128

الإلياذة

تصانيف

هكذا تكلم «ثيريستيس» زاجرا أجاممنون، راعي الجيش . بيد أن «أوديسيوس» العظيم أسرع إلى أولهما، وإذ نظر إليه بغضب من تحت حاجبيه، زجره بقوله: «أي ثيريستيس، يا طائش الحديث - رغم أنك متكلم فصيح - صه ولا تحاول النضال وحدك ضد الملوك. لأنني أعتقد أنه لا يوجد شر منك بين سائر من جاءوا من أبناء أتريوس إلى طروادة؛ لذا أجد من الخير أن تمسك لسانك عن الملوك، ولا تنحي عليهم باللائمة أو تراقب الرحيل إلى الوطن. فلسنا نعلم بعد كيف ستكون هذه الأوضاع: أمن صالحنا أمن ضررنا أن نعود نحن أبناء الآخيين. إنك دائم التلفظ بالسباب ضد ابن أتريوس، أجاممنون، راعي الجيش؛ لأن المحاربين الدانيين يقدمون إليه كثيرا من الهدايا، بينما تصب أنت عليه الشتائم باستمرار. غير أنني أنذرك، وسأنفذ كلامي: لو وجدتك هنا ثانية تتظاهر بالبلاهة، كما تفعل الآن، لحق لرأس أوديسيوس ألا يبقى بعد اليوم فوق كتفيه، ولما استحققت بعدئذ أن أدعى والدا لتيليماخوس، إن لم أقبض عليك وأجردك من ثوبك وعباءتك، وردائك الذي يستر جسدك، ثم أرسلك إلى السفن السريعة، بعد أن أضربك في مكان الاجتماع ضربا مخزيا!»

قال أوديسيوس هذا، وضربه بعصاه على ظهره وكتفيه، فخر ثيريستيس، وانحدرت منه دمعة كبيرة، وبان أثر الدم على ظهره تحت العصا الذهبية. ثم جلس وقد تملكه الذعر، ومسح دمعته والألم يخزه وخزا شديدا والعجز يبدو في ملامحه، ولكن الآخيين، رغم حنقهم عليه في قلوبهم، انفجروا ضاحكين منه، وقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره: «ويحي! حقا قام أوديسيوس قبل الآن بأعمال جليلة لا تحصى، كقائد للرأي السديد وكمثير للهيجاء، غير أن هذا هو خير ما أتاه بين أهل أرجوس؛ إذ جعل هذا الثرثار السفيه يكف عن شتائمه. وإني لأعتقد أن روحه المتغطرسة لن تغريه بعد الآن على سب الملوك»!

سرت هذه العبارات بين الحشد، بيد أن أوديسيوس، فاتح المدن. قام والصولجان في يده، وإلى جانبه أثينا ذات العينين المتألقتين، في هيئة مناد، وأمر الجيش بأن يلزم الصمت، حتى يستطيع أبناء الآخيين، الداني منهم والقاصي، أن يسمعوا كلامه، ويحفظوا في قلوبهم مشورته. وبقصد حسن خاطب جمعهم قائلا: «يا ابن أتريوس، الآن حقا ينوي الآخيون أن يجعلوك، أيها الملك، أبغض البشر طرا وأجدرهم بالازدراء، ولن يبروا بالوعد الذي عاهدوك عليه - عند سيرهم إلى هنا من أرجوس، مرعى الخيول - بألا تعود إلى الوطن قبل أن تقتحم طروادة المنيعة التحصين؛ لأنهم كالأطفال الصغار أو كالأرامل يولول بعضهم إلى بعض تواقين للعودة إلى الوطن. وإنها الخيبة المريرة والإرهاق الشديد، اللذان يدفعاننا إلى العودة؛ لأن من يمكث بعيدا عن زوجته شهرا واحدا في سفينته ذات المجاذيف، يثور الغيظ في قلبه حين يرى نفسه سجينا وسط البحر الصاخب بفعل عواصف الشتاء وأعاصيره، فما بالك وهذه هي السنة التاسعة، تحل بنا، ونحن هنا! ومن ثم فلا أعتبر من العار أن يحقد الآخيون في قلوبهم وهم بجانب سفنهم المدببة، ومع ذلك فإنه لمن المخجل أن نظل هنا طويلا ونعود بخفي حنين. إذن فلتتحملوا، أيها الأصدقاء، ولتمكثوا بعض الوقت، حتى نعلم ما إذا كانت نبوءات كالخاس

Calchas

9

صادقة، أم كاذبة؛ لأن هناك حقيقة نعرفها جيدا في قلوبنا، وأنتم جميعا شهود عليها، أنتم الذين لم تفتك بكم شياطين الموت: لقد كان بالأمس فقط، أو أول أمس، أن احتشدت سفن الآخيين في أوليس

Aulis ،

10

كي تحمل الدمار لبريام والطرواديين، وكنا نحن مجتمعين حول نبع، نقدم الذبائح المئوية للآلهة فوق المذابح المقدسة، تحت شجرة دلب جميلة، والماء الصافي يتدفق رقراقا من النبع، وإذا بعلامة عظيمة تتجلى؛ فقد زحف من تحت المذبح أفعوان، ظهره في حمرة الدم، مفزع، أرسله إله جبل أوليمبوس نفسه - زوس - إلى ضوء النهار. وقد اتجه صوب شجرة الدلب. وكانت على تلك الشجرة عندئذ أفراخ عصفور دوري، زغب الحواصل، فوق أعلى غصن، قابعة تحت الأوراق، عددها ثمانية، والأم التي أنجبتها هي التاسعة. فابتلعها الأفعوان وهي تزقزق بصوت يثير الشفقة، ومن حولها كانت الأم ترفرف وهي تبكي صغارها الأعزاء! ثم استدار وأمسك بها من جناحها وهي تصيح مولولة، ولكنه بعد أن التهم الأفراخ والأم، إذا الرب الذي أخرجه إلى النور، يحوله إلى رمز، غير منظور، فإن ابن كرنوس - ذا المشورة الملتوية - قد مسخه حجرا! فوقفنا هناك نتعجب مما حدث، من هذه الظاهرة الخارقة المثيرة للفزع، التي تخللت تقديم ذبائح الآلهة المئوية، وعندئذ أطلق «كالخاس» نبوءته في الحال؛ إذ خاطب جمعنا قائلا: «لم هذا السكوت، أيها الآخيون ذوو الشعر المسترسل! لقد أبان لنا زوس المستشار هذه العلامة العظيمة، فجاءت متأخرة، وتأخر تحقيقها، ولكن لن يندثر صيتها بأية حال. فكما التهم هذا الثعبان أفراخ العصفور - وأمها كذلك - وكانت ثمانية والأم التاسعة، هكذا أيضا سنحارب نحن هناك سنين عديدة، ولكننا في السنة العاشرة سنستولي على المدينة الفسيحة الطرقات! بهذا قالت النبوءة، فهيا تعالوا، امكثوا كلكم حيث أنتم، أيها الآخيون المدرعون جيدا، إلى أن نستولي على مدينة بريام العظمى!»

وإذ قال هذا، صاح أهل أرجوس عاليا، ومن حولهم رددت السفن الأصداء بصورة عجيبة من وراء صيحات الآخيين، وهم يمتدحون كلمات أوديسيوس شبيه الإله. ثم تكلم في حشدهم الفارس «نسطور» الجيريني

صفحة غير معروفة