هل يسد العلم أبدا حاجات البشر فيبقى العلماء وأنصارهم مستأثرين لذلك بالسلطة وبتنظيم الحكم؟
هذه هي المسألة الثالثة التي أثارها بحثنا في الدين والعلم. ورجال الدين الذين يرون أن المادة والقوة ليستا منفصلتين، وأنهما من جوهر واحد، وأن المادة تستحيل إلى قوة كما أن القوة تستحيل إلى مادة، وأن العالم وحدة في الوجود والمكان والزمن، وأن أساس الإيمان هو ضعف الفرد وضعف الجماعات التي لم تقف من أسرار الكون على كثير ينجيها من الخوف من الموت، ومما يجر إليه هذا الخوف من ألوان التسليم والإيمان أما هؤلاء فيرون أن العلم لن يفلس، وأنه سيسد حاجات البشر كلها، وسيصل يوما في القريب أو في البعيد إلى هتك حجب الغيب أو على الأقل؛ لإثبات أن هذا الغيب ليس حقيقة تخشى، بل هو وهم يخافه الناس اليوم؛ لأنهم لم يؤمنوا بعد بأنه وهم. ويقيم هؤلاء دليلا على صدق نظريتهم أن المشتغلين بعلم الأرواح في هذه الأيام يأخذون أخذ العلماء الواقعيين في طريقة البحث، فإذا وصل هؤلاء إلى إثبات علمهم الروحاني، وإلى استنباط قوانينه وسننه وإلى وضعه الوضع العلمي الذي يبيح لكل إنسان يريد الوقوف على الحقيقة أن يقف عليها من طريق أدواته العلمية - يومئذ توضع مسألة الأرواح من نظام العلوم فوق مسألة علم الاجتماع وعلم النفس، أما إن عجز الروحانيون أخيرا وتبين أنهم يدورون حول تصورات الطريق إلى إثباتها بوسيلة من الوسائل الكثيرة التي ما يزال العلم يبدعها كل يوم، فيكون ذلك دليلا على أن ليس لهذا العلم الذي يريدون إثباته قوام، فيزول لذلك خطره وينقشع عن الناس كابوسه، ويقتنعون بأن ليس بعد الحياة شيء، وبأن الحياة غاية الحياة، وأن الحياة تطور أزلي أبدي الإنسان فيه كفرد ذرة تافهة سريعة التطور؛ وكجنس لا يمتاز كثيرا عن سائر الأجناس إلا من حيث إنه - فيما نظن - أرقاها في سبيل التطور ، وأدناها إلى مرتبة أسمى من مرتبته الحالية، ومن كل ما في الوجود من مراتب.
أما الفلاسفة المؤمنون فيرون العلم في صورته وبطرائقه الوضعية أقصر من أن يحيط بأسرار الكون، وبالغيب العظيم الذي يكتنف الإنسان، ويذكرون أن الإنسانية، وإن بلغت ما بلغت من الرقي، وإن تفتق عقلها عما يتفتق عنه من ذكاء ومهارة، وإن أحاطت بما أحاطت به مما حولها من الكائنات، فستظل أبدا عاجزة عن كشف سر الوجود. ذلك بأن الإنسانية جزء صغير من الكون. هي جزء صغير في الكم وفي الحيز الذي تشغله وفي الزمان الذي بدأت فيه، والذي تنتهي إليه إذا قدر للكون من صور التطور ما يجعل غيرها من الكائنات أسمى منها مقاما ومكانة. فمحال عليها وهذه حالها أن تحل لغز الوجود حلا وضعيا بطرائق العلم الحالية. ثم إن العلم يقرر أنه لا يبحث عن أسباب الأشياء ولماذا كانت فحسب؛ وإنما يبحث عن كيف الأشياء والقوانين والسنن التي تحكم هذا الكيف، وأسباب الأشياء ولماذا كانت تشغل تصور الإنسان وخياله وتطلب إليه دائما أن يجد ما يرضي هذا التصور الذي لا يطمئن إلى الظلام، كما لا يطمئن العقل إلى الجهل. وإذا كان الناس قد شغلوا بالعلم الوضعي وبلغ من شغفهم به أنهم زعموه، يوما، قديرا على حل كل معضلة؛ فذلك لأنه كشف عنهم ضر الجمود في عصر كان الجمود فيه قتالا، وكان رجال الدين هم مثال الجمود وصورته. أما وقد حطم الجمود وقد بالغت المعاول في تحطيمه حتى بلغت ذلك النور الذي كان يضيء ظلمات الغيب والذي اختفى في هذه الهياكل الخربة التي كانت معدة في الماضي لتكون المنارة التي يشع منها ويضيء من خلالها، فقد صار واجبا أن تقوم منائر أخرى غير خربة ينبعث الإيمان من خلالها حيا قويا نزيها عن شبهات المادة وظلمها متصلا بأسمى أسباب الكون، فتسير الإنسانية على هداه، ولا يضل السواد السبيل بارتكاسه في حمأة الحيوانية الدنيا التي ارتكس فيها أولئك الجامدون الذين عبدوا المال أكثر من عبادتهم ربهم.
