وكان صوته يرتعش ويده ترتجف وكيانه كله يهتز فالتفت ذراعها بعنقه وقالت هامسة: أعرف ذلك.
وهدأت الأعصاب، وبعد لحظة ادار إليها وجهه ولثم شفتيها ثم قال: اصغي إلي. فما أستطيع أن أرفع صوتي. سأبكي إذا فعلت.
فدنت منه حتى لصقت به، وشد هو نفسه حتى خيل إليه أنه صار كالصخرة، ولكن صوته ظل متهدجا على الرغم منه. - إني اكبر منك سنا وأكثر تجارب، ولم يكن من حقي أن أدع الأمر بيننا يبلغ هذا الحد، وعلى أن لك على صغرك وغضارة سنك وقلة خبرتك، من الذكاء ما يعينك على التقدير السديد والنظر السليم، وإني لأعلم كما تعلمين أن بيننا.. تفاهما.. تفاهما مباركا.. ولست أعتقد أن بين اثنين سوانا مثل هذا التعاطف الطبيعي. كلانا خلق لصاحبه، ولكن لهذه الأمور مقتضياتها، مستلزمات لا مفر منها ولا معدى عنها، إذا لم يكن الزواج هو المصير فليس يجوز أن ينشأ بيننا أو يظل مثل هذا التفاهم. إنه تحد للطبيعة: أن يتحاب اثنان ثم لا شيء. الشأن شأننا في الحقيقة. والأمر لا يعني سوانا ولكن الأيام مقلوبة. والعادات والتقاليد سخيفة ومنافية للعقل والواجب. صارمة أيضا. ونحن نوشك أن نحدث في سورها ثغرة ... أن نقتحم الحصن المنيع الذي بناه الجهل ... ولست أراك تقوين على ذلك. ولا أحسبني خيرا منك. ينبغي أن نفتح عيوننا. عاجلا أو آجلا. أنا أوثر أن يكون ذلك آجلآ. وهو أحلى وأعذب وأندى على النفس. ولكنه لن يكون إلا حلما مهما طال. ونحن ننسى أحيانا مصير كل شيء لا يساير التيار، ولا يوافق الزمن ولا يطابق روح الأيام. وإذا كان لابد من التحطم على صخور التقاليد فليكن ذلك ... اليوم».
فخنقت الفتاة عبرتها وتعلقت به يائسة ثم قالت، وكلتا ذراعيها حول عنقه ووجهها مدفون في صدره: لا أقدر ... لا أقدر ... مرة واحدة ... كلا لا أقدر.
فمسح لها شعرها في رفق وقال: «لابد ... وإنك لتعلمين ذلك. لابد أن نكسر قلبينا».
فقالت: «نكسر؟ ولكن أوه! أوه! لماذا نمزق قلبينا؟ دعني أياما ... أمهلني وقتا كافيا. لا هكذا في دقيقة واحدة، بالتدريج، إبراهيم. بالتدريج، ليبقى لي شيء أذكره. أحلم به. أدخره للأيام السود. دع لي شعاعا واحدا من النور، لا أكثر، لا تهشم حياتي كلها اليوم. لا تمح دنياي بلفظة. حتى التعذيب يجب أن يكون تدريجا ليحتمل».
فابتسم لها - في عينيها.
وكما أن لمسه ألانه وفتره وسرى عنه أيضا، كذلك ضعفها قواه وأمر عزمه وقال: كلا! يا شوشو. ليس هذا خليقا بك. يجب أن نصدق أنفسنا ونكون أقوى منها أيضا. نحلق فوق مقاديرنا. وسيفسد كل شيء إذا لم نختم هذه الحكاية الآن ثم ننهض مبتسمين. لقد غرسنا معا أجمل زهرة. ونمت وتفتحت حتى صارت منى النفس وريحانة العين والأنف - حسن منظر وذكاء مشم. وقد آن أن نقطفها ... يجب أن يكون قطفها كما ينبغي. لا ورقة ورقة، فلا تبقى هناك زهرة. وتصوري جمال الذكرى. ذكرى الزهرة الجميلة التي كانت لنا والتي لم نخف أن نقطفها ... لما أينعت ... سنزهى بذلك ونسعد أيضا حين نذكره. نذكر زهرتنا التي لم ندعها تذبل أو تموت ... ويجب أن نقطفها بابتسامة يا شوشو من أجلك وأجلي ...». - أوه! إن هذا كالموت. لا أستطيع أن أواجهه. - بل تقدرين معي. نحن الاثنين نستطيع أن نواجه أي شيء، وماذا يعنينا من الموت ما دمنا نستطيع أن نسير في الحياة بقلب سليم؟
فرفعت شوشو رأسها وقالت: أنت محق. يجب أن نسير بقلوب سليمة.
وتحولت عينها إلى النافذة وارتفعت منها إلى السماء. ثم ارتدت إليه ومدت يدها البضة ولمست شعره ومشطته بأصابعها إلى الوراء وتركها هو تداعب شعره كما تحب؛ ثم قالت وهي باسمة وفي صوتها حنو دافق: فلنقطف زهرتنا الآن.
صفحة غير معروفة