الإهداء
الهوية
الإهداء
الهوية
الهوية
الهوية
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى شهداء الربيع العربي.
حسن حنفي
25 يناير 2012
الهوية
أولا: الموضوع والمنهج
الهوية موضوع فلسفي بالأصالة. عالجه الفلاسفة المثاليون والوجوديون على حد سواء؛ المثاليون ميتافيزيقيا، وحولوه إلى قانون، قانون الهوية. والوجوديون نفسيا؛ منعا لانقسام الذات على نفسها، ومن ثم إنكار الوجود الإنساني. وقد يصبح عند بعض الفلاسفة القانون الأول في الفكر وفي الوجود مثل فشته. والغيرية ليست قانونا مستقلا بذاته مغايرا، بل هي نفي للهوية «اللاأنا». ويكون القانون الجدلي الموضوع: الأنا. نقيض الموضوع: اللاأنا. مركب الموضوع «الأنا المطلق».
1
وهو عند الواقعيين، خصوصا الوضعيين، تحصيل حاصل، لا يعني شيئا. هو تكرار لفظي للضمير المنفصل «هو»؛ مثل معظم مصطلحات الفلاسفة ومشكلاتهم. من الطبيعي أن يطابق الشيء ذاته وألا ينفصم عنها في غيره. هذه طريقة الميتافيزيقا؛ إثارة الغبار ثم الشكوى من عدم الرؤية. فهي بالنسبة إلى الوضعيين مشكلة زائفة مثل معظم قضايا الميتافيزيقا، أو هي عبارات أدبية مصوغة على نحو عقلي. لا مضمون لها، ولا تشير إلى شيء، ولا تقول شيئا، مجرد تحصيل حاصل، والحديث عنها لغو كلام.
وهي ليست موضوعا صوريا نظريا لا يفهم؛ كما تقول العامة التي تريد التعامل مع الأشياء العيانية الملموسة؛ فماذا يعني أن يكون الشيء هو هو؟ وهل الشيء غير الشيء نفسه؟ ومن الذي افترض أن الشيء يمكن أن يكون على غير ما هو عليه؟ أليس ذلك افتراض مشكلة ثم محاولة حلها؟ خطأ في السؤال، وخطأ في الإجابة، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا، يكثر الميتافيزيقيون استعماله؛ لأنه يعبر عن الموضوع في ذهنهم، وهو مثلهم الأعلى، وهو مصطلح شائع عن الفلاسفة مثل باقي المصطلحات الفلسفية؛ يفترضون القسمة ثم يقولون بالوحدة، يفترضون أفلاطون ثم يقولون بأرسطو.
ويتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية؛ فالهوية لغويا أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق. والماهية أن يكون الشيء «ما هو» بزيادة حرف الصلة «ما» على الضمير المنفصل «هو»، والمعنى واحد. قد يجعل البعض الماهية أكثر عمقا من «الهوية»، وفي اللغات الأجنبية لكل لفظ منفصل ماهية
Essence
من اللاتينية
Esse ؛ وهو فعل الكينونة. ولفظ «هوية»
Identité
من الضمير
Id ؛ أي: هو.
وكما يتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية، فإنه يتداخل أيضا مع مفهوم الجوهر، وتنتسب المفاهيم الثلاثة إلى جذر معنوي واحد، لا إلى جذر لغوي إلى مفهوم الأصل. وإذا كان مفهوما «الماهية» و«الهوية» مشتقين لغويين من نفس الجذر «هو»، فإن الجوهر استعارة من علم المعادن؛ من الجوهر النفيس؛ فالشيء جوهر؛ أي: غال. وهو في نفس الوقت لب الأشياء؛ كالمعدن النفيس بالنسبة إلى باقي الأحجار الكريمة، ومنها «جوهرة»، وقد استعارها الفلاسفة في تسمية كتبهم؛ مثل «جواهر القرآن» للغزالي.
الهوية خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة. هي موضوع إنساني خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل. هو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى اغتراب. الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، فالهوية تعبير عن الحرية؛ الحرية الذاتية. الهوية إمكانية قد توجد وقد لا توجد؛ إن وجدت فالوجود الذاتي، وإن غابت فالاغتراب.
الهوية إذن على الرغم من أنها موضوع ميتافيزيقي، فإنها مشكلة نفسية وتجربة شعورية؛ فالإنسان قد يتطابق مع نفسه أو ينحرف عنها في غيرها. الإنسان الواحد ينقسم إلى قسمين: هوية وغيرية، أو يشعر بالاغتراب إن مالت الهوية إلى غيرها أو انحرفت إليه. فالاغتراب لفظ فلسفي، والانحراف لفظ نفسي. الهوية أن يكون الإنسان هو نفسه، متطابقا مع ذاته؛ في حين أن الاغتراب هو أن يكون غير نفسه بعد أن ينقسم إلى قسمين؛ هوية باقية وغيرية تجذبها.
الهوية خاصية للنفس لا للبدن. هي حالة نفسية وليست حالة بدنية؛ طبقا للقسمة الأفلاطونية السينوية الشهيرة بين النفس والبدن. بيد الإنسان ذاته، وليست بيد الطبيب؛ حتى لو كان طبيبا نفسيا يرضي بها المريض انتظارا للموت، أو يعوضها بحالة نفسية نقيضة هي القوة التي لم يحصل عليها؛ كما هو الحال عند نيتشه؛ إرادة القوة كرد فعل على عجز البدن. يسميها المتدينون حالة روحية يغلب عليها الكفر لا الإيمان، الشرك لا التوحيد. فهي كفر برحمة الله ويأس منها، وإيمان بالشرك؛ أي: بالتوزع نحو قطبين، وقد تنشأ من البدن إذا كان عليلا ميئوسا من شفائه؛ إذ يتوق المريض إلى الصحة؛ وهي الحالة التي يرجوها ويتوحد معها. فالاغتراب حالة نفسية؛ كما أنه حالة بدنية. وإذا كان الاغتراب حالة وجودية، فلأن الوجودية لا تفرق بين النفس والبدن. والإنسان جسد كرد فعل على جعله روحا في الفلسفات القديمة، وكما هو الحال عند ميرلوبونتي وجابريل مارسل في فلسفة الجسد.
قد يعتبر بعض الوجوديين أن الهوية هي البدن؛ لرفضهم ثنائية النفس والبدن. «أنا جسمي - كما يقول جابريل مارسل - وعن طريق الجسم أتحرك وأنتشر في العالم وأعاشر جنسيا وأصارع». ويرفض سارتر مقولة ديكارت: «أنا أفكر»
Cogito ، ويفضل: «أنا موجود»
Ego .
