يطل أبي برأسه من وراء الجورنال، يرتفع الجفن الأعلى فوق البؤبؤ الأزرق، يرمقني بنظرة غاضبة: مش بتحبي الغلابة ليه يا داليا؟ لازم تعرفي أن الغلابة دول هم أصل البلد، لازم تتخلصي من أفكار والدتك البرجوازية.
يغمز أمي، يضحك بصوت غير مسموع أو يبتسم نصف ابتسامة، تضحك أمي ضحكتها المرحة وتقول بشيء من السخرية: بنتنا داليا مش برجوازية يا شاكر، عندها ميول اشتراكية زي الباشا الأحمر.
الباشا الأحمر هو اسمع الدلع، كانت جدتي تطلقه على جدي.
تزورنا جدتي في العيد، نحيفة الجسم، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، تتكلم ثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنكليزية، دماؤها خليط من بلاد البحر الأبيض المتوسط، أبوها كان سفيرا لمصر، يحمل لقب البك أو الباشا، يسافر إلى بلاد العالم، ترك لها بعد موته عزبة كبيرة في الزقازيق، وبيتا يشبه القصر في جاردن سيتي، حين تجلس جدتي في جوار أبي تبدو ملامحهما متشابهة، حركة عضلات الفم المطبق، مضغ الطعام من دون صوت، أطراف أناملها تمسك بالشوكة، الخطوة الخفيفة السريعة، نصفها الأعلى منحن إلى الأمام، رأسها مطرق قليلا بالرغم من الكبرياء، أبي يمشي رافعا رأسه، يمد عنقه إلى أعلى مثل الديك الرومي، شادا ظهره المقوس قليلا.
تردد جدتي مع أمي البيت القائل:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
كان الراديو يردده أيضا والتلفزيون والمعلمون والمعلمات في المدرسة، والناس في كل مكان، يعلو أصواتهم جميعا صوت يرج السماء والأرض، تقشعر له الأبدان، تنتفض له القلوب، تصورت أنه صوت الله وأنا في السادسة من عمري، كان هو الرجل الوحيد الذي أحبه وأخافه في وقت واحد.
كان الله في خيالي يبدو رجلا مثل أبي وجدي، يتكلم بصوت أقوى من كل الأصوات، ثم عرفت بعد أن بلغت السابعة أن الله ليس رجلا، ليس له جسد ولا لسان ولا صوت.
أصبح الله صامتا بعد أن جاوزت الثامنة من العمر، كنت أصحو من النوم أكبر مما كنت قبل أن أنام، قد يزيد عمري سنة كاملة أو نصف سنة في ليلة واحدة أو ليلتين.
صفحة غير معروفة