2
لكن بأي آلة يدرك الإنسان نفسه؟ أبالبصر أم بالسمع أم بالمخيلة أم بالوهم؟ كلا، بل يدرك الإنسان نفسه بمعزل عن كل آلة؛ لأن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية لكان يجب أن تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة، ولا أن تعقل أنها عقلت؛ فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس بينها وبين آلتها، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة؛ إذن إن النفس تعقل ذاتها بذاتها وليس بالآلة.
3
قال ابن سينا في كتاب الإشارات، ص123:
بماذا تدرك حينئذ ذاتك، وما المدرك من ذاتك؟ أترى المدرك منك أحد مشاعرك أم عقلك، وقوة غير مشاعرك وما يناسبها؟ فإن كان عقلك وقوة غير مشاعرك بها تدرك، أفبوسط تدرك أم بغير وسط؟ ما أظنك تفتقر في ذلك حينئذ إلى وسط؛ فإنه لا وسط، فبقي أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوة أخرى.
وقصارى الكلام
إن النفس تدرك في أول الأمر وقبل كل شيء ذاتها ووجودها مجردة عن المادة ولواحقها وبدونما آلة؛ لأنه لو كانت تدرك بآلة لكانت الإدراكات الشاقة توهنها وتفسدها، كما أن الانفعال الشاق المتكرر يضعف الحس، والرعد الشديد يفسد السمع، وهذا القول يذكرنا بنتيجة لديكارت أوردها في كتاب التأملات وهي: «إن إدراك النفس أسهل وأوضح من إدراك الجسد.» (2) حدوث النفس
ولكن من هو الذي أعطى النفس وجودها، وكيف حلت في هذا الجسد البالي، ولماذا؟
إن الذي خلق النفس هو الله تعالى، على أنه لم يعطها وجودها بنفسه مباشرة؛ بل أسند ذلك إلى واهب الصور الذي لا يرش النور إلا على مستحقيه.
كان أفلاطون يؤمن بأن النفوس أبدية أزلية وجدت قبل الجسد. أما الشيخ الرئيس فإنه نقض هذا القول، وأثبت أن النفس حادثة مع البدن، وهاك دليله: «إن النفس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى؛ فإن وجدت قبل البدن، فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتا واحدة، ومحال أن تكون ذوات متكثرة، وأن تكون ذاتا واحدة على ما يتبين، فمحال أن تكون قد وجدت قبل البدن» (نجاة، ص300).
صفحة غير معروفة