2
والوجود هو البدن قبل أن يتخلق فيه الوعي. والبدن هو الذي يجوع ويعرى، يحس ويشعر، ويبرد ويحتر، ويسكن ويبقى بالعراء، ويمرض ويصح، ويصرع ويصرع، ويحيا ويموت. هوية الفقير في كفايته، وهوية الغني في طمعه، هوية الجائع في إطعامه، والعاري في إلباسه، والشريد في إيوائه؛ هي الهوية المباشرة التي يشترك فيها الجميع، الهوية الحسية التي لا تحتاج إلى وعي ذاتي؛ لأنها سابقة عليه، الهوية التي يثور الجياع والمشردون والفقراء والمساكين والمرضى لنيلها؛ هي الهوية التي أتى المسيح لإثباتها للمهمشين في المجمع الروماني؛ هي الهوية التي أثبتها القرآن للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والعبيد وصغار الموظفين
والعاملين عليها .
وقد أصبحت الهوية عنوانا لفلسفة «فلسفة الهوية» عند شلنج؛ أي: أن يكون الوجود مطابقا لنفسه دون فصام أو انقسام أو ازدواجية أفلاطونية، تطابق الروح والطبيعة، المثال والواقع، دون حركة أو جدل أو مسار؛ كما هو الحال عند هيجل. فهي ليست فقط هوية رياضية أو منطقية أو فلسفية أو نفسية، بل هي هوية أنطولوجية أقرب إلى وحدة الوجود عند الصوفية. فالهوية قد تنتقل من تجربة فردية إلى الوجود كله. الهوية ليست مجرد ظاهرة نفسية بل ظاهرة كونية.
لذا كان أفضل منهج لتناول الموضوع هو المنهج الظاهرياتي «الفينومينولوجي»؛ منهج تحليل الخبرات الشعورية؛ ما دامت الهوية ظاهرة إنسانية. وهو تحليل مباشر دون الاعتماد في مقدماته أو نتائجه على أدبيات الموضوع؛ من أجل تجاوز منهج «قال ... يقول»، وتجميع أقوال السابقين؛ فالقول قد يخفي العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع؛ في حين أن التحليل المباشر للظاهرة يعتمد على الحدس، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل؛ من النص إلى التجربة، ومن اللفظ إلى الشيء ذاته. فالمعنى الذي يدل عليه اللفظ ليس في اللفظ ولا في المعجم، بل في النفس. ما النص إلا علامة أو إشارة، ولا فرق بين الوافد والموروث، بين الأدبيات الغربية والأدبيات التراثية؛ فكلتاهما رؤى ومواد علمية مختلفة ومتباينة. إنما المهم هو النظير المباشر للواقع، التحليل المباشر للتجربة الذاتية، وهو الفرق بين المعلومات والعلم؛ المعلومات نقل ما عرفه السابقون، والعلم قراءة ما بين السطور. لا يقوم البحث على تجميع للمعلومات غربا وشرقا، بل إضافة معلومة جديدة تزيد في العلم. فلا يوجد إحساس بالنقص لدى الباحث تجاه القدماء ونصوصهم، يعرفها ويعرف ظروفها التي حاولت هذه النصوص التعبير عنها. وما أسهل نقل المعلومات! وما أصعب إبداع العلم! والحدس المباشر وقلب النظرة قادران على رؤية الشيء والتعبير عنها. ولا يوجد نقص لدى الباحث تجاه معلومات الآخرين، وهو قادر على إبداع نص مثل نصوصهم والمترجمة عنهم.
ولا يعتمد تحليل الخبرات الشعورية على المراجع والدراسات والرسائل والمؤلفات في الموضوع - وما أكثرها - بل يعتمد على التحليل الذاتي. دراسات الآخرين أدبيات في حاجة إلى المراجعة والتحقق منها، وقياسها على التجارب الشعورية لمعرفة الصحيح منها. وهو موضوع مستقل يقوم به شباب الباحثين وما تتطلبه الدراسات العليا في الجامعات، وهي تمتلئ بأسماء الأعلام، وكلما كثرت زادت أهمية البحث، وكلما زادت اتسعت آفاقه، وأصبح الباحث عالما مثل من ينقل عنهم. الإطار المرجعي في الدراسات الظاهراتية هو الشيء ذاته لا القول، هو الموضوع لا النص. يعتمد التحليل على الحدس المباشر وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، وعيش الموضوع باعتباره قصدية يمكن رؤيتها. وهي إيحاء متبادل بين الذات والموضوع. فالهوية ليست موضوعا صوريا ميتافيزيقيا مجردا؛ بل هي قصدية يشعر بها الباحث، يصف الموضوع بتحليل ذاته، ويحال فقط إلى بعض الكتابات السابقة من أجل عدم التكرار.
وإذا صعب تحديد الهوية إيجابا، فإنه من السهل تحديدها سلبا؛ أي: فقدان الهوية - أو ما يسمى بالاغتراب - أن تخرج الهوية خارج الوجود. تتخارج وتصبح بديلا عنه، يرى فيها الإنسان وجوده، وينسى وجوده الأصلي. وقد تحدث الفلاسفة، خصوصا الهيجليين منهم، عن الاغتراب أكثر مما تحدث الفلاسفة عن الهوية. كما أنه من الصعب الحديث عن الله إيجابا ومعرفة «ما الله»؛ في حين أنه قد يسهل الحديث عن الله سلبا لمعرفة ما ليس الله؛ لذلك كان اللاهوت السلبي أكثر سهولة ويسرا من اللاهوت الإيجابي، بل أكثر قبولا، فالله ليس شيئا، وليس مرئيا، وليس محدودا، وليس متناهيا، وليس فانيا، ولا مكان ولا زمان له. وظيفة التعريف السلبي هنا التطهير مما يعلق بالتعريف الإيجابي من تشبيه. التعريف السلبي تنزيه مستمر. «كل ما خطر ببالك؛ فالله خلاف ذلك»، «لا تفكروا في ذاته، وفكروا في آثاره». فالهوية بهذا التعريف السلبي ليست فصاما ولا انقساما ولا تغايرا ولا تخارجا ولا اغترابا للذات؛ الهوية هي المحافظة على الوجود توترا ذاتيا.
وعلى الرغم مما يبدو على الموضوع من طابع فلسفي ميتافيزيقي خالص، فإنه يرتبط بالفكر العربي المعاصر في القرنين الأخيرين منذ فجر النهضة العربية حتى الآن الذي يكشف صراع الهويات؛ فهو ليس موضوعا نظريا بل هو موضوع تاريخي يتعلق بوجود العرب في التاريخ.
ومصطلح «الهوية» لفظ تراثي قديم، موجود في كتب المصطلحات مثل «التعريفات» للجرجاني، ومعناه أن يكون الشيء هو هو، وليس له مقابل؛ مما يدل على ثبات الهوية. وهو موجود أيضا في المعاجم والقواميس الغربية في مصطلح
Identité ، و
Identity ، وأحيانا في مصطلح «الإنية» المشتق من «أنا»
Ipseité
و
Ipseity
بنفس المعنى. يستعمله الفرابي في كتاب «الحروف» في مقابل اللفظ الغربي
Altérité
أو
Alterity ، ويعني الغيرية، وهو على نقيض الهوية. وقد تكون الغيرية نسبية وليست كلية، أن يحدد انحراف الهوية والتعبير عنه بلفظ
Aliénation
من لفظ
Alius
ويعني الغير. وليس للفظ الأجنبي لفظ عربي قديم مقابل، وقد ترجمه المحدثون بلفظ «اغتراب»، وقد يكون المقابل لفظ «اختلاف»، وهو موجود عند القدماء، وموجود في التراث الغربي
Difference . وأصبح التقابل بين الهوية والاختلاف
Identité et Difference
شائعا. وفي التراث العربي «الاختلاف» أكثر شيوعا من الهوية لأنه لفظ بسيط؛ في حين أن الهوية لفظ مركب من الضمير المنفصل «هو» لا يتكرر.
