة هناك تشبه رائحة السجن، الظلمة شديدة، انزلقت قدمي في المياه الطافحة، كدت أسقط لولا سرعة جسمي الذي استعاد توازنه تشبثا بالحياة، الموت يتربص في هذا المكان، سرت في جسدي قشعريرة، أجسمك غارق في مياه المجاري، أم هو جسمي ممدود أمامي؟ لا أفرق بين جسدي وجسدك، لا أرى إلا بعض أجسام ملفوفة بالبطانيات من الرأس إلى القدمين، أصوات الشخير من الأنوف تختلط بأصوات الخرير من الصنابير، لم تكوني في أي مكان، الدنيا كلها خلت منك، كأنما مات الكون.
سعدية وفؤادة في السجن
تلقت أمي تربية في البيت والمدرسة يسمونها التهذيب، لا تفعل ما تفعله النسوة الأخريات، لا يدخل السجن إلا القاتلات أو المومسات أو الشحاذات أو المتهمات بتجارة المخدرات أو السرقة، غالبيتهن من الفقيرات المطحونات الحالمات بالجنة بعد الموت، لا يدخل السجن من النساء المتعلمات غير الحالمات بالجنة إلا القليل النادر، الجريمة غالبا تندرج تحت بند السياسة، والثورة لقلب نظام الحكم، كانت هي أيام الثورة، من أجل الحرية والعدل والكرامة، بعضهم يقول إنها انتفاضة وليست ثورة، والشباب بلطجية وليسوا ثوارا، والشابات عاهرات ولسن ثائرات، شارك أمي وأبي في الثورة، كان عمري أربعة شهور داخل رحمها وهي تسير مع المتظاهرين، تهتف معهم: يسقط النظام. رأسها شامخ مرفوع، طويلة القامة ممشوقة الجسم، تمارس رياضة الفولي بول والسباحة، انتفاخ الحمل تخفيه قوة عضلات البطن، تبدو في التاسعة عشرة، على الرغم من بلوغها الخامسة والعشرين، عقلها يكبر عمرها بعشرين عاما، أبي يسير في جوارها، لكن رأسها يرتفع عن رأسه ثلاثة سنتيمترات، عظام ظهرها مشدودة أكثر، بشرتها أشد سمرة تشوبها حمرة الشمس، ورث أبي بشرته البيضاء من أبيه وانحناءة خفيفة لفقرات الظهر، صلعة صغيرة مبكرة في منتصف رأسه، يسيران، يده في يدها، متساويين، كتفها إلى كتفه، لا تعلو كتفها إلا ثلاثة سنتيمترات، تجمع الملايين من الناس في ميدان التحرير الذي أصبح كالدار الكبيرة تضم مئات الخيام، انقضت عليهم عربات البوليس البوكس، حطمت خيامهم، حملت بعضهم إلى السجون، وسقط بعضهم الآخر بطلقات الرصاص، لم يعرف أحد من مات ومن اختفى ومن في المشرحة ومن في السجن، كان المشهد يتكرر، خرجت مع أمي من السجن، بلغت من العمر عامين، تعلمت المشي حافية القدمين على الأسفلت، لا أحس ببرودة الأرض أو بسخونتها، لا تخترق جلدي مسامير ولا قطع زلط، لا أبكي من جوع أو مغص، تتركني أمي أزحف أمام العنبر، ألتقط مع الطيور فتات الخبز أو حبوب الفول والعدس، أزقزق مع العصافير في الصبح، ترن ضحكتي في فناء السجن، تتجمع المومسات من حولي والقاتلات وبائعات المخدرات والشحاذات وكل المسجونات، تحملني كل واحدة فوق صدرها وهي تضحك، أحس بالأنين تحت ضلوعها، عرفت دقة الفرح في الصدر من دقة الحزن، قبل أن أبلغ الثالثة من عمري!
حملتني أمي فوق صدرها لدى خروجها من السجن، خرجت معنا امرأة كانوا يسمونها سعدية القتالة، طويلة القامة سمراء البشرة تكاد تشبه أمي، في السجن ولدت ابنتها، أناديها هنادي وتناديني داليا، كنت ألعب معها على الأسفلت، أمي وأمها تتحدثان كأنهما صديقتان، أمي تناديها سعدية وهي تنادي أمي الأستاذة، بلاش حكاية الأستاذة دي يا سعدية. - يا ست فؤادة، العين ما تعلاش عن الحاجب. - عين إيه وحاجب إيه كلنا ولاد تسعة. - ولاد بس؟ وفين البنات؟ - غلبتيني يا سعدية. - عليكي واحد يا أستاذة.
وتدوي قهقهاتهما في أرجاء السجن ناشرة عدوى الضحك بين النساء.
في مكتب السجان تدوي الضحكات، تهتز أرجل الكرسي تحت أليتيه السمينتين من طول الجلوس وراء المكتب، وأكل الدهن والمداهنة، فوق رأسه تهتز الصورة داخل البرواز، تتقلص عضلات الوجه المربع، ينتصب شعر رأسه المصبوغ بلون أسود كالليل. - إيه اللي بيحصل ده؟ - مافيش حاجة يا معالي الباشا. - أنا سامع هتاف ضدي يا حمار؟ - شوية نسوان بيضحكوا يا فخامة الرئيس. - كده؟ طيب سيبهم يتسلوا.
خرجت سعدية وابنتها من السجن إلى غرفة في الزقاق وراء القبور، كانت تعيش في هذه الغرفة مع زوجها قبل أن تقتله، ناولتها أمي ورقة صغيرة كتبت عليها عنوان بيتنا، أصبحت سعدية تأتي إلينا كل يوم من الساعة السابعة صباحا إلى الخامسة مساء ما عدا الجمعة وأيام الإجازات، تقول عنها أمي إنها شغالة محترمة وليست خادمة، كانت أمي تسكن في شقة صغيرة بعمارة جديدة في شارع التحرير، كان اسمه شارع الملك ثم تغير الاسم مع تغير الزمن، استأجرت أمي هذه الشقة قبل أن تتزوج أبي، عادت إلى عملها في الجورنال بعد خروجها من السجن، كانت لي غرفة فيها سرير من الخشب، لونه بني أدكن، وخزانة ملابسي ومكتبي من اللون ذاته، فوق الجدار صورة لرجل له شارب أسود، عيناه خضراوان لامعتان، تطلان من تحت جبهة عالية وحاجبين كثيفين، شفتاه مطبقتان بعضلات قوية تنم عن الإرادة والتصميم، كانت أمي تقول إن أبي كان في عداد الثوار، لكن. لكن إيه يا ماما؟
تسكت أمي، تبتلع دموعها في صمت، أرهف أذني لصمتها، أحاول أن أعرف من هو أبي وماذا كان؟ أتأمل ملامح وجهه في ضوء النهار، في الليل أحدق إلى صورته تحت ضوء اللمبة، تتغير النظرة في عينيه مع تغير الضوء والمكان الذي أقف فيه، أمام خزانة الملابس أو وراء مكتبي، تبدو نظرته قوية ثائرة مستقيمة، وأحيانا تبدو هادئة ملتوية مستكينة، بلغت الثامنة من عمري، يوم دق جرس الباب، عرفت أنه أبي الذي يدق الجرس؟ كيف عرفت؟ لم أره في حياتي ولم أسمعه يدق الجرس، لم تصف لي أمي طريقته في دق الجرس، أبي يدق الجرس؟
صفحة غير معروفة
كانت أمي جالسة في الصالة تشاهد التلفزيون، وأنا جالسة وراء المائدة أشرب اللبن الساخن مع الكاكاو، وأتابع الصور المتحركة عبر الشاشة، ألاحظ أصابع أمي الطويلة النحيفة ترتعش فوق أزرار التلفزيون، تنتقل من قناة إلى قناة، تهتز الصورة الكبيرة منقسمة إلى مئات من الصور الصغيرة، تصعد الوجوه وتهبط، تنقسم بالطول والعرض، تتحول خطوطا رأسية وأفقية، سوداء وبيضاء وحمراء، تظلم الشاشة وتضيء وتظلم وتضيء، أنفاس أمي تلهث، أصابعها فوق الأزرار ترتعش أكثر، تظهر كرة قدم طائرة من فوق الرءوس ويرتفع صراخ الجماهير: جون جون. تختفي الصورة، تظهر راقصة نصف عارية تفرقع بالصاجات، يتلوى جسمها وينثني كأنما تشعر بألم والجماهير تهتف: الله الله، تختفي الصورة ويظهر الشيخ الكبير ذو اللحية الطويلة يقول بصوت وقور: الرجل يعمل من أجل الله، والمرأة تعمل من أجل الشيطان، عمليات زرع الكلية أو الكبد كفر بالله؛ لأنها تؤجل لقاء العبد ربه، ختان المرأة وحجابها وتعدد الزوجات أمر من الله. تصفع أمها وجه الشيخ بيدها وتغير المحطة، تظهر صورة رئيس الدولة على الشاشة المضيئة، يخطب في ذكرى النصر العظيم أو الثورة المجيدة، في يده منديل يمسح عرقه، ملامح وجهه متقلصة، تشبه ملامح الملاكمين ومدربي الرياضة وكرة القدم، جبهته عريضة تنزلق إلى شعر أسود مصبوغ بدقة، رأسه مربع قوي العظام مشبع بالسلطة، عيناه زائغتان تنظران إلى الفراغ، جفونه متورمة، انتفاخات في الجلد تحت العينين حتى الصدغين، عضلات وجهه متهدلة، تنم عن هزيمة خفية، فمه مفتوح على آخره يزعق: ذكرى النصر العظيم والثورة المجيدة. انتفضت أمها من مقعدها واقفة، شفتاها ممطوطتان في امتعاض، امتدت ذراعها وصفعت شاشة التلفزيون بكفها وهي تكلم نفسها، كانت هزيمة مش نصر ...
شاكر
لم تسمع أمي جرس الباب يدق، طغى الصوت الزاعق في التلفزيون على كل الأصوات. - الجرس يا ماما! - مدت أمي يدها إلى سماعة التلفون: آلو. - جرس الباب يا ماما مش التلفون!
