ففيها إسهاب وطول، ولم يعرف أن الخلفاء إذا كتبوا بأنفسهم يجتنبون ذلك الإسهاب، وترى التعبير فيها دائماً عن الخليفة بلغة الغائب، ولم يخطئ مرة، ويكتبها بلغة المتكلم، وفيها نزول إلى الطعن في فتاوى هذا، واستحلال ذلك للربا، وكل هذا. نجد مثل المأمون الحصيف مما يتسامى عنه، وهل لنا أن نفرض أن هذه الكتب كتبت، والمأمون مريض، قد تضعضعت نفسه، وأنه لهذا سوغ له ما كتب، وأنه لو كان في صحة وقوة ما سوغ أن يرسل باسمه كتاباً يحوي طعناً في هذا، وكشفاً عن ستر غيره؛ إن ذلك لا يقع فيه أمثال المأمون الذين يتجهون إلى معالي الأمور؛ ولا ينزلون إلى سفسافها، فلا يتدلى إلى ذكر ما جاء في كتابه، إذا كان محرره بنفسه أو يكون في حال من القوة والعزم، ودراسة الأمور عند التوقيع عليه إذا كان الكاتب غيره، لذلك نرجح أنه لم يطلع عليها عند إرسالها، وإن علم مضمونها، أو اطلع عليها في حال ضعف، لا يملك السيطرة الكافية على أموره، وما يعرض عليه من شؤون، ولذلك مات وشيكاً من إرسال هذه الكتب.
٥٦- وإننا إذا علمنا أن المأمون قد رأى ذلك الرأي، وهو خلق القرآن منذ تولى الخلافة، بل قبلها، وكان يناقش فيه، ويدعو إليه، في مجلس مناظراته، من غير أن يكشف عن القلوب، ويمتحن العقول، وينزل البلايا، فلماذا تحول ذلك التحول في آخر حياته، لماذا نقل المسألة إلى الابتلاء؟ لا شك أنه أحمد بن أبي دؤاد كاتب هذه الكتب هو المحرض، ولابد أنه استغل حال ضعف نفسي في المأمون، فهو قد كتب الكتب بتلك اللغة، وحرص على كتابتها متضمنة ما تضمنت من ابتلاء واختبار.
إن العاقل يرد عليه سؤال بحيرة لماذا لم يتخذ المأمون ما اتخذ وهو ببغداد، والعلماء جميعاً حوله، ولم يدع إلى الامتحان، إلا وهو غائب عن بغداد، بالكتب يرسلها، ثم يكون ذلك قريباً من موته!! إنه سلطان أحمد بن أبي دؤاد الكامل، قد اتخذ فيه اسم المأمون، ولم تكن إرادة المأمون في الأمر كاملة، ولم يكن له قوته الحازمة، إذ أنه وهو في قوته الجسمية كان يناقش العلماء في ذلك - السنين الطوال، ولم ينقل
60