كما تعني «الهوية» الشخصية أو التحقق منها في تحقيق الشخصية
d’Identité ؛ أي: مطابقة الشيء لنفسه. فالهوية تتعلق بالشخصية وبالعدد وبالتفرد وبالكيف؛ كما تقول المعاجم التي تعبر عن تصورات مجردة واقتباسات من أقوال الفلاسفة. وهي في الحقيقة وقائع حسية عيانية لا تحتاج إلى كل هذا التجريد.
3 «الهوية» هنا صورة أو بطاقة لتعرف الآخر على الذات في البنوك والمؤسسات والمركبات والامتحانات، وكل ما يحتاج إلى التحقق من الشخصية. لها رقم وصورة وتاريخ ميلاد ومكان وتاريخ إصدار؛ للإشارة إلى فرد بعينه، وانتحالها يعاقب عليه القانون.
وهذا يفرض أسلوبا وصفيا أدبيا؛ حيث لا فرق بين الفلسفة والأدب، فليست الفلسفة أسلوبا عويصا ومصطلحات غربية لا تفهم، بل هي أقرب إلى وصف الحياة اليومية وتحليل التجارب المعيشة. هكذا كانت عند سقراط وياسبرز ورسل المتأخر والتوحيدي وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وزكي نجيب محمود المتأخر. ليس الأدب مجرد قصص وشعر ومسرح، بل أيضا تحليل فلسفي لتجارب الحياة، وبحث عن دلالاتها؛ كشعر المعري وشكسبير وجوته ونزار قباني وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور. بل يمتد الأمر إلى زجل بيرم التونسي والأبنودي وأحمد فؤاد نجم. على هذا النحو تخرج الفلسفة من النخبة إلى الجماهير، ومن الخاصة إلى العامة؛ دون أن تفقد دقتها وعمقها. وقد امتازت فلسفات بالوضوح والبساطة؛ مثل فلسفة التنوير وفلسفة برجسون.
ثانيا: الهوية والاغتراب
ليست الهوية موضوعا ثابتا أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية. فالهوية قائمة على الحرية؛ لأنها إحساس بالذات، والذات حرة. والحرية قائمة على الهوية لأنها تعبير عنها. والحرية تحرر؛ أي: أنها إمكانية لأن يكون الإنسان حرا. الهوية إمكانية على إمكانية . الهوية إذن ليست شيئا معطى، بل هي شيء يخلق. لا يشعر بها كل إنسان كوعي مباشر؛ فالإنسان اليومي يوجد أولا، يعيش أولا، ثم يعي ذاته ثانيا. يأتي الوعي الذاتي بعد الوجود البدني، ثم يأتي الوعي بالعالم المحيط. وينشأ التساؤل عن الهوية: من هو؟ ولماذا هو في هذا الوضع الاجتماعي؟ وماذا يعني المحيط السياسي حوله؟ وما هذا الإعلام الصاخب الذي يسمعه؟ وماذا تعني هذه الصراعات السياسية حوله، ومحاولة إقناعه أو إغرائه أو حتى شراء صوته للانتخاب إلى هذا الفريق أو ذاك؟ وما هذا الزحام في الطريق والتسابق بالعربات يمينا ويسارا؛ وهو سائر على الأقدام فوق الرصيف الذي «تركن» فوقه العربات أو تقف عليه عربات الباعة الجائلين، أو ترسو عليه صناديق القمامة - المفتوحة أو المقلوبة أو التي خارجها حولها أكثر مما بداخلها، تتعايش عليها القطط والكلاب الضالة - لا يجد قوت يومه هو وأسرته؟ وإذا مرض أحد منهم كيف العلاج وشراء الدواء؟ أما إذا مات أحد منهم فأين يدفن وهو ليس له مقابر إلا للسكنى بالإيجار؟ وأين يرسل أولاده للتعليم إذا ما بلغوا السن القانونية؛ خوفا من العقاب أو طمعا في مستقبل أفضل لهم؛ بدلا من تركهم أطفالا للشوارع أو باعة جائلين بين العربات وعلى مفارق الطرق، وتحت إشارات المرور، مع العجائز على أرصفة الطريق يحملن الأطفال في البرد القارس أو في الحر القائظ؟
وقد تتحول الهوية إلى اغتراب؛ تنقسم الذات على نفسها، وتتحول مما ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، من إمكانية الحرية الداخلية إلى ضرورة الخضوع للظروف الخارجية بعد أن يصاب الإنسان بالإحباط - والإحباط عكس التحقق - وضعف الإرادة، وخيبة الأمل، وتخل عن الحرية. تشعر بالحزن دون معرفة السبب، وتشعر باليأس والشقاء، كما وصف فلاسفة الوجود مثل كيركجارد وهيدجر وسارتر، ثم يسيطر الاغتراب على موضوع الهوية. ويتناوله الفلاسفة منذ هيجل وماركس حتى فلاسفة الوجود المعاصرين سارتر ومارسل وياسبرز. فالاغتراب هو الأكثر شيوعا، وهو الأكثر وقوعا. الهوية حالة مثالية؛ في حين أن الاغتراب حالة واقعية، بل إن بعض الفلاسفة يرى الهوية مجرد افتراض ميتافيزيقي؛ في حين أن كل إنسان مغترب بطريقة أو بأخرى، فالاغتراب على درجات من الشدة، والإنسان الطبيعي هو الذي يوجد بين قطبي الهوية والاغتراب، ولا يمكن التخلص من الاغتراب أو على الأقل درجة منه يحددها التحقق الذاتي.
وقد يؤدي فقدان الهوية، أي: الاغتراب، إلى ردي فعل متضادين؛ مثل العزلة والانطواء أو الانتشار والعنف. ولما كانت الهوية أصيلة في الوجود الإنساني، فإنها تتحقق في أشكال عديدة؛ سواء كانت منطوية أو منتشرة، إلى الداخل أو إلى الخارج. وكلاهما خارج الوجود الإنساني لا فيه، كلاهما انحراف عنه لا تحقيق له. فمن يفقد هويته يفقد قدرته على الحركة والنشاط، وتتبخر طاقته التي تحركه، ويعتزل الناس في حالة انكماش أو انقباض أو تقلص؛ مثل الحبيب الذي هجرته حبيبته، أو القريب الذي فقد أعز الناس إليه. وقد يشعر بالضياع لأن الهوية هي الوجود، وقد يخون مكتشفا هويته في غيره. ويشعر بالعدم والخواء والفراغ الذي يحس به الوجوديون؛ مثل سارتر وهيدجر في قولهم: «الوجود عدم». وقد ينتحر لأن وجوده لم يعد له أساس. هوية خاوية بلا مضمون، تأخذ من ذاتها مضمونا بعد أن ضاع مضمونها. تصبح في حالة كمون دون أن تضيع. تنتظر الفرصة حتى تتخارج وتنطلق وتأخذ الطريق الثاني؛ طريق العنف والعدوان.