سارت إلى الباب، تعثرت بالسجادة الملونة في الصالة، ارتطمت ساقها بالمنضدة في البهو، فتحت الباب، رأت رجلا أمامها، يحمل صرة ملابس، ملامح وجهه تشبه الصورة فوق الجدار، شاكر؟ أحاطته بذراعيها وهي تجهش بالبكاء، شمت في ملابسه رائحة السجن، العرق والدموع والدم، تطلع الأب بعينيه المتسعتين دهشة، أهي ابنته الجالسة وراء المائدة تحدق إليه؟ عيناها خضراوان لونهما من لون عينيه، أول مرة في حياته يراها، حدقت إليه، لا يشبه الرجل في الصورة، وجهه أكثر طولا ونحافة، شعر رأسه لم يعد أسود أو غزيرا، تتخلله شعرات بيض، جبهته أصبحت أعرض مما كانت، لكن عينيه خضراوان تشبهان عينيها: بابا؟
حملها بين ذراعيه عاليا إلى فوق فوق، ثم تلقفها بين يديه قبل أن تسقط على الأرض، تشهق فرحا وتجهش بالبكاء، يذوب الضحك في دموعها في الحمام، سمعتهما من وراء الباب، أبوها وأمها يشهقان وينشجان، ضحك وبكاء ثم ضحك وبكاء، بلغت الابنة ثمانية أعوام، تستطيع التمييز بين الشهيق والنشيج، أرض الشقة من الخشب، تلمعه الشغالة سعدية بالورنيش مثل حذاء أبيها، تخرج الأم كل صباح مع الأب، يعملان معا في الجورنال في شارع متفرع من ميدان التحرير، في المساء يذهبان معا إلى المسرح أو السينما أو إلى ندوة أو اجتماع، تسوق الأم سيارتها الصغيرة وفي جوارها يجلس الأب، كان يقود سيارته الخاصة حين يخرج وحده في الليل، أتدرب على البيانو في غرفتي التي تطل على الشارع الرئيسي، سريري له غطاء مزركش، فوق مكتبي كتبي وأقلامي وكراريسي، البيانو في الركن في جوار النافذة، اشترت أمي هذا البيانو في عيد ميلادي قبل فصلها من الجورنال.
كانت أمي في الصالة تتحدث مع أبي: أنا عارفة سبب قرار الفصل، الكل عارف السبب. - وساكتين ليه؟ - الكل خايف. - خايفين من إيه؟ - إنتي عارفة.
أمي اسمها فؤادة، فتحت عيني على وجهها وأنا أخرج إلى الدنيا، أبي لم أره إلا بعد ثمانية أعوام من مولدي، السيدة أم رءوف كانت تسكن الشقة في جوار شقتنا، تتحدث أمي عن أبي الغائب في السجن: يختلف عن جميع الرجال، ليس فيه خشونتهم وغلظ أصواتهم، قامته ممشوقة في كبرياء، انحناءة خفيفة تنم عن التواضع، يمارس الرياضة في النادي، أصابع يديه نحيفة طويلة، يعزف على البيانو أحيانا إن وجد الوقت، أنا أفضل الكمنجة لكني لا أجد الوقت، شاركنا في التظاهرات، كنا زملاء. تحملق السيدة أم رءوف في وجه الأم: الحب يا بنتي أعمى! مش الحب يا أم رءوف. أمال إيه؟ صداقة! - وإيه الفرق يا أستاذة بين الصداقة والحب؟ - زي الفرق بين فيلم أبيض وأسود وفيلم ملون.
مش فاهمة حاجة يا ست فؤادة. الابنة داليا تحدق بعينيها الخضراوين إلى السيدة الجارة، وجهها مربع أبيض، عيناها ضيقتان غائرتان كعيون الطيور الجارحة، جسمها سمين قصير مترهل، ترتدي جلبابا واسعا رمادي اللون، تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمشي بخطوات بطيئة زاحفة، تبتسم في وجه أمها، وفي ظهرها ترشقها بعين مخيفة، ترى الابنة ظهر أمها ومن فوقه عين الجارة، كتبت داليا في مفكرتها بعد أن دخلت المدرسة: لا ترى أمي ظهرها إلا في المرآة، بعد أن ينثني جسمها وتلتوي حول نفسها، أدرب جسمي أمام المرآة لأرى ظهري، أنا أكره جارتنا لأنها تكره أمي من وراء ظهرها، تكتم الابنة السر خوفا من السيدة أم رءوف، كانت أمها تتركها معها في البيت حين تخرج، دق جرس التلفون، رفع شاكر السماعة: آلو، الأستاذة فؤادة في إسكندرية، حترجع يوم الإثنين. المفكرة في جوار التلفون فوق المنضدة، نوتة صغيرة مشبوك بها قلم رصاص بخيط رفيع، يسجل فيها الأب أو الأم رسائل التلفون في غياب أحدهما، كتب التاريخ في أعلى الصفحة، الساعة التاسعة صباحا، خطه متعرج قليلا، يقاوم رعشة غير مرئية لأصابعه، فوق يده آثار حرق بأعقاب سجائر وكعوب أحذية حديدية، كانت تقبلها زوجته وهو نائم، وتلثمها بشفتيها الدافئتين، رئيس التحرير طلبك بالتلفون، عاوز يقابلك في أقرب فرصة، كانت فؤادة واقفة فوق شاطئ البحر، ترتدي لباس السباحة، يسمونه المايوه، يكشف سلسلة عمودها الفقري، من العنق إلى الشق بين الردفين، ظهرها طويل مشدود، يمتد إلى عنق قوي يحمل شعرها الغزير الأسود، مرفوعا فوق رأسها، الردفان المشدودان بعضلات قوية، الساقان طويلتان مستقيمتان مسحوبتان برشاقة إلى قدمين سمراوين أظفارهما مقصوصة نظيفة، واقفة على حافة البحر الأبيض المتوسط، عيناها تحدقان إلى زرقة المياه الذائبة في زرقة السماء، حركت جسمها نصف دائرة ضد الشمس، ظلت واقفة تحدق إلى اللانهائي، ذراعاها الطويلتان على جانبيها مرتخيتان، هواء البحر واليود والوجود يخترق عظام ظهرها حتى أسفل فقرة، تأتي إلى البحر لتغسل نفسها مما يحدث في حياتها، بإصبعها الطويلة الصلبة المدببة تضغط على الحفرة تحت ضلوعها، تلامس إصبعها جدار قلبها الأملس وحافة المعدة المتقلصة، تغوص إصبعها حتى عظام ظهرها، تتذكر ما حدث وتنسى، تترك ذاكرتها للنسيان، الكسل اللذيذ وهواء البحر، تبتسم لنفسها، تتقلص الابتسامة مع انقباضة الشفة السفلى تحت أسنانها الأمامية، حادة بارزة مدببة، شفافة بيضاء ملائكية، تقاطيع وجهها حادة، منحوتة بقوة، بشرتها معبأة بالشمس واليود والملح، عيناها تحت الجبهة العالية عميقتان، الخدان بارزان تحت جلد مشدود رقيق يكاد يتمزق ويسيل منه الدم، ألقت نفسها في البحر وسبحت مع التيار حتى الصخرة، لا تجد لذة في السباحة السهلة، تفضل أن تسبح ضد الأمواج، تبذل جهدا ممتعا في مقاومة التيار، يأخذها البحر بعيدا عن الشاطئ، تختفي عن أنظار الحارس في كشك الرقابة، ينفخ في صفارته، يلوح بالراية السوداء، ثم يراها تخرج من كبد البحر مثل الشراع، تضرب المياه بقوة ذراعيها وساقيها عائدة إلى الشاطئ.
ارتدت ملابسها بسرعة داخل الكابينة، يحتفظ جسدها بالملح حتى تعود إلى البيت، ترتدي القميص الأبيض الفضفاض من الكتان، بنطلون واسع من الجبردين الرصاصي، حزام من الجلد ذو قفل حديدي مشدود فوق بطنها، جيبها الخلفي لم يعد فيه كيس النقود، نشله لص في محطة القطار، محطات القطارات تمتلئ بالنشالين، وأصابع اللص سريعة كلفحة هواء، مدربة خفيفة تسرق الكحل من العين كما تقول السيدة جارتها، البلد أصبح عامرا باللصوص والسماسرة ومهربي البضائع والمخدرات والجنس والأعضاء البشرية ومكاتب الاستيراد والتصدير، لم يكن معها ثمن تذكرة الترام، سارت إلى بيت صديقتها كوكب، من شاطئ ميامي إلى شاطئ جليم، حملها المصعد إلى الدور الرابع عشر، فتح لها الخادم الباب، قادها فوق مساحات من السجاجيد العجمية إلى الشرفة الكبيرة، امتد بصرها إلى المدينة كلها، تكاثرت الجوامع والمنارات ومن فوقها مكبرات الصوت أهلا أهلا فؤادة حبيبتي ...
ظهرت كوكب في الشرفة، قصيرة ممتلئة مربعة، تضع حجابا تزينه فصوص من اللؤلؤ، تترجح فوق كعب رفيع عال جدا، ترفل في ثوب أحمر شفاف، مشغول فوق الصدر بخيوط زرقاء، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، وجهها شاحب بالرغم من المكياج، عيناها صغيرتان تلمعان ذكاء، كانت مجتهدة في الدراسة تحفظ الدروس عن ظهر قلب، وقعت في حب زميلها الذي مات في إثر حادث سيارة، ساورها تساؤل عن معنى الحياة، لم يجب أحد في المدرسة أو الأسرة عن تساؤلها، بدأت زميلة مسلمة تتقرب إليها بإعطائها أشرطة مسجلة لأحد الدعاة المشهورين، أولها شريط عنوانه عذاب القبر، يحكي عن الثعبان الأقرع الذي ينزل إلى زنقة القبر المظلم، ويضرب البنت بذيله في أعماق الأرض لعدم ارتدائها الحجاب، أصابها الهلع، ساعدتها زميلتها على شراء الحجاب وارتدائه بحماسة، أصبحت تصرخ في وجه أمها قائلة: «إنتي كافرة، تحجبي، حاتموتي ويضربك الثعبان الأقرع بذيله في أعماق قبرك.» وألقت جميع أشرطة الموسيقى والأغاني التي أحبتها في القمامة، وانتزعت الصور عن حيطان البيت، وتمثال إيزيس الذي زينت به المكتبة في الصالة دفنته في حفرة في الأرض، وغطت جهاز التلفزيون بملاءة سوداء، ثم استمعت إلى الأشرطة الأخرى، وأصبحت ترى نفسها تمشي فوق الصراط المستقيم وعيون الشياطين في الجحيم تشير إلى جسدها العاري، الذي كتبت عليه فضيحتها بحروف من نار: هذه البنت لم تلبس الخمار. أخذتها الزميلة إلى محل أمام جامع أسد بن الفرات، فاشترت الخمار والأشرطة كلها لهذا الداعية المشهور التي تبلغ أربعين شريطا، غضب أبوها بشدة ونزع خمارها بالقوة فتمادت في التمرد على الأسرة، أخذتها أمها إلى الشيخ محمد الغزالي ليصحح أفكارها، لكنها لم تسمع له، سيطر الداعية الشهير على عقلها وقلبها فأحبته كالعبد للرب، أخلصت في خدمته وتوزيع أشرطته وتدريسها في الجامع، واستسلمت لكل ما يقوله وما يفعله، يضمها إلى صدره كالأب الحنون ويقرأ القرآن، أكبر من جدها فلم تشك فيه، في يوم فض بكارتها من دون أن تشعر بالخطأ، كان هو الصواب والحق المطلق، فوجئت بالحمل، تصورت أنها مريم العذراء تحمل المهدي المنتظر، فهي الوحيدة من نساء العالمين التي ذكرها القرآن باسمها وخصص لها سورة كاملة.
