109

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

١١٤- ذلك كله قد رآه منهم الفقهاء والمحدثون، وقد خالفوا به طريقة الصحابة والتابعين في الاستدلال للعقائد، وكان طبيعيًا ألا يلتقي هذان الفريقان اللذان يخدمان الدين الإسلامي؛ لاختلاف عقليتهما ومنطق تفكيرهما، فالفقهاء والمحدثون يتعرفون دينهم من الكتاب والسنة، وعملهم العقلي في فهم نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، واستنباط الأحكام من عبارتهما أو إشارتهما، أو الاجتهاد بالرأي إن لم يكن نص، هذا أقصى ما يسيرون فيه. أما المعتزلة، فيرون إثبات العقائد بالأدلة العقلية، وهم لذلك يستخدمون المنطق والبحوث الفلسفية.

ولقد كان مجرى الأمور يوجب أن يكون كل فيما خصص فيه، هؤلاء لفهم نصوص الكتاب والسنة، واستنباط قانون إسلامي منهما، أو تحت ظلهما، وأولئك لبيان العقيدة الإسلامية، والذود عنها بالطرق التي تلزم الخصوم وتقطعهم، ويستعان في ذلك بكل ما يؤدي إلى الانتصار، والفلاح في النزال.

ولكن المأمون ومن وليه في الحكم إلى عصر المتوكل حاولوا أن يحملوا العلماء على بعض آراء المعتزلة في مسألة خلق القرآن كما بينا في موضعه من القول، فكان الالتحام الشديد بين الفريقين، وكان المعتزلة بسبب ذلك هم خصوم الفقهاء والمحدثين، ولذلك نفر أحمد رضي الله عنه، ووقع به الأذى الشديد على ما علمت.

١١٥- ولنترك الكلام في الدولة، ومن ينتمي إليها من العلماء، ومن أظلته بحمايتها، ولنتجه إلى الكلام في علم الفقه والحديث في هذا العصر.

لقد قلنا إن ذلك هو عصر النضج في كل شيء، وفيه نضج الفقه، واستقامت طرائقه، والتقى العلماء، وتدارسوا الفقه فلم يكن الفقه بصريًا، وكوفيًا، وشاميًا، وحجازيًا، بل صار الفقه كله إسلاميًا، فقد كان التقاء العلماء، والرحلات المختلفة، سببًا في أن علم علماء كل مصر بما وصل إليه علماء سائر الأمصار، وتدارسوا بينهم ما وصلت إليه جهود العلماء من التابعين وتابعيهم، والتقى بذلك الفقه الحجازي بالفقه العراقي: ووجدنا الشافعي جامعًا في كتبه بين ثمرات الجهود المختلفة لفقهاء الأمصار من عراقيين، وشاميين، وحجازيين.

ودونت المجموعة الفقهية لكل طائفة من المجتهدين، فدون مالك موطأه، ودون

108