قد يتخارج الانطواء في فعل حقيقي عن طريق المخدرات بأنواعها كافة، وانتشارها عند الأغنياء مظهر من مظاهر الترف، وعند الفقراء مظهر من مظاهر العوز، والفرق هو «الصنف». وانتشر تجار المخدرات في الطبقات العليا ترفا، وفي الطبقات الدنيا عوزا، وفي الطبقات الوسطى «مزاجا» و«سلطنة» كما وضح في بعض روايات نجيب محفوظ مثل «ثرثرة فوق النيل». يجد الإنسان هويته من صنعه، من وضع الخيال، في عالم يحلم به، يريد الغوص فيه وعدم العودة منه، ويا ليته يكون مع «شلة الأنس»؛ تعويضا عن جماعة العمل الفعلي. وهو طريق سهل ليس به أي مخاطرة إلا مع أجهزة الأمن ومخالفة القانون، وعادة ما يتم التغلب على هذه المخاطرة إما بالحرص وإما بالتواطؤ. وهناك عشرات من الدراسات الاجتماعية عن ظاهرة «تعاطي المخدرات»؛ أسبابها ودوافعها وطرق علاجها. وقد انتشرت في الأدب الحديث العربي والغربي؛ بخاصة في الأدب الوجودي. واشتهر بعض كبار الأدباء بالتعامل مع الظاهرة مثل جان جينيه وغيره.
وقد تتحقق الهوية في أشكال أخرى من الانحراف؛ مثل الشذوذ الجنسي الذي انتشر بين مشاهير الكتاب والفنانين عربا وغربيين. فالشذوذ الجنسي عنف مع لاعنف، إيجاب مع سلب، التحقق في شخص بدلا من التحقق في جماعة. الفاعل قوي اجتماعيا، والمفعول فيه ضعيف يريد أن يكون قويا من الباب الخلفي. ليس لدى الفاعل إحساس بالذنب، بل هو حقه في الانتصار عن طريق الانتصاب. في حين يظهر الإحساس بالذنب عند المفعول فيه، ضعف على ضعف، وانكسار على انكسار، وانفعال تحت فعل. قد ينتهز الفرصة للانتقام إذا ما حانت، ويتحول من مفعول فيه إلى فاعل، ومن منكسر إلى منتصر؛ كما هو الحال في رواية «عمارة هاجوبيان» للورداني. وينتشر الشذوذ الجنسي أيضا في الطبقة العليا ترفا، وفي الطبقة الوسطى مزاجا، وفي الطبقة الدنيا عوزا وتعويضا.
وعلى عكس الطريق السابق قد تسترد الهوية نفسها خارجها في العالم؛ في الانغماس في الحياة الدنيا؛ حياة اللهو والترف ومظاهر
Dolce Vitae ، حياة المولات والمدن الجديدة الصحراوية والساحلية؛ خصوصا إذا توفرت الإمكانيات المادية. وهي حالة البذخ من أجل المساعدة على نسيان الهوية الضائعة، واستعواض الخارج بالداخل. وقد نشأت طبقة جديدة من الشباب بفنونهم وملاهيهم لهذا الغرض؛ لذلك انتشرت «المولات» و«السنترز» و«الاستارز» في الأحياء والمدن الجديدة. تزدحم بمجموعة من شباب الطبقة الجديدة، يجدون فيها هوية بديلة، معظمها أسماء أجنبية بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية؛ كوفي شوب، بيتزاهت، ماكدونالدز، جينوز، إلخ. وحديث «الجارسونات» باللغات الأجنبية، والأسعار على مستوى الأسعار في الخارج لا إشكال فيها؛ فالقدرات الشرائية متوفرة، والمشكلة «الباركينج» أسفل البنايات بالساعة أو على الأرصفة بالمنادي، و«الدبل باركنج» والوقوف في الممنوع مع إسكات شرطي المرور ببعض ما يجود به أصحاب السيارات. ويصرف الشاب في ليلة واحدة ما يصرفه العامل في شهر واحد. فإذا زادت الإمكانيات، ولم يتسع الخارج المحلي، اتسع نطاق النشاط إلى المجال الدولي؛ من أجل البحث عن هوية بديلة في الخارج تصل إلى حد تبني الجنسية الجديدة، فيتحول إلى مواطن البلد البعيد الذي هاجر إليه؛ فلا هو يستطيع أن يكسب هوية جديدة من بلد الهجرة، ولا هو يستطيع أن ينسى هويته السابقة؛ البلد المهجور. ويظل يعيش مع مواطنيه الأصليين، يسكن معهم وفي أحيائهم، يتناول مأكولاته الشعبية، ويتحدث لغته الوطنية، ولا يكتسب تماما لغة بلد الهجرة، ولا يتأقلم مع عاداته وتقاليده حتى لو تزوج منه، وحاول الاندماج فيه؛ إذ تستعصي الهوية الجديدة عليه؛ لأنها تقوم على أساس عنصري يرفض قدوم الدخيل إليه. وتتكون وسط المدن الأوروبية أو على هوامشها الأحياء العربية أو الهندية أو الباكستانية أو الصينية أو الآسيوية؛ حتى لا تغترب الهوية، وحتى يعيش المواطن كأنه بين أهله وفي وطنه، لم يفارقهم ولم يغادره. ويكون المهاجرون عرضة للاضطهاد في أي مد عنصري يميني نازي جديد، يدعو إلى الحفاظ على الشخصية الوطنية، وحمايتها من الدخلاء؛ المآذن، والمنتقبات والحجاب، والقاذورات في الطرقات، والبيع في الشوارع والميادين بعد صلاة الجمعة والأعياد، وتعبئة الجو بروائح التوابل الشرقية التي تجذب البعض وتنفر البعض الآخر.
وفي الخارج تزداد الهوية الأصلية انغلاقا؛ دفاعا عن النفس كرد فعل طبيعي للأقلية تجاه الأغلبية. وتظهر الحركات السلفية لدى المهاجرين وهم وسط الحضارة الغربية؛ حضارة الحداثة. ويزداد التمسك بمظاهر الهوية: اللحية والجلباب والحجاب والنقاب. وكما قيل: «إذا أراد الإنسان أن يكون اشتراكيا، فليذهب إلى باريس، وإذا أراد أن يكون رأسماليا، فليذهب إلى موسكو»، يقال أيضا: «إذا أراد الإنسان أن يكون سلفيا، فليذهب إلى الغرب، وإذا أراد أن يكون تقدميا، فليأت إلى العالم الإسلامي»، فكل شيء يعرف بنقيضه.
