من هذا يظهر واضحا أن الوسط الاجتماعي هو العنصر الأقوى والمكون الأول لفكرة المسئولية في النفس الإنسانية. وأن طبائع الإنسان وغرائزه الاجتماعية تتشكل بالشكل الذي يريده لها الاجتماع مكرها صاحبها على اتخاذ هذا الشكل المعين. وأن الجرثومة الأولى الموجودة في نفس الفرد لا تعمل بذاتها، بل تعمل متأثرة بذلك الوسط، ولولاه لاضمحلت وفنيت، فبقي الإنسان أشبه الأشياء بالحيوانات التي تكتفي من كل ما في الحياة بالاحتفاظ بالحياة، ودفع ما من شأنه أن يلاشيها.
4
إذا كان الاجتماع هو المكون الأول لفكرة المسئولية، وكانت جرثومتها لا يقوم بناؤها إلا كما توجهه وحدات الاجتماع الإيمانية، فهل هذه الجرثومة هي هي بعينها في كل النفوس. فإذا أنت وضعت شخصين في وسط اجتماعي واحد، وعرضت عليهما صورا واحدة أيكون كم فكرة المسئولية وكيفها واتجاهها واحدا؟ وبكلمة أخرى هل فكرة المسئولية أمر اجتماعي بحت، يتأثر به الفرد من غير أن يكون لتكوينه هو الخاص أثر فيه. لقد سبق لنا فيما كتبنا عن الاختيار والاضطرار، أن أظهرنا أن هناك عوامل مثيرة تعمل في تكوين حياة الفرد الخاصة، كالوراثة وطوارئ الحوادث ونوع التربية، وبينا حينذاك أن الفرد وإن لم يكن له وجود خاص، وإنما هو ذرة تصرفها حياة العالم وهي تسير مكرهة في الطريق الذي يرسم لها، فإن في هذه العوامل الخاصة ما يكفي للتفرقة بين الأفراد في الوجهات التي توجههم إليها الحياة. هذه العوامل نفسها وأخصها الوراثة والطوارئ، وأحداث المصادفات ونوع التربية هي التي تجعل لصورة الحياة الاجتماعية في نفس الفرد لونا خاصا، وتجعله يتصور المسئولية على نحو خاص. صحيح أن مجموع الوحدات الإيمانية هو الذي يرسم الطريق الذي تتبعه هذه العوامل. ولكن هذه قد تبلغ من نفوس بعض الأفراد أحيانا، فتطمس عليه الطريق وتأخذ صاحبها إلى وجهة أخرى تجعله إما مجرما أثيما أو شاعرا كبيرا أو نبيا كريما. وفي الأحايين الأخرى والغالبة لا تصل إلى هذا، ولكنها تجعل دائما شيئا من التضارب يقوم بين الوحدات الإيمانية أو البعض منها وبين الفرد. وهذا التضارب هو ما يدفع به إلى ما يسميه الناس الخطيئة. والشخص الذي تنطبق نفسه تمام الانطباق على الوسط الذي يعيش فيه هو الشخص الذي اتبعت وراثته مجرى تطور الإنسانية، فلم تزد أطماعه على ما يريد الاجتماع أو يحبوه إياه، ولم يشعر بثقل حمل الواجبات التي يضعها الاجتماع على عاتقه.