صفحة غير معروفة
بعد أيام في الجامع كان الداعية الشهير يتحدث عن شرائطه بعنوان سيرة الرسول، حكى لهم أن سيدنا جبريل نزل على النبي الطفل ليختنه، وكانت هي قد قرأت عن الأضرار الطبية لختن الإناث والذكور، فسألته عن المرجع الذي يستند إليه في ختن النبي، فإذا به يزمجر غضبا ويطردها من الحصة قائلا: «إنتي قليلة الأدب، إزاي تسألي عن شيء يخص عضو الذكر عند النبي؟»
خرجت تبكي في الشارع مكسورة القلب تشعر بالذنب، غاب عنها النوم وفقدت شهيتها للطعام لأنه حرمها من لقائه، فأخذتها أمها إلى صديقة لها طبيبة نفسية شديدة الرحمة والفهم، شجعتها على البوح ... ذهبت إليه الطبيبة النفسية فإذا به ينكر كل شيء ويتهمها بالفساد والكفر، ساعدتها أمها والطبيبة على إجراء عملية الإجهاض، خلعت كوكب الخمار لكنها لم تملك الشجاعة لخلع الحجاب، سافرت مع زوجها بكري إلى الخليج للعمل في صحيفة الإسلام والإيمان، ثم عادا إلى مصر، فعينا في الجورنال بقرار جمهوري. - محفظتي نشلوها يا كوكب، لازم أرجع مصر الليلة عاوزة سلفة. - سلفة إيه؟ ده احنا أهل. - البلد بقت كلها لصوص. - سمعت عن القرار. - قرار إيه؟ - فصلك من الجورنال. - أنا نسيته يا كوكب. - شيء مؤلم يا فؤادة.
مع التيار
يرتعش صوت كوكب ألما وينسدل جفنها الأعلى مخفيا الفرحة، لا فائدة من الصدق في هذا البلد يا فؤادة، الفساد منتشر وخصوصا في الصحافة، رئيس التحرير يتلقى الأوامر بالتلفون كل يوم من السيد الرئيس، نصحتك كثير، قلت لك لازم تمشي مع التيار يا كوكب، لا يمكن أغير نفسي، المسألة مش نفاق يا حبيبتي، أنا زيك لا يمكن أنافق لكن مجرد ذكاء اجتماعي، صعد الدم إلى وجهها كل حاجة بقت مقلوبة يا كوكب، الصدق بقى غباء والنفاق بقى ذكاء. انزلق جسد كوكب قليلا إلى الوراء في المقعد، مدت ذراعها إلى جرس يتدلى من الجدار، ظهر السفرجي، بشرته سوداء مثل بشرة أهل أسوان أو السودان، يرتدي قفطانا قطيفيا أحمر من حوله فوطة بيضاء، تشربي إيه يا حبيبتي؟ وحشني كلامك الثوري، هات شربات الورد من الثلاجة يا عم عثمان، شكرا أنا لازم أمشي، تمشي من اسكندرية لمصر؟ - أمشي لإيطاليا كمان يا كوكب؟ - عارفاكي يا فؤادة تعملي أي حاجة.
أطلقت كوكب ضحكتها القصيرة كالشهقة المتقطعة.
أنا وبكري راجعين بعد الغدا، تتغدي معانا سمك مشوي وننزل مصر بالعربية سوا إيه رأيك؟ ظهر الزوج بكري في الشرفة، مرتديا روب دي شامبر حريريا لونه كلون البحر، يفوح منه عطر الحلاقة، صاح مرحبا بها، يحبها ويكرهها في آن واحد، واقفة ليه يا فؤادة؟ إذا حضرت الشياطين غابت الملائكة؟ - بالعكس يا بكري. - أنت الملائكة طبعا.
انطلقت الضحكات في الشرفة العلوية، جاء شراب الورد المثلج، ابتلعته جرعة واحدة مثل شربة زيت الخروع، اعتذرت عن الغداء وخرجت بعد أن أغلق الخادم الباب وراءها، أطرقت كوكب طويلا وهي تشعر بثقل في قلبها، نوع غامض من الهزيمة، رفضت فؤادة دعوتها، ربت زوجها كتفها: ما لك يا كوكب؟
مش عارفة يا بكري ليه أحيانا أحس فجأة بالحزن. يشير بكري إلى صورتها في الجورنال: تحزني ليه؟ صورتك في الجورنال، الوزير بيسلمك الجايزة، الأستاذ محمد أكبر مفكر عندنا يعتبرك الكاتبة الأولى في مصر والعالم العربي. ابتسمت كوكب في سخرية: كفاية عليه السيدة الأولى. تلعثمت ثم قالت: أنا فخورة إني باشتغل معاه رغم إني باحتقره. تتلعثم تتردد، تحاول كشف أعماقها لزوجها أو لنفسها: أيوه يا بكري، بصراحة أنا باحتقر المفكر والكاتب الكبير ده. شيء طبيعي يا كوكب. أنا متناقضة وانت بتحتقرني يا بكري؟ - التناقض أصل الكون يا كوكب، ربنا نفسه متناقض. - أستغفر الله العظيم! رجل مؤمن يقول الكلام ده؟
أنا مؤمن والحمد لله، لكن التناقض سنة الحياة، لا تحاولي جلد ذاتك، صديقتك فؤادة رفضت دعوتك بسبب الغيرة، أنت تصعدين إلى القمة وهي تهبط إلى القاع، وأنت متزوجة الكاتب المرموق أنا، وتشتغلين في أكبر دار صحفية في مصر والعالم العربي، فعلا يا بكري، أكبر جورنال في الشرق الأوسط، وأنا مخلصة في عملي، والأستاذ محمد يقدر شغلي، رغم أني أحيانا أسرق أفكار غيري وأعيد كتابتها، إيه الكلام اللي أنا بقوله ده؟ - أنا فاهمك يا كوكب.
ابتلعت دموعها، أحاطها بذراعيه وهمس في أذنها: أحبك يا كوكب كما أنت ولا يمكن أحب واحدة تانية. وضعت رأسها فوق صدره وتنهدت في راحة تعترف له بأشياء تخفيها عن نفسها، تشعر بحرية معه، ترفع عن قلبها العبء، لم تعد تشعر بثقل شيء، إلا صدره المغطى بالشعر الأسود الخشن يضغط نهدها الأيسر، أخذها إلى غرفة النوم، في السرير العريض صعدها، دخلها وخرجها بسرعة، ثم انقلب فوق ظهره مغمضا عينيه، قبل أن يسقط في النوم قال: على فكرة دعيت الأستاذ للعشاء الجمعة الجاية! - راجل عظيم؟! - أهم مفكر في مصر والعالم العربي. - بصراحة يا حبيبي أنا لا أفهم ما يكتبه! - يا كوكب ده فيلسوف عالمي.
صفحة غير معروفة
تململت كاتمة الضيق، لا تشعر بلذة في قراءة الأستاذ، كلماته مقعرة متعالية، يدعي العلم، يردد أقوال فلاسفة من الغرب والشرق، لم تعد تشعر بلذة في القراءة، كل شيء في حياتها يخلو من اللذة، القراءة والكتابة والحب والجنس وكل شيء، وجدت نفسها تصيح بغضب: أرجوك يا بكري، بلاش كلمة عالمي دي. - ما لها كلمة عالمي يا كوكب؟ - أباتت كلمة مقززة؟ - كل شيء مقزز حتى الصحافة والكتابة ...
وأرادت أن تكمل لكنها توقفت، يتركها زوجها تتكلم ويسقط في النوم، تروح عن نفسها بالهمس، تواصل الحديث مع زوجها النائم حتى ينزاح العبء عن صدرها، تغسل عن نفسها كل ما يسبب لها التقزز، تصبح نظيفة طاهرة، ثم تغرق في نوم عميق كالملائكة. هبط الليل وفؤادة تمشي على شاطئ البحر، من أين لها بتذكرة القطار؟ هل تبيت في الكبينة على الشاطئ؟ تذكرت فجأة أخاها، إنه يسكن في شقة تطل على محطة الرمل، ويعمل في مكتب بالإسكندرية. وصلت إلى شقة أخيها متعبة جائعة ريقها ناشف، دقت الجرس لكن لم ينفتح الباب، واصلت دق الجرس والخبط على الباب الخشبي ذي اللون البني الأدكن، له مقبض ذهبي منقوش عليه حروف الله، لم ينفتح باب أخيها فازدادت حيرة، لا تعرف ما تفعل، أمام الباب قطعة من السجاد، مكتوب عليها كلمة أهلا، تكورت فوقها ورأسها بين يديها، انفتح باب الشقة المجاورة، ظهر شاب طويل نحيف يرتدي بيجاما بيضاء، اتسعت عيناه دهشة: حضرتك أخت عصام؟ - أيوه، أنا أخته. - اتفضلي، استريحي عندي، عصام دايما يرجع متأخر، اتفضلي لغاية ما يرجع.
كان واقفا في الباب، نظرته توحي بالثقة، وهي جالسة لم تنهض قالت ولسانها جاف من الظمأ: كوباية ميه من فضلك؟ - اتفضلي عصام صديقي.
دخلت من الباب المفتوح، الصالة واسعة فيها كنبة كبيرة من الجلد وبعض الكراسي من النوع الأسيوطي، ومكتبة من خشب الزان محملة بالكتب، قالت لنفسها: رجل يقرأ الكتب، إذن لا خوف منه. تملؤها الكتب منذ الطفولة بالطمأنينة، لمحت عناوين روايات عربية وأجنبية وكتب في الاقتصاد والتاريخ والفلسفة، كتب الأدب لها عندها جاذبية خاصة، أفرغت كوب الماء البارد في جوفها الساخن، غمرتها الراحة فاستندت إلى المسند الجلدي: أنت بتحب قراءة الروايات؟ - أيوه.
لكن كان يشتغل مهندسا، يضع رسوم الإنشاءات والمباني، يتحدث عن فن المعمار بحماسة عاطفية. دار الحديث بينهما كأنه زميلها في الجورنال، الإبداع في المعمار لا يختلف عن الإبداع في الأدب أو الموسيقى أو أي شيء آخر، لكن لا أحد يهتم بالحاجات دي في بلدنا؟
في بيت رجل
كانت تنظر إلى الساعة من حين إلى حين، تسير إلى باب أخيها تدقه، تضغط على الجرس، ثم تعود حائرة، بلغت الساعة منتصف الليل، عصام اتأخر جدا، دايما يتأخر، زمانه جاي في السكة عندي صينية بطاطس في الفرن، جعانة؟ جدا وضحكت نهض إلى المطبخ وكوباية ميه كمان من فضلك، أكلت بشهية الأطفال في غرفة الطعام، ونامت حتى الصباح في غرفة الضيوف، قلقت في نومها مرة أو مرتين، تتلفت حولها بدهشة، غرفة غريبة عنها، وهي راقدة بملابسها لم تخلع الحذاء، تدرك فجأة أنها تمضي الليل في بيت رجل لا تعرفه، ليس لباب الغرفة مفتاح، ينتابها القلق ثم يغلبها النوم، تفتح عينيها في الظلمة، ترهف أذنيها لسماع صرير باب غرفتها وهو يدخل؟ مجرد خيالات ومخاوف طفولية قديمة، حين كانت تسد شقوق الشيش بأوراق الصحف؛ خوفا من تسلل الشيطان أو الملاك مندوب الله إلى السيدة مريم العدرا، لكن الليل انقضى في أمان، قفزت من الفراش على ضوء النهار، صافحت الرجل وشكرته، لم تسأله عن اسمه، سارت إلى باب شقة أخيها ضغطت الجرس، فتح أخوها الباب، اتسعت عيناه دهشة، جيتي من مصر امتى؟
دلوقتي أتقول له أين قضت الليلة؟ لا أحد يصدق؟ تكاثرت المساجد والمسابح وفتاوى وأحاديث من نوع: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. دخلت الصالة، كانت مائدة الفطور معدة، فتاة جالسة تشرب الشاي وهي مرتدية قميص نوم أحمر شفافا، حمالة رفيعة فوق الكتف البيضاء العارية، رأسها ملفوف بالحجاب، تلعثم أخوها قليلا: صديقتي.
