ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

بولس مسعد ت. 1307 هجري
43

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

تصانيف

3

بل كل علة تعمل لأجل تاليتها، وتسوقها إلى غايتها القصوى حتى يصل هذا العمل إلى الفلك الأقصى، الذي أجسامه تؤثر في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها وتسري منها إلى هذا العالم، وأنفسه تؤثر في أنفس هذا العالم، «وبهذه المعاني نعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام كالكمال والصور حادثة عن النفس الفاشية في الفلك أو بمعونتها.»

4

فينتج من ذلك: كما أن الله في نظر فيلسوفنا يعرف الجزئيات بالعلل الكلية، هكذا يعتني بالجزئيات ويدبرها بالعلل الكلية؛ إذ ليس شيء في شيء من الجزئيات إلا وهو صادر عن علة كلية، وبعبارة أوضح: إن ابن سينا يعترف بأنه لا بد في التدبير من اعتبار أمرين؛ مبدأ التدبير الذي هو العناية، وإنفاذه؛ فالله باعتبار كونه مبدأ التدبير يدبر جميع العلل العالية مباشرة، وأما باعتبار إنفاذ التدبير فإنه ينفذ هذا التدبير في العلل العالية بنفسه مباشرة، وفي المخلوقات السفلى بواسطة العليا.

وهذا الرأي المغلوط يتساوق - كما لا يخفى - مع نظرية ابن سينا في تكوين العالم، إلا أنه من جهة أخرى يناقض كتب الوحي التي تصرح بأن عناية الله لا تنحصر في العلل العالية، ولا في السماء والأرض، ولا في الإنسان والملك؛ بل تتناول أحشاء أصغر الحيوانات وأخسها، وأدق ريش الطير وزهر العشب وورقة الشجرة، بحيث لا يغفل التوفيق بين أجزائها. وبوجيز العبارة: إن تدبير الله يعم جميع الأشياء كبيرة كانت أم صغيرة، حقيرة أم سامية.

2

بيد أن الشيخ الرئيس، إيهاما للسذج، أضاف إلى ما تقدم قولا معقدا، هاكه بالحرف:

ليس لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماويات وأجزاء النبات والحيوان مما لا يصدر ذلك اتفاقا بل يقتضي تدبيرا ما، فيجب أن تعلم أن العناية هي كون الأول عالما لذاته بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضيا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان فهذا هو معنى العناية.

5

حقا إن هذا الكلام فيه من المغالطة ما ليس بقليل، هب أن الأول يعلم من نفسه نظام الخير، وأنه هو نفسه علة هذا الخير والكمال «بحسب الإمكان»، فهل يكفي ذلك لتقدير العناية الإلهية التي تعتني بدقائق الجزئيات؟ هذا ما لا نظنه، وكما أن الطبيب الأفضل ليس من يلاحظ الكليات فقط؛ بل من يقدر أن يلاحظ دقائق الجزئيات أيضا، هكذا المعتني الأفضل ليس من يعرف نظام الموجودات وحده بل من يحيط علما بأصغر الموجودات وأدقها.

صفحة غير معروفة