المقدمة
1 - بيئة ابن سينا
2 - حياة ابن سينا
3 - مصنفاته، تقسيمه العلوم
4 - منطق ابن سينا
5 - طبيعيات ابن سينا
6 - النفس في نظر ابن سينا
7 - العلة والمعلول
8 - ما هو الله تعالى؟
9 - كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون
10 - هل أقر ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟
11 - العناية الإلهية
12 - دخول الشر للعالم1
13 - السعادة والشقاوة
14 - سياسة ابن سينا
الخاتمة
أهم المصادر
المقدمة
1 - بيئة ابن سينا
2 - حياة ابن سينا
3 - مصنفاته، تقسيمه العلوم
4 - منطق ابن سينا
5 - طبيعيات ابن سينا
6 - النفس في نظر ابن سينا
7 - العلة والمعلول
8 - ما هو الله تعالى؟
9 - كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون
10 - هل أقر ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟
11 - العناية الإلهية
12 - دخول الشر للعالم1
13 - السعادة والشقاوة
14 - سياسة ابن سينا
الخاتمة
أهم المصادر
ابن سينا الفيلسوف
ابن سينا الفيلسوف
بعد تسعمائة سنة على وفاته
تأليف
بولس مسعد
المقدمة
لقد حان لنا النهوض!
تحت السماء الصافية، على الجبال الشامخة، تجاه البساتين الزاهية، في السهول الصامتة، بين الجدران القائمة وحيال المواد المتراكمة وقف الفيلسوف وسيقف إلى الأبد يتأمل الموجودات ويراقبها متفهما حركاتها واختلاجات نفسه، ومحددا العلاقة الكائنة بين الاثنين، ثم يدون ما يتوصل إليه من القواعد والموازين بأسلوب منطقي؛ إرشادا للبشرية ودليلا للمنشغفين بالوجود الشامل.
من جميع الأمم، ومن سائر الممل والنحل خرج الفيلسوف وسيخرج؛ لأن مادة الفلسفة تأبى الجزئية، وتستعصي على الإحاطة والحصر.
تتعاقب الأجيال، وتتوالى السنون، والفلسفة تعمل بهمة لا تعرف الملل، وعزم لا يعتريه خوار على إيصال الإنسانية إلى ذروة الكمال ومسكن الجلال، غير عابئة بما يعترضها من الصعاب، ويقوم بوجهها من العقبات الكأداء.
هي كامنة في جميع العقول كمون النار في الهشيم، ومستعدة لأن تقود العاملين في تعاليمها إلى حظيرتها الآمنة، ولكنها إذا وجدت مقاومة في شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تنتقم لنفسها انتقاما مريعا.
يكفي قليل من النظر إلى العلم لنتحقق من امتناع نمو الفلسفة بذاتها وحدها بدون نمو سائر الملكات؛ ذلك لأن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ إنماءها قبل التأمل؛ ولكون التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرا وبعد سائر الملكات. ونحن لا نتبسط في بيان هذه الظاهرة؛ لأنها من الحقائق الملموسة في طبيعة الأمم والأفراد على السواء،
1
وأقتصر على الإقرار بأن مجرى الأمور في الشعب العربي لم يكن مختلفا عنه في غيره؛ فإن الفلسفة العربية لم تكن نبتا في صحراء، ولا ثمرة غير منتظرة؛ بل كانت ثمرة لغرسة ناضجة، ونبتا لأرض مشغولة.
قبل الترجمات نرى العقل العربي كبيرا دقيقا يود الإبداع والتحليق في سماء النظريات السامية، إلا أن معارفه الضعيفة ومداركه المحدودة الآفاق تكسر أجنحته وترغمه على إرسال الحكم الشعبية دونما اكتراث بالتحاليل المنطقية، لكنه لما اطلع على الثقافات الأعجمية، وتبحر في الفلسفة اليونانية، اتسعت دائرة تفكيره، واستطال نفسه، واتخذ اتجاها آخر يختلف عن الأول تمام الاختلاف، فظهرت الشيع العلمية، وكثرت المجادلات المنظمة، وثارت المساجلات القائمة على الحجة والبرهان، وتمخضت العقول بالنظريات الجديدة، فصح المبدأ المتناقل أن العلم لا يختص بشعب من الشعوب، ولا بجيل من الأجيال؛ بل هو مشاع للجميع، وأنواره التي تشرق في إحدى البلدان المتمدنة يجوز لغيرها من الأمم الاستضاءة بها، ولو كانوا في المجاهل السحيقة والسيارات العلوية، والمعروف أن ما زرع من الأفكار العلمية في أحد البلدان، أو في أحد العصور نبت وأينع في بلاد ثانية أو عصر آخر، فرب فكرة تظهر في لبنان مثلا يأخذها عالم فرنسي، ويتعمق في درسها وتحليلها، ويزيدها صقلا ونحتا، ثم يرسلها نظرية فتانة ترفل بثوب قشيب.
وعندما نطلع على المصنفات التي نقلت من اليونانية إلى العربية ومدى التأثير الذي أحدثته في المفكرين الأعارب، نعترف بأن الحضارة العربية هي مدينة لإغريقيا في رقيها أكثر من غيرها؛ لأنها أمها في جميع أمور العقل تقريبا؛ إذن على أبناء الضاد ألا ينسوا هذه الحقيقة الواضحة؛ لئلا يرموا بالكفران وإغماط النعمة.
وقولنا: إن الشعب العربي هو ابن إغريقيا في أمور العقل لا يعني أنه كان ناقلا فقط؛ بل قد أدى إلى جميع العلوم رسالته، وحفظ تراث الأقدمين الثمين، وزاده كمالا وجمالا، إلا أنه في الفلسفة لم يتمكن من الإبداع الكلي رغم ما فيه من الشوق والمقدرة على اقتباس النظريات الدقيقة. وهذا - على ظننا - يرجع إلى طبيعة العربي المقلدة وقصر وقته، فضلا عن أن العالم الإسلامي لم ينثن يوما عن تكفير الفلسفة وإرهاقها حتى صار اسم فيلسوف مرادفا لزنديق. ومن كثرة الضغط الذي لحق بالحكمة ونزل بعشاقها قل عدد المقبلين على درسها واكتناه أسرارها، وغابت عن البلدان العربية شيئا فشيئا، وخيم ظلام الجهل، وتقوضت أركان الدولة، وتشتتت الكتب العلمية، وصار ينظر إليها كما ينظر إلى الطلاسم والملاغز، وهكذا تكون الفلسفة قد انتقمت لنفسها انتقاما هائلا.
قال بارتلمي سانتهلير أستاذ الفلسفة الإغريقية في كولليج دي فرانس: «إن العقل الإنساني بطيء في سيره، فيحسن به وهو سائر في طريقه غير المتناهي أن يلقي نظره بين الفينة والفينة إلى الوراء؛ ليرى من أين ابتدأ سيره؛ وليسدد خطاه في المستقبل غير المحدود الذي ينتظر قدومه.»
ولا شيء يرينا مبتدأ سير العقل العربي غير درس تاريخ الفلسفة درسا علميا، ولا شيء يسدد الخطى في المستقبل غير التخرج في مدرسة التاريخ نفسه؛ لأنه أستاذ الحياة على حد قول شيشرون الخطيب الروماني الشهير.
إن جميع البلدان، وسائر الشعوب، تعطي الفلسفة دراسات وافية عن علمائها ومفكريها الأقدمين، وتقدم لأسرة العلم رجالا أفذاذا نابغين. أما العالم العربي فلا يزال غير مكترث بدرس تراث فلاسفته إلا بمقدار، وغير مقدم للعالم فلاسفة مبدعين.
لقد حان لنا - نحن الشباب المثقف - أن ننهض إلى العمل الفلسفي المثمر، ونبعث الفلسفة العربية من لحدها كما بعثنا الأدب العربي، وأن نسير في طريق البحث والتفكير الطلق غير عابئين بالمصاعب والأتعاب؛ لأن من لم يركب الأخطار لا ينل الرغائب.
لنعمل على إعادة مجدنا الغابر وعزنا التالد، لنعمل على تكوين مفكرين ناضجين منا ولنا، مستمدين مثلنا العليا من نفسيتنا، موضحين للملأ أن في عقولنا كل علم وكل فلسفة وكل فن، وفي إرادتنا كل عزم وكل حزم وكل مثابرة، ولعلنا بهذا البحث الذي كلفنا جهودا لا تحصى نكون أدينا بعض الخدمة، وحسبنا الله خير مثيب.
الأب بولس مسعد
الحلبي اللبناني
دير سيدة اللويزة، في 12 حزيران 1937م
الفصل الأول
بيئة ابن سينا
المكان الذي يولد فيه الإنسان وينشأ ويتربى، والحال التي يسير عليها وتطبع في نفسه ميزات خاصة من البيئة، ولقد أقر علماء البيولوجية على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن للبيئة في حياة أبناء آدم أثرا بالغا لا توصف محاسنه إذا كان حسنا، ولا تحصى مساوئه إذا كان سيئا حتى قيل: «المرء ابن بيئته.» لذا نرى الدول الراقية قد سنت القوانين الصارمة للقضاء على البيئة الفاجرة الخاملة، وشيدت المدارس والمعاهد لمكافحة الجهل والغواية، فرفعت بذلك مستوى شبانها صحة وعقلا؛ لهذا إذا شئنا أن نفهم حياة الشيخ الرئيس العامة والخاصة، يلزمنا أن نقول كلمة ولو وجيزة في بيئته مقسمينها قسمين: البيئة السياسية، والبيئة العقلية. (1) البيئة السياسية
إن أردنا بإسهاب تصوير البيئة التي وجد فيها أرسطو الإسلام؛ لاقتضى ذلك مجلدا برأسه؛ لذلك نكتفي بما يدل على الجوهر، ويعطي الدارس فكرة واضحة.
كانت العناصر الأجنبية قد عصفت بالدولة العباسية يوم أطل ابن سينا في جو الوجود، وأهم هذه العناصر التي ضعضعت أركان الإمبراطورية العربية هي الفارسي والتركي.
إن تدخل العنصر الفارسي في الدولة العباسية يرجع إلى مقتل الأمين 198ه وانتصار المأمون، وقد كان للفضل بن سهل اليد الطولى بذلك، وظل الفرس يستبدون بالدولة، وهم من وزرائها المشاهير حتى تلاشى أمر الشيعة من بغداد، ثم بخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول.
ما كاد يتقلص ظل هذا العصر الثقيل عن الدولة العربية حتى منيت بالعصر التركي الأول. ومظالم الأتراك في الدولة، واستبدادهم بشئون الخلفاء قد فاق الفرس بدرجات؛ مع أنه ليس بين هذين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر؛ بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله.
إن أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء كان المنصور العباسي، إلا أنهم في بادئ أمرهم كانوا ثلة لا يعبأ بها، وإنما كانت السيطرة آنذاك للفرس والعرب، ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، واتسعت شقة الخلاف بينهما، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين، وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله. ضعفت العصبية العربية بسبب توغل العرب في الحضارة والترف، ونأت عن عقليتهم محبة الجهاد والتغلب والفتح، ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك، مع الميل إليهم لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم، وأخلدوا إلى الحضارة والترفه، وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوى بالأتراك، وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب، والصبر على شظف العيش، فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم بالعراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها، فاجتمع لديه عدة آلاف وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق والحلي المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود.
فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عونا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثير، وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلا على قارعة الطريق. وكان المعتصم ينظم المماليك فرقا، عليهم القواد منهم مثل نظام الجند في ذلك الزمان، ولم يكتف بجمع المماليك والأتراك بالشراء أو المهاداة، ولكنه رغب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم بالقدوم إليه والإقامة في ظله، وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، وأحضر غيره من أبناء الأمراء، وبالغ في إكرامهم.
وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى؛ فتذهب عصبيتهم، وتضعف نجدتهم؛ فابتاع لهم الجواري التركيات فزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدا من المولدين إلى أن ينشأ لهم الولد؛ فيتزوج بعضهم من بعض، وأجرى للجواري أرزاقا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلم يكن يقدر أحد منهم أن يطلق امرأته أو يفارقها. فاشتد ساعد الأتراك بذلك، وقويت شوكتهم، وتغلبوا على أمور الدولة، وخصوصا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام، فتحول النفوذ إليهم، وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، وكان كل فريق يسابق الآخر في ابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها.
وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب، وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف، وعجزوا عن القيام بشئون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند الأتراك، وهؤلاء لا يعملون عملا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك، ولا جنسية، ولا جامعة دينية، ولا رابطة وطنية، فأضحى الأتراك محور تلك الحركة، وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدم، وأمسى البطش والفتك من أكبر عوامل السيادة.
وقد قام الأتراك في الدولة بأعمال كثيرة مذمومة، منها: أنهم قتلوا المعتز شر قتلة؛ إذ إنهم جروه برجله إلى الباب، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس بالدار، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبعضهم يلطمه بيده؛ والمستكفي سملوا عينيه، ثم حبسوه حتى مات في السجن ...
وكان أهل البلاد يهابون الأتراك ويخافون بطشهم، فإذا جاءوا بلدا خافهم أهله كثيرا؛ إذ كانوا ينزلون في دور الناس، ويتعرضون للحرم والغلمان، فشرعت العامة تكرههم شديدا.
ولما وصلت الدولة العباسية إلى ما تقدم من فساد الأمور والفوضى في سلطتها وأحكامها بين الفرس والأتراك، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عمالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية الأموال، وجميع أعمالهم وهو الاستقلال، وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة، ومن جراء ذلك تشعبت المملكة العباسية، ونشأ في ظل العباسيين دويلات فارسية وأخرى تركية، إلا أن الإمارات الفارسية لم تمكث طويلا حتى قامت دولة آل بويه، وهي أكبر دولة فارسية شيعية ظهرت في الشرق في عهد ذلك التمدن بظل الدولة العباسية، واستمر حكم آل بويه من سنة 320-447ه؛ أي إن هذه الدولة قد انقرضت في أيام ابن سينا.
وعلى غرار الفرس طبع الأتراك؛ أي إنهم لما قويت شوكتهم في الدولة وهابهم الخلفاء، طمع بعضهم في الولايات كما طمع الفرس، فاستقلوا بها فنبتت للدولة العباسية فروع تركية خارج بلاد فارس، كما نبتت الفروع الفارسية في بلاد فارس. والدولة التركية التي عمرت أكثر من غيرها هي الدولة الغزنوية التي كان مقرها أفغانستان والهند، وظلت من سنة 351-582ه.
على أن هذه الإمارات ابتدأت فروعا للمملكة العباسية؛ أي كان أمراؤها وسلاطينها من عمال الدولة العباسية أو قوادها. وكانت السنة قد تقوت بظهور الإمارات التركية، فلما قامت دولة آل بويه بالعراق وفارس، وعاصرتها الدولة الفاطمية بمصر عظم أمر الشيعة في العالم الإسلامي، وتضعضعت السنة فتشتت شأن المملكة العباسية. ثم ظهرت الدولة التركية الكبرى في أواسط القرن الخامس، وتعرف بالدولة السلجوقية نسبة إلى جدها سلجوق، فجاءت في حال الحاجة إليها؛ لأنها لمت شعث المملكة العباسية، ونصرت مذهبها (السنة) بعد أن كادت تضمحل بين الشيعة، إلا أن هذه الدولة قد تفرعت أيضا إلى دول كثيرة، لكنها عرفت باسم واحد.
تجاه هذه المنازعات السياسية نرى العرب يلمون شعثهم، ويشيدون الإمارات العربية، ويشدون أزر العنصر العربي، وقد ساعدهم على ذلك ما قام من الفتن والحروب بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم الفرس وأجنادهم الأتراك في القرن الرابع للهجرة، ورأوا الفرس والترك يستقلون بولاياتهم فقلدوهم، فاستقل آل حمدان من بني تغلب بالموصل وحلب وغيرهما سنة 317-394ه، وكانت دولتهم عربية أحيوا بها معالم الآداب، ثم وجدت غير هذه دويلات عربية أخرى نضرب عن ذكرها خوف التطويل.
وبسبب هذا التقهقر السياسي تقهقرت الأخلاق والآداب، ولعل التقهقر الخلقي كان علة التقهقر السياسي، وعمت الفوضى، وكثر الفحش والتهتك حتى في دور الخلفاء، وتعرض الشعراء للنيل من عرض الملوك. قال أحدهم في الأمين:
ألا يا أيها المثوى بطوس
عزيبا ما تفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلا
يحمل منهم شؤم البسوس ...
في هذه البيئة المضطربة، في هذه البيئة الخالعة نشأ الشيخ الرئيس؛ فأثر ذلك في أخلاقه وآدابه، حتى لقد اتفق جمهور المؤرخين على أنه كان مع وفرة علمه وتوقد ذهنه متهتكا فسوقا كعامة أهل عصره ... وفضلا عن ذلك فإن البعض يقولون بأن ابن سينا من أصل تركي؛ ولذلك احتفلت جامعة إستنبول في 21 حزيران 1937م بمرور تسعمائة سنة على وفاته، أما كارا دي فو فقد صرح أنه من أصل فارسي مستندا في ذلك إلى كلام الرئيس عن ذاته.
ومن الدرس والتحقيق نعرف أن البيئة السياسية قد أثرت أيضا في نظرياته الفلسفية على مثال ما جاء في نظريته الصدورية؛ فالواحد الذي لا يتحرك، والمبدأ الأول الذي تتجه نحوه العقول هو الخليفة المقيم في بغداد الذي لا يعرف ما يفعله العمال والأمراء في إماراتهم، والكواكب التي تتحرك في السماء تسبيحا لله - عز وجل - تشبه حركة السلاطين والأمراء في خدمة الخليفة الساكن حتى كأن الحياة السياسية قد نظمت على صورة الأفلاك وحركاتها.
1 (2) البيئة العقلية
حمل التعصب للإسلام في الصدر الأول على الاعتقاد «أن الإسلام يهدم ما كان قبله»، وأنه «لا ينبغي أن يتلى غير القرآن»، وبالاستناد إلى هذه الاعتقادات التي لا ترتكز على شيء من القرآن والحديث، أحرقوا ما وقعوا عليه من الكتب الفلسفية والعلمية في الإسكندرية وفارس، وانصرفوا إلى العناية بالقرآن وأحكامه، وما إليه من العلوم الإسلامية في الفقه واللغة والمغازي وسير الفتح ونحو ذلك.
2
ولما فرغوا من الفتوحات وأنشئوا العلوم الدينية، واستتب لهم الأمن والسلام، وترقت عقولهم، واتسعت مداركهم، وأخذوا في أسباب الحضارة بالقسط الأوفر، تشوقوا إلى الاطلاع على العلوم والفلسفة بما سمعوه من الأساقفة والرهبان، وهان عليهم الأمر عندما سمعوا القرآن نفسه يفضل العلماء على الجهلاء بدليل قوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
3
ويجعل للراسخين في العلم سعادة، ويدعو الناس إلى الافتكار في الخلق:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ،
4
وازدادت رغبتهم في إحراز العلم عندما سمعوا الحديث يقول لهم: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها، ولا يبالي في أي وعاء خرجت»، «خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين»، «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة »، ثم «اطلبوا العلم ولو بالصين»،
5
على أنهم لم يقدموا على طلبها دفعة واحدة؛ بل اقتبسوها تدريجا تبعا لسنة الارتقاء.
كان علماء الإسلام قبل اطلاعهم على الفلسفة يكتفون بتفسير القرآن تفسيرا سطحيا، وبالتلميحات التاريخية، وشرح الألفاظ الغامضة، ثم لما امتزجوا بالعلوم الدخيلة تطور فكرهم، وعرضت لهم مشاكل فلسفية كبرى في الله وصفاته، وكلامه، ووحيه، والقضاء والقدر، فتضاربت الآراء، وتشعبت النظريات، وحمي وطيس الجدال، وتولدت الشيع والبدع؛ فكان الصفاقيون، وحمل عليهم المعتزلون، وحاول الحكم فيما بينهم الأشعري العقل الراجح، كما توسط بين الجبرية والقدرية والصفاتية والمعتزلة، وهكذا تعددت الاختلافات في شروح القرآن وآياته، وكثرت الفرق الإسلامية إلى أن بلغت اثنتين وسبعين فرقة، أحصاها الشهرستاني وحلل تعاليمها في كتاب الملل والنحل، وكان أشدها وطأة وأعمقها فكرا المعتزلة والأشعرية.
6
أما الترجمات فإنها قد لعبت دورا مهما في ترقي الفكر العربي، والمرجوح أنه لولا أرسطو ومنطقه، واليونان وعلومهم، والفرس وآراؤهم، لما ظهر في شرقنا نوابغ على مثال الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد في الفلسفة، وابن سينا والرازي في الطب، والخوارزمي في الجبر، وجابر بن حيان في الكيمياء ...
7
هذه هي البيئة العقلية التي أحاقت بالشيخ الرئيس؛ انشغاف بالحكمة، محبة للعلم، نضوج في الفكر، تعدد المترجمين والشراح، تشعب في الآراء والنظريات، امتزاج القديم بالجديد، طريق صعب للتفكير الحر الطليق. وبالجملة إن ابن سينا فتح عينيه على مملكة الفلسفة والعلم، فوجد مواد مبعثرة، فيها الغث والسمين، الجيد والرديء، فحاول تحليل عناصرها، وتمحيص دقائقها، واكتناه أسرارها، ومعارضتها بعضها ببعض، فنبذ منها ما وجب نبذه، وأبقى ما رآه صالحا لبناء صرح فلسفته.
أجل إن ابن سينا قد اتبع الفارابي في أكثر آرائه - كما سترى في هذا الكتاب - ولكنه مع ذلك قد ضرب عرض الحائط بالقسم الكبير من تعاليم أستاذه كفلسفة الوفاق مثلا، وعدم قيام المدينة الفاضلة؛ لأنه كان ناقدا بصيرا ومنطقيا قديرا.