وبدلا من تمثل الحضارة الغربية يبدأ رفضها، وهو ما سماه المصلحون «الحضارة المادية»، وحاولوا نقده وبيان معارضته لقيم الحضارة الروحية كافة مثل الحضارة الإسلامية، وهو ما نقده فلاسفة الغرب أنفسهم مثل برجسون وهوسرل وشيلر ورسل وتوينبي. وينشأ الاستقطاب الشديد بين السلفي والعلماني، بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو في اللاشعور استقطاب بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال، بين أهل الجنة وأهل النار. ويشتد تحت الحكم الاستبدادي الديني أو العسكري.
وقد ظهرت الهوية السلفية منذ القرن الثامن عشر في الحركة الوهابية؛ التي نشأت رد فعل على مظاهر البدع والخزعبلات وجوانب الشرك في التوحيد داخل العقيدة الإسلامية في الحجاز؛ التبرك بالأشجار والأحجار ومقابر الأولياء، وضرورة العودة إلى أصل التوحيد في الكتاب والسنة؛ اعتمادا على النصوص والأدلة النقلية. وربطت نفسها بابن تيمية وابن القيم ووراءهما ابن حنبل. وعادت السلفية إلى الازدهار بعد سقوط الخلافة العثمانية وكبوة الإصلاح ودخول كبرى الحركات الإسلامية، الإخوان المسلمين، في السجون على مدى أكثر من نصف قرن. وارتبطت السلفية بالقبلية في الحجاز وبتأسيس الدولة، فارتبط الدين بالدولة. ولما كان الدين سلفيا أصبحت الدولة سلفية كذلك. وانتشر منهج النص، واتحدت سلطة النص مع سلطة الأمير؛ السلطة الدينية والسلطة السياسية. وأعطيت الأولوية للواجبات على الحقوق، وللحدود على الظروف المخففة، وللمنع على الإباحة، وللقهر على الحرية. فقام الاستبداد السياسي على الاستبداد الديني، وأصبح الدين يعني بالضرورة القمع والمنع والقهر والزجر والحرام، والتحريم والتخويف؛ فيمنع قدرات الإنسان من التجلي، وتكون الهوية مفروضة عند كل الناس، من يقبلها ومن لم يطقها، كالخاتم الخارجي الذي يلاصق الجسم فيطبعه بطابعه.
ومنذ فجر النهضة العربية في القرنين الماضيين كان قد نشأ صراع الهويات؛ الهوية الإصلاحية التي يمثلها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وابن باديس وعبد القادر الجزائري، والهوية الليبرالية التي يمثلها الطهطاوي وخير الدين التونسي وطه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل، وقاسم أمين في كتابيه عن المرأة «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وخالد محمد خالد في كتابه الأول «من هنا نبدأ» وكتبه التالية، قبل أن يتحول إلى الهوية الإسلامية في «رجال حول الرسول». والهوية العلمية العلمانية التي يمثلها شبلي شميل وفرح أنطون ونيقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر، قبل أن يتحول في آخر حياته إلى الهوية الإسلامية في «الإسلام أبدا». وما زالت هذه الهويات الثلاث في صراع بينها، تتقارب وتتباعد فيما بينها، تختلف في نقطة البداية؛ الدين للتيار الإصلاحي، والدولة للتيار العلماني ، والعلم للتيار العلمي، ولكن النهاية تتقارب في كبوة كل تيار، والاقتراب من السلفية؛ السلفية الدينية، والسلفية الليبرالية في الفكر، والسلفية العلمية في برامج العلم والإيمان. أصبحت السلفية طابع الفكر، الرجوع إلى الوراء للعجز عن مواجهة الواقع، الليبرالية سلفية، والعلمانية سلفية، والإصلاحية سلفية. ويقوي ذلك قيمة السلف في الثقافة الشعبية
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، «خير القرون قرني» ... على الرغم من وجود تيار آخر في الثقافة الشعبية يعطي الأولوية للتقدم على التأخر
والسابقون السابقون ،
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» ... وجوهر النبوة التقدم في مسار طويل من أول الأنبياء حتى آخر الأنبياء؛ حتى يرث العقل والحرية النبوة.
وبرزت الهوية العلمية العلمانية تبنيا للنموذج العلمي الطبيعي الغربي، وأهم نظرية فيه في القرن التاسع عشر؛ وهي نظرية التطور في العلوم الطبيعية، والعلمانية؛ أي: فصل الدين عن الدولة في العلوم الإنسانية. بدأها شبلي شميل (1850-1917م)، وفرح أنطون (1874-1922م)، وسلامة موسى (1887-1958م)، وإسماعيل مظهر (1891-1962م)، وزكي نجيب محمود (1905-1993م). فالعلم الطبيعي يستند إلى منهج تجريبي لا إلى أحكام مسبقة، فإذا ما تحقق أحد افتراضاته أصبح قانونا. يبدأ بملاحظات أولية تعتمد على الحس لا على الغيب. وقانون الطبيعة ثابت، ومن ثم لا مكان للمعجزات؛ بمعنى خرق قوانين الطبيعة. ومع ذلك ظلت الهوية العلمية خارجية؛ لأنها تستند إلى أساس ديني غيبي أسطوري مغروز في الثقافة الشعبية. ولم تقم بعد محاولة جادة لنقدها وتطهيرها؛ من أجل بناء ثقافة علمية بديلة تقوم على العلية؛ كما كان الحال في علم أصول الفقه في القياس الشرعي؛ الأصل الرابع للتشريع؛ إذ غلب الأصل على الفرع في الثقافة الشعبية المغروزة، وأخذ الفرع حكم الأصل بلا تعليل. ما زال العلم وافدا من الغرب لا نابعا من الذات، بل إن بعض العلماء يهاجرون إلى الغرب بلاد العلم، ويتركون بلاد الخرافة والجهل والسحر والشعوذة؛ حتى وصل مقدار العلماء الأفارقة والآسيويين إلى نحو 30٪ من مجموع العلماء الغربيين الذين يسهمون في تقدم العلم وبناء العمران .
وتنشأ ظاهرة «التغريب» بين المثقفين رد فعل على التخلي عن الهوية الأصلية. ويعني التغريب أخذ الغرب نموذجا في الفكر والحياة اليومية؛ في الثقافة واللغة واللباس والمنظور. ويصبح نموذج «الخواجة» أحد نماذج التحديث في الفكر العربي المعاصر. فالغرب مصدر العلم ونموذج الحداثة، وكان كذلك منذ فجر النهضة العربية الحديثة، وكان وراء التحديث في عصر إسماعيل حتى «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين؛ فنشأ رد فعل عليه في التمسك بالهوية، وظهر نموذج التواصل مع الماضي بدلا من الانقطاع عنه كما فعل الغرب، وكتب توفيق الحكيم «عصفور من الشرق»، وكتب محمد الغزالي «ظلام من الغرب». وأراد علي عبد الرازق فصل الدين عن الدولة أسوة بالغرب؛ في «الإسلام وأصول الحكم»، وتقليدا للثورة الكمالية في تركيا. ورد عليه محمد رشيد رضا في «الخلافة أو الإمامة العظمى» في نفس العام؛ لإحياء الخلافة الإسلامية بعد سقوطها عام 1924م بعد الثورة الكمالية في تركيا عام 1923م. وما زال التغريب غواية للنخبة إحساسا بالنقص أمام الآخر، ورغبة في الوصول إلى مستواه؛ لغة وثقافة وعلما وتحضرا. ومهما نشأت محاولات لعلم «الاستغراب»؛ لتحويل الغرب إلى موضوع للعلم من أجل التحرر منه، فإن التغريب ما زال مستمرا، ويظهر أثره في الحياة العامة، ويحدث رد فعله في الهوية السلفية.
