ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

بولس مسعد ت. 1307 هجري
52

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

تصانيف

هل لأحد من إخواني في أن يهب لي من سمعه قدر ما ألقي عليه طرفا من أشجاني عساه أن يتحمل عني بالشركة بعض أعبائها؛ فإن الصديق لن يهذب عن الشوب أخاه ما لم يصن في ضرائك عن الكدر صفاءه، وإني لك بالصديق المماحض، وقد جعلت الخلة تجارة يفزع إليها إذا استدعت القلوب إلى الخليل داعية وطر، وترفض مراعاتها إذا حدث الاستغناء، فلن يزار رفيق إلا إذا زارت عارضة، ولن يذكر خليل إلا إذا ذكرت مأربة، اللهم إلا إخوان جمعتهم القرابة الإلهية، وألفت بينهم المجاورة العلوية فلاحظوا الحقائق بعين البصيرة، وجلوا درن الشك عن السريرة فلن يجمعهم إلا منادي الله.

ويلكم إخوان الحقيقة، باثوا وتضاموا، وليكشفن كل واحد منكم لأخيه الحجب عن خالصة لبه؛ ليطالع بعضكم بعضا، ويستكمل بعضكم ببعض، ويلكم إخوان الحقيقة ، تقبعوا كما يتقبع القنافذ، فأعلنوا بواطنكم وأبطنوا ظواهركم، فبالله إن الجلي لباطنكم، وإن الخفي لظاهركم.

ويلكم إخوان الحقيقة، انسلخوا عن جلودكم كما انسلاخ الحية ودبوا دبيب الديدان، وكونوا عقارب أسلحتها في أذنابها؛ فإن الشيطان لن يراوغ الإنسان إلا من ورائه، وتجرعوا الزعاف تعيشوا، واستحبوا الممات تحيطوا، وطيروا ولا تتخذوا وكرا تنقلبون إليه؛ فإن مصيدة الطيور أوكارها، وإن صدكم عوز الجناح فتلصصوا تظفروا، فخير الطلائع ما قوي على الطيران، كونوا نعاما تبتلع الجنادل المحماة، وأفاعي تسترط العظام الصلبة، وسمادل تغشى الضرام على ثقة، وخفافيش لا تبرز نهارا فخير الطيور خفافيشها.

ويلكم إخوان الحقيقة، أغبى الناس من يجترئ على غده، وأفشلهم من قصر عن أمده، ويلكم إخوان الحقيقة، لا غرو إن اجتنب ملاك سوءا أو ارتكبت بهيمة قبيحا؛ بل العجب من البشر إذا استعصى على الشهوات، وقد صيغ على استئثارها صورته، أو بذل لها الطاعة وقد نور بالعقل جبلته، ولعمر الله بذ الملاك بشر عند زيال الشهوة فلم تزل قدمه عن موطئه فيه، وقصر عن البهيمة إنسي لم تف قواه بدرء شهوة تستدعيه، وأرجع إلى رأس الحديث فأقول:

قصة الطير

برزت طائفة تقتنص؛ فنصبوا الحبائل ورتبوا الشرك وهيئوا الطعم وتواروا في الحشيش، وأنا في سربة طير إذ لحظونا؛ فصفروا مستعدين لنا، فأحسسنا بخصب وأصحاب، ما تخالج في صدورنا ريبة، ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة، فابتدرنا إليهم مقبلين، وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلق تنضم على أعناقنا، والشرك تتشبث بأجنحتنا، والحبائل تتعلق بأرجلنا؛ ففزعنا إلى الحركة فما زادتنا إلا تعسيرا؛ فاستسلمنا للهلاك وشغل كل واحد منا ما خصه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبين الحيل في سبيل التخلص زمانا حتى أنسينا صورة أمرنا، واستأنسنا بالشرك واطمأننا إلى الأقفاص.

فاطلعت ذات يوم من خلال الشرك؛ فلحظت رفقة من الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها عن الشرك ، وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل لا هي تئودها فتعصيها النجاة، ولا تبينها فتصفو لها الحياة، فذكرتني ما كنت أنسيته ونغصت علي ما ألفته فكدت أنحل تأسفا أو ينسل روحي تلهفا؛ فناديتهم من وراء القفص أن ادنوا مني توقفوني على حيلة الراحة؛ فقد أعيتني أموري العويصة، فتذاكروا خدع المقتنصين، فما زادوا إلا نفارا؛ فناشدتهم بالخلة القديمة والصحبة المصونة والعهد المحفوظ ما حل بقلوبهم الثقة، ونفى عن صدورهم الريبة؛ فوافوني حاضرين فسألتهم عن حالهم فذكروا أنهم ابتلوا بما ابتليت به؛ فاستيأسوا واستأنسوا بالبلوى، ثم عالجوني فنحيت الحبال عن رقبتي، والشرك عن أجنحتي، وفتح باب القفص وقيل لي: استغنم النجاة، فطالبتهم بتخليص رجلي عن الحلقة؛ فقالوا: لو قدرنا عليه لابتدرنا أولا وخلصنا أرجلنا، وأنى يشفيك العليل؟ فنهضت عن القفص أطير، فقيل لي: إن أمامك بقاعا لم تأمن المحذور إلا أن تأتي عليها قطعا، فاقتف آثارنا ننجو بك ونهدك إلى سواء السبيل.

فساوى بنا الطيران بين صدفي جبل الإله في واد معشب خصيب؛ بل مجدب حريب حتى تخلف عنا جنابه وجزنا جيرته ووافينا هامة الجبل، فإذا أمامنا ثماني شواهق تنبو عن قللها اللواحظ، وقال بعضنا لبعض: سارعوا فإنا لا نأمن إلا بعد أن نجوزها ناجين، فتعانقنا الشد حتى أتينا على ست من شوامخها وانتهينا إلى السابع، فلما تغلغلنا تخومه قال بعضنا لبعض: هل لكم في الجمام فقد أوهننا النصب وبيننا وبين الأعداء مسافة قاصية، فرأينا أن نخص للجمام من أبداننا نصيبا فإن الشرود على الراحة أهدى إلى النجاة من الانبتات.

فوقفنا على قلته، فإذا جنان مخضرة الأرجاء، عامرة الأقطار، مثمرة الأشجار، جارية الأنهار، كثيرة الأزهار، يروي بصرك نعيمها بصور تكاد لبهائها تدهش العقول وتستبهت الألباب، وتسمعك أغان شجية وألحانا مطربة، وتشمك روائح لا يدانيها المسك السري ولا العنبر الطري، فأصبنا من ثمارها وشربنا من أنهارها وشممنا من أزهارها ومكثنا بها ريثما اطرحنا الإعياء، فقال بعضنا لبعض: سارعوا فلا مخدعة كالأمن ولا منجاة كالاحتياط ولا حصن أمنع من إساءة الظنون، وقد امتد بنا المقام بهذه البقعة على شفاء غفلة، ووراءنا أعداؤنا يقتفون أقدامنا ويتفقدون مقامنا، فهلموا نبرح ونهجر هذه البقعة وإن طاب الثواء بها فلا طيب كالسلامة.

فأجمعنا على الرحلة وانفصلنا عن الناحية وحللنا بالثامن منها، فإذا شامخ خاض رأسه في عنان السماء تسكن جوانبه طيور لم ألق أعذب ألحانا وأحسن ألوانا وأظرف صورا وأطيب عشرة منها، ولما حللنا في جوارها عرفنا من إحسانها وتلطفها وإيناسها أيادي لم نقض بقضاء أهونها.

صفحة غير معروفة