الفصل الثاني
حياة ابن سينا
لكل إنسان في الوجود البالي حياتان؛ حياة مادية، وحياة روحية. الأولى هي نشأة الإنسان وترعرعه، والتقلبات التي تطرأ عليه، والأحداث التي تدهمه من الخارج وما إليها. والثانية هي مصدر كل اتجاه عقلي وتطور اجتماعي. ولكل من هاتين الحياتين تأثيرهما الخاص؛ فالمادة تؤثر في الروح تأثيرا عظيما، كما أن الروح تسير ذاك التأثير، وتلبسه ثوبا يختلف قيمة ووزنا باختلاف الشخص ومواهبه العقلية؛ لذا نرى نظريات الفيلسوف المتفائل تباين نظريات المفكر المكتنف بالأحزان والأشجان والمصائب والويلات. وهذا لا يجرؤ على إنكاره ذو فهم. وكما أنه يلزم الإنسان أن يقيت جسده، ويهذب روحه، ويطبع فيها الملكات الصالحة، كذلك يجب على المؤرخين المبصرين أن يدرسوا فرعي الحياة الروحي والمادي؛ لكي يرضوا الحقيقة، وينجوا من الملامة، ويعطوا كل ذي حق حقه. (1) حياة ابن سينا العامة
إن مجمل ما نعرفه عن تاريخ حياة الشيخ الرئيس العامة أو المادية هو مأخوذ عن موجز كتبه بخط يده، هاك نصه بالحرف نقلا عن ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، ص325، قال ابن سينا:
إن أبي كان رجلا من أهل بلخ،
1
وانتقل منها إلى بخارا في أيام نوح بن منصور،
2
واشتغل بالتصرف
3
في قرية خرميثن، وتزوج أمي من قرية يقال لها أفشنة، وولدت منها وولد أخي. ثم انتقلنا إلى بخارا، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضى مني العجب. وأخذ والدي يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارا أبو عبد الله الناتلي،
4
وكان يدعي الفلسفة، وأنزله دارنا؛ رجاء تعلمي منه، فقرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح، وكذلك كتاب إقليدس، فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت حل الكتاب بأسره، ثم انتقلت إلى المجسطي، وفارقني الناتلي، ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وتعهدت المرضى؛ فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفرت على القراءة سنة ونصفا، وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المغلق منه والمتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراء والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرا منها انفتح لي وجوهها في المنام، ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدلت إلى العلم الإلهي، وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا وأنا مع ذلك لا أفهمه، وأيست من نفسي وقلت: «هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا يوما حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي؛ فرددته رد متبرم معتقد ألا فائدة في هذا العلم»، فقال لي: «اشتر مني هذا فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم؛ لأن صاحبه محتاج إلى ثمنه»؛ فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح علي أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدقت بشيء على الفقراء شكرا لله تعالى، فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء، ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الارتجال إلى بخارا والانتقال عنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس، فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته، ثم مضيت إلى داهستان، ومرضت بها مرضا صعبا، وعدت إلى جرجان، وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري
ا .ه.
وفي جرجان اتصل به تلميذاه؛ أبو عبيد الجوزجاني ، وأبو محمد الشيرازي؛ لرغبتهما في تلقي العلم عنه فأفادهما كثيرا، ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة مجد الدولة إلى أن كان من الأسباب ما استوجب خروجه إلى قزوين، ومنها إلى همذان، وتقلد الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، وأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمعالجته واعتذر إليه وأعاده وزيرا.
5
وبعد أن مات شمس الدولة، وبويع ابنه طلب أن يستوزر الشيخ الرئيس فأبى، وأقام في بعض الدور متواريا، ثم اتهم بأنه يكاتب أمير أصفهان علاء الدولة سرا، فقبضوا عليه، وسيروه إلى قلعة فردجان فسجن، وأنشأ هناك قصيدة جاء فيها:
دخلت باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
واستمر في القلعة أربعة أشهر، ثم أخرج وأعيد إلى همذان حيث أقام مدة، وبعد ذلك عن له الفرار فخرج متنكرا إلى أصفهان، فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز اللذين يستحقهما مثله، ولما سار علاء الدولة قاصدا سابورخاست خرج الشيخ معه، واشتغل بالرصد واتخاذ آلاته، واستخدام صناعها قصدا لإصلاح الخلل الواقع في التقاويم القديمة.
والمشهور عن الشيخ أنه كان قوي البنية والمزاج مسرفا في الملاذ البدنية والشهوات اللحمية، فأنهكه ذلك، وعرض له قولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرحت أمعاؤه وظهر له سحج، واتفق له سفر مع علاء الدولة فحدث له الصرع الذي يحدث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه به خمسة دراهم، فازداد السحج به، فطرح بعض خدمه في الأدوية التي يعالج بها مقدارا كبيرا من الأفيون، وكان سبب ذلك أن غلمانه خانوه في أمر فخافوا العاقبة عند برئه، وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي، ويسرف في قوته الحيوية فكان يمرض أسبوعا ويصلح أسبوعا.
ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان، وقد بلغ منه الضعف، وأشرف على الانحلال فأهمل التداوي، وقال: «المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره، فلا تنفعني المعالجة»، ثم اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرف، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة حتى توفي.
كان ميلاد ابن سينا 370ه، ووفاته 428ه بهمذان حيث دفن، وقيل بأصبهان، والأول أشهر.
6 (2) حياته الخاصة
كان ابن سينا على جانب عظيم من الذكاء، والمثابرة على، وتوقد القريحة؛ يتبرهن ذلك من حياته التي كتبها هو عن نفسه وأوردناها سابقا، وكان ميالا إلى درس الكتب العويصة، وحل المشاكل العلمية. وهذا يثبته ما حكاه عنه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، وهو قوله: «إني صحبت الشيخ خمسا وعشرين سنة، فما رأيته ينظر فيما يقع له من الكتب على الولاء، وإنما يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكلة؛ ليتبين ما قاله صاحب الكتاب فيها.»
وكان ذا عقل خصب، وشغوفا بإفادة غيره من أبناء جنسه، ويروى عنه أن جماعة من العلماء وقعت لهم شبه في مسائل من كتابه المختصر الأصغر في المنطق، وعرضت تلك الشبه عليه للإجابة عنها؛ فكتب في جوابها زهاء خمسين ورقة في نصف ليلة حتى دهش الناس من ذلك وصار تاريخا بينهم، بيد أنه مع هذا كله قد كان محبا للظهور، مواربا لا يريد أن يستفيد غيره من الموضع الذي استقى منه؛ لذا لما شفي نوح بن نصر الساماني من مرض اعتراه دخل مكتبته التي لم يكن لها نظير، فيها من كل فن من الكتب النفيسة النادرة الوجود، فأخذ هناك يطالع، فاقتبس منها أشياء لم يدركها سواه، وقرأ أغلب نفائسها، ثم أحرقها؛ ليتفرد بما وعته من الحكمة؛ ولئلا ينتفع به سواه.
كذلك قد كان الشيخ خبيثا في باطنه خلاف ما في ظاهره؛ لأن سائر مؤرخي حياته يثبتون أنه كان مطواع الأهواء والملاذ، ومع هذا فإنه في فلسفته يثبت أن السعادة الكاملة في هذه الحياة الدنيا تقوم بالتجرد التام عن الحسيات، والابتعاد عن الملذات اللحمية، والتبحر في الوجود الكامل، حتى لقد قال في إحدى رسائله عن هذا العالم الفاني ما يأتي : «دار أليمها موجع، ولذيذها مستبشع، وصحتها قسر الأضداد على وزن وأعداد، وسلامتها استمرار فاقة إلى استمرار مزاقة، ودوام حاجة إلى مج مجاجة ...» ثم يواصل القول «إن الإنسان الذي يتبجن في قلبه بغض الدنيا، وتصير هذه الخصلة وتيرته، انطبع في فصه نقش الملكوت، وتجلى لمرآته قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه لمن هو به أولى، وفاضت عليه السكينة، وحفت به الطمأنينة، واطلع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله مستوهن لحبله.»
7
هذا قول ابن سينا في هذا الأمر، إلا أن عمله يخالف ذلك ويناقضه، وبعض الحكماء يقولون: «إن العالم الذي يعلم ولا يعمل بما يعلمه ليس بعالم.»
ونحن نعتقد أن الشيخ الرئيس لو اعتدل في حياته لكان عمر طويلا، وأتانا بنظريات فلسفية موزونة؛ لأن الصفة النقدية لم يكن محتاجا إليها؛ بل كانت متجسدة فيه تجسدا؛ فإننا بينا نرى فلاسفة العرب يؤلهون أرسطو، ويتلقنون تعاليمه بدون ما روية، نشاهد أن ابن سينا يمحصها، ويتناول ما يلائمه وينبذ ما لا يقره عقله.
أما باقي مزايا ابن سينا الروحية فسيطلع عليها القارئ عندما يدرس في هذا الكتاب شرحنا لأهم مبادئه الفلسفية، وجل من يملك الكمال وحده.
الفصل الثالث
مصنفاته، تقسيمه العلوم
لا بد للناقد المنصف لدى اطلاعه على مؤلفات ابن سينا من أن يردد مع ابن خلكان أنه كان نادرة عصره في علمه وذكائه، حتى قاربت تصانيفه المائة ما بين مطول وقصير في فنون شتى،
1
وأنا الآن أتساءل بانذهال ليس بعده انذهال: رجل كابن سينا اشتغل بالسياسة، وتقلد الوزارة، ومني بالاضطهاد والتشرد، فكيف وجد متسعا من الوقت؛ لينصرف للتفكير والتأليف بالروية والخصب اللذين عرفت بهما سائر مؤلفاته؟! إننا - وايم الحق - تجاه رجل صاحب عقل متفرد وعلم غزير وقريحة كثيرة الإنتاج، وجلد على الكتابة لا يبارى، تجاه رجل من الرجال القلائل الذين تفتخر بعبقريتهم ونبوغهم الأمة العربية!
كل فضلة من الزمان كان يكرسها للمطالعة والكتابة، والوقت الذي لم يحصل عليه في النهار يبحث عنه عندما تلتحف المسكونة بلحاف الظلمة الكثيف، حتى إنه لم ينم ليلة بكاملها، كان في السفر يحمل أوراقه قبل زاده؛ وإذ يأخذ التعب منه مأخذه يجلس مفكرا كاتبا في الهواء الطلق، وكان في السجن يطلب الورق والحبر قبل الخبز والماء، ولا يغرب عن ذهن المطالع اللبيب أن ابن سينا الطبيب أشهر من ابن سينا الفيلسوف؛ فإن أوروبا نفسها قد عولت على كتاباته الطبية أجيالا عديدة، وعلقت عليها الشروح الضافية، وألقت نظرياته من على منابر كلياتها، فعسى أن تحفز ذكراه التسعموية أحد أطباء العرب؛ فيخرج لنا كتابا عن ابن سينا الطبيب. (1) مؤلفاته
لو شئنا تعداد مصنفات الشيخ الرئيس في كل فروع الأدب والعلم والحكمة والطب والدين لمل القارئ، فنكتفي بذكر أشهرها مما تداولته الأيدي مطبوعا؛ لأن قسما كبيرا منها لا يزال مطمورا في زوايا المكاتب وبين غبار الربائد: (1)
الشفاء: وهو أعظم مؤلفات أرسطو الإسلام قدرا وأعلاها شأنا وأغزرها مادة وأكثرها فائدة، كتبه بين أسفاره ومهام أشغاله العديدة وتشرداته المتواصلة، يحتوي كل فروع الفلسفة المنتشرة في أيامه؛ كالمنطق، والرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، ثم باقي العلوم الطبية، وهو في 18 جزءا، وقد نقل قسم منه منذ زمن قديم إلى اللغة اللاتينية تحت اسم
Sufficiaentiae . أما علم ما وراء الطبيعة المدون في الشفاء فقد ظهر مطبوعا باللاتينية في مدينة البندقية 1495م. (2)
القانون: وهو في 14 مجلدا، ضمنه كل معارف عصره في الطب والعقاقير والتشريح، فكان أهم مؤلفاته الطبية على الإطلاق، وعول عليه أطباء العرب والإفرنج مع الحاوي للرازي عدة أجيال، طبع في رومية ثم في مصر. (3)
النجاة: وهو مختصر لقسم الشفاء الفلسفي، وضعه للذي «يريد أن يتميز عن العامة، وينحاز إلى الخاصة، ويكون له بالأصول الحكمية إحاطة.» أشهر طبعاته الطبعة المصرية الصادرة سنة 1331ه، وقد زعم الدكتور جميل صليبا في البحث الإفرنسي
2
الذي وضعه على إلهيات ابن سينا أن المأسوف على علمه المطران نعمة الله أبا كرم الماروني قد نقل النجاة إلى اللاتينية، بيد أن الحقيقة تناقض ذلك؛ لأن المطران المشار إليه لم يترجم إلى اللاتينية إلا إلهيات النجاة وطبعها في رومية سنة 1926م. (4)
الإشارات والتنبيهات: صنفه في أواخر حياته، ونسب إليه أهمية عظمى؛ لأنه أورد فيه الشيء الكثير من آرائه الناضجة التي تتفق تمام الاتفاق والأفلاطونية المستحدثة، وينصح للعامة أن لا تقرأ هذا السفر؛ لأنه وضعه لذوي الثقافة العالية والعقول الراجحة، نشر مطبوعا في أوروبا 1892م؛ ونظرا لأهميته قد شرحه فريق من العلماء المسلمين، من ذلك شرح واختصار فخر الدين محمد بن عمر الرازي المطبوع في مصر 1326ه تحت اسم لباب الإشارات. (5)
المنطق الشرقي: طبع في مصر 1910م، وهو على ما يعتقد أصحاب التحقيق وضعه بمثابة توطئة للفلسفة المشرقية التي لم تصل إلينا. (6)
رسائل في الحكمة والطبيعيات: جمعت من آثار ابن سينا، وطبعت في مصر 1908م. (7)
وأخيرا ظهر في مصر 1917م كتاب يدعى «جامع البدائع»، يشتمل على كثير من الرسائل التي وضعها الشيخ، من ذلك رسالة في الحب، وأخرى في طبيعة الصلاة وإثبات وجود الله ووحدانيته وسرمديته ... إلخ.
وله غير ذلك كتاب جليل في السياسة نشره الأب شيخو في مجموعة سماها «مقالات فلسفية قديمة لبعض مشاهير فلاسفة العرب مسلمين ونصارى»، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1911م، وله غير ذلك مؤلفات وقصائد فلسفية كثيرة، حتى إنه كتب في الموضوع الواحد عدة رسائل وشروح لا تختلف بمعناها عن بعضها البعض، والمرجوح أنه كان يفعل ذلك إجابة لطلب المنشغفين بدرس الحكمة، وعلم ربك فوق كل ذي علم. (2) تقسيمه العلوم
إن الشيخ الرئيس قد خاض جميع مواضيع المعرفة البشرية المنتشرة في أيامه، وقسم العلوم إلى عليا وسفلى ووسطى؛ فالعلوم العليا هي ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى التي موضوعها الوجود المطلق بما هو مطلق مجرد عن المادة ولواحقها؛ والسفلى تدرس المادة وتختص بها وتلازمها وتدعى الطبيعيات؛ والوسطى هي مزيج من العلوم العليا والسفلى؛ أي تتعلق بالمادة من جهة، وتتجرد عنها من جهة أخرى، وتعرف بالرياضيات.
والعلوم كلها بمعنى الفساحة تشتق من الفلسفة الأولى، وتعاون بعضها على ثلاثة وجوه؛ إما أن يكون أحد العلمين تحت الآخر فيستفيد العلم السافل مباديه من العالي؛ مثل الموسيقى من العدد، والطب من الطبيعي، وإما أن يكون العلمان متشاركين في الموضوع؛ كالطبيعي والنجومي في جرم الكل ؛ فأحدهما ينظر في جوهر الموضوع كالطبيعي، والآخر ينظر في عوارضه كالنجومي، فيكون الناظر في جوهر الموضوع يفيد الآخر المبادئ؛ مثل استفادة المنجم من الطبيعي أن الحركة الفلكية يجب أن تكون مستديرة، وإما أن يكون العلمان متشاركين في الجنس، وأحدهما ينظر في نوع بسيط كالحساب والآخر في نوع أكثر تركيبا كالهندسة؛ فإن الناظر في الأبسط يفيد الآخر مبادئ كما يفيد العدد الهندسة،
3
وفي هذا التقسيم ترتسم خطة المعلم الأول.
لم يك أرسطو يعتقد كتلاميذه المعاصرين أن الفلسفة تدرس الأشياء بعللها العالية؛ بل كان يصرح بأن الفلسفة هي نوع من الموسوعات تحتوي سائر العلوم؛ العليا والسفلى والوسطى، وعلى هذا المنوال نسج ابن سينا، ثم قسم الفلسفة إلى نظرية وعملية؛ الأولى: تشمل الحساب والطبيعيات وما وراء الطبيعة، والثانية: تنظر في الخلقيات والاقتصاد والسياسة، إلا أن أرسطو قد حول أنظاره إلى القسم الطبيعي وعالجه معالجة دقيقة، واكتشف براهين جديدة نقض بها مزاعم الفلاسفة المتقدمين. أما الرئيس أبو علي فإنه لم يتحفنا بشيء من ذلك، ولو كان قد تبحر كثيرا في هذا الفرع، وكذلك لم يتوسع في تشريح جزء الفلسفة العملي.
من هذا التقسيم نعرف أن فيلسوفنا كان يؤمن بأن الحكمة الأولى هي أسمى العلوم، ولعله قال بذلك لكثرة ما كلفه تفهمه لها من المصاعب والمشاق.
الفصل الرابع
منطق ابن سينا
كان فلاسفة العرب يجلون أرسطو ويلقبونه بالمعلم الأول والحكيم المطلق، حتى إن أكثرهم قد سلكوا طريقته في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين،
1
وكانوا يعتقدون، على حق، أن أرسطو هو واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل، فلا لوم إذن ولا عذل على ابن سينا إذا اعتمد مذهب الفيلسوف وطبع على غراره في العلوم المنطقية. (1) ما هو المنطق؟
يعتبر ابن سينا المنطق بأنه الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به، والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله. ونسبة المنطق إلى المعاني والصور العقلية نسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر، فهو من هذا القبيل كالميزان يرجع إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل. (2) غرض المنطق
المعرفة هي إما تصور وإما تصديق؛ فالتصور هو أن ندرك أمرا ساذجا من غير أن نحكم عليه بنفي أو إثبات؛ مثل تصورنا ماهية الحيوان، والتصديق هو أن ندرك أمرا ثم نتمكن من الحكم عليه بالنفي أو الإثبات؛ مثل قولنا بأن الكل أكبر من الجزء. وكل من التصور والتصديق يقسم إلى أولي ومكتسب؛ فالأولي نحصل عليه بدون أدنى تعب، ولا نخطئ بالحكم عليه؛ كشروق الشمس، وطلوع القمر. أما التصور المكتسب فنستحصله بالحد وما يجري مجراه، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يشابهه؛ إذن فالحد والقياس هما آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية، إلا أن كل واحد منهما، منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي، ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، إلا أن تكون مؤيدة من عند الله، فلا بد إذن للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في تفكيره وانتقاداته، وذلك هو الغرض من علم المنطق، وبعبارة أوضح: إن علم المنطق يجعل الإنسان مفكرا حقيقيا لا يتلكأ، ويخوله التمييز بين الغث والسمين في آراء البشر وأقوالهم ونظرياتهم، فهو من هذا القبيل أساس العلوم ودليل المثقفين الهادي. (3) فائدة المنطق
عرفنا أن التصور والتصديق المكتسبين يستحصلان بالحد والقياس، وكل منهما مؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون له منها مادة ألفت وصورة بها التأليف. وقد يعرض الفساد من إحدى الجهتين، وقد يعرض من جهتيهما معا؛ فالمنطق هو الذي يدلنا على المواد والصور التي هي أصل للحد الصحيح، وعلى القياس السديد الذي يوقع يقينا، وعلى القياس الذي يوقع شبيها باليقين أو ظنا غالبا أو مغالطة وجهلا، وهذه هي فائدة المنطق.
قال ابن سينا: «إن المنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانا ، وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي الذي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي الذي يسمى ما قوي منه وأوقع تصديقا شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا خطابيا ... إلخ.»
2
وكما أن الذي يجهل قواعد النحو والعروض لا يمكن أن يكون كاتبا، هكذا من يجهل علم المنطق لا يستطيع أن يكون مفكرا بصيرا. إلا أن الشيخ الرئيس يبعد أكثر من ذلك في تدليله، فيقول: «لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض، وليس شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بأعداد هذه الآلة إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله تعالى.»
3
ومما قلناه تظهر فائدة المنطق.
وصفوة القول
إن ابن سينا قد اتبع في منطقه كتب أرسطو الثمانية التي علق عليها بورفير وشرحها بإسهاب حتى صار بواسطتها (هذه الشروح) مشهورا بين العلماء الشرقيين في القرون الوسطى. وما قاله الشيخ الرئيس عن البرهان هو بسيط ومنظم تنظيما لا بأس به؛ مع أنه لم ينوه بتلك المشاكل والمسائل الدقيقة التي استعصى أمرها على فلاسفة المغرب فيما بعد. أما عن إقامة الآراء وترجيحها فإنه تكلم بصيغة عملية فريدة متطرقا من ذلك إلى عناصر العقل الأولى؛ الأمر الذي يذكرنا ب «ليبنز
Leibniz » وأقواله، ثم اهتم بنوع خاص بتقسيم العلوم، وله في المقولات العشر نظرات شخصية.
4
الفصل الخامس
طبيعيات ابن سينا
غني عن البيان أن العلوم الطبيعية لم تنهض هذه النهضة المباركة إلا في القرن التاسع عشر. وهذا لا يعني أن كل ما كتب في هذا الموضوع قبل التاريخ الآنف كان لغوا ومغالطة، بل إن الحقائق الراهنة الواضحة كانت جد قليلة بالنظر إلى ما كان يكتنفها من الخرافات والسفسطات، وطبيعيات ابن سينا لم تشذ عن هذه القاعدة؛ لأن معظم ما فيها خطأ ومحاولات فاشلة؛ لذا إذا كنا نورد ملخصها في هذا الفصل ؛ فلكي نطلع على تطور الفكر الإنساني وبطء نموه. (1) موضوع الطبيعيات
يعتقد الرئيس أن العلم الطبيعي هو صناعة نظرية، وكل صناعة نظرية لها موضوع من الموجودات أو الوهميات،
1
إذن للعلم الطبيعي موضوع ينظر فيه وفي لواحقه، وما موضوعه إلا الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير، وبما هي موصوفة بانحناء الحركات والسكونات.
