وقد تكلمنا عن المقدمات الكلية، وتوجد مقدمات لكل علم. وهذه هي متعارفات هذا العلم، وذلك خلا بعض الافتراضات أو بعض المبادئ المسلم بها من غير برهان فيوجبها الأستاذ؛ وذلك إما لأن هذه الافتراضات أثبتت في علم قريب، وإما لأنها ستثبت في عين العلم الذي يعلم، وإما لأن للتلميذ الذي يتعلم العلم لا يجد فيها ما يعاند. ومن هذه المبادئ المسلم بها من غير برهان في الهندسة مثلا: أن الخطين إذا وقع عليهما خط مستقيم فكانت الزاويتان اللتان من جهة واحدة أقل من قائمتين، فإن الخطين يلتقيان من تلك الجهة.
وموضوعات العلوم هي الأمور التي توضع في العلوم، وتطلب أعراضها الذاتية مثل المقدار للهندسة، ومثل العدد للحساب، ومثل الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن للعلم الطبيعي، ومثل الموجود والواحد للعلم الإلهي، ولكل منها أعراض ذاتية تخصه مثل المنطق والأصم للمقادير، ومثل الشكل لها، ومثل الزوج والفرد للعدد، ومثل الاستحالة والنمو والذبول وغير ذلك للجسم الطبيعي، ومثل القوة والفعل والتمام والنقصان للموجود، وبالحد تعين موضوعات العلم، فلنقل بضع كلمات عنها.
يفرق فلاسفة العرب بين الحد والرسم،
12
وإليك إيضاح ابن سينا لذلك في الإشارات:
13 «الحد قول دال على ماهية الشيء، ولا شك في أنه يكون مشتملا على مقوماته أجمع، ويكون لا محالة مركبا من جنسه وفصله؛ لأن مقوماته المشتركة هي جنسه، والمقوم الخاص فصله، وما لم يجتمع للمركب ما هو مشترك وما هو خاص لم تتم للشيء حقيقته المركبة، وما لم يكن للشيء تركيب في حقيقته لم يمكن أن يدل عليها بقول، فكل محدود مركب في المعنى.» ومثل هذا قول ابن سينا في النجاة:
14 «إن البرهان والحد متشاركان في الأجزاء، فما لا برهان عليه فلا حد له، وكيف يكون له حد، وإنما يتميز بالعوارض الغير المقومة، فأما المقومات فمشتركة لها؟»
والوجه - الذي يكون به الرسم - أقل تعيينا من الوجه الذي ينال به الحد، قال فيلسوفنا:
15 «وأما إذا عرف الشيء بقول مؤلف من أعراضه وخواصه، التي تخصه بالاجتماع، فقد عرف ذلك الشيء برسمه، وأجود الرسم ما يوضع فيه الجنس أولا، ليفيد ذات الشيء، مثاله ما يقال للإنسان: إنه حيوان مشاء على قدميه، عريض الأظفار، ضحاك بالطبع، ويقال للمثلث: إنه الشكل الذي له ثلاث زوايا، ويجب أن يكون الرسم بخواص وأعراض بينة للشيء، فإن من عرف المثلث بأنه الشكل الذي زواياه مثل قائمتين لم يكن رسمه إلا للمهندسين.»
والمسائل التي توضع في العلوم هي - عدا مسائل معرفة ما الشيء، وهل هو موجود - ما يؤخذ في الجواب عنه بالحد والرسم، ومسائل معرفة أين يكون هذا الشيء ومتى يكون، وكيف يكون، ولماذا يكون، وتسوقنا هذه المسائل المختلفة، التي تستدعي نظرية المقولات ونظرية العلل، إلى حدود المنطق وإلى النقطة التي يلمس عندها هذا العلم ما بعد الطبيعة.
صفحة غير معروفة