ابتسمت الفتاة وهمست: اتفضلي الفطور جاهز. شكرا، لازم أرجع مصر حالا، نشلوني يا عصام وعاوزة أستلف منك ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة. جلست في جوار النافذة، تحب السفر بالقطار منذ الطفولة، تشرد عيناها في المساحات الخضراء الممدودة إلى الأفق، لم تعد المساحات خضراء، تقلصت الخضرة وتقلصت البهجة، في محطة طنطا اشترت رزمة من الجرائد، رائحة السميط أعادت إليها شيئا من البهجة، قضت الوقت وهي تقرأ وتقضم السميط مع الجبنة الرومية، في الصفحة الأولى من الجورنال رأت الصورة، صورته تظهر في كل يوم في الصفحة الأولى، في كل مكان في البلد، فوق أعمدة النور والسواري، في مكاتب الموظفين والحلاقين، وفي دورة المياه بالقطار، تطل عيناه عليها وهي جالسة فوق المرحاض، تهتز الخطوط فوق جبينه مع الاهتزازات فوق القضبان، ويشتد غضبه حين يراها تمسح المرحاض بالجورنال، وصلت إلى محطة باب الحديد، ركبت الأوتوبيس إلى شارع التحرير، تمشي بخطوتها السريعة، الناس يرمقونها وهي تمشي، يحملقون في ظهرها المشدود ورأسها المرفوع، نوع من الكره تثيره في الرجال والنساء، يكرهون كيانها وكبرياءها، جسمها ممشوق مثل جسم شاب رياضي لكنها فتاة، خطوة واسعة واثقة تنم عن الكرامة، ليست خطوة أنثى، عيناها شاخصتان إلى الأمام تتحديان الأنوثة والذكورة معا، لم تكن ترى أحدا وهي تمشي، لا تتلفت هنا وهناك، كأنما الكون خال من البشر، تمشي نحو الأفق، حتى التقاء الأرض والسماء، تمشي كأنما إلى اللامنتهى، زوجها شاكر كان ينتظرها، بشرته بيضاء، شعره أسود كثيف إلا صلعة صغيرة في منتصف الرأس، عنقه رفيع يطل من فتحة القميص المفتوح، صدره أملس ليس عريضا وليس فيه شعر، عضلات ذراعيه قوية، يمارس الرياضة في النادي. - مكتب الرئيس طلبك مرتين. - الرئيس أنهوه؟ - مش عارفه. - رئيس التحرير؟ - عاوز يقابلك. - بخصوص؟ - قرار فصلك.
حدقت إلى عينيه الخضراوين من خلال زجاج النظارة البيضاء، في صوته رنة سرور غامض وهو ينطق «قرار فصلك»، يخفي الصراع في أعماقه بابتسامة أو بنصف ابتسامة، شارك في التظاهرات، هتف للحرية والعدالة والمساواة، دخل السجن وخرج، صدر له كتاب عنوانه تحرير المرأة: فصلني خلاص عاوز يقابلني ليه؟ - يمكن يرجع في قراره. - لا يمكن أرجع الجورنال. - بلاش مشاكل جديدة يا فؤادة.
صفحة غير معروفة
يتحسس مؤخرة رأسه بأطراف أصابعه، حركة لا إرادية، منذ خرج من السجن قرر ألا يدخله مرة أخرى، يرمق زوجته بغضب مكبوت، تعيش في الخيال غير معترفة بالواقع، تصفع الناس برأيها من دون أن تفكر في العواقب، كان الأفضل أن يتزوج ابنة عمه سوسو، ليست ذكية ولا جميلة، لكنها أنثى رقيقة، تحب رعاية الأطفال وتجيد الطبخ وأعمال الإبرة، ليس لها طموح خارج البيت والأسرة، لكنه اختار فؤادة، ليس بسبب الحب أو الجنس، زوجته في نظره باردة، تفتقد ضعف الأنوثة، لا تطيع إلا عقلها، كانت له علاقات بنساء شبقات غير مختونات، يفضل الفتيات العذراوات دون سن العشرين، لكنه تزوج فؤادة بعد خروجه من السجن، كان متعبا معزولا عن الحياة، أراد زوجة قوية الشخصية تعيده إلى الحياة، تحمل عنه أعباء البيت ومصاريف الأسرة، جميلة ممشوقة يفخر بها في الحفلات، ولا مانع من أن تكون مثقفة أو كاتبة، شرط ألا تعوقها الكتابة عن واجباتها الزوجية، دخلت فؤادة الحمام، تركت نفسها تحت مياه الدش تغسل الرمال والماء المالح، ناسية جسمها تحت المياه المتدفقة، علاقة طفولية تربطها بالماء والبحر، قالت لها جدتها وهي طفلة إنها كانت «سمكة» تسبح تحت الماء، وجدوها على الشاطئ فأخذوها إلى البيت، سمكة نوعها إيه يا جدتي؟ تضحك جدتها من دون أسنان، تستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، عرفتي منين أنواع السمك يا عفريتة؟
كانت فؤادة طفلة في الرابعة من عمرها، تسمع جدتها تنشد مع الراديو الأناشيد الوطنية، النصر المجيد، الصوت يدوي في الإذاعات انتصرنا، تحدق إلى عيني جدتها، التحديقة المخيفة مثل العفاريت، تريد أن تسألها عن الحرب والنصر، لكنها تسألها عن أنواع السمك، تعد الجدة الأسماء على أصابع يدها المعروقة، التي يعلوها نمش أسود: البلطي والبوري والبياض والقراميط والثعابين وسمك موسى. تتذكر الطفلة قصة سيدنا موسى التي حكتها الجدة فتسألها: وسيدنا محمد له سمك كمان؟ تخبط الجدة على صدرها مستعيذة من الشيطان الرجيم أستغفر الله العظيم، سيدنا محمد ما لوش سمك. صوت زوجها يأتيها من وراء باب الحمام: رئيس التحرير ع التلفون، خرجت تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، جففت يدها المبللة، وأمسكت السماعة: آلو، آلو. - لأ يا أستاذ، النهارده مش ممكن أنا في أجازة. - بكرة الساعة عشرة الصبح يا فؤادة؟
الفصل من الجورنال
ممكن. وضعت السماعة وزوجها يبحلق فيها، ملامحها هادئة خالية من أي قلق، كأنما لم تفصل من الجورنال، واقفة تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، شق رفيع طويل في البشكير يكشف عن فخذها الناعمة الممشوقة المحروقة من الشمس، يهبط إلى ساقها الطويلة حتى قدمها الحافية المبللة بالماء فوق بلاط الصالة، تحركت شهوته قليلا، أراد أن يأخذها إلى الفراش، لكن الرغبة لم تكن كافية، جسدها منذ ليلة الزفاف لم يشبعه جنسيا، تعود إشباع شهوته مع نوع آخر من النساء، جسم ممتلئ باللحم، طري يلين تحته من دون جهد، أو بجهد قليل، لا يحب أن يبذل جهدا في الفراش، تكفيه الجهود الأخرى خارجه، يفضل أن تأخذ المرأة المبادرة، وتقوم هي بالعمل، دخلت غرفتها وأغلقت الباب من خلفها، كانت لها غرفتها الخاصة وسريرها، ومكتبها، ومكتبتها، وخزانة ملابسها، لكل منهما الاستقلال الكامل، لا يسيطر أحدهما على الآخر، لهما قانون خاص، بالبنود التي يتفقان عليها، في غرفتها تمددت فوق سريرها، تنشد الراحة والاسترخاء بعد الحمام الساخن، تستعيد دفء الماء الذي يغرق جسمها، منذ الطفولة تعشق النوم، على الجدار فوق مكتبها صورة ملونة لأمها وأبيها بملابس البحر، تتمدد هي تحت الشمس، من حولها الأطفال يبنون القصور من الرمال ثم يهدمونها، يعيدون بناءها وهدمها، أبيات شعر وقصاصات ورق مثبتة بدبابيس على لوحة خشبية، فوق المكتب مذكرة هامة، لا تنسي موعدك ...
ثم غلبها نوم لذيذ، انتفضت على صوت زوجها من وراء الباب الساعة التاسعة يا فؤادة، ميعادك الساعة العاشرة مع رئيس التحرير، زوجها يحرص على المواعيد، أدخله أبوه المدرسة الألمانية في الطفولة، أعجبته شخصية هتلر وبطريق الكنيسة والسلطة الإلهية المطلقة، وهو في العاشرة من عمره انفصل أبوه عن أمه وتزوج فتاة تصغره بأربعين عاما، كان يناديها ماما، تضربه في غياب أبيه وتلسعه بالمكواة من دون سبب، ثم تغمره بالقبلات حين يعود أبوه، مبنى المؤسسة الصحفية في عمارة شاهقة جديدة في شارع متفرع من ميدان التحرير، ناطحة سحاب جدرانها زجاج ذات أعمدة من خرسانة حديد وأسمنت، من الطراز التجاري الأمريكي السريع، يشغل مطعم ماكدونالد نصف الدور الأرضي، تفوح منه رائحة الهامبورغر، النصف الآخر يبيع أجهزة الفيديو والديسكو، تتصاعد منه تسجيلات أغاني موسيقى راقصة صاخبة، لا يعلو عليها إلا أصوات الميكروفونات تذيع الصلوات والتسبيحات من الجوامع المجاورة، يشغل الجورنال الأدوار الحادية عشرة بعد الأرضي، مكتب رئيس التحرير في الدور الثاني عشر تشغل السكرتيرة غرفة واسعة هادئة إلا من أزيز خافت لجهاز التكييف، لها نوافذ كبيرة زجاجية تكشف نهر النيل وجبل المقطم وقلعة محمد علي، ترتدي السكرتيرة ثوبا هفهافا قصيرا، يكشف جزءا من الفخذين الرشيقتين، خطوتها سريعة خفيفة مثل خطوات راقصات الباليه، تنتعل حذاء فضيا مفتوحا من الأمام، تمتص السجادة السميكة فرقعة الكعب العالي الرفيع، تبتسم بإتقان مثل نجوم الشاشة أو العرائس فوق المسرح، سارت فؤادة وراءها بحذائها الأسود المعفر وقميصها الواسع الأبيض من القطن والبنطلون الرصاصي من الجبردين، مكتب رئيس التحرير ضخم، مفروش بالسجاجيد العجمية، فوق رأسه صورة ضخمة لرئيس الدولة، من تحتها صورة وزير الثقافة ثم رئيس المجلس الأعلى للأدب والصحافة وصور رؤساء تحرير الجورنال السابقين، في صف طويل، ثم صورته في آخر الطابور داخل إطار ذهبي، رأسه من فوق المكتب الضخم صغير الحجم يخلو من الشعر، إلا شعيرات سوداء نافرة وراء أذنيه، فوق المكتب أوراق ومجلات مصرية وعربية وأجنبية، وأجهزة تلفون متعددة مختلفة الألوان، منافض بلورية ملأى حتى الحافة بأعقاب السجائر، دخان يتصاعد إلى السقف، علب سيجار وسجائر مرصوصة في جوار أكوام الكتب والورق، سيجارة مشتعلة بين إصبعين صفراوين في يده اليسرى، يده اليمنى تمسك القلم الذي يتحرك فوق الورق بخطوط عشوائية، صوته متحشرج، جفونه المتورمة مسدلة قليلا، كأنما يحاول الاستيقاظ من النوم. حاولت كثيرا أن أمنع هذا القرار لكن الأغلبية في المجلس وقفوا ضدك، الأستاذ رئيس المؤسسة وقف ضدك بعنف وهدد بالاستقالة إن لم يصدر قرار فصلك، لا بد وأنه عانى منك الكثير، فعلا عانى مني الكثير، ليه التطرف ده يا بنتي؟ لك قلم ممتاز ومستقبل جيد في الصحافة، ألا تهتمين بمستقبلك الصحفي؟ - لا. - أنا أحاول مساعدتك، وقد أعطيتك فرصا كثيرة سابقة أتنكرين ذلك؟ - لا أنكر.