2
من هذا يظهر أن الطبيعي يدرس الموجود الحقيقي، ولكن ليس بما هو موجود، ولا بما هو جسم، ولا بما هو جوهر، ولا بما هو مركب من مادة وصورة، ولكن بما هو قابل للحركة والسكون. وهذا التعليم لا يزال أتباع الفلسفة المدرسية يدافعون عنه ويؤيدونه.
يزيد أرسطو الإسلام على ما تقدم: أن العلوم الجزئية لا يلتزم أصحابها بإثبات مبادئها، وصحة المقدمات التي بها يبرهنون ذلك العلم؛ بل بيان مبادئ العلوم الجزئية يتعلق بصاحب العلم الكلي الذي موضوعه الموجود المطلق، وبما أن الطبيعيات هي من العلوم الجزئية؛ فالبرهنة على صحة مبادئها لا تختص بالعالم الطبيعي؛ بل بعلماء ما وراء الطبيعة، وبعبارة أوضح: إن العالم الطبيعي يمكنه أن يتخذ المبادئ المقررة في الإلهيات، ويحارب بها خصومه، ويقارع أضداده، ويثبت القضايا المعترض عليها. ومن هذا الكلام يتبين القارئ الفرق الشاسع القائم بين الطبيعيين الأقدمين والطبيعيين المحدثين؛ لأن هؤلاء لا يسلمون إلا بالاختبار والواقع، ولا يلجئون إلى علم آخر يثبتون به ما يريدون تقريره. (2) المادة والصورة
إن الكون بأجمعه هو في تغير مستمر وتحويل مستديم.
قف تجاه سنديانة يابسة كطبع الدهر تلتهمها النار فلا يمضي عليها إلا القليل حتى تصير رمادا، فهل تلاشت هاته السنديانة باحتراقها، واضمحل كل ما فيها؟
إن الأجسام الطبيعية جمعاء مركبة من مادة هي محل، ومن صورة هي حالة فيه، ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال،
3
فكما أن الفنان لا يمكنه أن يصنع تمثالا نحاسيا ما لم يكن عنده مادة نحاسية، هكذا لا يمكن أن تكون مادة بدون صورة. أما الصورة فتقوم بمعزل عن المادة؛ لأنها أكمل وأرقى، وبهذا القيام المكمل قد خالف ابن سينا المعلم الأول؛ وذلك لكي يستطيع إثبات خلود النفس التي هي صورة للجسم، إن كل ما نعرفه نطلع عليه بواسطة الفعل أو الصورة، فيتبع ذلك أن المادة الأولى ليست معروفة بذاتها؛ لأنها لا تتضمن فعلا بل استعدادا لاقتبال الصورة؛ إذن كيف يمكننا أن نبرهن على هذه المادة التي لا نستطيع إلى تعريفها سبيلا؛ لأنها ليست موجودة في نوع أو في جنس أو في تمييز؟
نحن نعرف - بدء بدء - بحواسنا الخارجية أنه يوجد أجسام تملك صورا حسية، وعندما تكون في الفعل تتضمن أقطارا معينة، بيد أن هذه الأجسام ليست هي كذلك؛ لأنها تملك بالفعل أقطارا مثلثة؛ بل لأنها قابلة لأن تقتبل تلك الأقطار أو ترفضها؛ لأن الأقطار لا تركب الأجسام بما أنها أجسام؛ بل تنسب إلى الأجسام نسبة العوارض إلى الجوهر. إن السطح مثلا لا يدخل في تحديد الجسم بما أنه جسم، ولكنه يدخل في تحديد الجسم بما أنه متناه؛ إذن هو عارض جسمي متغير. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتصور الجسم بما هو جسم دون أن نفتكر ضرورة بأنه متناه، وبما أن كل جسم يملك صورة هي موضوع للعلم الطبيعي، كذلك يملك امتدادات وأقطارا محدودة تدخل مقولة الكليات، وتكون موضوعا لعلم آخر، إن هذا الكتاب الموجود بين يدي الآن له ثلاثة أقطار تقاس وتعد بالأرقام، وله فوق ذلك صورة محسوسة بها يقوم كماله، وتدرس وتوصف في علم آخر؛ إذن إن أقطار الأجسام لا تبقى دائما غير متغيرة،
4
وهذا القول يطلق على الصورة أيضا؛ لأنها إما أن تكون نفس الاتصال، أو تكون طبيعة يلزمها الاتصال حتى لا توجد هي إلا والاتصال لازم لها؛ فإن كانت نفس الاتصال فقد يكون الجسم متصلا، ثم ينفصل فيكون لا محالة شيء هو بالقوة كليهما، فليس ذات الاتصال بما هو اتصال قابل للانفصال؛ لأن قابل الاتصال لا يعدم عند الانفصال، والاتصال يعدم عند الانفصال؛ فإذن شيء غير الاتصال هو قابل للانفصال، وهو بعينه قابل الاتصال، فظاهر أن ها هنا جوهرا غير الصورة الجسمية، هو الذي يعرض له الانفصال والاتصال معا ، وهو مقارن للصورة الجسمية، ولا يمكن أن يوجد مفارقا وهو ما نسميه مادة،
5
فيتضح من ذلك: (1)
أن المادة لا يمكنها أن توجد بمعزل عن الصورة، ولكن الصورة الكاملة كالنفس البشرية مثلا يمكنها أن توجد بدون المادة، لا ... بل إن المادة هي سجن لها:
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع (2)
فساد شيء يكون تكوينا لشيء آخر، وتكوين شيء يكون فسادا لشيء آخر، فالموجودات بأجمعها تفسد وتتكون بموجب هذه السنة، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإذا سلمنا بهذه النظرية التي لا يزال يفلحها أتباع الفلسفة المدرسية، فيلزمنا أن نسلم بتقسيم الموجودات على هذه الطريقة: أول الموجودات في استحقاق الوجود هو الجوهر المفارق غير الجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم، ثم الهيولى، وهي وإن كانت سببا للجسم؛ فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بأنه محل لنيل الوجود، وللجسم وجودها، وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها ... فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضا.
6 (3) مجمل باقي الطبيعيات
بعد أن يفرغ الشيخ الرئيس من تقرير ما تقدم ينتقل إلى المقالة الثانية، فيتكلم عن لواحق الأجسام، فقبل كل شيء يحدد الحركة بأنها تبدل حال قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء، والوصول بها إليه هو بالقوة لا بالفعل، فيجب من هذا أن تكون الحركة مفارقة لحال لا محالة، ويجب أن تكون تلك الحال تقبل التنقص والتزيد؛ لأن ما خرج عنه يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء فهو باق ما لم ينقص الخروج عنه البتة جملة، وإلا فالخروج عنه يكون دفعة،
7
فمن هذا التحديد يظهر أن لكل متحرك علة محركة غيره تدفعه إلى الحركة؛ لأنه لو كان كل جسم يتحرك بذاته، وتوجد فيه الحركة بما هو جسم لكان كل جسم مبدأ لذاته، الأمر الذي هو باطل الاستحالة، ثم يعقب ذلك فصلا يبرهن فيه على أنه لا يجوز أن يتحرك الشيء بالطبيعة، وهو على حالته الطبيعية، وأنه ليس شيء من الحركات بالطبيعة ملائما لذاتها، وبعد أن يستوفي الكلام في الحركة، ويقابل بين الحركة والسكون ينتقل إلى القول في الزمان والمكان، ثم في النهاية واللانهاية، ثم في الجهات.
وفي المقالة الثالثة يقسم الأجسام إلى بسيطة ومركبة؛ فالمركبة تثبت وجودها بالمشاهدة والعيان، والبسيطة تثبت بتوسط المركبة؛ لأن كل مركب فإنما يتركب عن بسائط، وللأجسام كلها أحياز ضرورية، وهي التي تتباين بها الأجسام في الجهات بأوضاعها، ولبعضها أمكنة وهي الأجسام التي تحيط بها أجسام أخر،
8
وما يفرغ من تبيان الأمور الطبيعية وغير الطبيعية التي للأجسام حتى ينتقل إلى تقرير الأجسام الأولى، ويشبع القول في قواها، فيفترض أولا أن جسم النار من جملة الأجسام البسيطة التي تتركب منها المركبات؛ لأنه لا يوجد أبسط منه في الحرارة، وهو جسم غاية في الحرارة، ونظن أنه يابس ويأخذ المكان إلى فوق، ثم شاهدنا الماء باردا بالطبع رطبا، ولا يوجد جسم أبسط منه في البرودة، فيكون إذن الهواء قابلا للحرارة والبرودة والماء باردا. أما الجسم الذي يقبل الحرارة والبرودة فهو التراب، من هذا يظهر أن العناصر الأولى التي تتركب منها الأجسام هي: النار والماء والهواء والتراب، ويسميها والأسطقسات،
9
إلا أن هذه جميعها تنتهي عند النار؛ لأنها أقوى من الجميع.
وفي المقالة الخامسة يتكلم عن المركبات، ومن جملة ما يقوله في هذه المقالة اللذيذة القراءة الصفحة التالية: ... يحيط بالبر والبحر الهواء البخاري إلا أنه ذو طبقتين؛ إحداهما تصاقب كرة الأرض؛ فتسخن من شعاع الشمس المسخن للأرض المسخنة لما تجاورها، وبعضه يبعد عنه؛ فيستولي عليه الطبيعة التي في جوهر المائية وهو البرد؛ ولهذا يكون أعالي الجبال ومواضع انعقاد السحاب أبرد، ثم فوق هاتين الطبقتين طبقة الهواء الذي هو أقرب إلى البساطة، ثم فوقه طبقة الهواء الدخاني؛ وذلك أن الدخان أيبس وأسرع حركة وأشبه كيفية بالنار، فهو يعلو البخار، والهواء إن لم يبرد في الوسط فينزل ريحا؛ فإن لم يبرد علا وطفا فوق الهواء، إلا أنه كما أظن أنه لا يكون محيطا ولا كثيرا بل يسيرا منتشرا والأكثر يحترق سهبا ... ثم فوق هذا كله الطبقة النارية، وجميع العناصر الأربعة بطبقاتها طوع الأجرام العالية الفلكية، والكائنات الفاسدة تتولد من تأثير تلك وطاعة هذه، والفلك، وإن لم يكن حارا ولا باردا؛ فإنه قد ينبعث منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منها عليها، ويشاهد هذا من إحراق شعاعها المنعكس عن المرايا؛ فإنه لو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعها لكان كلما هو أقرب إلى العلو أسخن، وقد يكون مطرح الشعاع إلى الشيء، فيحترق وما فوقه لا يحترق؛ بل يكون في غاية البرد، فإذا سبب الإسخان التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء، وربما بلغ من إسخانه أن بعد الهواء لقبول طبيعة النار، ويخرجه عن الاستعداد للصورة الهوائية، فإذا وقعت القوى الفلكية في العناصر فحركتها، وخلطتها، حصل من اختلاطها موجودات شتى، فمنها أن الفلك إذا هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية، ودخن من الأجسام الأرضية، وأثار شيئا بين الغبار والدخان من الأجسام المائية والأرضية؛ ولأن الأرض والماء يوجدان في أكثر الأحوال متمازجين، فليس يوجد بخار بسيط ولا دخان بسيط إلا ندرة وشذوذا. (ص249 و25 من النجاة)
وأنت ترى من هذه الصفحة الفكهة أن كلام ابن سينا في طبيعياته لآخر هذه المقالة لا يتعدى بجملته إلى طور التخمين والحدس والمحاولات الفاشلة. أما في المقالة السادسة، ويدور محور الكلام فيها عن النفس، فقد أتانا بنظرات أعمق من هذه تستحق الدرس والتمحيص.
فإلى الفصل الآتي أيها القارئ الصبور.
الفصل السادس
النفس في نظر ابن سينا
ما هي هذه القوة الخفية الجبارة التي تدفعنا إلى النمو والحركة والتفكير؟
ما هو هذا العالم الصغير الذي يفوق برسمه وجمال تركيبه سائر العوالم المنظورة؟
ما هي النفس البشرية؟ ومن أين أتت؟ وإلى أين تعود؟
هل يستطيع العقل بمعزل عن الوحي أن يبرهن على وجودها وخلودها؟ هيا بنا نتحقق كيف أجاب فيلسوفنا عن هذه الأسئلة المهمة، والخطوة التي خطاها في هذه الناحية من التفكير الإنساني: (1) وجود النفس
يعتقد ابن سينا أن العقل بقوته الذاتية يمكنه أن يبرهن على وجود النفس، وأقوى برهان يأتينا به برهان الحدس والمحاكمة كما يسميه، إننا نرى أجسامنا تتغذى وتنمو وتتحرك، ونعرف من الاختبار أن هذه الصفات ليست من خاصات الأجسام، فندرك بالحدس أن فينا مبدأ تصدر عنه هذه المعلولات، وهو ما نطلق عليه اسم نفس.
1
ادخل مخدعك، وأغمض عينيك عن الخارج، واسدد أذنيك عن ضجيج الهاوية، وارجع إلى نفسك، وأصغ إلى داخلك فتسمع صوتا يناديك: «إنك مهما حاولت لن تستطيع أن تتجرد عن آنيتك وفكرك؛ لأن أول الإدراكات وأوضحها على الإطلاق هو إدراك الإنسان نفسه.»
2
لكن بأي آلة يدرك الإنسان نفسه؟ أبالبصر أم بالسمع أم بالمخيلة أم بالوهم؟ كلا، بل يدرك الإنسان نفسه بمعزل عن كل آلة؛ لأن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية لكان يجب أن تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة، ولا أن تعقل أنها عقلت؛ فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس بينها وبين آلتها، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة؛ إذن إن النفس تعقل ذاتها بذاتها وليس بالآلة.
3
قال ابن سينا في كتاب الإشارات، ص123:
بماذا تدرك حينئذ ذاتك، وما المدرك من ذاتك؟ أترى المدرك منك أحد مشاعرك أم عقلك، وقوة غير مشاعرك وما يناسبها؟ فإن كان عقلك وقوة غير مشاعرك بها تدرك، أفبوسط تدرك أم بغير وسط؟ ما أظنك تفتقر في ذلك حينئذ إلى وسط؛ فإنه لا وسط، فبقي أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوة أخرى.
وقصارى الكلام
إن النفس تدرك في أول الأمر وقبل كل شيء ذاتها ووجودها مجردة عن المادة ولواحقها وبدونما آلة؛ لأنه لو كانت تدرك بآلة لكانت الإدراكات الشاقة توهنها وتفسدها، كما أن الانفعال الشاق المتكرر يضعف الحس، والرعد الشديد يفسد السمع، وهذا القول يذكرنا بنتيجة لديكارت أوردها في كتاب التأملات وهي: «إن إدراك النفس أسهل وأوضح من إدراك الجسد.» (2) حدوث النفس
ولكن من هو الذي أعطى النفس وجودها، وكيف حلت في هذا الجسد البالي، ولماذا؟
إن الذي خلق النفس هو الله تعالى، على أنه لم يعطها وجودها بنفسه مباشرة؛ بل أسند ذلك إلى واهب الصور الذي لا يرش النور إلا على مستحقيه.
كان أفلاطون يؤمن بأن النفوس أبدية أزلية وجدت قبل الجسد. أما الشيخ الرئيس فإنه نقض هذا القول، وأثبت أن النفس حادثة مع البدن، وهاك دليله: «إن النفس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى؛ فإن وجدت قبل البدن، فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتا واحدة، ومحال أن تكون ذوات متكثرة، وأن تكون ذاتا واحدة على ما يتبين، فمحال أن تكون قد وجدت قبل البدن» (نجاة، ص300).
إن النفس لا يمكنها أن تكون متكثرة الذوات؛ لأن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة، وإما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة. بيد أن الأول باطل؛ لأن النفس ليست متغايرة بالماهية والصورة؛ لأن صورتها واحدة وماهيتها واحدة. وكذلك الثاني باطل؛ لأن النفس لا يجوز أن تكون واحدة الذات بالعدد وتكون موجودة قبل البدن؛ لأنه إذا حصل بدنان حصل في البدنين نفسان، فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة فيكون الشيء الواحد البسيط منقسما، وهذا ظاهر البطلان؛ وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين، وهذا لا يحتاج أيضا إلى كثير تكلف في إبطاله؛ فقد صح إذن أن النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها؛ لذا يجب عليها أن تستعمله وتهتم بأحواله.
4
أما كيف حلت النفس في الجسد فيوجزه ابن سينا بهذه الأبيات:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
إن العلوم لم توجد منطبعة في النفس منذ الأزل كما يظن أفلاطون؛ بل إن الإله سمح بهبوط النفس إلى أرض الشقاء؛ لكي تكتسب المعرفة والعلم، الأمر الذي لا يمكن أن يكون إلا باشتراك الحس؛ لأن كل شيء متأت إلينا من الخارج عن طريق الحس، كما يقرر أرسطو المعلم الأول. (3) قوى النفس
إن النفس بما أنها صورة الجسم وكماله، فهي كما يقول أفلاطون مبدأ حركة البدن، وبالفعل تحركه مثلما تحرك النفوس السماوية أجرام الفلك، فيظهر من ذلك أن النفس مشتركة بين النبات والحيوان والإنسان والملائكة، إلا أنها في النبات والحيوان كمال الجسم الطبيعي، أما في الإنسان والملائكة فهي الجوهر المحرك اللامتناهي. والنفس كجنس واحد ينقسم بضرب من القسمة إلى ثلاثة أقسام: نباتية وحيوانية وإنسانية. وهذا التقسيم يختلف عن تقسيم المعلم الأول الذي جعل قوى النفس أربعا: الغازية والحساسة والمحركة والناطقة، ولعل الشيخ فعل حسنا بجمعه الحساسة والمحركة في القوة الحيوانية. (أ) النفس النباتية
يعرف ابن سينا النفس النباتية بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي، ولها ثلاث قوى: القوة الغازية وهي القوة التي تحيل جسما آخر إلى شاكلة الجسم الموجودة فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه، والقوة المنمية وهي قوة تزيد في الجسم القائمة فيه، والقوة المولدة وهي قوة تكثر الأجسام الصادرة عنها، وهذه القوى مشتركة بين النبات والحيوان والإنسان. (ب) النفس الحيوانية
إن النفس الحيوانية هي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة، ولها قوتان: محركة ومدركة؛ فالمحركة تنقسم إلى قسمين: باعثة وفاعلة، الأولى هي القوة النزوعية والشوقية، ولها شعبتان: الشهوانية والغضبية. والثانية هي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات؛ فتجذب الأوتار أو ترخيها أو تمددها بحسب احتياجاتها.
كذلك القوة المدركة تنشطر إلى شطرين: خارجية وداخلية؛ المدركة الخارجية هي الحواس الخمس أو الثمان: البصر، السمع، الشم، الذوق، واللمس، ويشبه أن تكون هذه القوة، يقول ابن سينا، لا نوعا واحدا بل جنسا لأربع قوى منبثة معا في الجلد كله، الواحدة حاكمة في التضاد بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد بين الخشن والأملس.
5
والمدركة الداخلية لها قوى تدرك المحسوسات، ولها قوى تدرك معاني المحسوسات، والفرق بين إدراك الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معا، وأن المعنى هو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولا. مثال الأول: إدراك الشاة صورة الذئب؛ أعني شكله وهيئته ولونه؛ فإن نفسها لم تدركها لو لم يدركها قبلا حسها الظاهر، ومثال الثاني: إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب وهو المعنى الموجب لخوفها إياه وهربها عنه من غير أن يكون الحس يدرك ذلك البتة؛ فالذي يدرك من الذئب أولا بالحس ثم بالقوى الباطنة هو الصورة، والذي تدركه القوة الباطنة دون الحس هو المعنى.
6
ثم بعد ذلك تأتي قوة «فنطاسيا» أي الحس المشترك، وهي قوة مرتبة في أول التجويف المقدم في الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأدية إليه.
ومن القوى الباطنة قوة الخيال أو المصورة، وهي تحفظ صور المحسوسات بعد غيابها، ومرتبة في التجويف المقدم من الدماغ؛ لأن قوة قبول الصور غير قوة حفظها.
ثم المتخيلة، وهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة، وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية، ثم الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ، تدرك من المحسوس ما لا يحس، ثم القوة الحافظة الذاكرة، وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات.
هذه قوى النفس الحيوانية كما أوضحها الرئيس، وهي لا تختلف إلا قليلا عن النظام الذي وضعه لها أستاذه الفارابي. إلا أن ليس جميع الحيوانات سواء، فمنها ما يملك الحواس الخمس، ومنها ما له بعض دون بعض، ويا حبذا لو وضع لنا ابن سينا درسا وافيا على أنواع الحيوانات وما تملكه من قوى! (ج) النفس الناطقة
أما النفس الناطقة فيحدها الشيخ بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.
تنقسم قوى الناطقة إلى عاملة وعالمة؛ مع أن القوتين يطلق عليهما اسم عقل؛ فالقوة العاملة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية، وتنسب إلى القوة الحيوانية النزوعية، أو إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة أو إلى نفسها . فإذا نسبت إلى القوة الحيوانية النزوعية أحدثت للإنسان هيئات تختص به مثل الضحك والخجل وما أشبهها، وإذا نسبت إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة سببت للإنسان استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واختراع الصناعات، وإذا نسبت إلى ذاتها ولدت الآراء الذائعة المشتركة بين العقلين؛ العملي والنظري، فتكون إذن القوة العاملة هي العقل العملي، والقوة العالمة هي العقل النظري.