4
ثم نشأت الهوية الليبرالية جمعا بين القديم والجديد عند الطهطاوي في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، وخير الدين التونسي في «أقوم المسالك». يقرأ الهوية العربية الإسلامية من منظور التحديث الغربي خصوصا فلسفة التنوير؛ فولتير ومونتسكيو وروسو، وقراءة فلسفة التنوير من منظور إسلامي؛ فمونتسكيو في «روح الشرائع» هو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون في «المقدمة» هو مونتسكيو الشرق، وعلم العمران عند ابن خلدون هو ما سماه الغرب «الإندوستريا»
Industrie ؛ وهو ما يترجم الآن ب «الصناعة»؛ لما كانت الصناعة روح العمران. «فليكن هذا الوطن مكانا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». ووضع الطهطاوي الهوية داخل الموقف الحضاري الثلاثي: تأصيلها في الموروث القديم في «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وانفتاحها على التراث الغربي في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وتنظيره المباشر للواقع في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» لبناء الدولة المصرية الحديثة. واستمر في نفس التيار علي مبارك في «الخطط التوفيقية»؛ لاستكمال بناء الدولة التي بدأها محمد علي. وبلغت الذروة حول ثورة 1919م ودستور 1923م وإنشاء الجامعة المصرية 1925م. إلا أن الثورات العربية الأخيرة بقيادة الضباط الأحرار في الخمسينيات والستينيات قضت عليها باسم الدولة الوطنية، والتحرر الوطني، وبناء الدولة، وتأسيس القطاع العام، والتخطيط؛ مما يحتاج إلى سلطة مركزية ممثلة في الحزب والجيش والدولة. ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة أمنية قاهرة، تجد أحلافها وأنصارها في الخارج أمريكا وإسرائيل. ثم جاءت الثورات العربية الأخيرة لتقضي عليها، وما زال النضال مستمرا بين الثورة الشعبية والاستبداد العسكري؛ مع الحذر من الاستبداد الديني البديل.
وأخذت الهوية الإصلاحية اتجاها يربط بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد؛ بناء على حديث المجددين: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وفسرت الهوية الإسلامية في ظرف القرن التاسع عشر الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وأول من فكر في «لاهوت الأرض» لإعادة بناء اللاهوت القديم؛ من أجل تحرير الأرض، فالله «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، كما فكر في الإسلام والاشتراكية، «عجبت لك أيها الفلاح؛ تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك». فكر في وحدة الأمة، والتوحيد بين الدين والقومية.
5
وفجرت تعاليمه الثورة العرابية عندما قال أحمد عرابي أمام الخديو توفيق: «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا، والله لا نورث بعد اليوم». وخشي تلميذه محمد عبده من هذه الثورة الإصلاحية؛ فآثر التدريج والبداية بالتعليم وتغيير الأخلاق، فكان وراء إنشاء كلية دار العلوم ثم الجامعة المصرية، فتراجعت الحركة الإصلاحية إلى الوراء كحلقة سلفية على يد محمد عبده بعد فشل العرابيين، ثم تراجعت سلفية مرة أخرى على يد تلميذه رشيد رضا، بعد انهيار الخلافة الإسلامية في تركيا في 1924م بعد الثورة الكمالية عام 1923م. وبعد أن نشطت الحركة الإصلاحية من جديد على يد حسن البنا تلميذ رشيد رضا في «دار العلوم»، وإنشاء جماعة الإخوان المسلمين؛ نشطت الحركة الإسلامية في حرب فلسطين 1948م، وكانت أحد مكونات الثورة المصرية في 1952م. اصطدمت مع الضباط الأحرار في 1954م، وكانت النتيجة دخول السجون والتعذيب. فتحول سيد قطب من مفكر اشتراكي صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام»، إلى «المستقبل لهذا الدين»، و«معالم في الطريق». يقول فيه بالحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه لن يغير هذا المجتمع إلا جيل قرآني فريد تحت شعار «لا إله إلا الله» ... فخرج إسلام غاضب ثائر، يريد أن يهدم قبل أن يبني، ويقوض قبل أن يشيد، يكفر حكم البشر، ولا يطيع إلا حكم الله. فانتهت التيارات الثلاثة إلى السلفية، وهو ما ظهر في قوتها في الانتخابات الأخيرة؛ سواء في حزب «الحرية والعدالة» أو حزب «النور» اللذين أخذا نحو 65٪ من الأصوات.
ثالثا: الهوية والاغتراب الديني
يؤدي فقدان الهوية والتوحد مع النفس حرصا على انقسامها إلى أشكال عديدة من الاغتراب؛ أهمها الاغتراب الديني والاغتراب السياسي. يظهر الاغتراب الديني في علم العقائد وفي التصوف؛ إذ تقوم العقائد على قسمة العالم قسمين: الأعلى والأدنى، الخالق والمخلوق، الأبدي والزمني، الخالد والفاني ... الأول تستريح إليه النفس، والثاني تشقى فيه. الأول بيده كل شيء؛ العلم والفعل؛ يرسل العلم ويوجه الفعل، والثاني يتلقى العلم، ويحقق الفعل. وفي الأغلب تتحقق الهوية خارج العالم، في عالم مفارق، عالم علوي يتجاوز هذا العالم، يسميه اللاهوتيون والصوفية «الله». وهو عند المتكلمين نظرية في الذات والصفات والأفعال والأسماء، وتعني إخراج الكمال من داخل الإنسان إلى خارجه، وتفريغه من المثل العليا، ثم تشخيصها وتقديسها وعبادتها. فصفات الذات الست: الوجود، والقدم، والبقاء، ولا مكان، ولا صورة له، وواحد؛ هي صفات الحبيب، ما تعشقه النفس، وجود الحبيب وأنه يعرفه من قديم الزمان، وباق إلى الأبد، خالد لا يموت، لا مكان له، وإلا وقعنا في التجسيم، بل في كل مكان، ولا صورة له، وإلا وقعنا في التشبيه، وواحد ليس كمثله شيء، فرد لا مثيل له. أما الصفات فهي سبع، هي أيضا المثل التي تعشقها الذات وتحب أن تكونها أو أن يعاملها الآخرون بها: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة. فالإنسان يود أن يكون عالما ولكنه لا يستطيع؛ فيتحول العلم إلى مثل أعلى ولا يتنازل عنه، ولما كان صعب التحقيق، فإنه يعظمه ويبجله ويقدسه؛ فيتحول إلى صفة للإله أو إلى الإله. وكذلك يتم نفس الشيء للقدرة؛ يريد الإنسان أن يكون قادرا ولكنه لا يستطيع، ولا يتخلى عن القدرة كمثل أعلى؛ فتتحول إلى صفة إلهية للإله. ويتم نفس الشيء بالنسبة إلى الحياة؛ يريد الإنسان أن يكون حيا ولكنه يموت، ولا يستطيع أن يتخلى عن الحياة كهدف أسمى؛ يقدسها ويحولها إلى صفة إلهية. ويتم نفس الشيء بالنسبة إلى السمع والبصر والكلام والإرادة؛ يريد الإنسان أن يكون سليما في إدراكه، ولكنه لا يستطيع لقصوره الجسمي، فيحولها إلى آمال لديه كي تتحقق، فإذا لم تتحقق يحولها إلى مثل عليا للوعي الإنساني ويقدسها بل ويؤلهها. أما الأسماء التسعة والتسعون فإنها أيضا تمثل آمال الإنسان في الرحمة والقوة والعظمة. تكشف في مجموعها عن وعي الإنسان بذاته الذي تحول إلى الله كوعي ذاتي؛ وعي الإنسان بالعالم أو بالطبيعة، وإلى وعي الإنسان بنفسه.