أشعل سيجاره وراح ينفخ الدخان، فؤادة تسبب له ضيقا، عيناها تحدقان إلى عينيه بثبات، ليس في التحديقة وقاحة بل انتباه وتركيز، اسمعي يا بنتي، الصحافة لها أصول وتقاليد، هل تظنين أنك قادرة على كسر الأصول والتقاليد؟! هذا عبث، جنون. - نعم. - حين أطلب إليك حذف أجزاء من مقالك، هل هذا يغضبك؟ - طبعا يغضبني. - أعطيك فرصة أخيرة. - شكرا. - سأضطر إلى تنفيذ القرار، سوف تندمين. - لن أندم، كنت أنوي الاستقالة منذ مدة، تعودت أن أقرر لنفسي ولا أنتظر قرارات الآخرين، كان يجب أن أترك الجورنال من زمان، أنا بصراحة لا أحب الصحافة، لا أشعر فيها بأي متعة، الصحافة ليس فيها إبداع أو تجديد، معظمها نفاق وكذب.
نفخ رئيس التحرير عمودا من الدخان وصمت طويلا، شيء ما يجذبه فيها، ليس كلامها بل طريقتها في التعبير وتحديقة عينيها. - النفاق طبيعي في الصحافة يا فؤادة، اسمه ذكاء سياسي، والإبداع والتجديد ممكن تطبيقهما في الصحافة، تجارب الماضي وضرورات الحاضرة مهمة، العملية الإبداعية في الصحافة طويلة بطيئة تدرجية جماعية، تقتضي التعاون بين الجميع واحترام رأي الأغلبية ، الاحترام غير الخضوع، مش عارف إنتي عاوزة إيه؟ - عاوزة أعبر عن نفسي، عاوزة أكتب اللي في دماغي. - أنا عاوز الحقيقة يا فؤادة؟ - أيوه يا أستاذ. - الحقيقة أن دماغك دي عاوزة الكسر، إنتي عارفة قيمة قلمك عندي المشكلة دماغك، مطلوب كسرها، إحنا بنعيش في دولة فاسدة من قمة رأسها لأسفل مؤخرتها، النفاق يكسب في كل مجال خصوصا الصحافة، لا يمكن أن أستمر فوق الكرسي بدون إراقة ماء وجهي، لازم أحط مناخيري في الأرض، الوزير مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيسه مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيس الكل عارفاه مين؟ - ربنا يا أستاذ محمد؟ - ربنا يجعل كلامنا خفيفا على قلبه يا فؤادة، اسمعي كلامي كفاية مبادئ وكلام فارغ، شعب إيه وثورة إيه؟ في التاريخ كله النظام واحد في الكون كله، لا يمكن يتغير. - ممكن يتغير يا أستاذ. - اسمعيني وكفاية عبط ومثالية، أفلاطون لم يكن مثاليا، كان يؤمن بالقوة فوق الحق، لا يوجد شيء اسمه حق دون قوة، القوة هي كل شيء، أنا أصدرت قرار فصلك تحت ضغط القوة العليا من فوق رأسي، لازم أنفذ الأمر وإلا أقعد في البيت وعيالي يموتوا من الجوع فاهماني؟ - لكن يا أستاذ محمد ... - أرجوكي لا تقاطعيني، أخطر شيء أن العيال يجوعوا، أبويا الله يرحمه جوعنا كلنا من أجل رأيه الحر، أمي اشتغلت في البيوت، وأنا خرجت من المدرسة واشتغلت في ورشة ميكانيكي، كان يضربني في بطني بكعب جزمته، أنا ممكن أضحي برأيي الحر من أجل أولادي، أبويا كان أناني يفكر في نفسه في رأيه وخلاص، أنا أفكر في أولادي، لازم يتعلموا كويس ويعيشوا كويس ويكون لهم كرامة، أنا مستعد يا بنتي ألغي قرار الفصل بشرط أنك تغيري طريقتك وتمشي في الصف، كلنا ماشيين في الصف، موافقة؟ - لأ مش موافقة يا أستاذ محمد. - مش فاهم إنتي عاوزة إيه؟ - عاوزة أعمل الشيء اللي باحبه. - إيه هو؟ - الكتابة. - شغلنا كتابة في كتابة. - الصحافة غير الكتابة، عاوزة أكتب أدب؟ - أدب إيه يا فؤادة، إنتي عايشة في الخيال، حاولي تعيشي الواقع، الأدب الحقيقي أو الإبداع الحر لا يمكن يوكل عيش، قوليلي اسم أديب واحد عايش على الأدب، كلهم موظفين في الدولة في الصحف والمجلات، كلهم ماشيين في الصف فيه ناس تمردوا وكتبوا أدب حقيقي، زي مين؟ - الكاتبة بدرية البحراوي. - بدرية البحراوي كاتبة موهوبة لا يمكن حد ينكر، لكن شوفي هي عايشة إزاي، كان ممكن تكون في قمة الأدب وتعيش في المجد لكن مين يعرف بدرية البحراوي النهارده؟ اسمها اختفى تقريبا، اسمعي نصيحتي يا بنتي، فكري بعقل، أنا كنت الوحيد في المجلس اللي دافع عنك، كلهم وقفوا ضدك. - عارفة أيوه عارفة. - الأفضل تغيري طريقتك، موافقة؟ - لأ.
يصمت رئيس التحرير لحظة، يرمقها في صمت، ينفث الدخان من أنفه، يراها تحدق إلى عينيه، لا يرى في تحديقة عينيها وقاحة، بل ثقة بالنفس ونوعا من الأدب، كان مثلها في طفولته، قبل أن يضربه الميكانيكي بكعب حذائه في بطنه. كلهم بيتهموكي بالتطرف أو بالجنون، اعذريني لصراحتي معك. - أعذرك طبعا. - اسمعي، لازم أنفذ قرار فصلك، أنا آسف. - ما فيش داعي للأسف يا أستاذ، كنت عاوزة أتحرر من عبء عمل لا أحبه، ولا أجد فيه أي متعة، مهنة الصحافة لا تناسبني، لا أستطيع الخضوع لتقاليد هذه المهنة، أنا أحب الكتابة الأدبية، إنها متعتي الوحيدة، الكتابة الأدبية مهنة أيضا لها تقاليدها ومدارسها وأساتذتها الكبار، لا يمكنك الخروج على قواعدها، ممكن الخروج على أي قاعدة يا أستاذ، الإبداع هو خلق قواعد جديدة. - ألا تعترفين برواد الأدب الكبار المعروفين اللي حصلوا على أعلى الجوائز؟ - التاريخ يا أستاذ محمد هو اللي يحكم ويفرز الرواد الحقيقيين من الرواد المفروضين بالدولة ورئيسها، وكل إنسان مبدع رائد في مجاله يا أستاذ محمد، طبعا الدراسة والقراءة ضرورية في العلم والفن، ليس في الأدب فقط لكن الإبداع ينبع من الحياة، من الملاحظة الدقيقة للواقع والخبرة والتجربة والحساسية والمشاعر والتفكير، الشكل لا ينفصل عن المضمون، الجلد لا ينفصل عن اللحم، كل قصة لها تكوينها، كل قصة كائن حي له بصمته وصفاته المميزة.
يرمقها في صمت، ينفث الدخان في السقف ، في أعماق عينيها إيمان بما تقول، يستمع إليها بشيء من الدهشة، ليس كلامها الذي يدهشه بل الطريقة التي تتكلم بها، حماستها لما تقول من دون أن يطرف لها جفن، من أين لها هذه الثقة العارمة بنفسها؟ يقلب الملف فوق مكتبه الخاص بسيرتها الذاتية، عمرها ثلاثة وعشرون عاما، تخرجت في كلية الهندسة، لم تتخرج في كلية الآداب أو الإعلام، قليلة الاختلاط بزملائها وزميلاتها في الجورنال، لا تحضر اجتماعات التحرير، لها زميلة تتبادل وإياها الحديث هي كوكب، وصديقة لها تعمل في المطبعة اسمها حميدة. يا فؤادة لمن تكتبين؟ - أكتب لنفسي. - مش عاوز قراء وجمهور؟ - أكتب لنفسي وبعد ذلك للآخرين. - والكتابة هدفها إيه؟ - هدفها الكتابة. - ده مش معقول.
دق جرس التلفون فوق مكتبه، تركه يدق وراح يفكر، جنونها معقول، لا يريد أن يخسرها الجورنال، بالرغم من جنونها لها قلم، لها شخصية لا يمكن تجاهلها، بالرغم من غرابتها ليست غريبة، ضميره يؤنبه لأنه يفصلها، يبذل أقصى جهده لإبقائها، وهي لا تحاول مساعدته. إنتي خطيرة يا فؤادة. - يعني إيه خطيرة؟
صفحة غير معروفة
مد يده ورفع سماعة التلفون: آلو، أيوه، جاي حالا.
نهض واقفا.
حاولي مراجعة نفسك، اسألي صاحبتك كوكب، هي صحفية ممتازة، عاقلة متزنة، قررنا جميعا ترشيحها لجائزة الدولة، ممكن ترشيحك السنة القادمة لو عقلت وبطلت الجنون، أنا أعطيتك وقت أكتر من اللازم، أمامك فرصة أخيرة للتفكير. - أنا فكرت خلاص. - خلاص.