أما العقل النظري فهو قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، وهذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب؛ وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا له وقد يكون بالفعل، والقوة تقال على الاستعداد المطلق للقوة، وعلى الملكة وعلى كمال القوة؛ فالقوة النظرية إذن تنسب إلى الصورة المجردة نسبة ما بالقوة المطلقة حتى تكون هذه القوة للنفس التي لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذي يحسبها، وحينئذ تسمى عقلا هيولانيا، وهذا يملكه كل شخص. وتنسب أيضا إلى الصورة المجردة نسبة ما بالقوة الممكنة، وهي أن تكون القوة الهيولانية قد حصل فيها من المعقولات الأولى (كالكل أعظم من الجزء) التي يتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية، وتسمى عندئذ عقلا بالملكة، وأخيرا تنسب القوة النظرية إلى الصورة المجردة نسبة ما بالقوة الكمالية، وهذا أن يكون حصل فيها أيضا الصورة المعقولة الأولية، إلا أنه ليس يطالعها ويرجع إليها بالفعل فعقلها وعقل أنه عقلها، ويسمى عقلا بالفعل؛ لأنه عقل يعقل متى شاء بلا تكلف اكتساب. أما إذا نسبت القوة النظرية إلى الصورة المجردة نسبة ما بالفعل المطلق فيكون حينئذ عقلا مستفادا، وهو عبارة عن عقل كامل تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه، وهو تطالعها ويعقلها بالفعل، ويعقل أنه يعقلها بالفعل. فهذه مراتب النفوس التي تسمى عقولا نظرية، وهي تنتهي عند العقل المستفاد الذي به تم النوع الإنساني، ولما كان لا يمكن الانتقال من القوة إلى الفعل إلا تحت تأثير علة موجودة بالفعل كان من الضروري أن نقول بوجود عقل مفارق للعقل الإنساني، هو العقل الفعال الذي تشرق منه المعرفة على عقول الناس.
وترتيب درجات العقول النظرية عند ابن سينا لا يختلف اختلافا جزئيا عن الترتيب الذي وضعه الفارابي أستاذه ودليله في الفلسفة.
وقصارى القول
إن العقل العملي يسيطر على سائر قوى البدن، ويوجه سياسة الجسم وأخلاقه كيفما شاء. أما العقل النظري فمهمته لا تتعدى الاتجاه إلى المبادئ العالية، وهو النفس البشرية المجردة. (4) الفرق بين الإدراكات
إن الإدراك يكون إما بالحس أو بالتخيل أو بالوهم أو بالعقل، ويشبه أن يكون أخذ صورة المدرك، حتى إذا كان ماديا فيأخذ صورته مجردة عن المادة تجريدا ما.
فالحس يأخذ الصورة عن المادة دون أن ينزع اللواحق التي لها من جهة المادة، وإذا زالت النسبة بينها وبين المادة بطل ذلك الأخذ؛ لأنه لا يمكنه أن يستثبت على تلك الصورة إن غابت المادة.
والخيال يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة أشد؛ لذلك إذا غابت المادة تبقى الصورة في الخيال، إلا أنها لا تكون مجردة عن اللواحق المادية؛ لأن الصورة في الخيال هي على حسب الصور المحسوسة، وعلى تقدير ما، وتكييف ما، ووضع ما.
7
والوهم يرتفع قليلا عن هذه المرتبة في التجريد؛ لأنه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بمادية، وإن عرض لها أن تكون في مادة كالخير والشر والموافق والمخالف، فهذا النزع أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين، إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة؛ لأنه يأخذها جزئية.
وأما العقل فإنه ينزع الصورة عن المادة من كل وجه، وعن لواحق المادة معها في أخذها أخذا مجردا؛ لذا لا يمكن الحس والخيال والوهم أن تدرك الكليات بل إدراكها محصور في الجزئيات؛ وبالتالي فإنه لا شيء من المدرك للجزئي بمجرد، ولا من المدرك للكلي بمادي.
8 (5) وحدة النفس
مما تقدم ذكره يظهر أن النفس البشرية متعددة الأقسام كثيرة القوى، لكنها بالرغم من ذلك كله لا تزال واحدة كما يثبت الشيخ. إن النفس الإنسانية، بل سائر النفوس، هي في الجسم كالمحرك في السيارة، فكما أن المحرك ولو حرك آلات كثيرة يعتبر واحدا ، كذلك النفس وهي تبدأ الحركة في البدن يجب أن تكون واحدة، وكما أن المحرك لا يحرك السيارة ما لم تكن كاملة بسائر الآلات، كذلك النفس لا تقوم بعملها في البدن ما لم يكن كاملا مهيئا لاقتبال ذلك.
لو كانت قوى النفس لا تجتمع عند ذات واحدة لكان للحس مبدأ على حدة، وللغضب مبدأ على حدة، بيد أننا نعرف أن الغضب لا يصدر إلا عن الحس، الأمر الذي يبرهن على أن قوتي الغضب والحس تجتمعان في ذات واحدة كما تجتمع آلات السيارة حول المحرك، فهناك إذن مبدأ واحد لقوة الغضب وقوة الحس.
أجل إن قوى النفس منفصلة متعددة، ولكن انفصالها وتعدادها ليس سببا لتكثير النفوس؛ لأن القوى المتعددة يمكنها أن تنضوي إلى نفس واحدة، ولكي يقرب ابن سينا هذه الفكرة من عقل القارئ يورد المثال الآتي:
إن الجوهر المفارق نمثله بالشمس، والبدن بجرم يتأثر عن الشمس، ونشبه النفس النباتية بمكان تسخينها إياه، والنفس الحيوانية بمكان إنارتها له، والنفس الإنسانية بمكان اشتعالها فيه نارا؛ فإن كان ذاك البدن لا يقبل الإنارة والاشتعال فيكتفي باقتبال التسخين فقط، وإن كان أهلا للإنارة فيرضى بها فقط، ثم إن كان الاستعداد، وهناك ما من شأنه أن يشتعل عن المؤثر الذي يحرق بقوته فتحدث الشعلة جرما لاقتبال الصور من العقل المفارق، وحينئذ تكون مع المفارق علة للتنوير والتسخين، ولو لم تكن لظل التسخين والتنوير كما كان قبلا. وهذا تشبيه دقيق مفهوم. (6) بقاء النفس
ينقسم الفلاسفة في تقرير مصير النفس الإنسانية إلى فئات عديدة أشهرها أربع؛ فئة تقول إن النفس ليست سوى مادة كباقي المواد، ولا تعتقد إلا الحس والاختيار، وأتباع هذا الرأي هم الماديون المتطرفون، وقوم لا يسلمون بوجود المادة، ولا يرون في مظاهر الكون إلا الروح والأفكار، وهؤلاء هم المثاليون المغالون، وآخرون يقولون بانتقال الأنفس بعد الموت من بدن إلى بدن، وهؤلاء هم أهل التناسخ، والباقون - وهم الأكثرية الساحقة - يقولون بأن النفس الإنسانية لا تموت بموت الجسد، ولن تقبل الفساد أصلا، وهؤلاء هم المعتدلون، والشيخ الرئيس ينتمي لهم، وقد أتى لإثبات ذلك ببراهين تختلف قوة وكمالا إلا أنها بجملتها تستحق الاعتبار، ونحن الآن نقتصر على إيراد برهانين خوف الإسهاب الممل :
أولا:
في البدن قوة تحركه وتسمى نفسا، وهذه النفس تقتبل المعقولات من العقل الفعال؛ ولذلك تكون له محلا بنوع من الأنواع، والحال أن محل المعقولات لا يمكنه أن يكون جسما؛ إذن إن النفس البشرية هي لا مادية؛ وبالتالي خالدة.
من المستحيل أن يكون محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير؛ لأنه إن كان جسما؛ فإما يكون منقسما وإما غير منقسم، فإذا كان غير منقسم أي نقطة؛ فالنقطة هي نهاية ما لا تمييز لها في الوضع عن الخط والمقدار؛ ولذا لا يمكنها أن تقبل شيئا عرضيا؛ بل كل ما تقبله يجب أن يكون ذاتا أو مقدارا، والحال أن العقل الفعال لا يستطيع أن يكون ذاتا في جسم واحد؛ لأنه يدبر جميع الأجسام على السواء، كما أنه لا يمكنه أن يكون مقدارا؛ إذن لا يسوغ لمحل المعقولات أن يكون جسما غير منقسم.
وإذا فرضنا أن محل المعقولات هو جسم منقسم، فيلزم من باب الوجوب أن نفرض أن الصورة المعقولة تنقسم، وحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزآن المنقسمان متشابهين أو غير متشابهين؛ فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس إياهما؟ وإن كانا غير متشابهين فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء غير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول بالقوة غير متناهية، والمعلوم أن الأجناس والفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية؛ إذن ...
9
ثانيا:
إن النفس البشرية هي جوهر بسيط، والبسيط لا ينحل كما تنحل العناصر، إذن النفس تبقى ولو فارقها الجسد؛ لأنها أسمى منه مادة وأغلى قيمة هبطت إليه عن كره. نحن لا ننكر أن النفس تتألم بتألم الجسد، ولكن الجسد بالوقت نفسه هو الذي يعيقها عن بلوغ الكمال والاتحاد بالذات العليا؛ لذلك إذا كانت مستكملة بالكمالات لا تحزن لفراق الجسد. قال المعلم الثالث:
حتى إذا قرب المسير من الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت، وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وهذا الكلام يذكرنا بقول القديس بولس فيلسوف الأمم: «من ينقذني من جسد الموت هذا لأنحل وأصير مع الله؟»
وله غير ذلك براهين عديدة عميقة، منها برهان علاقة النفس بالجسد، وهو وارد في كتاب النجاة (ص302-309).
أما مسألة التناسخ فإن ابن سينا يبطلها بالدليل الآتي: إذا فرضنا أن نفسا تناسختها أبدان، وكل بدن فإنه بذاته يستحق نفسا تحدث له وتتعلق به، فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا، وكل حيوان يستشعر نفسه نفسا واحدة هي المعرفة والمدبرة؛ فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هي بنفسها، ولا تشتغل بالبدن فليس لها علاقة مع البدن؛ لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النمو، فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه، وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية؛ بيد إن فيه كلاما طويلا.
وصفوة القول
إننا إذا فهمنا بالإبداع إخراج نظريات جديدة في عالم الفكر؛ فإن ابن سينا أبعد من أن ينسب إليه الابتكار أقله في نظريات النفس التي مر الكلام عليها؛ فإنه أخذ عن أرسطو حدوث النفس، وعن أفلاطون خلودها، وعن الفارابي مراتب الإدراك فيها، وضم إلى ذلك عناصر صوفية مختلفة الأجناس والأشكال، ولكن إذا فهمنا بالإبداع ضم نظريات وآراء بعضها إلى بعض ثم نحتها نحتا علميا يلائم بيئة الناحت؛ فإن ابن سينا من هذا القبيل هو مبدع كما لا يخفى على ذي بصيرة (طالع كتاباته بإمعان وروية).
الفصل السابع
العلة والمعلول
يختلف العلم الإلهي في نظر ابن سينا عن سائر العلوم، كل علم، طبيعيا كان أم رياضيا، إنما يفحص عن موجود معين أو حال بعض الموجودات، أما العلم الإلهي فإنه يدرس الموجود المطلق ولواحقه التي له بذاته، وبموجب هذا الاعتبار تكون جميع العلوم جزئية، ولا خبر عن علم مطلق بعد العلم الإلهي.
محور العلم الإلهي هو العلة المطلقة والمعلول المطلق؛ لأن الله تعالى على ما اتفقت عليه الآراء كلها ليس مبدأ لموجود معلول دون موجود معلول آخر، بل هو مبدأ للوجود المعلول على الإطلاق؛ ولذا يكون هو العلة المطلقة أيضا،
1
إذن لا لوم ولا عذل علينا إذا افتتحنا كلامنا عن إلهيات ابن سينا بالعلل والمعلولات.
كل علة مبدأ، وليس كل مبدأ علة؛ فالوالد هو علة الابن ومبدأ، والنقطة هي مبدأ السطر وليست علته. وهذا قول مقتبس من التعاليم الأرسطوية. أما ابن سينا فإنه قد خلط بين العلة والمبدأ بدليل قوله: «المبدأ يقال لكل ما يكون قد استتم له وجود في نفسه، إما عن ذاته، وإما عن غيره، ثم يحصل عنه وجود شيء آخر ويتقوم به ... إلخ.»
2
ينسج الرئيس في تقسيم العلل على منوال الفيلسوف؛ فيقسمها إلى أربعة أقسام رئيسية: علة مادية، علة صورية، علة فاعلة، وعلة غائية.
كلما تكون شيء من شيء يقال إنه حصل تغيير، ويتوقف شرح هذه التغايير المختلفة العارضة على مبدأين؛ أولهما أنها تطرأ على موضوع ثابت وقار هو المادة أو العلة المادية للتغيير، وثانيهما أن هذه التغايير قائمة بأن شيئا جديدا يظهر في المادة وهو الصورة أو العلة الصورية للموضوع المعروض للتغيير، فمن هذا يصدر أن العلة إذا كانت جزءا لمعلولها لا يجب عن حصوله بالفعل أن يكون موجودا بالفعل دعوناها مادية، وإذا كانت جزءا لمعلولها يجب عن وجوده بالفعل وجود المعلول له بالفعل سميناها صورية، مثال العلة المادية: الخشب للسرير؛ فإن السرير كامن بالقوة في الخشب الذي هو مادة السرير المبهمة قبل أن تخرجه يد النجار من القوة إلى الفعل، ومثال العلة الصورية: الشكل والتأليف للسرير، فتكون العلل هيولى للمركب وصورة للمركب، ولقد أخذ هذا الفكر القديس توما الأكويني وأفرغه بأسلوب واضح فقال:
المادة هي علة الصورة من جهة أن الصورة لا توجد إلا في المادة، وكذا الصورة علة المادة من جهة أن المادة لا وجود لها بالفعل إلا بالصورة، وكل من المادة والصورة تقال بالقياس إلى الأخرى وكلتاهما نسبتها إلى المركب نسبة الجزء إلى الكل.
أما إذا لم تكن العلة جزءا لمعلولها، فإما أن تكون مباينة أو ملاقية لذات المعلول؛ فإن كانت ملاقية فإما أن ينعت المعلول بها، وهذا كالصورة للهيولى، وإما أن تنعت بالمعلول، وهذا كالموضوع للعرض، وإن كانت مباينة فإما أن تعطي معلولها الوجود الكامل وحينئذ تكون فاعلة ، وإما أن تعطي الوجود؛ بل تعمل لأجل الوجود، وعندئذ تتغير وتصير غائية، فتكون العلة الفاعلة - في نظر الشيخ - هي ما منه يكون شيء؛ أي الانتقال من وجود إلى وجود آخر أو الانتقال من اللاوجود إلى الوجود، وتكون العلة الغائية هي الهدف الذي ترمي إليه العلة في إبرازها الفعل إلى الوجود.
إن المادة والصورة هما المبدآن الباطنان للموجود المادي، وأما العلة الفاعلة فهي المبدأ الخارج للصيرورة أو التكون، قال الشيخ الرئيس:
والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وهي علة العلل في أنها علل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر، وإذا لم تكن العلة الفاعلة هي بعينها العلة الغائية كان الفعل متأخرا في الشيئية عن الغاية؛ وذلك لأن سائر العلل إنما تصير عللا بالفعل لأجل الغاية وليست هي لأجل شيء آخر، وهي توجد أولا نوعا من الوجود فتصير العلل عللا بالفعل، ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية؛ فإن الطبيب يفعل لأجل البرء، وصورة البرء هي الصناعة الطبية التي في النفس، وهي المحركة لإرادته إلى العمل، وإذا كان الفاعل أعلى من الإرادة كان نفس ما هو فاعل هو محرك من غير توسط من الإرادة التي تحدث عن تحريك الغاية، وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان، وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة، والقابل دائما أحسن من المركب والفاعل أشرف؛ لأن القابل مستفيد لا مفيد، والفاعل مفيد لا مستفيد.
3
وبكلام وجيز: إن ابن سينا يثبت ستة أنواع من العلل؛ أولا: العنصر أي مادة المركب، ثانيا: صورة المركب، ثالثا: الموضوع، رابعا: صورة الهيولى، خامسا: الفاعل، سادسا: الغاية، بيد أن مادة المركب تذوب في الموضوع؛ لأنهما معا علة بالقوة للشيء المزمع أن يكتسب وجودا، وصورة المركب تمتزج بصورة الهيولى؛ لأنهما معا علة بالفعل.
ومعلوم أن الهيولى والصورة لا يمكنهما أن يكونا علة إلا للصادر عنهما الذي هو ممكن بذاته، ومن هذا الاعتبار نعرف أن ابن سينا لا يؤمن إلا بوجود علة واحدة مطلقة، وهي واجب الوجود فإن جميع الأشياء التي تصدر عن واجب الوجود لا تملك بذاتها إلا إمكانا فقط؛ ولذلك هي معلولة،
4
إذن كان شيشرون الفيلسوف الروماني على حق عندما صرخ في ساعة نزعه: «يا علة العلل ارحمني
Causa causarum misereme .»
الفصل الثامن
ما هو الله تعالى؟
وإذا كان موجودا فما هي البراهين التي تثبت وجوده؟
فطر الإنسان على حب معرفة الفاعل، فإذا شاهد تمثالا أبدعته يد فنان عبقري، أو رأى رسما متقحلا لا تناسب بين خطوطه وألوانه فأول عبارة يرسلها: «من هو الذي صنع ذلك؟» إذن لا تثريب على الفلاسفة إذا تأملوا الموجودات مليا وتساءلوا عن مبدعها، وخصصوا القسم الأوفر من كتاباتهم لمعرفة الخالق، وتحديد العلاقة القائمة بينه وبين مخلوقاته. (1) الوجود الإلهي
يعتقد ابن سينا كأستاذه الفارابي أننا نتسلق من معرفة الموجود النسبي إلى معرفة الموجود المطلق، أو بعبارة أخرى أصرح: معرفتنا للوجود الممكن توصلنا إلى معرفة واجب الوجود.
كل شيء يعتريه الفساد يمكنه أن لا يوجد، وكل شيء يولد يمكنه أن يوجد، فيكون إذن تغيير الموجودات في نظر الرئيس متعلقا بالإمكان، إلا أن سلسلة الممكنات لا تقدر أن تكون غير متناهية؛ لأنها إذا كانت غير متناهية تبقى ممكنة الوجود بذاتها، ولا تستطيع أن تعطي ذاتها الوجود، فيلزمنا إذن أن نقسم الموجودات إلى موجود ممكن وموجود واجب، فالممكن الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود أو موجودا لم يعرض منه محال. والواجب الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود عرض عنه محال، وبما أن الموجود الممكن الوجود لا يقدر أن يتناول وجوده من ذاته لكونه ممكنا، فيجب إذن أن يأخذ وجوده من الموجود الواجب الوجود الذي يعطي الممكنات الوجود وهو ما نسميه الله.
قال ابن سينا:
لا شك أن هنا وجودا، وكل وجود فإما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجبا فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكنا فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود.
1
إن المعلم الثالث لا يقف عند هذا الحد في إثبات وجود الله؛ بل ينتقل إلى برهان العلل، نحن نرى أن كل موجود ممكن؛ إما أن يكون مع إمكانه حادثا أو غير حادث؛ فإن كان غير حادث، فإما أن يتعلق ثبات وجوده بعلة أو بذاته؛ فإن كان بذاته فهو واجب لا ممكن، وإن كان بعلة، فعلته معه والكلام فيه كالأول.
وإن كان حادثا فلا يخلو إما أن يكون حادثا باطلا مع الحدوث حالا، وإما أن يبطل بعد قليل من حدوثه، وإما أن يبقى بعد الحدوث؛ فالقسم الأول محال ظاهر الإحالة، والقسم الثاني أيضا محال؛ لأن الأوقات لا تتالى بصورة متباينة، فظهر إذن أن الموجود الممكن يبقى بعد الحدوث، من هذا ينتج أن لكل موجود علة لوجوده، وهذه العلة المطلقة القادرة الطائقة هي الله.
2 (2) ماهية الله وبساطته
الماهية والوجود في الله هما شيء واحد؛ لأننا إذا فصلنا ماهيته عن وجوده جعلناه متجزئا وقابلا للقبلية والبعدية وفيه شيء ما بالقوة، الأمر الذي لا يلائم واجب الوجود؛ لأنه هو الكمال بالذات، والوجود المطلق والعلة الأولى والمبدأ الأول لجميع الموجودات، والواجب التام الذي ليس له حالة منتظرة.
وبما أن واجب الوجود خال من القوة، وكل شيء فيه هو بالفعل، فيتبع ذلك أنه تعالى بسيط. وهذا واضح لأن الله ليس بجسم، ولا مادة جسم ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول، ولا يقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف والماهية والأين والمتي والحركة ... بهذه الأقوال ونظائرها يحدد الشيخ الرئيس علاقة الخالق بالمخلوق، ويطلعنا على أن الله هو فوق الكل، وقادر على كل شيء. (3) وحدانية الله وحقيقته
إن واجب الوجود واحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حده له، واحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة تخصه وبها كمال حقيقته الذاتية، وأيضا هو واحد من جهة أخرى، وتلك الجهة هي أن مرتبته من الوجود وجوب الوجود، ولا ند له ولا شريك، أليس إن هذه النتيجة الفلسفية الجميلة هي ترديد لقول القرآن:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد .
ولما كانت حقيقة الشيء في وجوده الثابت له كان لا حق أحق من الواجب الوجود، ومن يملك الوجود المطلق هو بالوقت نفسه حق بكل معاني الحقية، وقد يقال أيضا: حق لما يكون الاعتقاد به صادقا فلا حق أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا ومع صدقه دائما، ومع ذلك دوامه لذاته لا لغيره. (4) عقل الله وعشقه
إن طبيعة الوجود بما هي كذلك غير ممتنع عليها أن تعقل، وإنما يعرض لها أن لا تعقل إذا كانت في المادة أو مكتنفة بعوارض المادة، والحال أن الله مجرد عن المادة ولواحقها فإذن هو عقل، وبما أنه يعرف أن لذاته هوية مجردة فهو عاقل ذاته، وبما يعتبر أن لهويته ذاتا فهو معقول، وكون الأول عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتة؛ لأن تحصيل الأمرين ليس إلا اعتبار أن له ماهية مجردة هي ذاته، وأن ماهية مجردة هي ذاته له، وها هنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني والغرض المحصل شيء واحد بلا قسمة.
