199

ابن الرومي: حياته من شعره

تصانيف

وإن كان في الإثراء أرغب راغب

فلا جرم يضطرب في عيشه، ويخرج عن القصد في حالتي شحه وسرفه، ويظل مدخرا لا ينتفع بما ادخر، أو مبددا لا يبقي من ماله ولا يذر. •••

على أنه لو بقي له كل ما ورث من أبيه وكل ما علمنا أنه ملكه لما أغنانا ذلك عن البحث في مورد رزقه، وسبب اتصال عيشه؛ إذ كان البيت الذي يسكنه مالكه لا يحسب من موارد الكسب، والضيعة التي «ما زال منها في عناء» لا تبلغ أن تدر عليه رزقا يكفيه، ومن أخباره ما يقطع بعثور جده وبؤسه الغالب عليه معظم حياته، فلولا هذا البؤس لما لزمه ميسم النحس ولا عيروه الخيبة والخصاصة، ولولا عسره وافتقاره لما وقع بينه وبين البحتري ما وقع إذ هجاه، «فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط»! فإذا خطر لنا أن مطالبه الكثيرة لا تدل على حقيقة فقره، وأنها عادة جرى عليها كما جرى الشعراء في عصره، فاشتهاره بالنحس والتخلف، ورد البحتري عليه دليل على عسر حقيقي ما فيه ريب، أو دليل على حاجة دائمة إلى المدائح والصلات يعول عليها في ضرورات معاشه فضلا عن نوافل لهوه.

فسؤالنا الذي ينبغي أن نسأله في هذا المعرض هو: ماذا كان نصيبه من المدائح، وكيف كانت حظوته عند ممدوحيه؟ والجواب الذي لا تردد فيه: إنه لم يكن نصيبا جزيلا ولا حظوة مغبوطة؛ إذ هو لم يتصل بالخلفاء، ولم يأخذ جوائزهم الكبيرة التي تغني الشاعر عن السؤال زمنا، أو تغنيه عنه بقية حياته، وإنما كانت مدائحه كلها للولاة والوزراء والقواد والكتاب، ومن يضارعهم ويقل عنهم في الرتبة والثروة، فلم يمدح خليفة قط إلا لعلاقة بين هذا الخليفة وبين رئيس أو نديم من الذين يعرفهم وينتمي إليهم، فمدح المستعين وهجا المعتز حين تنازعا الخلافة بينهما؛ لأن محمد بن عبد الله بن طاهر كان من حزب المستعين، وكان مقيما في بغداد، وابن الرومي يمدحه ويقيم معه في المدينة، ومدح المعتمد لأن بنانا المغني اقترح عليه مدحه - وهو يكتب لبنان - فأجابه إلى ما اقترح، وذكر اسمه في ختام القصيدة:

فلا يزل في نعيم عيش

مزاجه الخفض والليان

حتى يرى فيه كل سؤل

ومنية عنده بنان

ومدح المعتضد بالمقاطيع الكثيرة لأنه كان صديق آل وهب وكالئهم من لدن تولي العهد إلى أن بويع بالخلافة.

وقس على ذلك سائر مدائحه للخلفاء وولاة العهود، وما هي بالكثيرة في عددها ولا هي بالكثيرة في عدد أبياتها، فقد كان لا يعنى بتطويلها كما كان يطول مدائح الولاة والوزراء؛ لأنها مدائح لم تقصد لذاتها، ولم ينظمها إلا مرضاة لأصحابه؛ وتلبية لاقتراح المقترحين عليه، وكأنهم كانوا يطمعونه بذلك في تقريبه من الخلفاء وإزلافه لعطاياهم، ولكنهم لا يفعلون، فظل محجوبا عن الخلفاء لا يستدعونه، ولا يسألون عن شعره حتى مات، وجاء المستكفي يسأل عما قاله في الطعام والشراب!

صفحة غير معروفة