كوكب الكميلي
تنهدت رافعة ذراعيها «خلاص» كأنما ترفع عن قلبها عبئا ثقيلا، رمقها من ظهرها وهي تخرج من الباب، طويلة ممشوقة الجسم، مثل شاب رياضي، خطوتها واسعة خفيفة، كأنما تنطلق بسرعة إلى موعد هام، أهم من الجورنال ومن كل شيء، القاعة الضخمة ملأى بالمئات من المثقفين، الرجال والنساء من مختلف الأعمار، وجوه معروفة تظهر في الصحف والإعلام، صحفيون، أدباء، مفكرون وما يقال عنهم صفوة المجتمع، جالسون في مقاعدهم ينتظرون، يتطلعون إلى المنصة العالية، الكراسي من خلفها مغطاة بالقطيفة الحمراء ومطعمة بالذهب، سبعة آلاف سنة لم تتغير الكراسي منذ الإله آمون، نقل العالم شكل الكرسي ومعناه عن الحضارة المصرية القديمة، لا ينفصل الشكل عن المعنى، خمسة كراسي يلمع ذهبها تحت الأضواء القوية يتوسطها الكرسي الأضخم الأكثر ذهبا الأثمن قطيفة، يجلس فيه رئيسهم، يأتي متأخرا بعد أن تمتلئ الكراسي جميعا، ويدب الصمت ثم يدوي الصوت الجهوري الجمهوري: السيد رئيس الجمهورية. يدوي التصفيق والأجسام تنتفض وقوفا، والأعناق تشرئب نحو كتلة الضوء، تصبح العيون عمياء من شدة الكهرباء، يبدو وجهه كوكبا مضيئا من دون ملامح واضحة، إلا الجبهة المسطحة وأرنبة الأنف المعقوفة والشفة السفلى الممطوطة في اشمئزاز وكبرياء مصطنعة، يلقي وزير الثقافة خطابا ركيكا حافلا بأخطاء النحو والصرف والتاريخ والجغرافيا، تصبح مصر هي قمة العالم، رئيسها هو رئيس القمة العالمية، فيلسوف القرن الواحد والعشرين، يعطي توجيهاته للجميع من وزير الثقافة إلى وزير الحربية والبوليس والتعليم والأمن والاقتصاد والسياسة، والدين والأدب والعلم وحماية الأخلاق والبيئة، وجمع القمامة ورعاية أطفال الشوارع، هو رب العائلة البشرية الذي صنع كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ بإرادة الله طبعا أيها السادة، يقدم الوزير فخامة الرئيس، يتمطى فخامته ويمط الكلام، يخرج صوته بطيئا مشمئزا، شفتاه الممتلئتان النديتان المشربتان بالحمرة، وعصير الفواكه والكسل، تتحركان في بلادة، العيون والآذان وقرون الاستشعار تتابع الحركة والصوت والضوء، ثم يبدأ توزيع الجوائز، يتقدم الفائزون والفائزات في صفوف منتظمة، ملابسهم أنيقة نظيفة، ملامحهم مغسولة لا يظهر منها إلا الابتسامة العريضة الممدودة بين الأذنين، والعنق ينحني مع الرأس لحظة امتداد فخامة اليد بالجائزة الرفيعة، ويدوي التصفيق دويا كبيرا، كوكب الكميلي بعد أن تسلمت الجائزة وجلست في مقعدها تدور بعينيها في القاعة باحثة بين الوجوه عن وجه معين، تدرك منذ تسلمت الجائزة أن العيون ترمقها، كوكب الكميلي عيناها سوداوان يكسوهما بريق الذكاء والانتباه، شفتاها ناعمتان ملونتان بحمرة عاقلة متزنة تشبه العذرية، تحوم عليهما ابتسامة تنم عن فرحة مكتومة، لا تظهري فرحك للناس وإلا كرهوك، إن الله لا يحب الفرحين، درس تعلمته في البيت والمدرسة، ترفع رأسها وهي جالسة بزهو، تدرك أنها جميلة، وأن جمالها أمر طبيعي من عند الله، ميزها الله من الآخرين والأخريات ، إنها كوكب الكميلي نجمة الأدب والصحافة، نائبة رئيس التحرير، بطلة السباحة والكرة الطائرة، حصلت على أعلى الأصوات في الانتخابات، أصغر الأعضاء سنا، عيون الرجال تلتهمها حبا، عيون النساء تأكلها حسدا، هذا الحشد من المثقفين جاء ليشهد حصولها على الجائزة، تدور عيناها على الرءوس في القاعة محاولة معرفة عددهم، في القاعة خمسمائة كرسي جميعها ممتلئة من دون استثناء، بعض الناس يقفون وراء الصف الأخير على الجانبين، جميعهم يعرفون موهبتها الصحفية والأدبية، إلا زميلها أحمد عارف الذي تصور أنه الفائز بالجائزة، لكنها صرعته في المنافسة، بالجهد المتواصل والصبر والعرق والأرق، تهمس لنفسها، نعم اشتغلت يا كوكب الكميلي مثل كلب لتصرعي غريمك أحمد عارف، لم يعد لديك منافسون بعد أحمد عارف، ثم ابتلعت كوكب الكميلي لعابا مرا، شعرت فجأة بغصة في حلقها، تنزلق الغصة من الحلق إلى المعدة، تشبه الكرة الصلبة الباردة الخاوية من الداخل، مثل ثقب الأوزون الأسود، أو فراغ من هواء مضغوط، يتحول من بخار في المعدة إلى قطعة صلبة، تتحرك في أحشائها، كتلة متراكمة من القلق والحيرة والشك داخلها الثقب، هل أنت يا كوكب الكاتبة الموهوبة التي تستحق هذه الجائزة؟
عيناها تدوران في القاعة بحثا عن وجه أحمد عارف، لمحت وجهه النحيل الشاحب بنظارتيه الطبيتين البيضاوين فوق عينيه اللامعتين تحت الأضواء، ابتسمت في وجهه وهزت رأسها بتحية، يتخفى الزهو تحت التواضع، يرد لها التحية بانحناءة رأس مستسلم، وابتسامة كبرياء مهزومة، تشعر كوكب بدوار لذيذ، كأنما شربت كأس نبيذ معتق، نشوة النصر على أحمد عارف، أقوى المنافسين لها، دعي العيون تشهد يا كوكب الكميلي كيف تتفوقين اليوم على أحمد عارف وغيره من الكتاب والصحفيين، في نهاية الحفلة وقفت بقامتها الطويلة الرشيقة بين كبار الأدباء ورؤساء التحرير، الأديب الكبير خالد الحموي، الحائز جائزة مبارك يبتسم في وجهها، يشد على يدها بقوة وحرارة، مبروك يا أستاذة عقبال جايزة مبارك. وزير الثقافة يربت كتفها بحنان الأب، مبروك يا بنتي لك مستقبل أدبي مرموق يفخر به الوطن. يعانقها الزملاء والزميلات مهنئين، تستمع إلى عبارات التهنئة والتقدير بفرح كبير، تتذكر صديقتها فتشتد فرحتها، لم تعد منافسة خطيرة لها بعد فصلها، كانت هي تخص كوكب بصداقتها، تعاملها برقة وتساعدها على الكتابة، لم تكن كوكب تجيد الكتابة باللغة العربية، مقالاتها ملأى بالأخطاء، لا تتأخر عن تصحيحها إن طلبت إليها كوكب ذلك، أحيانا تعيد كتابة المقال أو فقرة تراها ناقصة، كتبت لها مقالا كاملا حين سافرت في الإجازة، مدحه رئيس التحرير كثيرا، هنأ كوكب عليه، نشره في مكان مميز أعلى الصفحة، مع صورة كوكب داخل إطار، في الليل تحلم كوكب بكابوس يثقل قلبها، تبدو صديقتها هي الكابوس أو الشبح الذي يطاردها في الظلمة، تتمنى أن يأخذها الله؟ ثم تقول لنفسها في الحلم: ما ذنبها يا كوكب إذا كان الله هو الذي يعطي الموهبة لمن يشاء ويحرم من يشاء؟ لكن أين العدل يا رب؟ تتشكك كوكب في عدالة الله في أثناء النوم، حتى يطلع النهار فيعود إليها الإيمان كاملا، طردت كوكب الشبح بهزة قوية من رأسها، فازدادت الأصوات المهنئة من حولها، يقول لها أحمد عارف: «ألف مبروك يا كوكب يجب أن نحتفل بك الليلة في النادي الثقافي، الوزير سيحضر، وكبار الأدباء ورؤساء التحرير جميعهم.» شكرا يا أحمد أنت كاتب ممتاز كنت تستحق الجائزة أكثر مني لكن معلهش السنة الجاية تاخذها. لم تحضر صديقتها فؤادة الحفلة كعادتها، لم تكن تحب الحفلات والحياة الاجتماعية الأدبية والثقافية، تمنت كوكب أن تراها في الحفلة، لتشهد مع الآخرين فوزها، تجول عيناها في القاعة باحثة عنها، لم تكن فؤادة في الحفلة، أصبح غيابها غصة في حلق كوكب، إبرة تنخس صدرها، أرادت أن تقرأ على وجهها ما قرأته على وجه أحمد عارف والمنافسين لها؛ الحسد، لكن فؤادة لم تحضر حفلة الجائزة في الصباح، ولا حفلة المساء، لم تتصل بها كوكب منذ فصلها من الجورنال، ركبت سيارتها بعد الحفلة، عازمة على زيارة فؤادة في بيتها، أقنعت نفسها بأنها زيارة واجبة دافعها الصداقة، يداها تدوران مع عجلة القيادة وهي شاردة، يتحلق الأطفال في الشوارع حول سيارتها يمسحون زجاجها، يبيعون علب مناديل الورق المعطرة، أو زهور القرنفل، عقود الياسمين، أو لا يبيعون شيئا، لكن يحملقون من خلال الزجاج المغلق بعيون واسعة جائعة، يقشعر جسمها خوفا وهي ترى التحديقة في عيونهم، تدوس بقوة دواسة البنزين منطلقة بالسيارة، فتحت فؤادة الباب لترى كوكب أمامها تلهث، وقد صعدت الأدوار في الظلمة، كان المصعد معطلا، أنوار السلم منطفئة، كانت فؤادة ترتدي قميص نوم أبيض مجعدا، وكان شعرها ملفوفا فوق رأسها في ضفيرتين، مدت كوكب يدها نحوها بزهرة قرنفل وعقد ياسمين، كنت عاوزة أزورك قبل كده لكن الشغل كتير إنتي عارفة. مبروك الجائزة يا كوكب. الجائزة مش مهمة، المهم إنت يا فؤادة، أنا قلقت عليكي من يوم قرار الفصل. أنا نسيته يا كوكب. حد ينسى قرار مهم بالشكل ده؟ - أنا زعلت منهم في الجورنال، قلت لهم إزاي تفصلوا أكتر واحدة موهوبة فينا، عارفة تقديري لك يا فؤادة؟ - عارفة يا كوكب. - عاوزة آخد رأيك في موضوع مهم. - رأيي أنا يا كوكب؟ - رأيك كان دايما له قيمة عندي.