أما الجمال والكمال والبهاء اللامتناهي فيقوم في الماهية العقلية المطلقة، والخيرية المحضة البريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، والواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض، وهو مبدأ كل اعتدال، وبما أن كل جمال ملائم وخير مدرك هو محبوب ومعشوق، فظهر أن الله هو محبوب ومعشوق؛ لأنه في غاية الكمال والجمال والبهاء، والذي يعقل ذاته بتلك الغاية في البهاء والجمال وبتمام التعقل، ويتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة يكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق، وأعظم لاذ وملتذ، قال الشيخ الرئيس:
إن اللذة ليست إلا إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم؛ فالحسية منها إحساس بالملائم، والعقلية تعقل الملائم، والأول أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، فهو أفضل لاذ وملتذ، ويكون ذلك أمرا لا يقاس إليه شيء، وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الأسامي، فمن استشنعها استعمل غيرها، ويجب أن تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس؛ لأنه - أعني العقل - يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي ويتحد به، ويصير هو هو على وجه ما، ويدرك بكنهه لا بظاهره، وليس كذلك الحس للمحسوس.
3
وإن أعجب فلشيء؛ وهو أن الشيخ في كتابه الموسوم بالإشارات والتنبيهات قد أنكر ما قاله هنا - أي معنى الاتحاد - وفي غيره - كما هنا - قد أقر هذا الاتحاد ونادى به، أليس هذا من قبيل النقص في تكفير ابن سينا الفلسفي؟ ألا يثبت هذا أن فلسفة ابن سينا منقولة وليس فيها من الإبداع إلا بمقدار؟ سنجلي هذه النقطة في محلها إن أراد المولى.
الفصل التاسع
كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون
ما هو نصيب نظريته من الصحة؟
الكون ما أبهاه مجملا ومفصلا!
كل شيء فيه يذكي العقل، وينمي المعارف، ويحير الألباب، ولا آخذ بالقلوب مثل تعاليمه!
لكن هل هو قديم أم حديث؟
وإذا كان حديثا فكيف خلقه الله؟
أسئلة عويصة أشغل الجواب عنها من جملة من أشغل، علماء ما وراء الطبيعة منذ ظهور هذا العلم إلى الوجود، وهي نفسها قد جالت في رأس ابن سينا، وأهابت به لكي يحاول الإجابة عليها علميا. (1) وضعية الرئيس
قبل كل شيء يجب إيضاح لفظتي قديم وحديث كما يفهمهما أرسطو الإسلام؛ فالقديم على ضربين: بحسب الذات وبحسب الزمان، إن القديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجودة، والقديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه، والحديث أيضا على وجهين: أحدهما هو الذي لذاته مبدأ هي به موجودة، والآخر هو الذي لزمانه ابتداء، وقد كان وقت لم يكن فيه،
1
فأرسطو كان يعتقد أن العالم قديم يثبت إلى الأبد، وأن الحركة فيه أزلية كالزمان إلا أنها تفتقر إلى محرك رئيسي يدفعها إلى العمل، وقدمية العالم ليست بحسب الذات بل بحسب الزمان؛ أي لا أول لابتدائها، فيتبع ذلك أن العالم بحاجة في قدمه إلى مبدأ يستند إليه ، إلى فعل محض لا قوة فيه، إلى محرك أول يحركه ولا يتحرك معه؛ لأنه إذا تحرك انتقل إلى الشر، الأمر الذي ننزه الله عنه.
تجاه هذا الرأي الذي تأثر به الشيخ الرئيس كثيرا نرى الدين الإسلامي كالدين المسيحي من هذا القبيل، يقول بأن الله تعالى برأ العالم من العدم وأبدع كل شيء في إبداعا فعليا.
وقف ابن سينا حيال هذين الجوابين وحار في إبداء رأيه: إن اتبع رأي الفيلسوف بعجره وبجره ابتعد عن أصول الدين وصار متزندقا، وإن اتبع قول القرآن ناقض معلمه الفيلسوف الذي - كما يقول الشهرستاني: «كان يتعصب له، وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به.»
2
وسار على خطة المتكلمين، وابتعد عن حظيرة الفلسفة؛ لأن طريقة المتكلمين جدلية تؤاخذ الخصوم بلوازم مسلماتهم،
3
عندئذ عزم الشيخ على إتمام المشروع الذي بدأ به أستاذه الفارابي؛ أي الجمع بين الفلسفة والدين، فأخذ مواد المتقدمين وصقلها، ثم سبكها بنظرية عجيبة غريبة. (2) أساس نظرية الصدور
أما المبادئ التي عول عليها الرئيس في تقرير نظريته الصدورية
Emanation
فنوجزها بما يأتي:
أولا:
إن الواحد من حيث هو واحد لا يوجد عنه إلا واحد، والحال أن الله تعالى واحد من كل الوجوه كما أنبأ سابقا؛ فإذن لا يمكن أن يصدر عن الله الواحد إلا واحد، ولا تستثنى من ذلك الوحدة العقلية أيضا.
ثانيا:
إن التعقل في الجواهر المفارقة مقارن للإبداع، فإذا قلنا: إن الجوهر المفارق الفلاني قد تعقل شيئا ما فكأننا نقول إنه قد أبدع ذاك الشيء نفسه.
ثالثا:
ما ليس واجب الوجود بذاته يكون ممكنا بذاته واجبا بغيره، وبما أنه لا يوجد سوى واجب وجود واحد فينتج أن كل ما هو بمعزل عن واجب الوجود لا يملك إلا وجودا ممكنا.
وإذا مزجنا هذه المبادئ مزجا محكما وأفرغناها على الله وباقي العقول المفارقة يصدر عنها الكون على المنوال الآتي: (3) جرم هذه النظرية
إن الله إذا عقل ذاته صدر عنه العقل الأول الذي لا يقدر أن يكون إلا واحدا؛ لأن من الواحد لا يشتق إلا الواحد، وعندما يعقل العقل الأول الله يصدر عنه عقل ثان، ولما يعقل ذاته تشتق من تعقله لها نفس الفلك الأول وجسمه؛ فالنفس تصدر عن الوجوب الكامن في ذات العقل الأول، والجسم يصدر عما في العقل الأول من الإمكان، فهناك إذا مثلث يفيض عن العقل الأول العقل الثاني والنفس والفلك الأول، ثم إن هذا العقل الثاني واجب بالأول ممكن بذاته؛ فيصدر من تعقله للأول عقل ثالث، ومن تعقله لذاته يصدر نفسا وجسما، ولا يزال هذا التعقل ينتج عقولا ونفوسا وأفلاكا حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر مدبر عالم الكون والفساد؛ فالأمور السماوية إذن تؤلف سلسلة كل حلقة منها تتضمن ثلاثة أشياء؛ فالله لا يبدع إلا العقل الأول. أما العقل الأول فيبدع ثلاثة أشياء: العقل الثاني والنفس والفلك، والعقل الثاني يبدع ثلاثة أشياء: العقل الثالث ونفسه وفلكه، وهكذا إلى أن يصل الصدور إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض.
4
قال ابن سينا: «إن المعلول (الأول) بذاته ممكن الوجود، وبالأول - أي بالعلة الأولى - واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول ضرورة، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حد نفسها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته وعقله الأول، وليست الكثرة له عن الأول؛ فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا سبب الأول؛ بل له من الأول وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة؛ لوجوب حدوثه عن الأول.»
5
فتكون النقطة الجوهرية في نظرية ابن سينا الاشتقاقية - إذا جازت لنا هذه التسمية - هي أن العقل الأول واجب بالإله؛ لكي يكون له قوة تمكنه من إصدار موجود روحاني، وممكن بذاته ليقدر على إبراز جسم هيولاني. (4) مصادر هذه النظرية
اقتبس ابن سينا من أرسطو: «أن فوق العالم إلها، وأن هناك أفلاكا ذات حركات مستديرة، وأنها تتحرك تحت تأثير العقول، وأن العالم قديم.»، وأخذ عن أفلاطون وبلوتن: «أن الكثير لا يصدر عن الواحد، وأن الإله يعقل ذاته ويعقل الأشياء على الوجه الكلي، وأن عقله لذاته يولد العقل الأول، وأن العقل يتأمل الواحد ويعود إليه.»، وتناول عن الفارابي قوله في المدينة الفاضلة: «يفيض عن الأول وجود الثاني، فهذا الثاني هو أيضا جوهر غير متجسم أصلا، ولا هو في مادة فهو يعقل ذاته ويعقل الأول ... فما يعقل الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الأولى.»، فعجن ابن سينا هذه الآراء وأضاف إليها تعاليم بعض المنجمين والطبيعيين؛ لأن هؤلاء كانوا يجدون للأجرام العلوية أفعالا وآثارا في هذا العالم مختلفة تدل على اختلاف طبائعها، ولولا ذلك لما كان قال في نجاته وغيرها نظير هذه الأقوال: «إن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك» (ص455).
من هذه التلميحات نعرف كم هي طفيفة ناحية الإبداع في نظرية الصدور عند ابن سينا، وكيف أنها لا تستحق الاهتمام حتى في العصور الغابرة؛ لأن الغزالي قد وضعها في مصاف التعاليم الزائفة، وخاطب صاحبها مع أصحاب المذاهب الفاسدة بهذه اللهجة القاسية:
ما ذكرتموه تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه.
6 (5) بين ابن سينا والقديس توما
معلوم أن الرئيس بنظرية الصدور قد أراد التوفيق بين الفلسفة والدين كما صنع من بعده القديس توما الأكويني، ولكن هل توفق في مهمته هذه؟
إن أرسطو الإسلام بنظريته هذه المليئة بالأشباح والكثيرة التمويه قد رجع بصفقة المغبون؛ لأن فيها ما يناقض الفلسفة والدين: فما يناقض الفلسفة قوله بأن العقل الأول الصادر عن الله ممكن بذاته وواجب بالإله، فمن أين جاء هذا الإمكان؟ وكيف تولد الوجوب؟ إن الرئيس لا يجيب عن هذه المسألة، ومما يعاكس الدين قوله بصدور العقل الأول عن الله ...
أما أرسطو النصرانية فإنه كان أكثر تأدبا وأعمق تفكيرا من الشيخ، فميز بدء بدء بين العقل والإيمان، فبموجب القوى العقلية لا يمكن أن نقيم البرهان على حدوث العالم من جهته؛ لأن مبدأ البرهان هو الحد بالماهية، وماهية العالم تحتمل البرهانين القديم والحديث.
وكذلك لا نقدر أن نقيم البرهان على حدوث العالم من جهة العلة الفاعلة التي تفعل بالإرادة؛ لأن إرادة الله لا يستطاع البحث عنها بالعقل إلا بالنظر إلى ما يريده الله بالضرورة المطلقة، وما يريده الله بالنظر إلى المخلوقات، فليس يريده بالضرورة المطلقة، فإذن لا نستطيع بقوة العقل الطبيعي أن نعرف هل أن الله خلق العالم قبل الزمان أم بعده؟ أما بحسب الإيمان فيتحتم علينا أن نعتقد أن العالم حديث؛ لأن الله كشف إرادته الإلهية للإنسان بالوحي الذي إلى ذراعه يستند البشر؛ فإذن يكون حدوث العالم عقيدة إيمانية، ولا يمكن إثباته بطريقة البرهانية، وهكذا دقق ابن أكوينيا بين الفلسفة والوحي بهذه القضية.
كذلك قد أنحى القديس توما على ابن سينا باللائمة، وأبطل زعمه القائل بأن الجوهر الأول المفارق المخلوق من الله خلق جوهرا آخر بعده؛ لأن العلة الثانية الآلية لا تشترك في فعل العلة العالية إلا من حيث تساعد على وجه التهيئة بشيء خاص لها على مفعول الفاعل الأصيل. ألا ترى أن المنشار بالخاصة التي له يصدر من قطعة الخشب صورة الكرسي التي هي مفعول خاص للفاعل الرئيسي، والمفعول الخاص لله الخالق هو ما يكون سابقا على جميع ما سواه وهو الوجود المطلق؛ فإذن لا يمكن لخليقة أن تخلق لا بقوتها الخاصة، ولا بوجه الآلية والاستخدام.
أما التوفيق بين المبدأ القائل بأن عن الواحد لا يصدر إلا واحد، وبين مقدرة الله على إيجاد الكثرة، فيكون على هذا النمط أن الفاعل بالطبع يفعل بالصورة التي هو بها موجود، والتي هي في الواحد واحدة فقط؛ ولذا ليس يفعل إلا واحدا فقط. أما الفاعل الإرادي كالله في مخلوقاته فيفعل بالصورة المعقولة؛ فإذن لما كان تعقل الله أمورا كثيرة لا ينافي وحدانيته وبساطته؛ بل يجعله أكثر كمالا وأسمى مقاما يلزم أنه - وإن يكن واحدا - يقدر أن يصنع أشياء كثيرة، وبهذا القدر كفاية لقوم يعقلون.
الفصل العاشر
هل أقر ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟
أم حصر معرفته تعالى في الكليات فقط؟
انقسم مؤرخو فلسفة ابن سينا فئتين؛ فئة تقول بأن ابن سينا أنكر على الله معرفته للجزئيات، وأثبت أن معرفته لا تتعدى إلى الكليات، وفي طليعة هذه الفئة الصارمة الغزالي الشهير، لا بل إن بعض النقاد غالى في هذا الأمر وقال: إذا خيل لأحد أن الرئيس يبرهن في بعض الأحايين على أن الله يعرف الجزئيات، فيجب شرح وتطبيق هذه البينات شرحا وتطبيقا يلائم مقتضيات نظريته الصدورية.
والفئة الثانية تناقض الأولى على طول الخط، وتفرغ وسعها لتظهر أرسطو الإسلام بمظهر المتدين الورع، وتبرهن على أنه قد أعلن أن الله يعرف كل ما في السموات والأرض حتى أدق الجزئيات، ولعل أشد النقاد العصريين حماسة في إثبات هذه القضية المطران نعمة الله أبو كرم الماروني في المقدمة التي علقها على الترجمة اللاتينية لإلهيات النجاة، وأصدرها مطبوعة عن رومية 1926.
أما نحن فإننا نميل إلى شرح كلام الشيخ شرحا مبنيا على الإمعان والروية، موضحين أن المسألة لا يمكن أن تتفق تماما مع هذين التخريجين، وإذا كانت الطرق التي نهجها ابن سينا في تقرير نظريته تفتقر إلى المنطق الموزون والوضوح السديد، فهذا ليس معناه أنه أنكر على الله سبحانه معرفته للجزئيات، كما أنه ليس معناه أيضا أنه سلم بهذا الأمر. •••
يعتبر ابن سينا أن التسليم بأي تركيب أو تعدد في واجب الوجود هو من الجهل بالمكان الأعلى، ومن جهة أخرى يعتقد أن الله «يعقل كل شيء، ولا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصورها إلى لطف قريحة.»
1
إذن إن الصعوبة عند كل من يسلم بهذا هي في التوفيق بين البساطة السامية، وإدراك الأمور الجزئية في واجب الوجود.
في حل هذه المسألة العويصة يثبت الشيخ أنه لا يجوز أن يعقل الله الأشياء من الأشياء؛ لئلا تكون ذاته إما متقومة بما يعقل؛ وبالتالي يكون تقومها بالأشياء، وإما عارض لذاته أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من جميع نواحيها.
ولكن هل يعقل واجب الوجود الأشياء بصورتها الذهبية؟
عن هذا يجيب فيلسوفنا بالإنكار أيضا؛ لأن هذه الصورة الذهبية تتغير «عقلا زمانيا متشخصا»، فيكون الله متغير الذات، فضلا عن أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها من حيث هي محسوسة، ونتخيلها بآلة متجزئة؛
2
لأن هذه المعرفة تأتي إلينا من الخارج، والخارج يتغير بتغير الزمان والمكان، الأمر الذي لا يمكننا أن نسلم بوجوده في الله سبحانه وتعالى، وقبل أن يختم ابن سينا كلامه في هذا الخصوص يقول: «كما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقض له، كذلك إثبات كثير من التعقلات.»
3
إذن كيف يستطيع الله أن يعرف الجزئيات؟
إن الرئيس يشرح ذلك شرحا لذيذا لا ينقصه الابتكار والتفرد بالرأي، فبعدما نفى عن الباري كل تعدد وكل امتزاج بالخلائق قال ما معناه: أما كيف يعقل واجب الوجود الأشياء؛ فإنه إذا عقل ذاته، وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها، ولا يوجد شيء من الأشياء إلا بأمره وإذنه، وعليه فإذا كان واجب الوجود يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ضرورة ما تتأدى إليه وما بينها من الأزمنة، وما لها من العودات؛ لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذه، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات، وإن تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة.
4
ظهر إذن مما سبق أن الرئيس يعتقد أن الله يدرك الجزئيات، ولكن من ذاته الشاملة ومن أسباب الجزئيات عينها. •••
بقي علينا أن نوضح علاقة العقل الإلهي البسيط كذاته بالأشياء المركبة والمتعددة القابلة القبلية والبعدية. ويلوح لأول وهلة أن ابن سينا يبذل وسعه لكي يحل هذه المسألة كما حل السابقة.
إن واجب الوجود في نظر فيلسوفنا بمقدار ما يعرف ذاته معرفة كاملة يعرف الأشياء معرفة كاملة، وإذا سلمنا بهذا يلزمنا أن نسلم أيضا بكونه تعالى يعرف صفاته وكمالاته معرفة كاملة؛ وبالتالي يعرف فعله وقوته.
وغني عن البيان أن ابن سينا يردد في إلهياته أن الله هو المبدأ الأول للموجودات بأسرها، وأن قوته وفاعليته تمتدان إلى كل درجة من درجات الحقيقة؛ فإذن يلزم أن تمتد معرفته إلى كل درجة من درجات الحقيقة.
وإذ قرر أن الله يعرف الأشياء بمقدار ما يعرف ذاته؛ نظرا لكونه يعرف فعله وقوته، نراه يضيف على ما تقدم مبرهنا أن الله هو مبدأ جميع الأشياء، ولكن ليس كل الأشياء تصدر عنه بنظام واحد؛ بل بعضها يشتق عنه مباشرة والبعض الآخر بواسطة، وخصوصا الموجودات الفاسدة فإنها تصدر عن البسائط غير الفاسدة، فينتج من ذلك أن الله يرى في ذاته قبل كل شيء المخلوقات التي لا تقبل الانحلال، ويرى المخلوقات أو الموجودات التنويه بالأغيار؛ أي بعللها الخاصة، وبعبارة أدق: إن الله يعقل البسائط بذاته؛ لأنه عقل وعاقل ومعقول جوهري، وبما أن الأشياء المركبة تصدر عن البسائط، وهو تعالى يعرف البسائط معرفة تامة، بان أنه يعرف المركبات بعللها الخاصة التي هي البسائط. وهذا كما لا يخفى تحليل عميق؛ ولكي يقرب نظريته هذه من الأفهام يضرب للدارس مثلا غريبا، وهو:
افترض أن زيدا من الناس عالم نابغة يعلم الحركات السماوية كلها بمقدرة تفوق الوصف، فهو بالوقت نفسه يعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي يكون بعينه، ولكن على نحو كلي، فيخبرك بالكسوف الفلاني قبل حدوثه بزمان طويل، ولا يبقى عارضا من عوارض ذلك الكسوف إلا يعلمك إياه، فعندئذ يكون علمه كليا؛ لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحدة منها تكون حاله تلك الحال، إلا أنه يعلم بنوع ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحدا بعينه، فيكون أن فيلسوفنا يبني نظريته هذه على هذا المبدأ: «إذا وقعت الإحاطة بجميع الأسباب في الأشياء ووجودها انتقل منها إلى جميع المسببات.»
5
إن العقل النظري في الإنسان هو السبب الوحيد للعقل العملي والإرادة هي التي تحرك أعضاءنا للعمل، فتكون القوة غير الإرادة فينا.
أما واجب الوجود فليس محتاجا إلى شيء من ذلك؛ لأن عقله وإرادته وعلمه وصفاته هي ذاته. من هذا ينتج:
أن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ للكل لا مأخوذا عن الكل، ومبدأ بذاته لا متوقف على وجود شيء. (نفس الصفحة)
وهذا حقيقي؛ لأن الله يعرف ذاته ووجوده وما هو مبدأ له حتى إنه يرى وجوده فائضا في الوجود؛ فإذن الله يعرف بجوهره؛ لكونه العلة الأولى الشاملة نظام الموجودات بأسرها وفيض جوده فيها. •••
وبعد هذا نرى من المناسب أن نأتي على رأي القديس توما في هذا الموضوع نفسه؛ لنعلم أن بين هذين الفيلسوفين اتفاقا على بعض المبادئ الأولية؛ ولنطلع أيضا على غموض وإسهاب الفيلسوف العربي ووضوح وإيجاز الفيلسوف اللاتيني، ولعل هذا راجع إلى عقلية الاثنين التي تختلف عن بعضها اختلافا شاسعا.
إن ابن أكوينيا في المجلد الأول من خلاصته اللاهوتية (بحث 214) قد كرس الفصل الحادي عشر لدرس هذه المسألة، وبعد أن أورد الصعوبات التي تقف سدا بوجه الباحث على جاري عادته في تلك الخلاصة المنقطعة النظير، أخذ يبرهن على أن الله يعرف الجزئيات: (1)
إن الله يعرف الجزئيات؛ لأن جميع الكمالات الموجودة في المخلوقات موجودة وجودا سابقا في الله على وجه أعلى، ومعرفة الجزئيات كمال لنا؛ فإذن من الضرورة أن الله يعرف الجزئيات. (2)
إن الكمالات المتقسمة في الموجودات السفلى موجودة في الله على حال البساطة والوحدة؛ فإذن وإن كنا ندرك بقوة الكليات والمجردات، وبقوة أخرى الجزئيات والماديات، إلا أن الله يدرك الأمرين بعقله البسيط. (3)
لما كان الله علة جميع الأشياء بعلمه، كان علمه مسيطرا على جميع الأشياء؛ لأنه بمقدار ما هو علة للجميع بمقدار ذلك هو عالم بالجميع، ولا يغيب عن معرفته السامية أدنى شيء مما في السموات والأرض وتحت الأرض.
هذه هي البراهين التي أثبت بها القديس توما أن الله يعرف الجزئيات، وهي كما لا يخفى مكينة، عميقة، واضحة، مقنعة، فيكون الاثنان - أي أرسطو الإسلام وأرسطو النصرانية - متفقين على أن الله بمقدار ما هو علة لجميع الموجودات بمقدار ذلك هو عالم بجميع الموجودات، وبعبارة فلسفية محكمة: عموم علم الله على قدر عموم عليته.
