فقال: «كنت؟ هل تعنين أنك تبغضيننى الان؟»
قالت: «لا.. ليس لك فى قلبى حتى ولا البغض».
فقال وهو يضحك ولا يفهم: «لا بغض، ولا حب. فماذا إذن؟»
قالت: «الاحتقار. ليس إلا».
وعضت لسانها نادمة وأدركت أنها زلت، وخشيت أن يزيده هذا حماقة وطيشا. وراح رأسها يدور وأحست أن الأرض غير مستقرة أو ثابتة، وأزعجها أن تحتاج إلى الاتكاء على صادق، فتشددت وتماسكت بجهد. واستغربت من نفسها أنها تذكرت فى هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات المخيفة، يوم دخلت على التلميذات وحدها أول مرة وفى يسراها دفتران واحد للأسماء والاخر لتحضير الدروس، وكانت قد أعدت درسها بعناية وكتبته بخط واضح جميل، ووضعت تحت العناوين خطوطا حمراء، وتوقعت أن تبهر التلميذات بالوقار والسمت وحسن الإلقاء والبيان، وإذا بالتلميذات يقف بعضهن - أقلهن - وهن جميعا يتلاغطن، ورؤوسهن متدانية، وأصابعهن مشيرة إليها. ومنهن من وضعن أيديهن على أفواههن ليكتمن الضحك، ومنهن اللواتى ضحكن غير متحرزات أو عابئات، وهى واقفة لا تدرى ماذا تصنع لتفىء بهن إلى الصمت والسكون، وما يجب أن يتلقين به معلمتهن من التوقير. وظلت هكذا لا تقول أو تفعل شيئا ولا تحرك يدها بإشارة، ثم افتر ثغرها بكرهها عن ابتسامة خيل إليها فيما بعد أنها ابتسامة السخر من نفسها أو اليأس من قدرتها على السيطرة على هؤلاء التلميذات. وإذا بهن يبادلنها ابتساما بابتسام، ويرخين أيديهن، ويقفن معتدلات القدود، فأشارت إليهن أن اقعدن، فقد أشفقت أن تنطق فيشى صوتها باضطرابها. وسلس لها الأمر بعد ذلك، ولم تعان مشقة معهن. وخطر لها - وهذه الصورة ماثلة لعينيها - أن لعل إبراهيم على صواب، وعسى أن يكون رأيه ونهجه أسد، وقد تكون الحسنى أرشد وأحق أن تبلغها أمنها.
وبلغا السيارة، وجرب صادق محركها، وحمد ما صنع العامل، وأنقده أجره وسخا فيه، ودعا ميمى إلى الركوب. فقالت وهى تبتسم: «ألا ترى أن الأحزم أن نتزود للطريق».
ورأى ابتسامها، ونظر إليها مليا، كأنما يتفرس، ثم وثب إلى الأرض وتركها تتمشى حول السيارة ثم عاد بسجاير وطعام. وكان فى السيارة (ترمس) صغير وآخر كبير فأراق ما فيهما من ماء وذهب بهما إلى المقصف وعاد بعد برهة، وقد ملأ الصغير قهوة، والكبير ماء مثلوجا. وأشار إليها أن اركبى ففعلت بلا سؤال، فأدار المحرك مرة أخرى وخرج بالسيارة من نطاق المحطة حتى بلغ الطريق المعبد، فوقف وسألها: إلى أين؟ فأبدت قلة اكتراث وقالت: «كما تشاء». فانطلق فى طريق الإسكندرية.
وأحست بالجوع ففكت إحدى اللفافتين وأخرجت منها أربعة سندوتشات وجعلت تأكل وتطعمه، وتنفض عن ثيابه ما يتساقط من الفتات، وهو بادى الرضى والسرور، وإذا بالسيارة كأنما يقف محركها ثم يعود إلى العمل من تلقاء نفسه. وكان لهذا العارض رجة خفيفة شعرا بها، ولكنها لم تتكرر إلا بعد عشرة كيلومترات أو نحو ذلك. وبدا على صادق القلق ولا سيما بعد أن أحس هذا العارض مرة ثالثة بعد مسافة قصيرة، فأراد أن يسرع ولكن السيارة كانت كأنما لا تستطيع أن تمضى بأسرع مما تفعل. وقطعا على هذا الحال، ومن غير أن ينبسا ببنت شفة أكثر من سبعين كيلو مترا، واذا بالسيارة يخرج منها صوت كالحشرجة ثم يقف المحرك. وعبثا حاول صادق أن يديره مرة أخرى، وقد ظل يجاهد حتى تصبب منه العرق.
فقالت ميمى: «يحسن أن تستريح». وتكلفت أن تهون الأمر فقالت مازحة: «من يدرى.. لعل بالسيارة أيضا حاجة إلى الراحة».
فصاح: «كلام فارغ.. هذا العامل حمار ولا يستحق مليما مما أخذ.. ولعله أتلفها وهو يحسب أنه أصلحها».
صفحة غير معروفة