Cogito ، ويفضل: «أنا موجود»
Ego .
2
والوجود هو البدن قبل أن يتخلق فيه الوعي. والبدن هو الذي يجوع ويعرى، يحس ويشعر، ويبرد ويحتر، ويسكن ويبقى بالعراء، ويمرض ويصح، ويصرع ويصرع، ويحيا ويموت. هوية الفقير في كفايته، وهوية الغني في طمعه، هوية الجائع في إطعامه، والعاري في إلباسه، والشريد في إيوائه؛ هي الهوية المباشرة التي يشترك فيها الجميع، الهوية الحسية التي لا تحتاج إلى وعي ذاتي؛ لأنها سابقة عليه، الهوية التي يثور الجياع والمشردون والفقراء والمساكين والمرضى لنيلها؛ هي الهوية التي أتى المسيح لإثباتها للمهمشين في المجمع الروماني؛ هي الهوية التي أثبتها القرآن للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والعبيد وصغار الموظفين
والعاملين عليها .
وقد أصبحت الهوية عنوانا لفلسفة «فلسفة الهوية» عند شلنج؛ أي: أن يكون الوجود مطابقا لنفسه دون فصام أو انقسام أو ازدواجية أفلاطونية، تطابق الروح والطبيعة، المثال والواقع، دون حركة أو جدل أو مسار؛ كما هو الحال عند هيجل. فهي ليست فقط هوية رياضية أو منطقية أو فلسفية أو نفسية، بل هي هوية أنطولوجية أقرب إلى وحدة الوجود عند الصوفية. فالهوية قد تنتقل من تجربة فردية إلى الوجود كله. الهوية ليست مجرد ظاهرة نفسية بل ظاهرة كونية.
لذا كان أفضل منهج لتناول الموضوع هو المنهج الظاهرياتي «الفينومينولوجي»؛ منهج تحليل الخبرات الشعورية؛ ما دامت الهوية ظاهرة إنسانية. وهو تحليل مباشر دون الاعتماد في مقدماته أو نتائجه على أدبيات الموضوع؛ من أجل تجاوز منهج «قال ... يقول»، وتجميع أقوال السابقين؛ فالقول قد يخفي العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع؛ في حين أن التحليل المباشر للظاهرة يعتمد على الحدس، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل؛ من النص إلى التجربة، ومن اللفظ إلى الشيء ذاته. فالمعنى الذي يدل عليه اللفظ ليس في اللفظ ولا في المعجم، بل في النفس. ما النص إلا علامة أو إشارة، ولا فرق بين الوافد والموروث، بين الأدبيات الغربية والأدبيات التراثية؛ فكلتاهما رؤى ومواد علمية مختلفة ومتباينة. إنما المهم هو النظير المباشر للواقع، التحليل المباشر للتجربة الذاتية، وهو الفرق بين المعلومات والعلم؛ المعلومات نقل ما عرفه السابقون، والعلم قراءة ما بين السطور. لا يقوم البحث على تجميع للمعلومات غربا وشرقا، بل إضافة معلومة جديدة تزيد في العلم. فلا يوجد إحساس بالنقص لدى الباحث تجاه القدماء ونصوصهم، يعرفها ويعرف ظروفها التي حاولت هذه النصوص التعبير عنها. وما أسهل نقل المعلومات! وما أصعب إبداع العلم! والحدس المباشر وقلب النظرة قادران على رؤية الشيء والتعبير عنها. ولا يوجد نقص لدى الباحث تجاه معلومات الآخرين، وهو قادر على إبداع نص مثل نصوصهم والمترجمة عنهم.
ولا يعتمد تحليل الخبرات الشعورية على المراجع والدراسات والرسائل والمؤلفات في الموضوع - وما أكثرها - بل يعتمد على التحليل الذاتي. دراسات الآخرين أدبيات في حاجة إلى المراجعة والتحقق منها، وقياسها على التجارب الشعورية لمعرفة الصحيح منها. وهو موضوع مستقل يقوم به شباب الباحثين وما تتطلبه الدراسات العليا في الجامعات، وهي تمتلئ بأسماء الأعلام، وكلما كثرت زادت أهمية البحث، وكلما زادت اتسعت آفاقه، وأصبح الباحث عالما مثل من ينقل عنهم. الإطار المرجعي في الدراسات الظاهراتية هو الشيء ذاته لا القول، هو الموضوع لا النص. يعتمد التحليل على الحدس المباشر وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، وعيش الموضوع باعتباره قصدية يمكن رؤيتها. وهي إيحاء متبادل بين الذات والموضوع. فالهوية ليست موضوعا صوريا ميتافيزيقيا مجردا؛ بل هي قصدية يشعر بها الباحث، يصف الموضوع بتحليل ذاته، ويحال فقط إلى بعض الكتابات السابقة من أجل عدم التكرار.
وإذا صعب تحديد الهوية إيجابا، فإنه من السهل تحديدها سلبا؛ أي: فقدان الهوية - أو ما يسمى بالاغتراب - أن تخرج الهوية خارج الوجود. تتخارج وتصبح بديلا عنه، يرى فيها الإنسان وجوده، وينسى وجوده الأصلي. وقد تحدث الفلاسفة، خصوصا الهيجليين منهم، عن الاغتراب أكثر مما تحدث الفلاسفة عن الهوية. كما أنه من الصعب الحديث عن الله إيجابا ومعرفة «ما الله»؛ في حين أنه قد يسهل الحديث عن الله سلبا لمعرفة ما ليس الله؛ لذلك كان اللاهوت السلبي أكثر سهولة ويسرا من اللاهوت الإيجابي، بل أكثر قبولا، فالله ليس شيئا، وليس مرئيا، وليس محدودا، وليس متناهيا، وليس فانيا، ولا مكان ولا زمان له. وظيفة التعريف السلبي هنا التطهير مما يعلق بالتعريف الإيجابي من تشبيه. التعريف السلبي تنزيه مستمر. «كل ما خطر ببالك؛ فالله خلاف ذلك»، «لا تفكروا في ذاته، وفكروا في آثاره». فالهوية بهذا التعريف السلبي ليست فصاما ولا انقساما ولا تغايرا ولا تخارجا ولا اغترابا للذات؛ الهوية هي المحافظة على الوجود توترا ذاتيا.
وعلى الرغم مما يبدو على الموضوع من طابع فلسفي ميتافيزيقي خالص، فإنه يرتبط بالفكر العربي المعاصر في القرنين الأخيرين منذ فجر النهضة العربية حتى الآن الذي يكشف صراع الهويات؛ فهو ليس موضوعا نظريا بل هو موضوع تاريخي يتعلق بوجود العرب في التاريخ.
صفحة غير معروفة