وبرهان ابن سينا المفضل حول قابلية التجزؤ إلى غير نهاية هو ما يستنبطه من مبدأ التماس،
23
قال ابن سينا : «من الناس من يظن أن كل جسم ذو مفاصل تنضم عندها أجزاء غير أجسام تتألف منها الأجسام ، وزعموا أن تلك الأجزاء لا تقبل الانقسام، لا كسرا، ولا قطعا، ولا وهما، ولا فرضا، وأن الواقع منها في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس.»
ويقوم جواب ابن سينا - كما هو حاصل القول - على أن هذا الجزء الأوسط إما أن يكون قد مس على وجه واحد من قبل الجزأين اللذين هما في الطرفين؛ أي يكون قد دخل فيه من قبلهما، فيقع تداخل جميع الأجزاء، ولا يتكون حجم مطلقا، وإما ألا يكون ذلك الجزء الأوسط قد مس من قبل الجزء الذي يكون في طرف على الوجه الذي يمس به من قبل الطرف الآخر، فيكون قابلا للتجزؤ، وإن شئت فقل: إنه إما أن يوجد تماس كامل، وهنالك تداخل، أو أن يوجد تماس جزئي، وهنالك تجزؤ.
وأخيرا يعتقد ابن سينا - إذ يوكد أن الحركة قابلة للتجزؤ بالقوة إلى غير نهاية لمكانها على طول الخطوط القابلة للتجزؤ بالقوة إلى غير نهاية - أنه يفند القضية المعاكسة، القائلة: إن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ، منفصلة بسكنات،
24
فهو يقول: «نعلم أن السهم في نفوذه، والطائر في طيرانه إن كانت حركاته مركبة من حركات لا تتجزأ، وهي في أنفسها لا أسرع منها، لم يخل: إما أن تكون مركبة منها بلا تخلل سكنات، أو تكون بتخلل سكنات قليلة جدا بالقياس إلى الحركات، فإن كان لا بتخلل السكنات فيجب أن تكون حركة السهم والطائر مساوية لحركة الشمس المشرقية، أو أسرع منها، وهذا محال، وإن كان بتخلل السكنات، وهي أقل من الحركات، فيجب أن يكون فضل حركة الشمس عليها أقل من الضعف، لكن ليس بينهما نسبة يعتد بها.»
ولذا؛ لا يدافع عن هذه الفرضية. أجل، نقول هنا، أيضا: إن من الجلي أنه لا يدافع عن هذه الفرضية كما عرضها ابن سينا، بيد أنها تعود غير ذلك، إذا ما أجرينا عليها تعديلا يسهل تصوره.
لقد أصررنا على جميع هذه البراهين بلا وجل من إتعاب القارئ؛ وذلك لاعتقادنا أنها مهمة - لا لذاتها - لا ريب، ما دامت غير صحيحة، بل لدلالتها على مرحلة وقف الذهن البشري عندها زمنا طويلا، وقد مرت قرون كثيرة على الفلاسفة وهم يأتون بحلول متناقضة لهذه المسائل، التي كان يدخل فيها مبدأ اللانهاية الرياضي، وقد زعم «كنت» أنه يضع حدا للجدال بطرحه هذه المتناقضات على حساب العقل، فعندنا أن من السهولة بمكان، ومن الصواب البالغ أن يعترف - على ضوء علم أكثر تقدما - ببطل جميع هذه البراهين المتناقضة، فيذهب إلى أن القضية وضدها في هذا النوع من المسائل مقبولتان على السواء، وأن كلا منهما غير خاضع لأية ضرورة عقلية.
الفصل الثامن
صفحة غير معروفة