أما في بيان كيفية ذلك فقد اختلفا؛ لأن القديس توما يبرهن على أن تحليل ابن سينا غير كاف وبراهينه غير وافية؛ لأن الجزئيات تستفيد من العلل الكلية صورا أقوى مهما تقارنت بعضها ببعض لا تتشخص إلا بالمادة الشخصية، وعلى هذا لو عرف فلكي جميع الحركات الكلية التي في السماء فينتج أن الكسوف من حيث هو كسوف لا يعرفه؛ فإذن على الوجه المذكور يلزم أن الله ليس يعرف الجزئيات في جزئيتها، وبمثال آخر: لو عرف عارف أن بطرس ابن زيد، فلا يعرفه على هذا النحو من حيث هو هذا الإنسان، وكذلك فإن الله لو عرف الجزئيات في عللها؛ فإنه لا يعرفها في جزئياتها - أي من حيث هي هذه.
وبعد أن بين القديس توما عدم كفاءة نظرية ابن سينا في كيفية معرفة الله للجزئيات أخذ يشرح نظريته بإيجاز لطيف ووضوح أخاذ، هاك ألفاظه معربة على أصلها اللاتيني:
لما كانت قدرة الله الفاعلية تعم لا الصور التي منها تستفاد حقيقة الكلي فقط بل المادة أيضا ... كان من الضرورة أن علمه يعم أيضا الجزئيات التي تتشخص بالمادة؛ لأنه لما كان يعلم الأشياء المغايرة له بماهيته من حيث إن ماهيته هي شبه الأشياء أو مبدؤها الفاعلي، فمن الضرورة أن تكون ماهيته مبدأ كافيا لمعرفته جميع مصنوعاته لا بالعموم فقط بل بالخصوص أيضا، وكذا حكم علم الصانع لو كان علمه مصدرا للشيء كله لا لصورته فقط.
مما قلناه نستنتج أن النقص المستولي على نظرية ابن سينا متأت من عقم نظريته الكونية أو الاشتقاقية؛ فالقديس توما يستمد قوة برهانه من أن الله يعرف الجزئيات من قدرته تعالى الشاملة البسائط والمركبات. أما ابن سينا فإنه قد استمد أيضا قوة برهانه من قدرة الله القدوسة، ولكن بما أن قدرته لا تعم في نظره المركبات، فقال بكون الله يعرف الجزئيات من البسائط التي هي علل المركبات أو الجزئيات الخاصة. وهذا هو الوهن الوحيد المسيطر على هذه النظرية التي لا تنكر معرفة الله للجزئيات؛ ولذا لا يجوز لكل مفكر منصف أن ينسب إلى الرئيس أمير فلاسفة المشرق كونه أنكر على الله معرفته للجزئيات، كما أنه أيضا لا يجوز له أن يثبت كون ابن سينا أقر معرفته تعالى للجزئيات إقرارا لا يشوبه زلل، ولا يعتريه إبهام.
هذا ما عن لنا إبداؤه من الرأي في هذه المسألة الدقيقة، فعسى أن نكون قد أدينا بعض الخدمة!
الفصل الحادي عشر
العناية الإلهية
إن أقوال ابن سينا في العناية الإلهية جد متناقضة، فبينا نشعر بأنه يشرح هذه القضية شرحا يلائم نظريته الصدورية، وينافي القرآن وسائر الكتب الدينية، نراه من جهة أخرى يتملص من تبعة آرائه المضللة مؤمنا بأن الله تعالى يدبر كل شيء، ويعتني بكل شيء مما في السموات والأرض بعناية مطلقة.
1
إن كل مثقف يقرأ بإمعان مصنفات ابن سينا الفلسفية يتوضح له أن حكمته - أساسيا - هي مزيج من التعاليم الأفلاطونية والأرسطوية مع بعض زيادات وتعديلات تتفاوت قيمة ووزنا بتفاوت الموضوعات التي قررها. ومن نظرياته التي تأثرت كثيرا بالتعاليم الأفلاطونية نظريته في العناية الإلهية.
إن أفلاطون الإلهي - كما يسميه علماء العرب - كان يقول بعنايات ثلاث: فالعناية الأولى تختص بالإله الأعظم الذي يعتني أولا وأصالة بالروحانيات، وتبعا بالعالم كله من حيث الأجناس والأنواع والعلل الكلية، والثانية تتعلق بالجزئيات التي يعرضها الكون والفساد، وقد نسبها إلى الآلهة المحيطين بالسموات؛ أي الجواهر المفارقة التي تحرك الأجرام السماوية بحركة مستديرة، والثالثة هي العناية بالأمور الإنسانية، وقد عزاها إلى الشياطين الذين كان يجعلهم الأفلاطونيون وسطاء بيننا وبين الله، على ما رواه القديس أغوسطينوس في كتابه الموسوم «بمدينة الله
Civitas Dei ».
1
ونحن نرتئي أن الشيخ الرئيس - استنادا إلى هذا التعليم - قال بأن الله أو المدبر الأول يدبر ويعتني بالعقل الأول وبكل ما يصدر عنه، والعقل الأول يدبر ويعتني بالعقل الثاني وبما يشتق منه، والعقل الثاني يعتني ويدبر العقل الثالث ولواحقه، وهكذا حتى تنتهي بهذه السلسلة المنظمة «إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا»؛
2
لأن العلل العالية أو الصدورات الأولى عن واجب الوجود «لا يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية لأجلنا»،
3
بل كل علة تعمل لأجل تاليتها، وتسوقها إلى غايتها القصوى حتى يصل هذا العمل إلى الفلك الأقصى، الذي أجسامه تؤثر في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها وتسري منها إلى هذا العالم، وأنفسه تؤثر في أنفس هذا العالم، «وبهذه المعاني نعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام كالكمال والصور حادثة عن النفس الفاشية في الفلك أو بمعونتها.»
4
فينتج من ذلك: كما أن الله في نظر فيلسوفنا يعرف الجزئيات بالعلل الكلية، هكذا يعتني بالجزئيات ويدبرها بالعلل الكلية؛ إذ ليس شيء في شيء من الجزئيات إلا وهو صادر عن علة كلية، وبعبارة أوضح: إن ابن سينا يعترف بأنه لا بد في التدبير من اعتبار أمرين؛ مبدأ التدبير الذي هو العناية، وإنفاذه؛ فالله باعتبار كونه مبدأ التدبير يدبر جميع العلل العالية مباشرة، وأما باعتبار إنفاذ التدبير فإنه ينفذ هذا التدبير في العلل العالية بنفسه مباشرة، وفي المخلوقات السفلى بواسطة العليا.
وهذا الرأي المغلوط يتساوق - كما لا يخفى - مع نظرية ابن سينا في تكوين العالم، إلا أنه من جهة أخرى يناقض كتب الوحي التي تصرح بأن عناية الله لا تنحصر في العلل العالية، ولا في السماء والأرض، ولا في الإنسان والملك؛ بل تتناول أحشاء أصغر الحيوانات وأخسها، وأدق ريش الطير وزهر العشب وورقة الشجرة، بحيث لا يغفل التوفيق بين أجزائها. وبوجيز العبارة: إن تدبير الله يعم جميع الأشياء كبيرة كانت أم صغيرة، حقيرة أم سامية.
2
بيد أن الشيخ الرئيس، إيهاما للسذج، أضاف إلى ما تقدم قولا معقدا، هاكه بالحرف:
ليس لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماويات وأجزاء النبات والحيوان مما لا يصدر ذلك اتفاقا بل يقتضي تدبيرا ما، فيجب أن تعلم أن العناية هي كون الأول عالما لذاته بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضيا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان فهذا هو معنى العناية.
5
حقا إن هذا الكلام فيه من المغالطة ما ليس بقليل، هب أن الأول يعلم من نفسه نظام الخير، وأنه هو نفسه علة هذا الخير والكمال «بحسب الإمكان»، فهل يكفي ذلك لتقدير العناية الإلهية التي تعتني بدقائق الجزئيات؟ هذا ما لا نظنه، وكما أن الطبيب الأفضل ليس من يلاحظ الكليات فقط؛ بل من يقدر أن يلاحظ دقائق الجزئيات أيضا، هكذا المعتني الأفضل ليس من يعرف نظام الموجودات وحده بل من يحيط علما بأصغر الموجودات وأدقها.
قال ابن سينا:
العناية هي إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن نظام.
ومعناه أن العناية الإلهية تشمل جميع الموجودات في هذا الكون الفسيح الأرجاء؛ ليتم اتساق الوجود.
جاء في كتب اللغة: «أحاط بالأمر علما» أي أحدق به علمه من جميع جهاته، ومتى أحدق علم الإنسان بشيء يكون قد تعقل ذاك الشيء، والحال أن ابن سينا قد ركز مبدأ أتينا على ذكره وهو أن التعقل عند الجواهر المفارقة هو بمثابة الإبداع، فيكون إذن أن الله - بحسب هذا القول - يعقل جميع الأشياء، وبما أنه قد عقلها فيجب أن يبدعها بمعزل عن توسط أي علة أخرى. وبهذا يقضي على نظريته الكونية من حيث لا يدري، ويصح فيه بنوع ما قول ابن سبعين: «إن ابن سينا مموه مسفسط، كثير الطنطنة قليل الفائدة.»
6
هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كان الباري تعالى لا يدرك الأمور الجزئية إلا من عللها البسيطة،
7
فكيف يمكنه أن يعتني بالجزئيات من حيث هي جزئيات، وإذا صنع ذلك يشبه طبيبا لم يعرف داء مريضه إلا يسيرا، ومع ذلك يجهد نفسه في تدبيره وتطبيبه!
الخلاصة
خلاصة ما تقدم أن الشيخ الرئيس بعيد عن الحقيقة في القولين بعدا شاسعا. أما في القول الأول فقد أوضحنا ذلك بإيجاز، وأما في القول الثاني فنبينه هنا تعميما للفائدة:
كما كان كل فاعل يفعل لغاية معلومة كان عموم سوق المعلولات إلى غاية على قدر عموم علية الفاعل الأول، وبما أن علية الله الذي هو الفاعل الأول تعم جميع الموجودات ، ليس من حيث المبادئ النوعية فقط؛ بل من حيث المبادئ الشخصية أيضا، لا في الأشياء غير الدائرة فقط؛ بل في الأشياء الدائرة أيضا، كان لا بد أن تكون جميع الأشياء الموجودة بحال من الأحوال مسوقة من الله إلى غاية؛ فإذن لما لم تكن عناية الله إلا سبب سوق الأشياء إلى غايتها، فلا بد أن تكون جميع الأشياء خاضعة لها من حيث هي مشتركة في الوجود، وبوجيز العبارة إذا كان الله هو علة جميع الأشياء المباشرة، وكان يعرف جميع الأشياء كليها وجزئيها مباشرة، كان عليه ولا ريب وهو الحكيم السامي أن يعتني بجميع الأشياء مباشرة. وهذا واضح حتى إن ابن سينا نفسه قد أقره في غير فلسفته، أو أنه أقره في حكمته، ولكن بطرق مبهمة شأنه في سائر نظرياته.
وأخيرا كم يلذ لنا أن نختم هذه العجالة بكلمة رائعة فاه بها مؤسس مجلة المقتطف المأسوف عليه الدكتور يعقوب صروف اللبناني، قال - أجزل الله ثوابه:
من الناس من يقول: «إن الله معتن بالأمور الكبيرة، ولكنه لا يلتفت إلى الصغيرة.» فلو صح زعمهم وترك صغار الأشياء لترك الجراثيم نفسها؛ لأنها من أصغر ما يوجد، ولو تركها سنة واحدة لخرب نظام العالم، وصار الإنسان يزرع أرضه قمحا؛ فتنبت له عقارب، وينصب كرمه عنبا فيخرج له حيات، ويتزوج بامرأة فتلد له جنادب، ويركب على فرس؛ فيستحيل تحته ضفدعا ... لو بطلت العناية لحظة من الزمان تعذر علينا أن نعرف مصير هذه الجراثيم. فتأمل وتدبر.
الفصل الثاني عشر
دخول الشر للعالم1
لا بد للمتبصر من أن يسلم بوجود الخير والشر في العالم، ألا نرى مثلا أن الأمطار في شهر أيار هي حياة للمزروعات وخيرات للبشرية؟ ولكن إذا هطلت على سائح في صحراء مقفرة مجدبة فهل يعتبرها هذا الإنسان خيرا سكبته عليه العناية الإلهية؟
هذا ما لا نظنه؛ لأنه إن لم يكن معتادا شظف العيش وتقلبات الطقس يكابد آلاما مبرحة، وربما لقي حتفه؛ إذن ما هو الخير، وما هو الشر في نظر ابن سينا؟
إن الكمال المحض والخير المحض هو واجب الوجود؛ لأنه يملك تمام الوجود، وحق بكل معاني الحق، والشر بنفسه هو العدم؛ أي إن الخير هو ذاك الشيء التام الوجود الذي يشتاقه كل إنسان، والشر لا ذات له؛ بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر،
2
فيكون مثل الشر المانع للخير في العالم، مثل سحابة ظللت فحجبت شروق الشمس، قال ابن سينا:
الوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود، والوجود الذي لا يقارنه عدم، لا عدم جوهر، ولا عدم شيء للجوهر؛ بل هو دائم بالفعل، فهو خير محض. والممكن الوجود بذاته ليس خيرا محضا؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود، فذاته بذاته تحتمل العدم، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص؛ فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود.
3
يظهر من هذا الكلام وغيره أن المعلم الثالث يقسم الشر والخير في الوجود إلى قسمين متقابلين: خير مطلق وشر مطلق، خير نسبي وشر نسبي؛ فالخير المطلق هو واجب الوجود؛ لأن لا إمكان فيه، وكل شيء فيه هو بالفعل، والشر المطلق هو عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته؛ ولهذا قال أرسطو الإسلام في إلهيات الشفاء: «الخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض.»
4
أي عندما يتسلط العدم على وجود ما يكسبه شرا.
أما الخير النسبي والشر النسبي فيمكننا إيضاحهما بما يلي: يتفق في بعض الأحايين أن يكون ما هو شر لواحد خيرا لآخر. إن النار إذا اعتبرناها مجردة عن ظروف المكان والزمان هي قابلة أن تكون خيرا وشرا، فإذا كانت - مثلا - تحت طنجرة الفلاح تنضج له طبخه فهي خير، ولكنها إذا أحرقت ثوب فقير يتسول؛ فعندئذ تصير شرا. إن العمى في أعين جميع الحيوانات شر لأنه نقص، والنقص قريب من العدم، ولكنه للمبصر خير؛ لأننا لولا العمى لما كنا نستلذ البصر، وقد قيل: «والضد يعرف فضله بالضد.»
وكما أنه لا وجود للخير المطلق في هذا الكون؛ لأنه لا شيء فيه واجب الوجود، كذلك لا شر مطلق في نفس الكون؛ لأنه لا خير عن عدم مطلق، فليس هو بشيء حاصل، ولو كان له حصول لكان الشر عاما، بيد أن الشر إما يعرض للمادة قبل إتمامها أو يطرأ عليها ، فإذا عرض لمادة ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة فتمكن منها هيئة من الهيئات، فتلك الهيئة تمانع استعدادها الخاص للكمال الذي منيت بشر يوازيه؛ مثل المادة التي يتكون منها إنسان أو فرس، إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردى مزاجا وأعصى جوهرا، فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة، وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين؛ إما مانع للكمال، وإما ماحق للكمال، مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال.
ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص وما يتبعه، وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر، وجملة ما تحت فلك القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود.
5
ولكن ما هي حكمة الله من دخول الشر العالم؟ وكيف استطاع وهو الخير المحض أن يوجد الشر؟
إن الله لم يوجد الشر؛ لأن الشر لا يملك وجودا بل نقصا وعدما، والله لا يمكنه ولا بوجه من الوجوه أن يخلق النقص والعدم؛ لأن لا وجود لهما، على أنه تعالى أوجد الخير وبالخير قام الشر بنوعه النسبي، وبعبارة أصرح: إن الله أوجد مباشرة العقل الأول وعن العقل الأول صدرت سائر العقول المفارقة بترتيبها المعروف، ثم العقل المفارق الأخير أصدر البسائط، وعنها انبثقت المركبات التي فيها وحدها، وهي «تحت فلك القمر»، ينحصر الشر، عدا أن هذا العالم الذي نحن فيه يقتضيه وجود الخير مع الشر؛ لأنه عالم الكون والفساد، لا بل عالم القوة والفعل، وحيث توجد القوة لا بد من وجود الشر، إلا أن هذا الشر أقل ذيوعا من الخير؛ لأن الخير المطلق موجود وهو الله تعالى، والخير النسبي موجود وهو أكثر من الشر النسبي، إلا أن الشر المطلق لا يملك من الوجود شيئا.
قلنا: إن الخير الجزئي أكثر من الشر الجزئي؛ لأنه لو كان الشر في شيء من الأشياء أكثر من الخير لامتنع وجود ذلك الشيء؛ أي لو كان مثلا ضرر النار أكثر من نفعها لما وجدت النار، من هذا يبدو جليا أن الخير من طبيعة الوجود، والشر من طبيعة العدم.
6
وهنا يتوارد على الخاطر سؤال: أما كان باستطاعة الباري أن يوجد الخير بمعزل عن الشر؟
أجاب الشيخ الرئيس عن هذه المسألة بقوله: «إن الله سمح بوجود الشر؛ لأننا لولا الشر لما عرفنا الخير، كما أننا لولا الظلمة لما كنا نعرف النور ونلتذ به، ولولا المرض لما كنا نغتبط بالصحة، وكأن هذا الجواب لم ينف كل ريب من رأس أمير فلاسفة المشرق فزاد أن البشر لا يمكنهم أن يدركوا حكمة الخالق في خلقه: «لو كان أمر الله تعالى كأمرك، وصوابه كصوابك وجميله كجميلك وقبيحه كقبيحك (كذا) لما خلق أبا الأشبال أعصل الأنياب، أحجن البرائن لا يغذوه العشب.» فالله إذن لا يفتش في أحكامه عما نفتش عنه نحن في أحكامنا الضعيفة وأحلامنا القاصرة؛ بل ينظر إلى الوجود نظرة سامية لا نستطيع إلى إدراكها سبيلا.»
لكن إذا كان البشر يعرفون الشر فكيف يصنعونه؟ ... ليس بين الناس من يقترف الشر بما أنه شر، ولكنه يقترف الشر ظنا منه أنه سينال خيرا ولذة وبهجة وقت يقدم على عمله، والله تعالى لا يعارض أحدا عند ارتكابه الشر، جاء في الحديث: «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي، وكل يسر لما خلق له.» ونظرية ابن سينا في الخير والشر مرتبطة تمام الارتباط بكلامه عن تكوين العالم والعناية الإلهية. وهذا التماسك لا يخفى على ذي بصيرة، وقلما نجد له مثيلا بين فلاسفة العرب؛ لأنه في أغلب الأوقات لا ارتباط بين آرائهم الفلسفية، وما ذلك إلا لأن فلاسفة العرب كأدبائهم لم يبنوا، والعبقرية البناءة عند الشعوب هي التي تولد النظريات الفلسفية المتشابكة الأضلاع المتناسبة التقاطيع.
لذا لا نغالي إذا قلنا إن نظرية ابن سينا في الخير والشر رغم ما يعتورها من الهنات، هي من أبدع نظرياته وأجملها وأشدها التصاقا بالحقيقة بعد نظرية الإمكان والوجوب التي أخذها عن أستاذه الفارابي.
وتناول هذه النظرية القديس توما الأكويني وسائر الأئمة المدرسين عن الشيخ الرئيس وزادوها صقلا ونحتا، إلا أن الجوهر لا يزال واحدا: «الخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض.»
الفصل الثالث عشر
السعادة والشقاوة
تشعبت نظريات الفلاسفة في أمر سعادة الإنسان وشقوته، فمنهم من جعل السعادة في مخالطة البشر والتمتع بسائر لذائذ الحياة، والشقاوة في الابتعاد عن المجتمع والانصراف عن أطايب الدنيا، ومنهم من قال مع هوبس
Hobbes : «إن الإنسان ذئب على الإنسان.»
Homo homini lupus
والسعادة تقوم في الانسلاخ عن المادة وسائر تكاليفها المرهقة.
أما الرئيس فإنه ينظر إلى الحياة نظرة المتفائل؛ لكونه يؤمن بأن الخير شامل في الوجود، والشر جزئي كما سبق، وأن الإنسان أفضل معوان في جلب السعادة لأخيه الإنسان، قال:
إن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضرورات حاجاته، وأنه لا بد أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضا مكفيا به وبنظيره، فيكون مثلا هذا ينقل إلى ذاك، وذاك يخبز لهذا، وهذا يخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا؛ ولهذا اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات. (نجاة، ص498)
وهذا القول مأخوذ عن الفارابي يذكرنا بكلام ابن خلدون في ضرورة الاجتماع الإنساني.
والإنسان بعد أن يؤمن ضروريات حياته يصبو إلى السعادة القائمة في اللذة، إلا أن البشر يتفاضلون في الاستمتاع بلذائذ الحياة كما يتفاوتون بعقولهم ورتبهم ومنازلهم.
واللذة في مذهب الرئيس لا تختلف عما هي في مذهب أرسطو، فتقوم في الفعل، وهي على أربعة أنواع: عقلية وحسية، خسيسة وسامية؛ فالفرق بين اللذة العقلية والحسية كائن في أن اللذة التي تجب لنا بأن نتعقل ملائما هي فوق التي تكون لنا بأن نحسن ملائما ولا نسبة بينهما، قال ابن سينا:
قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بما يجب أن تستلذ به لعوارض، كما أن المريض لا يستلذ الحلو ويكرهه لعارض، فكذلك يجب أن نعلم من حالنا ما دمنا في البدن فإننا لا نجد إذا حصل لقوتنا العقلية كمالها بالعقل من اللذة ما يجب للشيء في نفسه؛ وذلك لعائق البدن، فلو انفردنا عن البدن لكنا بمطالعتنا ذاتنا وقد صارت عالما عقليا مطالعا للموجودات الحقيقية والجمالات الحقيقية والملذات الحقيقية متصلة بها اتصال معقول بمعقول نجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له ... إن لذة كل قوة حصول كمالها، فللحس المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام وللرجاء الظفر، ولكل شيء ما يخصه، وللنفس الناطقة مصيرها عالما عقليا بالفعل.
