قال: «ولو كان أسرف؟»
قالت بغير تردد: «ما أظننى كنت أضن عليه بما يريد إذا كان فى ذلك سعادته».
وكانا يتمشيان فى الجزيرة. فاقترح أن يركبا زورقا فى النيل. وكان الوقت عصرا، فقضيا ساعة أو بعض ساعة يسبح بهما الزورق على الماء فى رفق. لا يتكلمان ولا يسمعان إلا وقع المجدافين إذ يخبط الملاح بهما الماء. وكان إبراهيم ثابت الحملاق ينظر إلى حيث تلتقى الأرض والماء بالسماء عند الأفق. وعايدة تتلفت منه إلى حيث ينظر، وتجيل عينها فى هذا الشاطئ وذاك، ولا تنبس بحرف. وكأنما عجزت عن احتمال هذا الصمت الطويل الثقيل فصاحت فجأة؟ «أى نزهة هذه؟»
فرد إبراهيم عينه إليها، وتبسم بجهد وقال: «معذرة. لقد كنت أفكر فيك. والآن يحسن أن نرجع فإن عندى كلاما طويلا أريد أن أحدثك به».
ولم يتركا الزورق لما عادا إلى البر. ورجا إبراهيم من الملاح أن يقعد بحيث يراهما ولا يسمعهما. فلما فعل قال إبراهيم: الآن سأقص عليك قصة:
حكى أن فتاة مات أبوها وهى تلميذة فى السنة الأولى من مدرسة ثانوية. وكان متلافا فلم يخلف لها مالا. ولولا بعض مال لأمها لافتقرت بعد غنى. ولكن مال أمها لم يمنع أن تعانى الفتاة الضيق بعد السعة. وكانت تنظر إلى مستقبلها مشفقة واجفة القلب. فقد كانت ترجو فى حياة أبيها أن تستوفى حظها كاملا من التعليم. فالآن لا أمل فى أكثر من التعليم الثانوى، وقد تعجز عن إتمامه. وكانت ترجو أن تجد زوجا صالحا، فأما وقد مات أبوها فمن ذا عسى أن يرغب فيها؟ إن شبان هذا الزمان يسألون عن مال الفتاة وجاه أسرتها قبل أن يسألوا عن الفتاة وأدبها وخلقها وجمالها. وزاد الطين بلة أن أختها الكبرى المتزوجة الحسنة الحال طمعت فى مال أمها وسعت للاستئثار به دون هذه الفتاة. وأبى سوء الحظ لفتاتنا إلا أن تصاب إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، واحتاجت بعد علاج طويل، وشفاء كان ميئوسا منه، أن تضع على عينها نظارة كانت تأنف وتستحى أن تضعها، فتخالف وصية الطبيب، نفورا من تشويه النظارة لحسن الوجه، ولأنها قد توهم من يبصرها أنها عمياء. وهكذا كبر فى وهمها أنها ليست ممن يرغب الشبان فيهن، فلا هى غنية، ولا أسرتها - بعد وفاة أبيها - ذات جاه، ولا هى جميلة. وفوق هذا كله يأمرها الطبيب أن تشوه وجهها بنظارة! فملأ قلبها الخوف، وخلا من الثقة بالنفس. الخوف من مستقبل يسوده طمع الأخت، وضعف الأم، وقلة الثقة المتولدة من اجتماع كل ما ذكرت. فماذا بقى لها؟ لم يبق إلا أنها أنثى. أنثى قد تشتهى لأنوثتها وصباها وغضاضة بدنها، وجدة بشرتها التى لم تبتذل، ولكنها لا تحب لذاتها، ولا تطلب لمزية أخرى فيها.
واضطرت، كما توقعت، أن تنقطع عن المدرسة، لأن مواصلة الإكباب على الدرس كانت خليقة أن تؤذى عينها التى شفيت ولما تكد. فزاد هذا فى خوفها الباطن وقلة الثقة التى استحوذت على نفسها.