6
وقد يكون منها بعض المعاني السلبية؛ مثل: المتكبر، والجبار، والقهار.
والبعض الآخر يوحي بالعقل النظري والعقل العملي ونقد ملكة الحكم لكانط. وقد حاول فيورباخ القضاء على هذا الاغتراب بتحويل الثيولوجيا إلى أنثروبولوجيا، والعودة بصفات الله إلى صفات الإنسان.
7
فيثق الإنسان بنفسه ويسترد شجاعته، ويتخلى عن عجزه، ويحقق ما يحلم به، ويصبح ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن. لا يستطيع استرداد هويته كاملة ومرة واحدة، يحتاج إلى وقت وجهد زائدين، فالهوية إمكانية لا واقع، وبدلا من أن تضيع الطاقة في العبادة، أي: في الفعل الرمزي، تنفق في تحقيق الفعل في اللاهوت. العالم عالمان، واحد سالب هو هذا العالم، وآخر موجب هو الله. ويعوض حصول الثاني خسارة الأول؛ نظرا إلى العجز عن التعامل معه أو الهروب منه، أو استصعابه واستسهال الدعاء وموالد للشحاذة؛ كما يقول إقبال.
8
ولما كانت الهوية هي الماهية، فإن الوجود يسبق الماهية، وليس الحال كما هو عند الفلاسفة المثاليين من أن الماهية تسبق الوجود. ولا تعني الأسبقية في الزمان الأسبقية في الوجود. الماهية تتخلق في الوجود، يصنعها الوجود ثم يحققها بعد أن تكتمل؛ في جدل مستمر بين الوجود والماهية. والوجود يخلق الماهية، والماهية تخلق الوجود، لا توجد ماهية مسبقة على الوجود، باسم النفس أو القدر، فذلك حد من حرية الإنسان، والماهية هي الحرية، والهوية هي تحقيق هذه الماهية كفعل حر.
9
وما سماه المتكلمون الذات والصفات والأفعال والأسماء، وسماه الفلاسفة العقل الفعال أو العقل الأول أو العلة الأولى أو المحرك الأول أو الصورة المحضة؛ هي أسماء تدل على مسمى واحد، أسماء تدل على إعطاء الفعل كله إلى مصدر واحد أول؛ وهو ما يعادل الخلق في علم الكلام وصفة الخالق. إنما التحرر هو من لغة اللاهوت إلى لغة الفكر، ومن مصطلحات علم الكلام إلى مصطلحات الفلسفة. وبدلا من أن يكون الخلق مرة واحدة بفصل تام بين الخالق والمخلوق، يكون فيضا متدرجا، خطوة وراء أخرى، من عقل أول إلى ثان إلى ثالث حتى العاشر، ومن يرد الوصول إليه يصعد إليه درجة فدرجة؛ كما فاض هو درجة درجة.
وإذا اتضح الاغتراب الديني في علم العقائد على نحو تصوري ذهني، فإنه يتضح أيضا في التصوف على نحو عاطفي وجداني ذوقي. فقد عرف التصوف نفسه بأنه تخل عن الأوصاف الإنسانية، والتحلي بالصفات الإلهية. ويستعملون ثلاثة ألفاظ متشابهة الإيقاع: «التخلي والتحلي والتجلي»، يتخلى أولا عن الصفات الإنسانية، ثم يتحلى بالصفات الإلهية، ثم يتجلى الله له. وهي هوية خارج العالم بعد أن يفرغ الصوفي من هويته ويتخلى عن عالمه، ويتجه إلى أعلى، ويرقى في المقامات والأحوال حتى ينتقل من البقاء إلى الفناء. يتحد بالله ابتداء من وحدة الذات، ثم وحدة الشهود؛ ألا يرى أمامه إلا الله، ثم أخيرا وحدة الوجود؛ أن يكون هو والعالم والله شيئا واحدا. وهي هوية مملوءة من خارجها، من الله، لا من ذاتها بعد أن أفرغت العالم منها، وحولتها إلى خيال ينشد شعرا، ويعبر عن لوعة الحبيب. ويعود البعض إلى العالم من جديد تائها غائبا لما كان فيه. قد يحسبها البعض هوية صورية فارغة، فالصفي أقرب إلى السكون منه إلى الحركة، وأقرب إلى الصمت منه إلى الكلام.
ويقع الاغتراب أيضا في صلة الإنسان بالنص؛ فبدلا من أن يكون النص في صالح الإنسان، يصبح الإنسان في صالح النص، تصبح الهوية نصية. ولما كان النص سلطة تصبح الهوية سلطوية باسم النص، ولما كان النص عرضة للتأويلات المختلفة، وكانت التأويلات طبقا للمصالح والأهواء؛ نتج صراع الهويات. ولما كانت النصوص موضوعا للاختيار والانتقاء طبقا للآراء المسبقة والمواقف الاجتماعية والسياسية، نشأت الفرق والطوائف، كل فرقة أو طائفة تنتقي من النصوص ما يوافق هواها وموقفها الاجتماعي والسياسي، فبدلا من أن تكون الهوية عاملا تجميعيا؛ لاستنادها إلى نسق عام للقيم، تصبح عنصر تفريق. وتنقسم الهوية العامة إلى هويات خاصة، وتضيع أهم صفة للهوية - وهي العموم أو الشمول - تستند إلى المعقول لا إلى المنقول، وتقوم على العقل لا على النص.
