الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم إذن هي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم جميعا، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم. وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال السياسة وأولياء الأمر في الدولة. ألم يكن ريشليو كبير وزراء فرنسا كاردينالا من أكابر الكرادلة. لكن مجده على التاريخ ليس مجدا دينيا بل هو مجد سياسي؛ لأن رجال الدين كانت لهم الغلبة على رجال العلم في عصره، فآلت إليهم شئون الدولة وقام أذكياؤهم وذوو الدراية والدربة في الشئون العامة منهم بالتقدم إلى مصاف الحكم. لكن هؤلاء كانوا يتبادلون المعاونة مع أهل طائفتهم من رجال الدين. فكانوا يعينونهم على الحياة ومرافقها وييسرون لهم أسباب العيش فيها بما في يدهم من سلطان يسمح لهم بالتحكم في خزانة الدولة. وكانوا يستعينون بما لأهل طائفتهم من رجال الدين من سلطان على المجموع وحكم على عقائده وعلى أعماله.
ولم تنج دولة من الدول ولم ينج عصر من العصور من هذا الصراع الطائفي. وهو طائفي محتوم؛ لأن رجل الدين ليس في الواقع رجل دين باختياره، ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، بل كل واحد منهم له هذه الصفة بالنشأة التي نشأها والبيئة التي تربى فيها وبالطائفة التي يسرته الحياة ليكون أحد أفرادها؛ فهو في خصومته غير مختار بأكثر مما يختار الجندي المدافع عن وطنه، هذا الجندي يستحمس ويستميت لا لأن له في ذلك مصلحة ذاتية، ولكنه يعلم أو يشعر شعورا لا سبيل فيه لريب أو شك أن هزيمة بلاده تخضعه لألوان من الذل يقاسيها بالاشتراك مع أهل بلاده جميعا، كذلك رجل الطائفة يسير وطائفته جنبا لجنب لمثل هذا السبب. والذي يخرج على طائفته متأثرا بعقيدة خاصة أو رأي شخصي مثله مثل الذين لا ينخرطون في سلك الجندية، ولو اعتبروا فارين وأعدموا لاعتقادهم بأن الحرب إثم وحشي لا يجوز لإنسان أن يقدم على اقترافه ولو تحمل في سبيل ذلك ما تحمل من النتائج.
ولم يكن فوز طائفة رجال الدين بالحكم، ولا كان فوز طائفة رجال العلم راجعا إلى الدين لذاته أو إلى العلم لذاته، بل كان راجعا أبدا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. واعتقاد المجموع بالصلاح لولاية شئون الدولة يرجع إلى اعتبارات عملية لا دخل للدين ولا للعلم فيها، وإنما الدخل لقوام الخلق وحسن البصر بالأمور وبعد النظر ودقة معرفة حاجات الدولة في الفترة التي يحكم المجموع فيها، سواء ما تعلق من هذه الحاجات بحكم الدولة في شئونها الداخلية وما تعلق بصلاتها بسواها من الدول.
ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوروبا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئا فشيئا، حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى. وإنما تغلبت طائفة رجال العلم أن نشأ المخترعون والاقتصاديون. وهؤلاء وأولئك جعلوا الناس أكثر حرصا على حياة أكثر رفها ونعمة. وقد تقدمت الاختراعات على يد رجال العلم إلى حد أيقن الناس معه أن رجال الدين - على حاجة الناس إليهم لهدايتهم في سبيل الله - أقل صلاحا للحكم وتنظيم شئون الدنيا من رجال العلم. وامتد هذا الاعتقاد وساد أوروبا كلها وانتقل مع الغزاة والمستعمرين الأوروبيين إلى أمم الشرق، وهو اليوم قد تغلغل في هذه الأمم حتى أصبح من البدهيات المسلم بها عند الناس جميعا، أن خير ما يجب أن يتحلى به رجل الدين الورع والزهد في الدنيا وزخرفها، والتقرب إلى الله للعبادة والانقطاع له بدرس الدين من غير تعرض لشئون الدولة ولا لنظام الحكم فيها.