وفى هذا الوقت جاء ابن عم كان خليقا بها - لولا ما صارت إليه من سوء الحالة النفسية - أن تفطن إلى أنه أولى بنفورها منه بإقبالها. ولكنها كانت ظمأى إلى الحب والعطف، متلهفة على الاستقرار والاطمئنان. وكانت تتوهم أن الوسيلة إلى ذلك - إلى الأمن والرى والراحة - هى المطاوعة وإسلاس العنان. كانت تطيع أمها وتتوخى مرضاتها لتمنع أن تخطف الأخت حقها. وكانت تتزلف إلى أختها لتعطف عليها، فتكف عما تسعى له من هذا الخطف. والآن وقد جاء ابن العم يظهر الحب، ويلوح بالزواج والأمن والراحة من هذه المزعجات، فما عليها إلا أن تجيبه إلى ما يهيب بها إليه لتستبقى رغبته فيها. ولما كانت قد وقع فى روعها أنها ليست إلا أنثى تشتهى لأنوثتها، ولا تحب لذاتها، فسبيلها إلى ما تنشد هى أن تجعل أنوثتها متاعا له مخافة أن تفقد حبه. ولو أسرف فى الطلب، وأغرق فى طلب المتعة، لما أحجمت عن التلبية. وكانت تتوهم أنها بهذا تسعده، وأن سعادته هى كل مبتغاها، وأنها مستعدة للتضحية فى سبيل ذلك. وكانت تحدث نفسها أن أنوثتها استيقظت، فهى تجاوبه لهذا، وتجد من قبلاته وضماته وقربه مثل ما يجد. ولكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما كانت خائفة قليلة الثقة بنفسها، وكان هذا هو الذى يغريها بالمسايرة والمطاوعة، بل بلغ من خوفها وضعفها أنها صارت لا تقتصر على المسايرة، بل تتجاوزها إلى المجاوبة. وكانت تجهل أن الزواج الصالح إنما يكون بين كفوءين لا بين سيد وجارية، وإنها لم تكن تحبه، ولكنها تخشى فقده، وأن الحب الذى يكون كله تضحية من جانب واحد، ليس حبا، بل عبودية لا خير فيها للجنس الإنسانى، وليس الحب أن تهب ولا توهب، بل أن تعطى وتأخذ.
وجفاها ابن عمها وملها، ونباها وتخلى عنها، وبنى بغيرها، أو لعله أساء الظن بها، ولم يحمد سيرتها معه، وأغلب الظن أنه كان نذلا. فلما اعتاض منها سواها، صارت أقل ثقة بنفسها، وأضعف، وأعظم خوفا من المستقبل.
ولقيت كهلا ذا زوجة، وآنست منه ودا، فقالت أمنحه من نفسى ما يحب، لأنها لا تزال تعتقد أنها أنثى تشتهى، ولا تحب لذاتها أو لمزية لها. ولو عرفت نفسها معرفتها لأدركت أنها لا تحتاج إلى البذل، وإنما تحتاج إلى الثقة بالنفس، وتفتقر إلى اطمئنان القلب وانتفاء الخوف، ولعرفت أن حدة الإحساس الجنسى هى الزى الذى اتخذه الضعف والخوف. وفى الوسع تلطيف هذه الحدة، وكبح هذا الجماح، فإن الإحساس الجنسى ليس مستعصيا على الضبط. ولو راضت فتاتنا نفسها على السكون إلى الصداقة والعطف والقناعة بالمودة التى تكون بين الرجلين، ولا يندر أن تكون بين رجل وامرأة، ووثقت بنفسها، ونفت عنها هذه المخاوف التى تتلف أعصابها، وتدفع إحساسها فى مجرى غير صالح ولا مأمون، لو فعلت ذلك لاستراحت، ونعمت. والآن ما رأيك فى هذه القصة؟
صفحة غير معروفة