1
أما اللذة الخسيسة فهي أفعال البدن الواطئة السافلة ودوما يحن إلى ممارستها، واللذة السامية هي التي تلائم النفس وتسوق إلى إدراك الكمال؛ لأن كل من يحصل على كمال ما يجد في الحصول عليه لذة، إلا أن الكمال يختلف باختلاف مراتب القوى النفسانية؛ فالكمال الأتم والأفضل والأكثر والأدوم ينشئ في النفس لذة أبلغ وأوفى وهو الأصل.
قد يكون الكمال في الخروج من القوة إلى الفعل، ولكن إذا لم يشعر الفاعل باللذاذة، ولم يتصور كيفيتها، ولم يشتق إليها، بطل الفعل واضمحلت اللذة، فتكون اللذة إذن قائمة في الشعور بالكمال. إن الأكمه يعرف أن تأمل الصور الجميلة لذيذ، والأصم يعلم أن تغريد الأطيار والألحان المنتظمة لذيذة، والجاهل يفقه أن العلم يولد لذة في نفس العالم، إلا أن هؤلاء أجمعين هم بعيدون عن هذه اللذة؛ لأنهم لا يقدرون أن يستشعروا بكمالها.
وكما أنه يوجد لذتان: عقلية وحسية، هكذا يوجد سعادتان: وقتية ودائمة؛ فالسعادة الوقتية تقوم في اللذة الخسيسة، والسعادة الدائمة تقوم في اللذة السامية.
في السعادة الخسيسة يشارك الإنسان الحمير والبهائم؛ لأن لهؤلاء أيضا «حالة طيبة ولذيذة»، وفي السعادة السامية يشارك الجواهر المفارقة، ويرتفع فوق وجوده.
أجل إن الجسد يعيقنا عن بلوغ الكمال، والمادة تضع في وجهنا العراقيل؛ لئلا ننتهي إلى السعادة الدائمة، ولكنا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتها من أعناقنا وطالعنا شيئا من تلك اللذة السامية؛ فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالا طفيفا خفيفا (نجاة ، 482). فتكون اللذات الروحية في رأي الشيخ الرئيس أفضل من اللذات الجسدية؛ ولهذا قال: «أنت تعلم أنك إذا تأملت عويصا يهمك، وعرضت عليك شهوة، وخيرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس، والأنفس العامية أيضا كذا؛ فإنها تترك الشهوات المعترضة، وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق لغلبة، وهذه كلها أحوال عقلية، فبعضها يؤثر في المؤثرات الطبيعية، ويصبر لها على المكروهات الطبيعية، فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ إلا أن الأنفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر، ولا تحس بما يلحق الأمور النبيهة» (نفس المصدر والصفحة).
فيظهر من ذلك أن ابن سينا يقر بأن النفس البشرية يمكنها أن تحصل على السعادة السامية في هذه الحياة الدنيا، وذلك بالتحلي بالفضائل، والسعي وراء الكمالات، والانشغاف بالحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحقيقي.
إن السعيد الذي لا يفتقر في سعادته إلى أحد هو واجب الوجود، والذي يتلوه في رابعات السعادة العقول المفارقة، التي كلما اقتربت منه تعالى، وبالغت في تأمله ازدادت لذة وكمالا؛ كالأجسام الطبيعية التي كلما دنت من النار تزداد حرارة.
بعد العقول المفارقة يأتي عشاق الخير المطلق، وهم الذين قد وصلوا إلى أعلى درجة يمكن أن يبلغها الإنسان من الكمال، ولا يجب أن يعترض أن شوقهم إلى الاتحاد بالخير الأعظم يولد في نفوسهم العذابات؛ لأن هذه العذابات تحرك النفوس، وبسبب ذلك تكون لذيذة، ويلقب ابن سينا هؤلاء البشر السعداء بالعارفين، ولقد وصف العارف في كتابه الإشارات والتنبيهات وصفا شيقا لا نرى بدا من نقله هنا، قال:
العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه، وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء يرى فيه الحق، ولا فرق عنده بين الكبير والصغير، ولا يعرف الطمع سبيلا إلى قلبه. وهذا الخلق هو خلق الرضا والقناعة فلا يخاف العارف من هجوم شيء، ولا يحزن على فوات شيء ؛ بل يفرح ويبتهج بما أدركه كما يبتهج العاشق بالوصول إلى حبيبه.
العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة، وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح، لا بعنف معير؛ وذلك لشفقته وحبه.
العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن خوف الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفاح للذنوب وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر، ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق.
ثم يعقب العارفين أصحاب النفوس المترددة، وهؤلاء ليسوا في قمة الكمال؛ لأنهم لم يتجردوا من ذواتهم بعد، وليسوا على الحضيض؛ لأنهم يملكون قسطا من الكمال.
أخيرا يتلو هذه المرتبة مرتبة النفوس الخسيسة، وقد لقبها الرئيس «بمرتبة النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المخسوسة التي لا مناص لرقابها المنكوسة، وهؤلاء هم بدون ما ريب في عمق أعماق الشقاء.»
بعد ذلك يضع ابن سينا وصفا دقيقا يميز به بين الزاهد والعابد والعارف كنا نود أن نأتي على ذكره لولا خوف التطويل، من هذا العرض الوجيز نعلم، أن النفس في نظر ابن سينا يمكنها أن تتمتع في السعادة السامية وهي مكبلة بأغلال البدن، وذلك متى تم لها اقتباس سائر العلوم النظرية والعملية والاتشاح بثوب العفة والشجاعة، والابتعاد عن جميع شهوات الجسد الدنيئة؛ لأن هاته الرغبات لا تولد في النفس اللذة الوقتية حتى تروقها بمرائر وأوجاع تفوقها شدة وفداحة؛ فتكون إذن شقاوة هذه الحياة قائمة في عدم المقدرة على التلذذ.
أما في الحياة الباقية فإن للنفس ثلاث حالات: سعادة أبدية، شقاوة مؤقتة، وشقاوة أبدية، فعلى السعادة الأبدية في جنة الخلد لا ينص ابن سينا إلا بالتقريب، ويظن أنها تقوم بأن يتصور الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا، ويصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل النائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويقرر عنده النظام الأخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه، إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه من الأمور الدنيوية.
ولكن من هو الذي يحصل على هاته السعادة؟
إن أول من ينال هذه السعادة هم الذين صار فيهم الكمال ملكة لا يرون عنها محيدا، أما نفوس الجهال التي لم تكتسب الشوق إلى العالم الثاني فإنها إذا فارقت البدن، وكانت غير مقيدة بالعادات البدنية الردية صارت إلى سعة من رحمة الله، ونالت السعادة الأبدية.
أجل إن سعادة العالم لهي أسمى من سعادة الجاهل، ولكن الجاهل الصالح خير من العالم الشرير، وبعبارة وجيزة: إن كل من يثابر على اقتباس الخلال الحميدة، ويبتعد عن الشر يحرز السعادة الخالدة.
أما أهل الشقاوة المؤقتة فهم أولئك الذين سقطوا في هذه الحياة مرات عديدة، إلا أن ذلك لم يمنعهم كليا عن تأمل الخير المطلق، فهؤلاء متى فارقت نفوسهم أبدانهم أحسوا بمضادة عظيمة، وتأذوا بسبب تراكم أعمالهم الدنيوية، لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر لازم؛ بل لأمر عارض غريب، والعارض الغريب لا يدوم؛ بل يزول مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرارها، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة؛ بل تمحى قليلا قليلا حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها (نجاة، 488). وهذا القول يقرب مما يؤمن به النصارى من أن المؤمنين الذين يموتون وهم في حال الخطيئة العرضية، أو عليهم بعض قصاصات زمنية لا يدخلون الملكوت السماوي؛ بل يذهبون إلى مكان آخر يتطهرون به من أدرانهم بواسطة عذابات زمنية، ثم يعودون إلى سعادتهم.
أما أبناء الشقاوة الأبدية فهم فعلة الإثم؛ أي الذين كثر شرهم وعظم أذاهم في الدنيا والآخرة، ويشارك هؤلاء في الشقاوة الأبدية العلماء الذين يعرفون الكمال ويحنون إليه دون أن يتصفوا به.
وصفوة القول: إن النفوس الشقية يقوم شقاؤها بالالتفات إلى أحوال الدنيا، وتذكر مقتضيات البدن؛ لأنها تقاسي من جراء ذلك عذابات فادحة. أما الأنفس المقدمة فإنها تبتعد عن أعمال الجسد وتتصل بكمالها بالذات، وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرأ عن النظر إلى ما خلفها وإلى المملكة التي كانت لها كل التبري.
فيتضح مما تقدم أن السعادة الحقيقية في مذهب الشيخ الرئيس، سواء كانت في هذه الدنيا أو في الآخرة ، هي قائمة بشيء نفساني لذيذ، وكذا الشقاوة فهي أيضا عذاب روحاني.
نحن لا ننكر أن الشيخ قد أخذ الشيء الكثير في نظريته هذه عن أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأستاذه الفارابي، ولكن قد أضاف إلى ذلك تعديلات قيمة منها: أن الفارابي كان يعتقد في مدينته الفاضلة أن أرواح أهل المدن الجاهلة التي انغمست في الشهوات والمادة تصير بعد انحلال الجسم إلى العدم كأنفس الحيوانات العجماء. أما ابن سينا فلم يقل بذلك؛ لأنه وجده يناقض المنطق؛ بل اكتفى بأن يحشر تلك النفوس في الشقاوة الأبدية.
إن الفارابي لم يتكلم عن سعادة وشقاوة الأنفس التي ليست ببارة وليست بشقية. أما الشيخ فقد وضعها في مكان تتطهر فيه قبل دخولها الجنة التي لا تعرف الدنس.
من هذا نعرف مقدرة المعلم الثالث على مزج النظريات العديدة وتعديلها حسب القواعد المنطقية التي يقرها العقل. •••
ولكي نطلع القارئ على أسلوب ابن سينا في وصفه السعادة الحقيقية، وكم يجب أن يعاني الإنسان في سبيل الحصول عليها نورد هنا قصة رمزية لطيفة دعاها فيلسوفنا رسالة الطير؛ ونظرا لأهمية هذه القصة وجمالها فقد نشرت مرات عديدة في العربية، وترجمها المستشرق الشهير الدكتور مهرن
Mehren
إلى الفرنسية، قال ابن سينا:
مقدمة
هل لأحد من إخواني في أن يهب لي من سمعه قدر ما ألقي عليه طرفا من أشجاني عساه أن يتحمل عني بالشركة بعض أعبائها؛ فإن الصديق لن يهذب عن الشوب أخاه ما لم يصن في ضرائك عن الكدر صفاءه، وإني لك بالصديق المماحض، وقد جعلت الخلة تجارة يفزع إليها إذا استدعت القلوب إلى الخليل داعية وطر، وترفض مراعاتها إذا حدث الاستغناء، فلن يزار رفيق إلا إذا زارت عارضة، ولن يذكر خليل إلا إذا ذكرت مأربة، اللهم إلا إخوان جمعتهم القرابة الإلهية، وألفت بينهم المجاورة العلوية فلاحظوا الحقائق بعين البصيرة، وجلوا درن الشك عن السريرة فلن يجمعهم إلا منادي الله.
ويلكم إخوان الحقيقة، باثوا وتضاموا، وليكشفن كل واحد منكم لأخيه الحجب عن خالصة لبه؛ ليطالع بعضكم بعضا، ويستكمل بعضكم ببعض، ويلكم إخوان الحقيقة ، تقبعوا كما يتقبع القنافذ، فأعلنوا بواطنكم وأبطنوا ظواهركم، فبالله إن الجلي لباطنكم، وإن الخفي لظاهركم.
ويلكم إخوان الحقيقة، انسلخوا عن جلودكم كما انسلاخ الحية ودبوا دبيب الديدان، وكونوا عقارب أسلحتها في أذنابها؛ فإن الشيطان لن يراوغ الإنسان إلا من ورائه، وتجرعوا الزعاف تعيشوا، واستحبوا الممات تحيطوا، وطيروا ولا تتخذوا وكرا تنقلبون إليه؛ فإن مصيدة الطيور أوكارها، وإن صدكم عوز الجناح فتلصصوا تظفروا، فخير الطلائع ما قوي على الطيران، كونوا نعاما تبتلع الجنادل المحماة، وأفاعي تسترط العظام الصلبة، وسمادل تغشى الضرام على ثقة، وخفافيش لا تبرز نهارا فخير الطيور خفافيشها.
ويلكم إخوان الحقيقة، أغبى الناس من يجترئ على غده، وأفشلهم من قصر عن أمده، ويلكم إخوان الحقيقة، لا غرو إن اجتنب ملاك سوءا أو ارتكبت بهيمة قبيحا؛ بل العجب من البشر إذا استعصى على الشهوات، وقد صيغ على استئثارها صورته، أو بذل لها الطاعة وقد نور بالعقل جبلته، ولعمر الله بذ الملاك بشر عند زيال الشهوة فلم تزل قدمه عن موطئه فيه، وقصر عن البهيمة إنسي لم تف قواه بدرء شهوة تستدعيه، وأرجع إلى رأس الحديث فأقول:
قصة الطير
برزت طائفة تقتنص؛ فنصبوا الحبائل ورتبوا الشرك وهيئوا الطعم وتواروا في الحشيش، وأنا في سربة طير إذ لحظونا؛ فصفروا مستعدين لنا، فأحسسنا بخصب وأصحاب، ما تخالج في صدورنا ريبة، ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة، فابتدرنا إليهم مقبلين، وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلق تنضم على أعناقنا، والشرك تتشبث بأجنحتنا، والحبائل تتعلق بأرجلنا؛ ففزعنا إلى الحركة فما زادتنا إلا تعسيرا؛ فاستسلمنا للهلاك وشغل كل واحد منا ما خصه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبين الحيل في سبيل التخلص زمانا حتى أنسينا صورة أمرنا، واستأنسنا بالشرك واطمأننا إلى الأقفاص.
فاطلعت ذات يوم من خلال الشرك؛ فلحظت رفقة من الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها عن الشرك ، وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل لا هي تئودها فتعصيها النجاة، ولا تبينها فتصفو لها الحياة، فذكرتني ما كنت أنسيته ونغصت علي ما ألفته فكدت أنحل تأسفا أو ينسل روحي تلهفا؛ فناديتهم من وراء القفص أن ادنوا مني توقفوني على حيلة الراحة؛ فقد أعيتني أموري العويصة، فتذاكروا خدع المقتنصين، فما زادوا إلا نفارا؛ فناشدتهم بالخلة القديمة والصحبة المصونة والعهد المحفوظ ما حل بقلوبهم الثقة، ونفى عن صدورهم الريبة؛ فوافوني حاضرين فسألتهم عن حالهم فذكروا أنهم ابتلوا بما ابتليت به؛ فاستيأسوا واستأنسوا بالبلوى، ثم عالجوني فنحيت الحبال عن رقبتي، والشرك عن أجنحتي، وفتح باب القفص وقيل لي: استغنم النجاة، فطالبتهم بتخليص رجلي عن الحلقة؛ فقالوا: لو قدرنا عليه لابتدرنا أولا وخلصنا أرجلنا، وأنى يشفيك العليل؟ فنهضت عن القفص أطير، فقيل لي: إن أمامك بقاعا لم تأمن المحذور إلا أن تأتي عليها قطعا، فاقتف آثارنا ننجو بك ونهدك إلى سواء السبيل.
فساوى بنا الطيران بين صدفي جبل الإله في واد معشب خصيب؛ بل مجدب حريب حتى تخلف عنا جنابه وجزنا جيرته ووافينا هامة الجبل، فإذا أمامنا ثماني شواهق تنبو عن قللها اللواحظ، وقال بعضنا لبعض: سارعوا فإنا لا نأمن إلا بعد أن نجوزها ناجين، فتعانقنا الشد حتى أتينا على ست من شوامخها وانتهينا إلى السابع، فلما تغلغلنا تخومه قال بعضنا لبعض: هل لكم في الجمام فقد أوهننا النصب وبيننا وبين الأعداء مسافة قاصية، فرأينا أن نخص للجمام من أبداننا نصيبا فإن الشرود على الراحة أهدى إلى النجاة من الانبتات.
فوقفنا على قلته، فإذا جنان مخضرة الأرجاء، عامرة الأقطار، مثمرة الأشجار، جارية الأنهار، كثيرة الأزهار، يروي بصرك نعيمها بصور تكاد لبهائها تدهش العقول وتستبهت الألباب، وتسمعك أغان شجية وألحانا مطربة، وتشمك روائح لا يدانيها المسك السري ولا العنبر الطري، فأصبنا من ثمارها وشربنا من أنهارها وشممنا من أزهارها ومكثنا بها ريثما اطرحنا الإعياء، فقال بعضنا لبعض: سارعوا فلا مخدعة كالأمن ولا منجاة كالاحتياط ولا حصن أمنع من إساءة الظنون، وقد امتد بنا المقام بهذه البقعة على شفاء غفلة، ووراءنا أعداؤنا يقتفون أقدامنا ويتفقدون مقامنا، فهلموا نبرح ونهجر هذه البقعة وإن طاب الثواء بها فلا طيب كالسلامة.
فأجمعنا على الرحلة وانفصلنا عن الناحية وحللنا بالثامن منها، فإذا شامخ خاض رأسه في عنان السماء تسكن جوانبه طيور لم ألق أعذب ألحانا وأحسن ألوانا وأظرف صورا وأطيب عشرة منها، ولما حللنا في جوارها عرفنا من إحسانها وتلطفها وإيناسها أيادي لم نقض بقضاء أهونها.
ولما تقرر بيننا وبينها الانبساط أوقفناها على ما ألم بنا؛ فأظهرت المساهمة في الاهتمام، وذكرت أن وراء هذا الجبل مدينة يتبوءها الملك الأعظم، وأي مظلوم استعداه وتوكل عليه كشف عنه الضراء بقوته ومعونته، فاطمأننا إلى إشارتها وتيممنا مدينة الملك حتى حللنا بفنائها منتظرين لإذنه ورضائه، فخرج الأمر بإذن الواردين وأدخلنا قصره، فإذا نحن بصحن لا نضمن وصف رحبه، فلما عبرناه رفع لنا الحجاب عن صحن فسيح مشرق استضقنا لديه الأول؛ بل استصغرناه حتى وصلنا إلى حجرة الملك.
فلما رفع لنا الحجاب، ولحظ الملك في جماله مقلنا علقت به أفئدتنا ودهشنا دهشا عاقنا عن الشكوى، فوقف على ما غشينا فرد علينا الثبات بلطفه حتى اجترأنا على مكالمته وعبرنا بين يديه عن قصتنا، فقال: لا يقدر على حل الحبائل عن أرجلكم إلا عاقدوها، وإني منفذ إليهم رسولا يسومهم إرضاءكم وإماطة السوء عنكم فانصرفوا مغبوطين.
وهو ذا نحن الآن في الطريق مع الرسول وإخواني متشبثون بي يطلبون مني حكاية بهاء الملك بين أيديهم، وسأصفه وصفا موجزا فأقول: إنه الملك الذي مهما حصلت في خاطرك جمالا لا يمازجه قبح وكمالا لا يشوبه نقص صادفه مستوفى لديه، وكل كمال بالحقيقة فهو حاصل له، وكل نقص ولو بالمجاز منفي عنه كله، لحسنه وجه ولجوده يد، من خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومن صرمهه فقد خسر الآخرة والدنيا.
وكم من أخ قرع سمعه قصتي فقال: أراك مس عقلك مس أو لم بك لمم، وما والله ما طرت بل طار عقلك، وما اقتنصت بل اقتنص لبك، أنى يطير البشر أو ينطق الطير؟ كأن المرار قد غلب في مزاجك واليبوسة قد استولت على دماغك، وسبيلك أن تشرب طبخ الأفثيمون وتتعهد للاستحمام بالماء العذب الفاتر، وتستنشق بدهن النيلوفر، وتترفه في الأغذية وتهجر السهر وتقل الفكر؛ فإنا عهدناك فيما خلا لبيبا، والله مطلع على ضمائرنا؛ فإنها من جهتك مهتمة، ولاختلال حالك مغتمة، ما أكثر ما يقولون وأقل ما ينجع، وشر المقال ما ضاع، وبالله الاستعانة، وعن الناس البراءة، ومن اعتقد عني هذا فقد خسر، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
2
الفصل الرابع عشر
سياسة ابن سينا
يعتقد فلاسفة العرب أن كلمة سياسة يراد بها: «تلافي الخلل وإصلاح الفاسد»، ولما كان الفساد والخلل يطرآن على الإنسان وأعماله، وضع بعضهم مقالات ورسائل في هذا الموضوع يختلف تقسيم بعضها عن بعض، ولكن مرجعها في الغالب الأعم واحد. (1) بين سياستين
ليس ابن سينا أول من وضع رسالة في السياسة بين فلاسفة العرب، بل سبقه إلى ذلك أستاذه الفارابي، فضلا عما أتى به في صدد هذا الكلام في كتابه المدينة الفاضلة.
في المقدمة يتكلم الفارابي عن الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في استجلاب علم السياسة، وأبلغ طريقة عنده في اكتساب العلوم عموما والسياسة خصوصا تأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم، وإمعان النظر فيها، والتمييز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها، ثم يستفيض في النقاط التالية: (1) سياسة المرء مع رؤسائه. (2) سياسته مع أكفائه. (3) سياسته مع من دونه. ويختم كلامه بذكر سياسة المرء لنفسه إلى أن يقول: «هذه أصول وقوانين متى ما استعملها المرء في معاشه، وقاس عليها في متصرفات أموره وأسبابه، استقامت به أحواله وطابت له أيامه وسلم من كثير الآفات، ونال الحظ الجزيل من العادات.»