وهذا النوع الأخير من الأفراد نادر جدا، إن لم نقل: إنه معدوم كلية وكأن ذلك الخيال القديم الباقي خيال آدم وهو خارج على الوسط الذي عاش فيه مرتكب تلك الخطيئة التي أخرجته وأبناءه من الجنة هو هو صورة كل واحد من بني آدم. وإنما يجب أن نلاحظ أيضا أن العوامل التي تؤثر في نفس الفرد لا تصل إلى ملاشاة صورة الجمعية من نفسه إلا في أحيان نادرة. فالمجرمون بالخلق والمجانين العظماء قلائل في العالم جدا. وأما ما عدا هؤلاء من الأفراد الذين يكونون سواد الإنسانية، فهم مرآة لصورة الجمعية التي يعيشون فيها. وعلى مقدار دقتهم أو عدم دقتهم في تلقي هذه الصورة تكون فكرة المسئولية في نفوسهم. وهؤلاء الأشخاص الذين لم يصلوا بالتربية؛ ليفكروا لأنفسهم ولم تخرجهم عوامل خاصة كالوراثة والمصادفات عن طريق الحياة المعتاد تنطبع في نفسهم صورة الجمعية التي يعيشون فيها انطباعا يكاد يكون تاما؛ ولذلك تقوم المسئولية في نفوسهم وحدة مكونة متماسكة مرتبطة أتم الارتباط بالصورة المذكورة. من هذا ما لوحظ من أن بعض القبائل المتوحشة يبلغ الندم على الخطيئة من نفوس بعض أفرادها، حتى لتراه نائحا منتحبا مهما قلت قيمة الخطيئة التي ارتكبها. كأن هذا الفرد يشعر بأنه جزء متضامن مع الكل الذي هو الجمعية، ومن أمثلة ذلك أن بعض قبائل أستراليا تحرم على الشبان منها أكل نوع خاص من أنواع الصيد النادرة، التي يحتفظ بها لتقدم للرجال والكهول تكريما وإعزازا. وبلغ من شأن ذلك التحريم أن من يتعداه يجازى بالقتل، ولقد شوهد من بين الشبان الذين انتهكوا حرمة ذلك القانون، ولو تحت أثر الجوع من يقدمون أنفسهم معترفين بذنبهم مظهرين أشد الندم عليه. وهذا الاعتبار للفرد كوحدة اجتماعية لا وجود لها بذاتها هو الذي سمح لقبائل العرب ولقبائل أستراليا أن يحسبوا جريمة واحد من قبيلة أخرى، تقع على قبيلتهم مستوجبة مسئولية كل فرد من أفراد تلك القبيلة الأخرى، حتى لتهدأ ثائرة الإنتقام في نفس من وقعت عليه الجريمة متى قتل أي فرد من أفراد قبيلة واتره, وقد استمرت هذه الفكرة فكرة تضامن الفرد في المسئولية مع الجماعة التي هو منها تتسلسل على العصور إلى ما بعد المسيحية. وإنا لنقرأ في هرودوتس أبي التاريخ قصص الملك كريسس (قارون) الذي ذهب يشكو إلى الإله أبولون ما لاقى من هزيمة وذل في موقعة سرديس، بعدما أفاض على هذا الإله من تحف وقرابين، فيجيبه رسول أبولون بما يأتي: محال أن تنجو حتى الآلهة مما قدر لها، ويجب أن يذكر كريسس أنه إنما لاقى جزاء خطيئة جده الخامس الذي كان فارسا في حرس كاندول أحد أبناء الهراقلة، ثم ترك نفسه تتسلط عليها امرأة تدفعه آخر الأمر لقتل سيده الملك، واغتصاب تاج لم يكن له. ولقد جاهد أبولون رجاء إرجاء مصيبة سرديس حنى تقع على رأس أخلاف كريسس، ولا تصيب إياهم فلم يقبل رجاؤه، ولا استطاع إخلاف القدر. وكل ما وصل إليه أن تأخرت سرديس ثلاث سنين. وإنما نال ذلك على كره لأحكام المقادير. وهنالك يعترف كريسس أن الذنب ذنبه الموروث لا ذنب الإله.
ومن ذلك كله يرى أن الفرد العادي يعتبر نفسه ذرة مماثلة لكل ذرات الجمعية الأخرى، ويشعر في أعماق نفسه أنه متضامن تضامنا تاما مع هاتيك الذرات؛ حتى ليسأل هو عن التكفير عما يقع منها. وليس شيء أبلغ من ذلك في الدلالة على أن الجمعية تطبع الأفراد بطابعها، وتعدم شخصيتهم لتقيم في قرارة قلوبهم شخصيتها، وتجعلهم بذلك يسيرون على السنن التي تسنها هي لهم من غير أن يكون لهم في تلك السنن أي اختيار.
ولكن ألوف القرون التي مرت بالإنسانية لم تترك فردا من أفرادها من غير أن تخلق له ظروفا خاصة، تكون في نفسه شيئا من الفردية الواقفة ظاهرا في وجه الجمعية البارزة ضد طابعها. فتعاقب الوراثات المختلفة وتنافس المدنيات المتناقضة، وتناقض المذاهب والملك وقيام الحروب الشعواء من أجل مناصرة هذه المذاهب وتلك المدنيات. كل ذلك وما سواه جعل الصورة الاجتماعية يداخلها في بعض المواضع شيء من الإبهام يسنح لقوى خاصة في نفس الفرد أن تقوم وتقوى وتصل من ذلك إلى مناهضة الجمعية، وقوانينها السائدة مناهضة يختلف مقدارها باختلاف الملكات والقوى، وباختلاف الظروف التي قامت فيها تلك الملكات وتكونت وقويت. ففي نفوس هؤلاء الأفراد تقوم فكرة المسئولية على أساس يتفق مع طابع الجمعية إلى الحد الذي تبدأ بعده تلك القوى، والظروف الفردية تناوئ الوحدات الإيمانية السائدة. أما بعد هذا الحد فتكون فكرة المسئولية مضطربة لا يحدها إلا الجزاء القانوني المقابل لما يبعثها من الأعمال والحركات الفردية.
