ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

بولس مسعد ت. 1307 هجري
54

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

تصانيف

أما ابن سينا فيقسم رسالته إلى مقدمة وخمسة أقسام، في المقدمة تكلم عن التفاوت بين الناس في الصفات والرتب. أما عناوين باقي الأقسام فهي هكذا: سياسة الرجل نفسه، سياسة الرجل دخله وخرجه، سياسة الرجل أهله، سياسة الرجل ولده، سياسته خدمه، ولقد أورد ابن سينا في مقدمته كلاما أوضح فيه الأسباب التي دعته إلى هذا التقسيم، وأبلغ هذا القول ما يأتي:

كما أن المسيم يلزمه أن يرتاد مصالح سائمته من الكلأ والماء نهارا، ومن الحظائر والزراب ليلا، وأن يذكي عيونه في كلائها، ويبث كلابه في أقطارها؛ ليحرسها من السباع العادية، ومن الآفات الطارقة من السرق والغارة والنهب، وأن يختار لها المشتى الدفيء والمصيف السريح، ويرود لها في طلب الكلأ والنطف العذاب، وأن يتحين وقت عملها، وأن يترقب حين نتاجها، ويلزمه بعد ذلك أن يسوقها إلى مصالحها ويصرفها عن متالفها بنعيقه وصفيره وبزجره ووعيده؛ فإن كفاه ذلك في حسن انقيادها واستقامة ضلعها، وإلا أقدم عليها بعصاه، كذلك يلزم ذا الأهل والولد والخدم والتبع مع ما ويحق عليه من حفظهم وحياطتهم ومن تحمل مؤنهم وإدرار أرزاقهم، إحسان سياستهم وتقديمهم بالترغيب والترهيب، وبالوعد والوعيد، وبالتقريب والتبعيد، وبالإعطاء والحرمان حتى تستقيم له قناتهم. (2) سياسة الرجل نفسه

لا يستطيع الإنسان أن يصلح غيره ما لم يصلح نفسه أولا؛ لأنها أقرب الأشياء إليه وأكرمها عليه وأولاها بعنايته؛ ولأنه متى أحسن سياسة نفسه هان عليه إصلاح الأغيار، وبدء بدء يتحتم على من يريد إصلاح نفسه أن يعرف أن له عقلا هو السائس، وأفعالا هي المسوسة، فكل فعل لا يقوده العقل يكون في الغالب مغلوطا، إلا أن العقل بسبب كثرة معايب النفس لا يتمكن من إصلاح فاسدها ما لم يعرف مساوئها معرفة محيطة؛ فإن أغفل بعض تلك المساوئ وهو يرى أنه قد عمها بالإصلاح، كان كمن يدمل ظاهر الكلم، وباطنه مشتمل على الداء، ولما كان الإنسان مفطورا على حب نفسه على غيره، وكثير المسامحة لها عند محاسبتها كان غير مستغن في البحث عن أحواله، والفحص عن مساوئه ومحاسنه، عن معونة الأخ اللبيب الواد الذي يكون منه بمنزلة المرآة؛ فيريه حسن أحواله حسنا وسيئها سيئا.

وأحوج الناس إلى الإصلاح هم الرؤساء؛ لأنهم يتركون الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات، ولا يدعون الناس يخبرونهم بحقيقة حالهم، فيظنون أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم، ومما زاد في فساد حال الملوك والرؤساء ما أتيح لهم من قرناء السوء وجلساء الشر الذين لو لم يدلسوا ويدسوا عليهم لكان الرؤساء في أحسن حال، وليس كذلك حال من دونهم من الرعاع والسوقة؛ فإن أحدهم لو رام أن يخفي عنه عيوبه يبدهه محبة بها، ويتدارك عليه بأقبحها ما استطاع ذلك.

وينبغي لمن يريد تعرف مناقب نفسه مثالبها أن يفحص عن أخلاق الناس، ويتفقد شيمهم وخلائقهم، ويتبصر مناقبهم ومثالبهم، فيقيسها بما عنده منها، ويعلم أنه مثلهم وأنهم أمثاله؛ فإن الناس أشباه؛ بل هم سواء كأسنان المشط، فإذا رأى فيهم الخير فليجتهد على إحرازه إن لم يكن فيه، وإن رأى المثلبة والعادة السيئة فليعلم أن ميلها راهن لديه إما باد وإما كامن؛ فإن كان باديا فليقمعه وليقهره وليمته بقلة استعماله وشدة نسيانه، وإن كان كامنا فليحرسه لئلا يظهر.

ويلزم الإنسان أن يعد لنفسه ثوابا وعقابا يسوسها بهما، فإذا اكتسبت الفضائل سريعا وتركت الرذائل وتحلت بالمنقبة المطلوبة فليثبها، وإذا امتنع انقيادها وجمحت وتمردت عليه وآثرت الرذائل على الفضائل، وأتت بخلق لئيم أو فعل ذميم؛ فليعاقبها بمنعها عن اللذة وبإكثار ذمها. (3) سياسة الرجل دخله وخرجه

الناس بحاجة إلى الأقوات، فعلى كل إنسان سوي أن يسعى في اقتناء قوته من الوجه المشروع، وهم في باب المعيشة صنفان؛ صنف لا يفتقر إلى السعي في طلب الرزق بسبب وراثة، وصنف محوج إلى الكسب، والكسب الشريف في نظر ابن سينا على نوعين؛ إما تجاري وإما صناعي، إلا أن الصناعي أوثق وأبقى؛ لأن التجارة تكون بالمال والمال وشيك الفناء، عتيد الآفات، كثير الحوائج. وهذا القول يذكرنا بكلام جان جاك روسو عن الصناعة في إميله، وصناعات ذوي المروءة بحسب اعتقاد ابن سينا ثلاثة أنواع: «نوع من حيز العقل وهو صحة الرأي، وصواب المشورة وحسن التدبير، وهو صناعة الوزراء والمدبرين وأرباب السياسة والملوك، ونوع من حيز الأدب وهو الكتابة والبلاغة وعلم النجوم وعلم الطب، وهو صناعة الأدباء، ونوع من حيز الأيد والشجاعة وهو صناعة الفرسان والأساورة.»

1

وعلى الإنسان أن يحرص من الأرواح الأثيمة والأموال النجسة، وإذا اتسع رزقه وتوفرت أسباب معيشته فعليه أن يصرف شيئا في الصدقات والزكوات وأرباب المعروف، وأن يدخر الباقي لنوائب الدهر وأحداث الزمان.

ومن جميل كلامه في المعروف ما يأتي: «للمعروف شرائط؛ إحداها تعجيله؛ فإن تعجيله أهنأ له، والثانية كتمانه؛ فإن كتمانه أظهر له، والثالثة تصغيره؛ فإن تصغيره أكبر له، والرابعة ربه (زيادته) ومواصلته؛ فإن قطعه ينسي أوله ويمحو أثره، والخامسة اختيار موضعه؛ فإن الصنيعة إذا لم توضع عند من يحسن احتمالها ويؤدي شكرها وينشر محاسنها ويقابلها بالود والموالاة، كانت كالبذر الواقع في الأرض السبخة التي لا تحفظ الحب ولا تنبت الزرع.»

صفحة غير معروفة