ومحاولات الفلاسفة والعلماء الوضعيين في هذا الباب دليل قاطع بصدق هذا الرأي في نظر أصحابه. فدين الطبيعة الذي حاول روسو وضعه؛ وديانة الإنسانية التي أراد أوجست كومت أبو العلم الواقعي بعثها. هما بعض هذه المحاولات. ثم إن الذين يشتغلون بالروحيات والروحانيات في الوقت الحاضر، وإن اشتغلوا بها على طرائق العلم فليس لهم من دافع إلى هذا الاشتغال إلا من يحيط بهم من ظمأ النفوس إلى الإيمان ونفورها في نفس الوقت من رجال الدين وإيمانهم. يؤيد ما سبق في نظر أصحابه دائما هذا الاتجاه الذي تسير نحوه أوروبا - منشأ العلم ومهبطه - منذ وضعت الحرب أوزارها، والذي تبتغي به أن تجد في الشرق مهبط الوحي ومبعث الديانات هدى دياجير ظلمة القلوب. فلو أن العلم كان يسد أبدا حاجات البشر لظل إيمان الناس به على ما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ولما اضطرب الناس في أوروبا ومن بينهم عدد كبير من العلماء يريدون إيمانا كإيمان العجائز. •••
ونحن لا نقطع أي الرأيين حق. فنحن لم نؤت ذكاء يخترق حجب المستقبل، ويكشف ستاره ولم نؤت جرأة العليم بالإيمان وبالعلم وبالدين، فنقضي قضاء الجريء الذي لا يعرف التردد. لكنا قانعون بموقف الشك بين هذه المضارب الفكرية الظريفة. وكل الذي نقطع به أن الخلاف ليس بين هذه المضاربات لذاتها، ولكنه خلاف كان ولن يزال على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. فالسلطة إنما يليها الذين يستطيعون سداد حاجات الجماعة العقلية والنفسية والمادية. وولاية الحكم غريزة في النفس يسعى إليها الإنسان ما استطاع لذلك سبيلا. وأنت ترى الرجل الساذج من القرية إذا سمحت له ظروفه يوما من الأيام أن يكون له على غيره سلطان سعى لذلك سعيه، وعمل للظفر منه بغايته، وكالرجل الساذج غيره من الناس. فتلك فطرة عامة لا تقتصر على الإنسان وحده، وسبيل تحقيقها في الجماعات أن تسد حاجة الجماعات. والعلم ورجاله يسدون اليوم هذه الحاجة؛ ولذلك ولي هؤلاء الرجال وأنصارهم الحكم. فإذا ظلوا في مثل موقفهم ظل الحكم لهم. وإن تغلب غيرهم عليهم انتقل الحكم إلى هذا الغير.
وكذلك كانت الخصومة بين الرجال لا بين العلم ولا بين الأفكار من حيث هي. كانت الخصومة للاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وكل الذي ترجوه الإنسانية في تطورها أن يسير بها أولو الأمر فيها إلى أسمى ما ترجوه من غايات النظام والتقدم والسلام.
الفصل الثاني
أوجست كومت وفلسفته1
«لقد أخلصت حياتي لأستنبط من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها.» (1) أسس فلسفة كومت
كل مذهب جديد في الفلسفة يمت؛ وإن ظهر فذا غريبا؛ بلحمة نسب ضيقة للمذاهب التي سبقته، كما يرتبط بما حوله من الأصوات العامة ارتباطا يعدل تلك اللحمة متانة واتصالا، وإن كان أقل منها ظهورا ووضوحا. فهو متضامن مع الشئون الاجتماعية كافة تضامنا يجعل تأثره بما في البيئة المحيطة به من المظاهر الدينية والفلسفية والاقتصادية والعقلية لا يقل عن أثره فيها؛ لذلك ليس يكفي درس المذهب الجديد على أنه وحدة قائمة بذاتها مستقلة عما سواها. بل يجب النظر إليه ضمن المجموع العام الذي لا تتضح أهم أركانه إلا به.
صفحة غير معروفة