وكلما ازدادت الظروف الخاصة، وسمحت للفرد أن يقوم بكله في وجه الجمعية تداعت في النفس فكرة المسئولية، وحلت محلها اعتبارات خاصة نرجئ بحثها إلى أن نصل للمقارنة بين فكرتي المسئولية والجدارة.
هذه القواعد التي قدمت تنطبق على الأشخاص الذين يتبعون فطرتهم، ويسيرون مع عواطفهم، سواء كانت هذه الفطرة وتلك العواطف اجتماعية أو ضد الاجتماع، وأما الأشخاص الذين يصلون من تربيتهم إلى حد التفكير الفردي الخاص، فأولئك يحللون مسئولياتهم في كل صغيرة وكبيرة مما في الحياة. وذلك لا يمنع إحساس بعضهم من أن يكون ميتا أمام الذنب الذي يرتكبه .
بل إن أولئك الذين يصلون من تفكيرهم الفردي إلى حد تحليل المسئوليات، التي تكونت في نفوسهم من نعومة أظفارهم يكونون في الغالب أقل إحساسا بعظم الخطيئة، كما يكونون أقل دهشة أو إعجابا أو تقديسا أمام الجميل العظيم. وسبب ذلك هو ما قدمنا من أن التحليل والتنسيب يستدعيان الاحتمالات والافتراضات التي هي أساس الشكوك. والشكوك إذا بدأت عملها في تحليل المسئولية اضطرت حتما أن تتناول الوحدات الإيمانية التي هي أساس المسئولية. وهذه الوحدات الإيمانية هي الغذاء الروحي الذي يدخل القلب والنفس، ويعطيها من القوة ما يعطيه الغذاء المادي للجسم. فإذا دخلها الشك ابتدأت النفس تنزعج ويعقب ذلك حتما ازدراء وتقزز منها. ومتى داخل النفس التقزز صغر أمامها كل شيء، واحتقرت الوجود وما فيه. فتضاءل الإعجاب وتضاءل الأسف، وخمد القلب وقلت نزعاته الكريمة. ولولا أن فكرة استبقاء الحياة قوية جدا تغلب على كل مفر منها لوصل الفكر إلى نتائج أتعس من الإذعان لاحتمال الحياة. ولكن هذه الفكرة القوية الفعالة تعيد كرتها عليه، وتغالب فيه دواعي استنكار الحياة بأنواع شتى من الحيل أبسطها أن يسأل المرء نفسه: وما نتيجة استنكار الحياة. هنالك يعاوده الأمل ويرى وجوب الأخذ في الحياة العملية بواجبات قريبة منة المتعارف تكون نظامه وطمأنينته. ولكنه يبقى حاسا بشيء من الوحدة يدفعه؛ ليجاهد في سبيل إدخال وحداته الإيمانية الخاصة في كتاب الاجتماع؛ ليجد في الناس إخوانا وأصدقاء. وهذا الجهاد هو نوع خاص من أنواع المسئولية نبينه فيما سيأتي ونوضح سببه ونتيجته.
ولكن هذه الصور التي جئنا بها في طريق تحليلنا لفكرة المسئولية، كالشذوذ الفردي والمجانين العظماء وخمود حاسية المفكر بالمسئولية أليست في ظاهرها تقف في وجه الفكرة الأولى فكرة انطباع صورة الجمعية في نفس الفرد، وتكوينها بذلك ضميره وإدخال مبادئها عليه، وتركها إياه يقدر المسئولية بمقدار هذه المبادئ. فكيف يكون ذلك مع ما عليه الجمعية من قوة تكاد تلاشي الفرد كل التلاشي؟ إن أول القوانين الطبيعية التي تعمل في كل المخلوقات الحية قانون بقاء الأصلح وفناء الشاذ. وهذا القانون لا يحتمل أي استثناء. فهو يستخدم كل الوسائل ليكون نافذا على كل المخلوقات. فهل اضمحل في الجمعية الإسلامية. وهل معنى القوانين والأنظمة محاربة الطبيعة ونواميسها. وإن صح ذلك فكيف يكون النظام الاجتماعي طبيعيا وهو بنفسه يحارب الطبيعة.
صفحة غير معروفة