دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
وبقي في هذه القلعة أربعة أشهر، وقام علاء الدولة بحملة على همذان في ذلك الحين. وينهزم تاج الملك ومعه شمس الدولة، ويجيء للبحث عن ملجأ في هذه القلعة، التي كان ابن سينا معتقلا فيها، ويعود علاء الدولة إلى أصبهان بعد قليل، فيغادر تاج الملك ملجأه، ويدخل همذان آتيا بالشيخ معه، وكان هذا الشيخ قد ألف كثيرا من الكتب في سجنه.
وتزيد رغبة ابن سينا في مغادرة همذان عقب تلك الحوادث، ويخرج من هذه المدينة متنكرا هو والجوزجاني وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية، ويصلان إلى أصبهان بعد أن قاسوا شدائد في الطريق، ويحسن علاء الدين قبول الفيلسوف، ويجد في مجلسه الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله، ويأخذ في العمل ليلا، وفي عقد المجالس الفلسفية وفق المنهاج الذي اتبعه في همذان، ويرأس الأمير نفسه هذه المجالس في ليالي الجمعة. وقد ألف ابن سينا كتبا كثيرة في صحبة علاء الدولة، فأتم الشفاء في السنة التي توجه فيها علاء الدولة إلى سابور خواست، كما صنف في الطريق - أيضا - كتبا كثيرة، ولا سيما «النجاة».
وقد استمر الفيلسوف في البقاء بجوار علاء الدولة حتى وفاته، ومما حدث ذات يوم أن ذكر للأمير أمر وقف الأرصاد الفلكية المعمول بها لدى الأقدمين في الدولة الإسلامية؛ نتيجة للفتن والحروب، وأن من الصالح أن يرجع إليها؛ فلم يلبث الأمير أن أعانه بالمال للقيام بهذا العمل، وقد عهد الشيخ إلى البوزجاني بالإشراف على نصب الآلات، غير أن الأرصاد أهملت بسبب كثرة التكاليف والأسفار.
وفي هذا الزمن، ألف ابن سينا كتبا مختلفة، ولا سيما الكتاب الذي يحمل اسم حاميه، وهو «الحكمة العلائية»، وهذا الكتاب بالفارسية عن الفلسفة، ومما لاحظ الجوزجاني مع الدهش أنه في الخمس والعشرين سنة التي قام بخدمته فيها لم يره يقرأ كتابا جديدا قراءة متتابعة، وإنما كان يقصد المواضع الصعبة منه، فيحكم بهذا في أمر الكتاب، فهذه الطريقة عادت لا تثير عجبنا في الوقت الحاضر.
وقال كاتب سيرته، مصورا فيلسوفنا: «وكان الشيخ قوي القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرا ما يشتغل به، فأثر في مزاجه.» وكان القولنج الذي أصابه سبب موته، وكان من شدة الميل إلى الشفاء منه ما جعله يأخذ منه ثماني حقن في يوم واحد، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به زحار، وتنحط قواه نتيجة للقولنج، ويبلغ من الضعف حدا لا يقدر معه على النهوض، ومع ذلك فقد استمر على معالجة نفسه، واستطاع أن يمشي مجددا، ولكنه لم يتحفظ، فأكثر من الانهماك في الشهوات والتخليط في التداوي، فلم يبرأ من العلة كل البرء، فكان ينتكس، ويبرأ كل وقت.
ويزعم أنه أمر يوما بوضع دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، فوضع الطبيب الذي يقوم بمعالجته خمسة دوانق، فازداد مرضه من حدة الكرفس، ودس خادمه مقدارا كبيرا من الأفيون في أدويته، فأوجب هذا الخادم فيه بعض الضرر، وكان الخادم يخشى عاقبة أفعال له إذا ما شفي الشيخ.
ثم قصد علاء الدولة همذان، وأتى بالشيخ معه فعاوده القولنج في الطريق، وشعر الشيخ بأن قوته سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، وصرف أطباءه، وأخذ يقول: «المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.» ثم توجه إلى ربه بأفكاره، واغتسل وتاب، ووزع كثيرا من الصدقات، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات بعد أيام قليلة.
لقد توفي سنة 428، وعاش ثماني وخمسين سنة، وقال فيه بعض الناس:
صفحة غير معروفة