العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة، وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح، لا بعنف معير؛ وذلك لشفقته وحبه.
العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن خوف الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفاح للذنوب وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر، ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق.
ثم يعقب العارفين أصحاب النفوس المترددة، وهؤلاء ليسوا في قمة الكمال؛ لأنهم لم يتجردوا من ذواتهم بعد، وليسوا على الحضيض؛ لأنهم يملكون قسطا من الكمال.
أخيرا يتلو هذه المرتبة مرتبة النفوس الخسيسة، وقد لقبها الرئيس «بمرتبة النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المخسوسة التي لا مناص لرقابها المنكوسة، وهؤلاء هم بدون ما ريب في عمق أعماق الشقاء.»
بعد ذلك يضع ابن سينا وصفا دقيقا يميز به بين الزاهد والعابد والعارف كنا نود أن نأتي على ذكره لولا خوف التطويل، من هذا العرض الوجيز نعلم، أن النفس في نظر ابن سينا يمكنها أن تتمتع في السعادة السامية وهي مكبلة بأغلال البدن، وذلك متى تم لها اقتباس سائر العلوم النظرية والعملية والاتشاح بثوب العفة والشجاعة، والابتعاد عن جميع شهوات الجسد الدنيئة؛ لأن هاته الرغبات لا تولد في النفس اللذة الوقتية حتى تروقها بمرائر وأوجاع تفوقها شدة وفداحة؛ فتكون إذن شقاوة هذه الحياة قائمة في عدم المقدرة على التلذذ.
أما في الحياة الباقية فإن للنفس ثلاث حالات: سعادة أبدية، شقاوة مؤقتة، وشقاوة أبدية، فعلى السعادة الأبدية في جنة الخلد لا ينص ابن سينا إلا بالتقريب، ويظن أنها تقوم بأن يتصور الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا، ويصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل النائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويقرر عنده النظام الأخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه، إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه من الأمور الدنيوية.
ولكن من هو الذي يحصل على هاته السعادة؟
إن أول من ينال هذه السعادة هم الذين صار فيهم الكمال ملكة لا يرون عنها محيدا، أما نفوس الجهال التي لم تكتسب الشوق إلى العالم الثاني فإنها إذا فارقت البدن، وكانت غير مقيدة بالعادات البدنية الردية صارت إلى سعة من رحمة الله، ونالت السعادة الأبدية.
أجل إن سعادة العالم لهي أسمى من سعادة الجاهل، ولكن الجاهل الصالح خير من العالم الشرير، وبعبارة وجيزة: إن كل من يثابر على اقتباس الخلال الحميدة، ويبتعد عن الشر يحرز السعادة الخالدة.
أما أهل الشقاوة المؤقتة فهم أولئك الذين سقطوا في هذه الحياة مرات عديدة، إلا أن ذلك لم يمنعهم كليا عن تأمل الخير المطلق، فهؤلاء متى فارقت نفوسهم أبدانهم أحسوا بمضادة عظيمة، وتأذوا بسبب تراكم أعمالهم الدنيوية، لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر لازم؛ بل لأمر عارض غريب، والعارض الغريب لا يدوم؛ بل يزول مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرارها، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة؛ بل تمحى قليلا قليلا حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها (نجاة، 488). وهذا القول يقرب مما يؤمن به النصارى من أن المؤمنين الذين يموتون وهم في حال الخطيئة العرضية، أو عليهم بعض قصاصات زمنية لا يدخلون الملكوت السماوي؛ بل يذهبون إلى مكان آخر يتطهرون به من أدرانهم بواسطة عذابات زمنية، ثم يعودون إلى سعادتهم.
صفحة غير معروفة