ضحكة خافتة وهي تحدق إليها: إيه الموضوع يا كوكب؟
الأستاذ محمد رشحني لرئاسة تحرير مجلة المرأة الجديدة، العدد الأول سيصدر في عيد النصر الجاي؟ مش عاوزة أسيب الجورنال، مين فات قديمه تاه، إيه رأيك؟
اختاري الشيء اللي تحبي تعمليه يا كوكب. مش باحب حاجة في الصحافة ولا تحرير المرأة ولا حاجة من الكلام الفارغ عاوزة إيه يا كوكب، مش عارفة، عاوزة أحب يا فؤادة، عاوزة الراجل اللي أحبه بحق وحقيقي، اتجوزت بكري من غير حب، ثم تطلق كوكب ضحكتها العالية المجلجلة التي تنتهي بشهيق عميق كالنشيج، ثم تحكي لها قصة حبها القديمة قبل الزواج، لا يمكن أنساه يا فؤادة مش عارفة ليه، هو الوحيد اللي حبيته وكنت عاوزة أتجوزه، لكن هو كان بيحب واحدة غيري دايما نبص للشيء في إيد غيرنا مش كده والا إيه يا فؤادة؟ - إيه يا كوكب.
وانفجرت الصديقتان بالضحك، قادت فؤادة سيارتها الصغيرة صباح اليوم التالي، كانت بدرية البحراوي تسكن في الناحية الأخرى من المدينة ، في شقة بسيطة من غرفتين، غرفة لمكتبها ومكتبتها، وغرفة للنوم، ومائدة الطعام في المطبخ، وصالة بها بعض المكاتب، انتقلت إلى هذه الشقة الصغيرة بعد تقديم استقالتها من سطرين:
صفحة غير معروفة
لا تهتم الدولة بفتح العقول، شعب مغلق العقل يسهل حكمه، انفض الناس عنها بعد فقدانها المنصب، لم يعد اسمها يظهر في الصحف، وبعد منع كتاباتها أصبحت تنشرها في مجلات الشباب غير المعروفة، لا يزورها في مكتبها إلا القليل، شابات وشباب متمردون فقراء يشقون طريقهم بصعوبة.
بدرية
عانت بدرية البحراوي العزلة، أصبحت تكره المدينة وشوارعها الملأى بالقمامة، وجوه الناس المعفرة المرهقة، أكثر ما تكره الوجوه المغسولة في الصحف المنشورة، تجلس وراء مكتبها، الساعة وراء الساعة، اليوم وراء اليوم تمد يدها قبل النوم إلى الصحف، ترى صورهم داخل البراويز، منشورة مقالاتهم وقصصهم ورواياتهم مع الرئيس والوزير، الكاتب الروائي والمفكر والأديب العالمي، تلقي بالصحف في صفيحة القمامة، قادت فؤادة سيارتها في الحواري المتربة المتفرعة من الشارع الرئيسي، أكوام القمامة تسد مدخل المباني والعمارات، أطفال الشوارع ينبشونها مع القططة والكلاب الشاردة، وجوههم تشبه وجوه العجائز وعيونهم يأكلها الذباب، امرأة عجوز عمياء تجلس مسندة ظهرها إلى الحائط، ذراعها ممدودة ويدها مفتوحة، لا ينظر إليها أحد، كل يجري إلى رزقه، ألقت فؤادة في اليد الفارغة قطعة نقود، فانفرجت الجفون المغلقة عن شق رفيع وصوت مشروخ: كتر خيرك يا بنتي. ابتسمت، تفعل الابتسامة ما تفعله قطعة نقود، أمام العمارة توقفت، صعدت السلم إلى الدور الثاني، فوق لوحة نحاسية صدئة قرأت الحروف المحفورة: بدرية البحراوي. دقت الجرس، فتحت لها فتاة طويلة نحيفة عيناها سوداوان تلمع فيهما ابتسامة، في الصالة بعض من المكاتب الصغيرة، تحمل أكواما من الكتب والأوراق والمجلات والصحف، الرفوف من الأرض إلى السقف ملأى بالكتب، في ركن الصالة مائدة دائرية يجلس من حولها عدد من الشباب والشابات يتناقشون، لم ينتبه أحد إلى دخولها فجلست في أقرب مقعد وراحت تتصفح المجلات والكتب، انقضى ما يقرب من نصف ساعة، ثم نادتها الفتاة الطويلة النحيلة، كانت الأستاذة بدرية البحراوي تجلس وراء مكتبها مرتدية قميصا أبيض واسعا، من خلفها لوحة للبحر، اسمك ايه؟ - فؤادة. - جيتي هنا ليه؟ - لأقابلك. - ليه؟ - كتاباتك. - كتاباتي؟
شجعتني، راحت تحملق في الوجه أمامها، حركت الكرسي قليلا لتراها عن قرب، لفؤادة وجود يحس به الآخرون بشكل غامض، عيناها الثابتتان بهذه التحديقة انتبهت بدرية فجأة، لم تدرك وجودها إلا هذه اللحظة التي تحدق إليها، ماذا تريدين مني؟ - أريد أن أعمل معك. - أنا لا أعمل شيئا. - ألا تكتبين؟ - كنت في زمن مضى. - لماذا لا تفتحين مدرسة للإبداع الأدبي؟ - سيغلقونها. - لأ يا أستاذة. - استمري في عملك بعيدا عني. - ليس لي عمل. - كيف؟ - فصلوني بقرار وزاري. - أصبح لديك وقت أكثر للكتابة. - فعلا. - مبروك، أنت محظوظة.
ابتسمت بدرية، تغير وجهها مع الابتسامة، بدت شابة وليست كهلة.
صوتها أصبح أكثر دفئا:
أنت لا تصلحين للعمل في هذا الجو الملوث، بؤرة فاسدة، أهنئك على خروجك منه سليمة، لا يمكن لمبدعة العمل في هذا المجرور باكابورت يا أستاذة بدرية، أعرف أعرف؛ لهذا يفصلون كاتبة مثلك، لا يطيقون الصدق لأنه يكشف كذبهم، كالمرآة تعكس صورهم المشوهة، أطرقت طويلا، تهدلت عضلات وجهها، بدت فجأة مثقلة بالحزن، متى قررت أن تكوني كاتبة؟ - مذ كان عمري تسع سنين. - في السن الصغيرة دي؟ - أيوه. - ليه قررتي تكوني كاتبة؟ - ماعرفش، كرهت المدرسة، وكرهت البيت، أقول لك الحقيقة كلها؟ - قولي الحقيقة كلها. - كرهت المدرسة والبيت، أبويا لأنه بيظلم أمي، وكرهت أمي لأنها تقبل الظلم كرهت الدنيا كلها، ابتديت أكتب لأكشف الظلم، كنت باحلم بالعدل. - الناس لا تتكلم بهذه الصراحة، أنت مختلفة؟ - أيوه. - لا أقصد أنك شاذة. - نعم. - أنت طبيعية لكنك شاذة في نظرهم. - أيوه.
سكتت بدرية، بدا عليها التعب والضجر، ثم قالت كأنما تكلم نفسها: أنا قررت العزلة الكاملة عن الناس، لا أريد أن يأتي أحد منكم إلي، اذهبوا وتمردوا بعيدا عني، لا أريد تحمل مسئولية أحد، أنت لا تعرفين خطورة اقترابك مني، الثمن باهظ لا يمكنك دفعه، أنت تسيرين نحو تحطيم نفسك، الأفضل لك ألا تأتي إلى هنا مرة أخرى، أنا قررت العزلة ولا أريد رؤية أحد. مرت لحظة صمت طويلة، يا أستاذة نحن في حاجة إليك، لست وحدي، جيلنا بأجمعه الشابات والشباب في حاجة إليك، أرجوك افتحي مكتبك وسأعمل معك من دون أجرة. ومن أين تأكلين؟ الكتابة تأتي بعد الأكل لا أحد يموت من الجوع يا أستاذة، حدقت بدرية إلى وجه فؤادة، ملامحها طفولية لم تكسرها الحياة بعد، أشفقت عليها من مشقة الطريق الذي تريد أن تمشي فيه، اسمعي يا بنتي لا تضيعي وقتك، لا فائدة من التعلق بفكرة مثالية يستحيل تحقيقها، روحك الجميل لن يستريحوا حتى يحطموه، تملكين العقل المفتوح، لا شيء يثير حقدهم مثل العقل المفتوح، لا تكوني صادقة؛ فالصدق لا يفيدك بل يضرك، هل أنت يا أستاذة التي تقولين هذا؟ هل أنت كذبت لتحققي ما تريدين؟
بالطبع لا، لكن لست أنت بدرية البحراوي، لا أعني أنك أفضل مني أو أنني أفضل منك، كل منا تختار طريقها وتتحمل مسئولية قرارها، أنا جئت إليك بملء حريتي وبمسئوليتي عن نفسك، واثقة بذلك، لكني لا أنصحك بالسير في طريقي، ألم يحذرك أحد من هذا الطريق الشاق؟
يا أستاذة كثيرون حذروني، لكني لا أحترم رأيهم، لا أريد أن أكون مثلهم، لن تكوني مثلهم، لديك موهبة ليست لديهم، أنا أعرفهم وهم يعرفونني، يحترمون رأيي وإن اختلفوا معي، يأخذون من أفكاري ما يشاءون من دون ذكر اسمي، يمكنني أن أعطيك خطاب توصية للوزير الجديد، لقد كان يعمل تحت رئاستي وهددته بالفصل، كان يسرق أفكار غيره من دون أن يذكرهم، لكنه يحترم رأيي وسوف يعينك على الفور في المجلة الأدبية الجديدة، لن يعجبك العمل معهم لكن سوف تتعودين هل توافقين؟ لا أوافق، أنت لم تفعلي هذا يا أستاذة، نعم لم أفعله؛ لهذا أقوله لك بصدق، لو كنت مثل الآخرين لما قلته لك لكنك مختلفة يا فؤادة، أنت تحبين الكتابة، الكتابة هي حبك الحقيقي، هذه هي اللعنة، الحب الصادق الحقيقي واضح في عينيك، يراك الناس ويخافون الصدق، ألا ترين الخوف في عيون الناس؟ - أنا لا أنظر إليهم. - ألا تعرفين ما فعلوه معي؟ - لم تخافي منهم. - الخوف يؤدي إلى الكراهية. - نعم. - أتريدين أن تكوني مثلهم؟ - ليتني أصبح مثلك.
صفحة غير معروفة
أشكرك، لكن أحذرك يا فؤادة، قد تندمين وتقولين لنفسك، بدرية البحراوي شجاعة كتبت ما تريد، قد تتمنين الموت من أجل ما تكتبين، ربما يبدو لك الموت جميلا، لكن لا تجهدي نفسك كما أجهدت نفسي عشرين عاما من أجل قضية خاسرة، لم تكن خاسرة يا أستاذة وإلا لما جئت إليك؟
لا أريد أن أشعرك باليأس يا فؤادة، لكن لا أريد أن أخدعك أيضا، قد يأتي يوم تلعنين بدرية البحراوي واليوم الذي جئت إليها، تجدين نفسك في البيت، وحيدة، حزينة، تنظرين إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبك غير المنشورة، تريدين تمزيقها، تنظرين إلى أصابعك حول قلمك، تكرهين أصابعك وقلمك، تريدين كسر القلم، وعظام أصابعك، تريدين كسرها مع القلم، تلعنين اليوم الذي أحببت فيه الكتابة واليوم الذي ولدتك فيه أمك، قد تسيرين في الشوارع جائعة مثل القططة الشاردة، تركبين الترام أو الأوتوبيس أو القطار من دون تذكرة حتى تري الكمساري قادما فتسرعي إلى النزول، لكنه يمسكك من قفاك ويأخذك إلى رجال البوليس، يتعرفون وجهك من صورك القديمة في الصحف ويقولون لك: «عيب كده يا أستاذة بدرية.» قد يقع بصرك على صورة أحد تلاميذك البلداء يتسلم الجائزة الكبرى، يصفقون له في القاعة الفسيحة الفاخرة، يقدمونه بلقب الكاتب العالمي الكبير، وأنت تسيرين في الشوارع المتربة وأصابع قدميك تلتهب داخل الحذاء القديم، وحلقك جاف من العطش، والدنيا قبيحة ملأى بالكره والكذب وكل الموبقات، ولكن.
