انصرافا عن الخلفاء والأمراء ، ولكنه لم يصمت بجوار ما رآه بدءا من المعتزلة بل كان ينهى الناس عن مجالستهم، والمجادلة معهم، والأخذ بطريقتهم، ويعد من يخوض معهم في حديث قد أدلى بدلوه معهم، وفتح على نفسه باب البدع، تدخل عليه من غير حساب.
ولسنا نترك شأن المعتزلة مع أحمد من غير أن نشير بكلمة تبين كيف تخالفت مناهجهم الفكرية ومناهج أحمد، مما ترتب عليه ما كان بينه وبينهم من خلاف.
١١٣- لقد كان وجود المعتزلة أمراً لا بد منه في العصر العباسي؛ لأنه وجد في هذا العصر زنادقة يعلنون آراء مفسدة للجماعة الإسلامية، ويتناجون بينهم بأمور هادمة للإسلام، ويدبرون الأمر كيداً لأهله، وتهوينا لشأنه، ومنهم من كانوا يريدون نقض الحكم الإسلامي، وإحياء الحكم الفارسي، كما حدث من المقنع الخراساني الذي خرج على الدولة العباسية في عهد المهدي، ولذلك جرد الخلفاء السيف للقضاء على الزنادقة، وشجعوا العلماء الذين يردون أقوالهم الهادمة، وقد تصدى لأولئك المعتزلة ونازلوهم بالحجج الدامغة، فقربهم الخلفاء منهم، وأدنوا مجالسهم، وفتحوا لهم باب قصورهم في عهد المنصور، وعهد المهدي، ثم في عهد المأمون والمعتصم والواثق كان منهم الوزراء، والحجاب، والكتاب، بل كان المأمون يعد نفسه منهم، فكان يلحن بحجتهم، ويناقش على ضوء أصولهم، وبذلك كان لهم في عهده النفوذ العلي، والإدارة والسلطان.
ولقد كان تجرد هؤلاء المعتزلة للرد على الزنادقة والمجوس وغيرهم من التحامهم في جدال ذودا عن الإسلام - سببا في أن أخذوا يسلكون في الاستدلال للعقائد طرائق جديدة لم تكن مألوفة في الاستدلال عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ثم هم في هذا السبيل قد قبسوا من الفلسفة ما يرهفون به سلاحهم، ثم هم كانوا مأخوذين بطرق خصومهم في الهجوم والدفاع، فسرت إليهم مسائل مما يخوض فيه أولئك الخصوم ثم تورطوا بعد ذلك في إثارة مسائل فلسفية لم يكن ما يفكر فيه السلف الصالح. تكلموا في إرادة الإنسان وأفعاله وسلطان الله عليها؛ وتكلموا في صفات الله سبحانه وتعالى: أهى شيء غير الذات أم هي والذات شيء واحد؟ تكلموا في كل ذلك، فأعرض الفقهاء مستنكرين عملهم.
107