وهذه تركيا مثل قوي من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة. ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة، وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني. وكلما ازداد الغرب والشرق اشتباكا، شعر الناس بأن العلم وما يكشف عنه من مخترعات جديدة وما يضعه من نظم اقتصادية وقواعد للعيش، وهو القدير على أن يهبهم من نعم الحياة جديدا وأن يرفع عنهم من بؤسها ما رزحوا تحت أعبائه سنين طويلة، إذن فسيبقى السلطان ونظام الحكم في يد رجال العلم. وستبقى الخصومة بينهم وبين رجال الدين قائمة. ولكن من شأن هذه الخصومة أن تكمن إذا قويت إحدى الطائفتين قوة تضطر الثانية للإذعان والخضوع، وأن تظهر إذا بدت للطائفة الضعيفة بارقة أمل من قوة.
وليس محققا أن تبقى السلطة أبدا لرجال العلم. فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه، فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدا. صحيح أن رجال العلم لا يقرون اليوم بهذا، إذ يذهبون إلى أن العلم يمتد سلطانه إلى كل ناحية من نواحي الحياة، وقد تكون دعواهم هذه صحيحة، لكنها قد تكون مبالغا فيها كذلك، فمن قبلهم قال الميتافيزيقيون: إن الميتافيزيقا تحل كل ما في الحياة من رموز وتصل إلى ما فيها من حقيقة. ومن قبل هؤلاء قال المتكلمون (التيولوجيون) مثل قولهم. واليوم يقوم جماعة الروحانيين وأضرابهم يقولون: بتفسير ما في الحياة على طريقة غير الطرائق العلمية المقررة. ولئن كان هؤلاء الروحانيون يتمسحون بالعلم وبطرائقه اليوم فقد تمسح العلماء من قبل بالميتافيزيقا وبالدين. فلما اطمأن العلماء إلى شيء من القوة نادوا باستقلالهم التام وأعلنوا طرائقهم الخاصة.
فإذا شعر الروحانيون وأضرابهم يوما بعقم العلم وبجمود العلماء واقتصارهم على المحافظة على القديم وعدم اجتهادهم لإحداث جديد، وإذا شعروا يوما بأن الناس قد أترعوا بآثار العلم فتاقت نفوسهم إلى جدة روحية أو نفسانية لا يستطيع العلماء في جمودهم تقديمها لهم - إذا شعر هؤلاء يوما ما بهذا - وقد يأتي هذا اليوم أو لا يأتي - فقد يعلن هؤلاء الروحانيون وأضرابهم استقلالهم عن العلم وطرائقه، وقد يتقدمون للناس يطلبون الثقة بهم وإيلاءهم الحكم ليتمكنوا من تقديم الغذاء الروحي الطامحة نفوسهم له. ويومئذ تقوم خصومة جديدة بين طائفة العلماء وطائفة الروحانيين وأضرابهم على السلطة والاستئثار بنظام الحكم، كالخصومة التي كانت وما تزال قائمة بين رجال العلم ورجال الدين.
على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدا. ولئن كانت بعض النزعات تقوم في الغرب لمحاربة القواعد الواقعية، فإن هذه القواعد ما تزال خصيبة في الإنتاج، وما تزال طوائف العلماء المختلفة تتجاذب كل منها الحكم إليها كما كان يتجاذبها أصحاب المذاهب المختلفة في الدين. وهذه المذاهب الاشتراكية والشيوعية التي تحارب المذهب الفردي في الاقتصاد ما تزال بعيدة عن أن تحقق أيا من الأسس التي قامت لتحقيقها. وما تزال غزوات العلم في الشرق في أول عهدها. وما يزال الأمل واسعا في أن يحقق العلم في الشرق من الرفاهية والنعمة والسعادة ما يمكن لحكمه زمنا طويلا.
وسواء لدينا أكان الحكم لهؤلاء أم أولئك من أهل الطوائف المختلفة، فنحن لا نملك من أمر ذلك شيئا. وكما أن الأصلح للبقاء بين الأفراد هو الذي يبقى، كذلك فإن الأصلح من الطوائف للحكم هو الذي يحكم. وكما أن النزاع بين الأفراد كان ولن يزال، كذلك فالنزاع بين الطوائف كان ولن يزال. وما دام العلم في تطور دائم فالنضال سيكون قاعدة هذا التطور. وإن أمكن أن يتطور النضال نفسه فيصبح سلميا بعد أن كان دمويا. لكن الأمر الذي لا نزاع فيه، والذي عرضنا من أجله لهذا البحث، هو أن الخصومة لم تكن يوما بين الدين والعلم وإنما كانت وستكون بين رجال الدين ورجال العلم، وسيكون أساسها وقاعدتها الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم.
2
صفحة غير معروفة