ولكن ...
ولكن إيه؟
قد تقرئين قصة بقلمك غير منشورة، تتوقفين أمامها مشدوهة، لا تصدقين أنها كلماتك أنت، وإبداعك أنت، وتتبدل الدنيا بسرعة في عينيك، تصبح جميلة ملأى بالصدق والجمال والحب، يدب فيك الحماسة والأمل، تحملين القصة في حقيبتك مخافة أن يبلغك الموت قبل تسليمها إلى رئيس التحرير، توقفك السكرتيرة عند الباب متأففة من منظرك، ترمق كعب حذائك المتقطع بعينيها المكحلتين، تقول لك: «إن رئيس التحرير في اجتماع هام مع الوزير، لن يأتي قبل ساعتين .» تنتظرين في مكتب السكرتيرة حتى يأتي رئيس التحرير، يقول لك: تعالي غدا. في الغد تذهبين إليه، تتمنين أن تظهر قصتك إلى النور ويقرأها الناس، تنظرين إليه وهو يقرؤها بعينين ملؤهما الفتور واللامبالاة، تلعنين نفسك لأنك تعرضين إبداعك لمثل هاتين العينين الوقحتين، كأنما تعرضين عليهما جسدك العاري وروحك الغالي، يمط شفتيه متأسفا ويعتذر لك لأن صفحات الجورنال كلها مشغولة، ولا مكان لك، ترين قصة ركيكة تحتل صفحة كاملة بقلم زميلتك كوكب أو غيرها، تعودين إلى بيتك، هل تعرفين ما تفعلين في بيتك؟ تبكين يا فؤادة، تبكين دموعا ودما حتى تفرغ عيناك من الدموع والدم، حتى تنفجر عيناك ولا يبقى لهما أثر، أترغبين بعد هذا كله يا فؤادة في الكتابة؟ - نعم.
أطرقت بدرية في إرهاق واضح، أغلقت جفونها، مسحت قطرات العرق فوق جبهتها بمنديل أبيض، بدت حزينة يائسة، جالسة في مقعدها منحنية قليلا إلى الأمام صوتها المشروخ يهمس، هذه أول مرة أبوح بهذا الكلام. - أشكرك.
قرار الزواج
يبدو شاكر للناس بارد المشاعر، عاطفته الجياشة تختفي تحت وجه جامد، لا يبتسم إلا نادرا، ضحكته إن ضحك ليس لها صوت عال، لم تسمعه زوجته يقهقه قط، لم تسمعه يقول لها كلمة أحبك، كتب لها قبل الزواج رسالة يقول فيها:
عزيزتي فؤادة
أشعر في كل مرة أقابلك أنك مختلفة عن النساء لا أعرف كيف، شيء فيك يجذبني إليك، لا أعرف ما هو، لم أتعود البوح بمشاعري، عشت في طفولتي وحيدا حزينا، أسمع من وراء الباب المغلق أبي وأمي يتشاجران، أرى أبي يضرب أمي حين يعود متأخرا في الليل تفوح منه رائحة الخمر، اكتشفت أمي أنه تزوج في السر ممثلة في السينما من درجة الكومبارس، عاشت أمي الحزن أسمعها تبكي وحدها في الليل، تهمس لنفسها، لو كانت فنانة محترمة لكنت سامحته لكن كومبارس؟ كرهت أبي وكرهت الله، كيف يمنح الرجل حق الزواج بأكثر من امرأة؟ أليس هذا ظلما وإهانة وقهرا لأمي ولجميع النساء؟ وسألت الله عن الفقر والجوع وبؤس الأطفال، كانوا يرمقونني وأنا أمشي بعيون واسعة ملأى بالهوان، في أعماقي ثورة على الظلم أدخلتني السجن، وحزن عميق منذ الطفولة أبعدني عن الحياة، فهل تستطيعين إعادتي إلى الحياة يا فؤادة؟ لا أملك سلطة أو مالا أو جاها، لكن سأحاول أن أمنحك ما تستحقين من حب وحنان ورعاية، سأكون مخلصا لك، لن أجعلك تندمين لأنك قبلت الزواج بي ربما تفخرين بي، حين أحقق لك ولأطفالنا ما يريدون في هذه الحياة.
صفحة غير معروفة
شاكر
لم يكن لشاكر موهبة أدبية تجذبها، أو ملامح الفتى الذي يعيش في خيالها، يكتب بلغة الصحافة وليس الأدب، قامته متوسطة ذكاؤه متوسط، ملامحه وسيمة متوسطة من دون جاذبية، لا يخفق شيء تحت ضلوعها حين تراه، يرتدي دائما بذلة أنيقة وحذاء لامعا، لون الجورب متسق ولون القميص والبذلة وربطة العنق، يبدو بصوته الرصين وملامحه الجامدة مثل الأستاذ الجامعي، بشرته بيضاء متوردة قليلا تنم عن الراحة، لكنه كان متواضعا يحاول الاقتراب من البسطاء والفقراء والضعفاء والنساء، حين وصلتها الرسالة بدأت فؤادة تدرك وجوده، كانت خارجة من قصة حب تركت في قلبها جرحا غائرا، قررت عدم تكرار التجربة، أوحى إليها شاكر أنه يستحق الثقة، حكت له كل حياتها، وهو حكى لها عن أمه وأبيه وطفولته الحزينة، لم يحك شيئا عن حياته الأخرى. وراء مكتبها الفاخر جلست كوكب تنظر في مرآتها الصغيرة، تلامس بالفرشاة أنفها وخديها، تختفي البثور الدقيقة تحت البودرة، يختفي الشحوب تحت لمسات باللون الأحمر، بعد عشر دقائق بالضبط ستأتي فؤادة إلى مكتبها، تحافظ دائما على موعدها، تبتسم كوكب لنفسها في المرآة، أسنانها صغيرة بيضاء منتظمة «صفي لولو» كما يقول الأستاذ، كلمة الأستاذ تعني الرئيس لهذه المؤسسة الضخمة، الأستاذ يكبرها بعشرين عاما وأكثر، متزوج وله ثلاثة أبناء يدرسون في الخارج، يخفق قلبها حين يرمقها بعينيه العميقتين في أثناء اجتماع المجلس، يدعوها إلى مكتبه أحيانا للتحدث، يستطلع رأيها في بعض قراراته، وخصوصا التعيينات الجديدة، لعبت دورا في تعيين أحمد عارف مديرا لمكتبها، بدرجة نائب رئيس تحرير، دقت الجرس، ظهر أحمد عارف على الفور، أصابت ظهره انحناءة خفيفة، صوته أصبح خفيضا ، ناولته ماكيت العدد الجديد ثم نظرت إلى ساعتها، يا أحمد بعد سبع دقائق ستأتي الأستاذة فؤادة إلى مكتبي أتعرفها؟ - أيوه طبعا قرأت كتاباتها. - إيه رأيك فيها؟
كاد يتسرع ويقول: كتاباتها بديعة. لكن حاسة الشم المرهفة لدى مديري المكاتب، جعلته يسكت لحظة ثم يمط شفتيه بامتعاض، قائلا: موش بطالة يا أستاذة كوكب. أنا رأيي يا أحمد أن موهبتها متوسطة، لكن ممكن تتحسن لو اشتغلت معانا في المجلة، إيه رأيك؟ - الرأي رأيك يا أستاذة.
كاتبة فقط
جلست كوكب وراء مكتبها تنتظر دخول فؤادة، انتزعت من الأستاذ الموافقة على تعيينها في المجلة، تتأمل الغرفة الواسعة الفاخرة، المكتب، المكتبة، أصص الزرع الأخضر في الأركان، السجاجيد، النجفة الكريستال تتدلى من السقف، دخلت فؤادة بقامتها الطويلة الممشوقة، رأسها شامخ كأنما لم تعرف الألم والهوان، جلست في مقعدها تنظر إلى كوكب بتلك التحديقة، لم يتغير شيء فيها، ينقبض قلب كوكب، يثقل ويغوص في أحشائها، لا تتصوري يا فؤادة فرحتي، قرار تعيينك يصدر اليوم أو غدا ستكونين معنا في المجلة، أتوافقين؟ - أوافق بشرط يا كوكب. - بشرط إيه؟ - شرط أن أكتب ما أريد، لا أحد يتدخل في عملي، سأكون كاتبة فقط، لا علاقة لي بتحرير المجلة أو إدارتها، أتوافقين؟ - أوافق.
بدا السرور على وجه كوكب. - ستحبين العمل معي يا فؤادة.
شعرت كوكب بلذة وهي تقول: «معي» وتعني تحت رئاستي، ثم قالت: المؤسسة أكبر المؤسسات في الشرق الأوسط، ومجلتنا الأولى في مصر والعالم العربي، ده مكانك يا فؤادة، مش مع بدرية البحراوي. - بدرية البحراوي أعظم كاتبة لا أسمح لك. - متأسفة يا فؤادة، مش قصدي حاجة.
دق جرس التلفون، انشغلت كوكب في المحادثة.
استغرقت فؤادة في تأمل اللوحات على الجدران، صور رئيسات التحرير السابقات للمجلة، رئيس الدولة أو الوزير يقدم لإحداهن الجائزة التقديرية، صورة كوكب في آخر الطابور، أنهت كوكب المكالمة التلفونية، اتجهت نحو فؤادة: نحتفل بالتعيين الجديد؟ إيه رأيك ناخد درينك سوا؟ عندهم هنا في الكافيتيريا نبيذ أحمر عمر الخيام؟ - شكرا يا كوكب، ليس لدي وقت.
تحركت الغصة في حلق كوكب، ابتلعت لعابا لا يخلو من مرارة، لم تتوقع أن تقبل فؤادة العمل معها أو تحت رئاستها، أما وقد قبلت فهذا يثلج صدرها إلى حد ما، والأفضل أن تتركها تمضي قبل أن تتراجع وترفض، لكن شيئا غامضا خارج إرادتها يجعلها تستمر في الكلام، تعالي ناخد كاس نبيذ والا النبيذ حرام؟ - مش حرام طبعا لكن عندي شغل. - فيه حاجات أهم من الشغل. - زي إيه يا كوكب؟ - حاجات إنسانية. - إنسانية؟
صفحة غير معروفة