ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

بولس مسعد ت. 1307 هجري
46

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

تصانيف

الوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود، والوجود الذي لا يقارنه عدم، لا عدم جوهر، ولا عدم شيء للجوهر؛ بل هو دائم بالفعل، فهو خير محض. والممكن الوجود بذاته ليس خيرا محضا؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود، فذاته بذاته تحتمل العدم، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص؛ فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود.

3

يظهر من هذا الكلام وغيره أن المعلم الثالث يقسم الشر والخير في الوجود إلى قسمين متقابلين: خير مطلق وشر مطلق، خير نسبي وشر نسبي؛ فالخير المطلق هو واجب الوجود؛ لأن لا إمكان فيه، وكل شيء فيه هو بالفعل، والشر المطلق هو عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته؛ ولهذا قال أرسطو الإسلام في إلهيات الشفاء: «الخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض.»

4

أي عندما يتسلط العدم على وجود ما يكسبه شرا.

أما الخير النسبي والشر النسبي فيمكننا إيضاحهما بما يلي: يتفق في بعض الأحايين أن يكون ما هو شر لواحد خيرا لآخر. إن النار إذا اعتبرناها مجردة عن ظروف المكان والزمان هي قابلة أن تكون خيرا وشرا، فإذا كانت - مثلا - تحت طنجرة الفلاح تنضج له طبخه فهي خير، ولكنها إذا أحرقت ثوب فقير يتسول؛ فعندئذ تصير شرا. إن العمى في أعين جميع الحيوانات شر لأنه نقص، والنقص قريب من العدم، ولكنه للمبصر خير؛ لأننا لولا العمى لما كنا نستلذ البصر، وقد قيل: «والضد يعرف فضله بالضد.»

وكما أنه لا وجود للخير المطلق في هذا الكون؛ لأنه لا شيء فيه واجب الوجود، كذلك لا شر مطلق في نفس الكون؛ لأنه لا خير عن عدم مطلق، فليس هو بشيء حاصل، ولو كان له حصول لكان الشر عاما، بيد أن الشر إما يعرض للمادة قبل إتمامها أو يطرأ عليها ، فإذا عرض لمادة ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة فتمكن منها هيئة من الهيئات، فتلك الهيئة تمانع استعدادها الخاص للكمال الذي منيت بشر يوازيه؛ مثل المادة التي يتكون منها إنسان أو فرس، إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردى مزاجا وأعصى جوهرا، فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة، وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين؛ إما مانع للكمال، وإما ماحق للكمال، مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال.

ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص وما يتبعه، وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر، وجملة ما تحت فلك القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود.

5

ولكن ما هي حكمة الله من دخول الشر العالم؟ وكيف استطاع وهو الخير المحض أن يوجد الشر؟

صفحة غير معروفة