ثم مضى ابن سينا إلى دهستان، ومرض بها مرضا صعبا، وعاد إلى جرجان، واتصل به أبو عبيد الجوزجاني، وأنشأ في حاله قصيدة جاء فيها:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري
وتمثل الحال التي وصفها ابن سينا على هذا الوجه ما كانت عليه حال العلم - أيضا - في ذلك العصر.
وهنا تقف سيرة ابن سينا بقلمه، ومن المحتمل أن يكون قد كتبها عملا بطلب البوزجاني، ولهذا الأخير - الذي هو شاهد عياني لسلوك الفيلسوف - ترانا مدينين ببقية القصة.
وفي جرجان كان يوجد رجل يقال له أبو محمد الشيرازي، وكان أبو محمد هذا محبا للعلوم، وقد اشترى هذا الرجل دارا للشيخ؛ أي لابن سينا، في جواره، وكان الشيخ يعطيه - في كل يوم - دروسا في الفلك والمنطق. وصنف ابن سينا له - وهو في هذا المنزل - قسما من مؤلفاته.
ثم انتقل الفيلسوف إلى الري، واتصل بسيدة الري وابنها مجد الدولة، واشتغل بمداواة هذا الأمير، الذي كان مصابا بالسوداء، وأقام بالري إلى ما بعد قتل هلال بن بدر وهزيمة عسكر بغداد، فقضت الضرورة بأن ينتقل إلى قزوين ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة كذبانويه، والنظر في أسبابها.
وحدث في تلك الأثناء أن استدعاه أمير همذان، شمس الدولة، الذي كان مريضا، فعالجه، وشفاه بعد أن أقام عنده أربعين يوما بلياليها، وفاز من الأمير بخلع كثيرة، وصار من ندمائه، ويمضي زمن فيشترك الفيلسوف في حملة وجهها شمس الدولة إلى قرميسين، ويعود إلى همذان منهزما، ثم قلد الوزارة، ثم ثار العسكر عليه، وخافوا منه على أنفسهم، وحاصروا داره، وقبضوا عليه وسجنوه، واستولوا على جميع أمواله، وحاولوا أن يحملوا الأمير على قتله، فامتنع الأمير عن ذلك، ولكن الأمير أراد أن يرضيهم فوافق على إقصائه عن السلطة، والتجأ ابن سينا إلى دار صديق له اسمه أبو سعد بن دخدوك، حيث توارى أربعين يوما، فلما انقضت هذه المدة عاد المرض إلى الأمير، وبحث عن ابن سينا، وقلده الوزارة مرة أخرى .
واختار الجوزجاني هذا الوقت ليسأل الشيخ أن يؤلف شرحا عاما على كتب أرسطو، فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك في ذلك الوقت، ولكن الجوزجاني لم يكن ليرغب منه في غير تصنيف كتاب جامع لآرائه بلا اشتغال بالرد على المخالفين، ففعل ابن سينا ذلك، وابتدأ بالطبيعيات من كتاب الشفاء، وكان ابن سينا قد صنف الكتاب الأول من القانون في الطب، وكان يقدم تأليف هذين السفرين العظيمين، وكان يجمع كل ليلة في داره لفيفا من أهل الفضل وطلبة العلم، وكان الجوزجاني يقرأ من الشفاء نوبة، ويقرأ غيره من القانون نوبة. وهكذا كانت تتناوب القراءة حتى يكون كل واحد قد قرأ في دوره، ثم يتناول الشراب، وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير، وهكذا كان الشيخ يقضي حياته في همذان، بيد أن حاميه ذهب لمحاربة أمير مجاور، فعاودته علة القولنج في الطريق، ومات.
وينادى بابن شمس الدولة خلفا له، ويطلب من ابن سينا أن يقوم بمنصب الوزارة أيضا، ويرفض ابن سينا ذلك، وقد اختفى في دار أبي غالب الوطار، حيث داوم على تصنيف كتبه، فألف هناك فصول الطبيعيات، ومما بعد الطبيعة من كتاب الشفاء، خلا كتابي الحيوان والنبات، وقد كان يكتب خمسين ورقة في كل يوم، ثم شعر بأنه في غير مأمن بهمذان؛ فأرسل كتابا في السر إلى أمير أصبهان، علاء الدولة، طالبا أن يسمح له بأن يكون في جواره، ويعلم تاج الملك - الذي صار صاحب السلطة في همذان - أمر هذا الكتاب، ويغضب، وقد حث في طلب الشيخ، فدل عليه بعض أعدائه، فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها فردجان، وأنشأ هناك قصيدة منها:
صفحة غير معروفة