أما ابن سينا فيقسم رسالته إلى مقدمة وخمسة أقسام، في المقدمة تكلم عن التفاوت بين الناس في الصفات والرتب. أما عناوين باقي الأقسام فهي هكذا: سياسة الرجل نفسه، سياسة الرجل دخله وخرجه، سياسة الرجل أهله، سياسة الرجل ولده، سياسته خدمه، ولقد أورد ابن سينا في مقدمته كلاما أوضح فيه الأسباب التي دعته إلى هذا التقسيم، وأبلغ هذا القول ما يأتي:
كما أن المسيم يلزمه أن يرتاد مصالح سائمته من الكلأ والماء نهارا، ومن الحظائر والزراب ليلا، وأن يذكي عيونه في كلائها، ويبث كلابه في أقطارها؛ ليحرسها من السباع العادية، ومن الآفات الطارقة من السرق والغارة والنهب، وأن يختار لها المشتى الدفيء والمصيف السريح، ويرود لها في طلب الكلأ والنطف العذاب، وأن يتحين وقت عملها، وأن يترقب حين نتاجها، ويلزمه بعد ذلك أن يسوقها إلى مصالحها ويصرفها عن متالفها بنعيقه وصفيره وبزجره ووعيده؛ فإن كفاه ذلك في حسن انقيادها واستقامة ضلعها، وإلا أقدم عليها بعصاه، كذلك يلزم ذا الأهل والولد والخدم والتبع مع ما ويحق عليه من حفظهم وحياطتهم ومن تحمل مؤنهم وإدرار أرزاقهم، إحسان سياستهم وتقديمهم بالترغيب والترهيب، وبالوعد والوعيد، وبالتقريب والتبعيد، وبالإعطاء والحرمان حتى تستقيم له قناتهم. (2) سياسة الرجل نفسه
لا يستطيع الإنسان أن يصلح غيره ما لم يصلح نفسه أولا؛ لأنها أقرب الأشياء إليه وأكرمها عليه وأولاها بعنايته؛ ولأنه متى أحسن سياسة نفسه هان عليه إصلاح الأغيار، وبدء بدء يتحتم على من يريد إصلاح نفسه أن يعرف أن له عقلا هو السائس، وأفعالا هي المسوسة، فكل فعل لا يقوده العقل يكون في الغالب مغلوطا، إلا أن العقل بسبب كثرة معايب النفس لا يتمكن من إصلاح فاسدها ما لم يعرف مساوئها معرفة محيطة؛ فإن أغفل بعض تلك المساوئ وهو يرى أنه قد عمها بالإصلاح، كان كمن يدمل ظاهر الكلم، وباطنه مشتمل على الداء، ولما كان الإنسان مفطورا على حب نفسه على غيره، وكثير المسامحة لها عند محاسبتها كان غير مستغن في البحث عن أحواله، والفحص عن مساوئه ومحاسنه، عن معونة الأخ اللبيب الواد الذي يكون منه بمنزلة المرآة؛ فيريه حسن أحواله حسنا وسيئها سيئا.
وأحوج الناس إلى الإصلاح هم الرؤساء؛ لأنهم يتركون الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات، ولا يدعون الناس يخبرونهم بحقيقة حالهم، فيظنون أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم، ومما زاد في فساد حال الملوك والرؤساء ما أتيح لهم من قرناء السوء وجلساء الشر الذين لو لم يدلسوا ويدسوا عليهم لكان الرؤساء في أحسن حال، وليس كذلك حال من دونهم من الرعاع والسوقة؛ فإن أحدهم لو رام أن يخفي عنه عيوبه يبدهه محبة بها، ويتدارك عليه بأقبحها ما استطاع ذلك.
وينبغي لمن يريد تعرف مناقب نفسه مثالبها أن يفحص عن أخلاق الناس، ويتفقد شيمهم وخلائقهم، ويتبصر مناقبهم ومثالبهم، فيقيسها بما عنده منها، ويعلم أنه مثلهم وأنهم أمثاله؛ فإن الناس أشباه؛ بل هم سواء كأسنان المشط، فإذا رأى فيهم الخير فليجتهد على إحرازه إن لم يكن فيه، وإن رأى المثلبة والعادة السيئة فليعلم أن ميلها راهن لديه إما باد وإما كامن؛ فإن كان باديا فليقمعه وليقهره وليمته بقلة استعماله وشدة نسيانه، وإن كان كامنا فليحرسه لئلا يظهر.
ويلزم الإنسان أن يعد لنفسه ثوابا وعقابا يسوسها بهما، فإذا اكتسبت الفضائل سريعا وتركت الرذائل وتحلت بالمنقبة المطلوبة فليثبها، وإذا امتنع انقيادها وجمحت وتمردت عليه وآثرت الرذائل على الفضائل، وأتت بخلق لئيم أو فعل ذميم؛ فليعاقبها بمنعها عن اللذة وبإكثار ذمها. (3) سياسة الرجل دخله وخرجه
الناس بحاجة إلى الأقوات، فعلى كل إنسان سوي أن يسعى في اقتناء قوته من الوجه المشروع، وهم في باب المعيشة صنفان؛ صنف لا يفتقر إلى السعي في طلب الرزق بسبب وراثة، وصنف محوج إلى الكسب، والكسب الشريف في نظر ابن سينا على نوعين؛ إما تجاري وإما صناعي، إلا أن الصناعي أوثق وأبقى؛ لأن التجارة تكون بالمال والمال وشيك الفناء، عتيد الآفات، كثير الحوائج. وهذا القول يذكرنا بكلام جان جاك روسو عن الصناعة في إميله، وصناعات ذوي المروءة بحسب اعتقاد ابن سينا ثلاثة أنواع: «نوع من حيز العقل وهو صحة الرأي، وصواب المشورة وحسن التدبير، وهو صناعة الوزراء والمدبرين وأرباب السياسة والملوك، ونوع من حيز الأدب وهو الكتابة والبلاغة وعلم النجوم وعلم الطب، وهو صناعة الأدباء، ونوع من حيز الأيد والشجاعة وهو صناعة الفرسان والأساورة.»
1
وعلى الإنسان أن يحرص من الأرواح الأثيمة والأموال النجسة، وإذا اتسع رزقه وتوفرت أسباب معيشته فعليه أن يصرف شيئا في الصدقات والزكوات وأرباب المعروف، وأن يدخر الباقي لنوائب الدهر وأحداث الزمان.
ومن جميل كلامه في المعروف ما يأتي: «للمعروف شرائط؛ إحداها تعجيله؛ فإن تعجيله أهنأ له، والثانية كتمانه؛ فإن كتمانه أظهر له، والثالثة تصغيره؛ فإن تصغيره أكبر له، والرابعة ربه (زيادته) ومواصلته؛ فإن قطعه ينسي أوله ويمحو أثره، والخامسة اختيار موضعه؛ فإن الصنيعة إذا لم توضع عند من يحسن احتمالها ويؤدي شكرها وينشر محاسنها ويقابلها بالود والموالاة، كانت كالبذر الواقع في الأرض السبخة التي لا تحفظ الحب ولا تنبت الزرع.»
2
أما النفقات فإن سدادها في الاعتدال، وعلى العاقل أن يبني بعض أمره في الاتفاق على عقول عوام الناس، وأن يستعمل كثيرا من التجوز والإغضاء في المواضع التي يخشى فيها شبه العار، وأما الذخيرة فلا ينبغي للعاقل أن يغفلها متى أمكنته؛ لئلا يحتاج إلى غيره متى دهمته المصائب. (4) سياسة الرجل أهله
يقصد الرئيس بأهل الرجل امرأته، والمرأة هي شريكة الرجل في ملكه، وقيمته في ماله، وخليفته في رحله، وخير النساء العاقلة الدينة، الفطنة، الولود، الرزينة، السلسة القياد ... وعليها ثلاثة شروط:
أولا:
أن تهاب رجلها مهابة شديدة؛ لأنها إن لم تهب زوجها تعود آمرة ناهية مدبرة، وذلك الانتكاس والانقلاب.
ثانيا:
أن تكرم رجلها كما هو يكرمها؛ فإن الحرة الكريمة إذا استحلت كرامة زوجها دعاها حسن استدامتها لها، ومحاماتها عليها، وإشفاقها من زوالها إلى أمور كثيرة جميلة، وكلما كانت المرأة أعظم شأنا وأفخم أمرا كان ذلك أدل على نبل زوجها وشرفه، وعلى جلالته وعظم خطره.
ثالثا:
أن تشغل خاطرها بالأمور البيتية المهمة كسياسة أولادها وتدبير خدمها، وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها؛ فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال، لم يكن لها هم إلا التصدي للرجال بزينتها والتبرج بهيئتها، ولم يكن لها تفكير إلا في استزادتها؛ وهناك الطامة الكبرى. (5) سياسة الرجل ولده
إن من حق الولد على والده: (1)
أن يحسن تسميته، واختيار مرضعته؛ كي لا تكون ذات عاهة؛ فإن اللبن يعدي كما قيل. (2)
أن يبدأ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة، وتنهال عليه الضرائب الخبيثة، وهذا يكون بعد الفطام حالا. (3)
أن يجنبه مقابح الأخلاق صبيا، ويبعد عنه العادات القبيحة؛ وذلك بالترحيب والإناس والتوبيخ والضرب، وخير أن تكون الضربة الأولى غير موجعة؛ لئلا تسيء ظن الصبي بها، ويشتد خوفه من مربيه. (4)
أن يرسله إلى المدرسة عندما يبلغ أشده؛ ليدرس أولا العلوم الدينية ثم القراءة ثم رواية الرجز ثم القصيدة. (5)
أن يكون مؤدب الصبي عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا، بعيدا من الخفة والسخف، حلوا، لبيبا، نظيفا، ذا مروءة. (6)
أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية من أولاد السراة حسنة آدابهم مرضية عاداتهم؛ فإن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنه آخذ وبه آنس، والمدرسة العمومية أحسن من البيتية؛ لأن فيها مباراة ومباهاة. (7)
أن يعلمه الصناعة التي يكون أهلا لها؛ إذ ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه. (8)
ألا يعوده الكسل، فبعد أن يحذق صناعته فليتركه يعتاد طلب المعيشة، ويتذوق حلاوة الكسب، وإذا لم يصنع معه كذلك كان وبالا عليه. (6) سياسة الرجل خدمه
لا يجوز لك أيها الغني أن تحتقر خدمك؛ لأنهم مثلك وأعوانك؛ فإن من يكفيك التعاطي بيدك فقد قام عندك مقامها، ومن يكفيك السعي برجلك فقد ناب عنك منابها، ومن يحفظ لك ما تحفظه عينك فقد كفاك كفايتها، فغناء الخدم عنك كثير ونفع القوام إياك جزيل، ولولاهم لأرتج دونك باب من الراحة كبير، فينبغي لك أن تحمد الله على ما سخر لك منهم، وأن تحوطهم ولا تقصيهم، وتتفقدهم ولا تهملهم، وترفق بهم ولا تحرجهم.
لا تتخذ خادما إلا بعد الاختبار له، وإن لم تستطع ذلك فأعمل فيه التقدير والفراسة والحدس، جانب ذوي العاهات كالعوران والعرجان، ولا تثق بذي الكيس الكثير، والدهاء البين؛ فإنه لا يسلم من المكر.
علم كل خادم ما هو أهل له، ولا تنقله من عمل إلى عمل، ولا تحوله من صناعة إلى صناعة؛ فإن ذلك من أمتن أسباب الدمار ، فمتى نقل الإنسان الخادم مما قد أتقنه ومارسه إلى ما يختاره له أفسد عليه نظام خدمته.
لا ينبغي أن يشدد الإنسان النكير على خادمه، فصرفه أوفق من ذلك ، وهو دليل على ضيق الصدر وقلة الصبر وخفة الحلم، لكن فليعاقبه عندما يذنب، ومن عصا معصية صلعاء أو جنى جناية شنعاء لا سبيل إلى اغتفارها؛ فالخلاص منه أولى؛ لئلا يفسد عليه سائر الخدم.
وختام هذا الفصل
إن سياسة ابن سينا مع إيجازها وقلة ابتكارها، وبعض الهنات التي تعتورها لا تزال أفيد كتبه وأحسنها، كل من يدرسها يستفيد منها حتى في عصرنا هذا. والهفوة الوحيدة البارزة في هذه الرسالة البليغة هي ابتعاد الرئيس عن الكلام عن واجبات الإنسان نحو خالقه كما صنع أستاذه الفارابي في سياسته، ولعلنا نجد له بعض المعذرة فيما قاله: «انقضت الأبواب التي مثلنا فيها ما يحق على الرجل فعله ... وإنما ذكرنا القليل من الكثير، والجمل دون التفسير ...»
الخاتمة
لا بد من هذا الإقرار أن الوهن المسيطر على الفلسفة العربية عموما، وعلى فلسفة الرئيس خصوصا، ناجم عن نقص في الثقافة والتفكير الطليق، فأساس الفلسفة العربية الفلسفة اليونانية، لا بل إن الفلسفة العربية ليست سوى شرح للفلسفة اليونانية، وهل يستطيع إنسان أن يشرح مؤلفا أعجميا ويفك معضلاته دون أن يطالع كتابه في اللغة التي كتبه فيها؟!
هذا ما لا نظنه؛ فالفلاسفة الأعارب قد حاولوا شرح الفلسفة اليونانية دون أن يكون للأكثرية الساحقة منهم أدنى إلمام باليونانية، فضلوا سواء السبيل وخبطوا خبط عشواء؛ لأن الترجمات التي عولوا عليها في شروحاتهم كانت مشوهة ممسوخة؛ ولذا أتت فلسفتهم في الغالب مبتورة مفككة الأوصال.
لقد كان لزاما على هؤلاء الحكماء أن يدرسوا اليونانية قبل أن يقتبسوا من حكمائها ويعلقوا عليهم. وهذا لم يكن صعبا عليهم؛ لأن أغلب أساتذتهم السريان كانوا يتقنون تلك اللغة العلمية الجميلة، بيد أن العربي من طبيعته ينفر من الجهود العقلية، ولا يصبر على كبت رغائبه؛ ولذلك خسر كثيرا، واستحق الملامة والعذل.
والشيء الثاني الذي أعاق الفلسفة العربية عن التحليق في سماء الإبداع، هو خلط الفلاسفة بين الفلسفة والدين، فلقد سها بالهم عن أن الدين مصدره الوحي، والفلسفة لا تؤمن إلا بالعقل المجرد، ولو كانوا توقفوا عند توفيقهم بين الفلسفة والدين لكانت المصيبة محتملة، ولكنهم أرادوا أن يخضعوا الحقائق الدينية للنور الطبيعي، لا بل إنهم في بعض الأحايين قد أفرغوا وسعهم في رفع الحقيقة الفلسفية إلى مستوى أعلى من الحقيقة الدينية كما صنع ابن رشد؛ ولهذا باءوا بالفشل.
نحن لا ننكر أن فلاسفة المغرب قد طرقوا هذا الموضوع، إلا أنهم توقفوا أخيرا إلى وضع حد فاصل بين العقل والدين، فميزوا أولا بين العقل والوحي، ثم أبانوا أن العقل السليم لا يناقض الوحي، كما أنه لا يستطيع إثبات أسراره إثباتا لا مرد عليه، فتراث الفلسفة الكامل يؤخذ من العقل؛ أي إن الفلسفة لا تسلم إلا بما يقر النور الطبيعي، ويقيم البرهان على وجوده. أما الدين فهو بعكس ذلك يقوم على الوحي؛ أي على كلام الله؛ فالعقائد التي لا يستطيع العقل إدراكها واردة في كلم وعبارات لا تتمكن قوى الإنسان بذاتها أن تسبر كنهها، إنما يجب علينا أن نؤمن بها إيمانا يسهله العقل؛ فالفيلسوف إذن يفتش دائما عن مبادئ برهانه في تضاعيف العقل، واللاهوتي يحول أنظاره في برهنته إلى الوحي.
هذا هو الفرق القائم بين العقل والوحي، وهذه هي الحدود التي تفصل بين الفلسفة والدين، أما أكثر فلاسفة العرب فإنهم مع كل أتعابهم لم يتوصلوا إلى هاته النتائج الحكيمة. •••
إن فلسفة ابن سينا بمجمل تقسيمها لا تختلف أبدا عن تقسيم أرسطو؛ ولذا نراها آخذة بعضها برقاب بعض، ولكن إذا أخذت كل نظرية بمفردها فقلما تلمس تشابكا محكما بينها وبين تاليتها.
يدرس الرئيس أولا المنطق فيحلله بحسب خطة أرسطو والشارح بورفير، ثم يبدأ بالطبيعيات فيلقي عليها نظرات سطحية تلائم معارف بيئته وعصره، وعلم النفس عند الشيخ لا ينقل عن الطبيعيات؛ بل هو جزء من أجزائها، وفيه يتكلم عن الأنفس النباتية والحيوانية والعاقلة، متطرقا إلى قواها وميزاتها، ويتلو درس النفس تحليل للعقل وسائر الإدراكات، ورغم الدرس العميق فإننا لم نجد تمييزا أساسيا بين النفس والعقل كما أشار كارا دي فو في كتابه أساطين الفكر الإسلامي (ص33)، وبعد أن يدرس العقل البشري ينتقل إلى الموجود أو العلم الكلي، فيبحث فيه الموجود المطلق والموجود النسبي بطريقة مطلقة والعقول الصادرة عن الأول ببراهين وبينات استقرائية بصورة تقرب من الأسلوب الرياضي، وأخيرا يكلل فلسفته بالأبحاث الزهدية التي لم يمارس منها شيئا، ولم يكتبها إلا حبا للكتابة فقط.
إن فضل ابن سينا الوحيد على العلم هو أنه جمع في صدره شتات الحكمة والطب، وهضم نتاج المفكرين الأقدمين بقدر ما سمحت له الظروف، وزاد عليها ورقاها كما رأيت فيما قلناه سابقا.
جاء الشيخ الوجود في منتصف ازدهار العلوم العربية؛ فأفرغ ما ولدته العقول العربية، وما نقلوه عن الأمم الغربية من الآراء والاختبارات في العلم والفلسفة والطب، ورتبها في موسوعات وكتب ورسائل منظمة تنظيما منطقيا دقيقا لا غبار عليه في أكثر الأوقات، فعاشت تعاليمه أدهارا، وذاع ذكره بين علماء المشرق والمغرب، ودرست مؤلفاته ومحصت، وحكم عليها الشهرستاني بما يلي:
طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة، ونظره في الحقائق أغوص.
1
نحن لا ننكر أن ابن سينا قد أخذ معظم نظرياته الفلسفية عن الفارابي، إلا أن الفارابي قد أجمل القول إجمال الممهدين، والرئيس فصل كلامه تفصيل الشارحين؛ فزاده وضوحا وتقريبا من الأذهان وصقلا ونحتا، حتى إنه بهذه المحسنات الخارجية حجب بصيته وشهرته اسم السابق والممهد، واستحق أن يسميه الشهرستاني «علامة فلاسفة العرب». •••
وقبل أن أمسح القلم لا أرى بدا من الإشارة إلى حكم على ابن سينا تجرأ عليه به ابن سبعين الأندلسي، مع أن هذا الحكم بمجمله بعيد عن الحقيقة؛ فإننا نورده هنا تفكهة للمطالع؛ وليعرف ما يولده التحامل، قال:
إن ابن سينا مموه مسفسط كثير الطنطنة قليل الفائدة، وما له من التأليف لا يصلح لشيء، ويزعم أنه أدرك الفلسفة المشرقية ولو أدركها لتضوع ريحها عليه ... والشفاء أجل كتبه، وهو كثير التخبط، مخالف للحكيم، وأن خلافه له لمما يشكر عليه؛ فإنه بين ما كتبه الحكيم ، وأحسن ما له في الإلهيات «التنبيهات والإشارات»، وما رمزه في «حي بن يقظان»، وما ذكره فيها هو من مفهوم النواميس لأفلاطون وكلام الصوفية.
2
من كل ما قلنا ينتج أن الفلسفة العربية هي فلسفة امتصاص وامتزاج عقلي؛ لأنها جميعا تقريبا مقتبسة من القديم، كما أن فلسفة الشيخ الرئيس ليست برمتها مغلوطة؛ بل إن فيها الجيد والرديء، أما القضايا الصحيحة التي لا تزال تلقن في كليات أوروبا الكاثوليكية فأهمها الآتية: حالات الجواهر الثلاثة؛ قبل الكثرة، وفي أثناء الكثرة، وبعد الكثرة، والتمييز التام بين الوجود والجوهر في الكائنات المحدودة، وحدوث النفس وخلودها، ونظرية الإمكان والوجوب، وأقواله في الخير والشر، وغير ذلك مما يطول بنا شرحه.
عسى اليوم يتحرر الفكر العربي من عقاله، ويعطي العالم فلاسفة أفذاذا نابغين، والسلام.
أهم المصادر
(1)
كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني، الجزء الثالث، طبعة مصر 1320ه. (2)
وفيات الأعيان، لابن خلكان، مصر 1299ه. (3)
دائرة المعارف الإسلامية، تصدر عن مصر. (4)
دائرة المعارف، للبستاني، المجلد الأول، بيروت 1876م. (5)
إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للقفطي، القاهرة 1326ه. (6)
فهرست ابن النديم، القاهرة 1348ه. (7)
تاريخ مختصر الدول، لابن العبري، نشره الأب أنطون صالحاني اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1890م. (8)
المنقذ من الضلال، للغزالي، مكتب النشر العربي بدمشق 1934م. (9)
مقالات فلسفية قديمة لبعض مشاهير العرب مسلمين ونصارى، المطبعة الكاثوليكية في بيروت 1911م. (10)
تاريخ التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان، الطبعة الأولى. (11)
تاريخ الفلسفة العربية، للأب نعمة الله العنداري، جونيه 1932م. (12)
الكون والفساد، لأرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، مصر، القاهرة 1932م. (13)
من أفلاطون إلى ابن سينا، للدكتور جميل صليبا، مكتب النشر العربي في دمشق 1935م. (14)
الفارابي، للخوري إلياس فرح، جونيه 1937م.
Carra de Veaux: Les penseurs de I’Islam, 5 vol. Paris 1821.
Avicenne. Collection des grands philosophes. Paris, 1900.
Munk: Ib. Sina art. Dans le Dictionnaire de Sciences philosophiques de ad tanck.
Saliba Djémil: Étude sur la Met. d’Avicenne Paris 1926.
Caram Mgr. Nematallah: Avicennae Metaphysices compendium, Roma 1926.
Gilson Etienne, La philosophie au moyen âge. Paris payot; 1930.
Mehren. Sa philosophie d’Avicenne (Ibn-Sina) exposée d’après des documents inédits, Murèon 1882 et 1883.
صفحة غير معروفة