وتصبح الهوية صورية شكلية إذا ما قدم الشكل على المضمون، والعبادات على المعاملات، والمظاهر على الجواهر؛ مما يؤدي أحيانا إلى النفاق عندما يصبح المظهر دون مخبر، والظاهر دون باطن، والخارج دون داخل، والفعل دون نية، أو بنية مغايرة. والفعل ليس مقصودا لذاته؛ بل للنية التي وراءه، والعبادة ليست مقصودة لذاتها، فإن الله غني عن العالمين، بل للمصلحة الفردية والاجتماعية وراءها، فالأحكام مقاصد، تكثر العبادات وتقل المعاملات، ويتم التسابق في بناء المساجد دون المدارس والمستشفيات والأندية الرياضية. ويحدث التوتر بل، أحيانا، الصراع بين الطوائف سباقا على بناء دور العبادة، أكثر أو أقل أو في مكان الصدارة أو في الخلفية. وترفع الأصوات للنداء على الصلاة في المآذن أو الكنائس، بالأذان أو قرع الأجراس، والأعلى هو الأفضل.
وقد تنفجر الهوية ضد التغريب وكل مظاهر التحديث، فتتمسك بأكثر الأشكال والرموز تشددا؛ كالنقاب للمرأة، واللحى للرجال، والفصل بين الرجال والنساء، ومنع قيادة السيارات، والسياحة، وإغلاق الملاهي في الفنادق والمحلات العامة.
وإذا كان الوحي قد نزل من أعلى إلى أدنى، وكان له أسباب نزول، الواقع يسأل والوحي يجيب
يسألونك عن الخمر ،
يسألونك عن المحيض ،
يسألونك عن الأنفال ، فكيف يقلب الإنسان جدل السؤال والجواب ويجعل الوحي مطلقا بلا مكان؟ وإذا كان الحكم الشرعي يتغير بتغير الزمان، كلما تغير الزمان تغير الحكم من الأخف إلى الأثقل أو من الأثقل إلى الأخف، وهو النسخ، فكيف يقلب الإنسان الوحي ويطلقه ويجعله مطلقا خارج الزمان، ثابتا لا يتغير، مهما تغير الزمان؟ تعظيم وتقديس وتمجيد الوحي بإخراجه خارج الزمان والمكان؛ هو اغتراب للوحي وقضاء على الهوية الإنسانية المتفاعلة مع الوجود الإنساني. والوحي نزل بلغة معينة؛ اللغة العربية، في ثقافة معينة؛ الثقافة العربية، وفي بيئة وأعراف معينة؛ البيئة والأعراف العربية، وفي سياق ديني معين سابق؛ يهودي ونصراني، وفي إطار حضاري معين؛ يوناني روماني فارسي حبشي، فكيف يفهم خارج السياق؟ هذا كله اغتراب معرفي وسلوكي يقضي على الهوية النظرية والعملية للوجود الإنساني.
الهوية هي تطابق الحاضر مع الحاضر، عيش اللحظة الراهنة، الإدراك المباشر للنفس والرؤية المباشرة للواقع. هي تفاعل مع اللحظة التي هي انتقال من الماضي إلى الحاضر. أما التطابق مع الماضي فهو السلفية بعينها التي ترى روحها ووجودها في لحظة ماضية، بعد أن تغترب عن الحاضر، فالسلف خير من الخلف، و«خير القرون قرني». ولم يترك القدماء للمحدثين شيئا. وهو الغالب على المجتمع الإسلامي في مجمله حاليا؛ لبعد مسافة الحاضر عن الماضي، وصعوبة التحقق مع الحاضر بالفعل، وسهولة التحقق مع الماضي بالخيال. وفي كلتا الحالتين الهوية اغتراب؛ اغتراب اليائسين واغتراب الحالمين، والمتفائلون بينهما أقرب إلى التحقق منهم إلى الإحباط. العجز عن التفاعل مع الحاضر يولد الإحباط، وتعويض الحاضر السالب بالمستقبل الموجب؛ قفز إليه وعدم تحديد مسار له.
وكما يكون الهروب إلى الماضي يكون القفز إلى المستقبل في صور المعاد وأساطير فتن آخر الزمان، فالموت ليس له الكلمة الأخيرة، والظلم مؤقت في الحياة الدنيا، والشر عابر سبيل وإن بدا منتصرا ودائما. هناك حياة أخرى تنتصر فيها الحياة على الموت، والعدل على الظلم، والحق على الباطل، ويأخذ الضعيف والمسكين والشريد وابن السبيل حقه. هو نوع من ميتافيزيقا الأمل التي تكون لها الغلبة على واقع اليأس والإحباط، وتبدأ الحياة بمجرد الموت في القبر؛ بنعيم القبر وعذابه وسؤال الملكين، وتبدأ كل صور ثنائيات الخير والشر بعد القيامة؛ الثواب والعقاب، الجنة والنار ...
وتبدأ الحياة المستقبلية بفتن آخر الزمان وعلامات الساعة: الصراع بين يأجوج ومأجوج، قبيلتان، معسكران، قوتان عظيمتان، وتدمير كل منهما الأخرى، ظهور المسيح الدجال أعور العين؛ ليفسد عقائد الناس، ويغير مذاهبهم، ويبدل قيمهم حتى تمحى الأخلاق من السلوك. فيظهر له المسيح الحقيقي؛ رمز الحق والخير، ويتخلص منه، ويخلص الناس من شره. فالمسيح الحق لا يتبدل كلامه، ولا ينتحل أحد اسمه، ولا يزيف أحد عقيدته؛ التوحيد.
لذلك كانت الهوية هي التاريخ، والتطابق مع التاريخ، ومعرفة في أي مرحلة من التاريخ تعيش الأمة، فلا تعيش مرحلة مضت، ولا تعيش مرحلة قادمة، ولا تتوقف عن السير في المرحلة الراهنة؛ انتظارا لمسار الأقدار. ليست الهوية حقيقة مجردة ثابتة دائمة صورية؛ كما يظن الفلاسفة المثاليون، بل هي من صنع الأفراد والشعوب، هوية تاريخية.
رابعا: الهوية والاغتراب السياسي
فإذا كان هيجل قد اكتشف الاغتراب الميتافيزيقي، واكتشف فيورباخ جذوره في الاغتراب الديني، فإن ماركس قد كشف جذوره في الاغتراب السياسي. فالاغتراب في الوضع السياسي الاجتماعي يفقد العامل هويته لدى صاحب العمل الذي يملك عمله، ومن ثم يمتلك حياته ووجوده. كما يفقد الفلاح هويته؛ حيث يمتلك صاحب الأرض نتاج عمله ويستحوذ على محصوله، ولا يبقي له إلا ما يقيم أوده، ويستولي على «فائض القيمة»، فبدلا من أن يمتلك الفلاح الأرض يصبح عبدا لها. فالملكية أساس الاغتراب، وبدلا من أن يمتلك العامل نتائج عمله يمتلكه صاحب العمل، وبدلا من أن يمتلك الفلاح محصوله يمتلكه الإقطاعي. التحرر إذن يبدأ بالتحرر من الملكية، واسترداد الهوية هو الطريق إلى إنهاء الانقسام بين الوجود والماهية، واسترداد وحدة الوجود الإنساني، وذلك لا يتم إلا بالثورة ، وربما العنف، فكما خرجت الماهية من الوجود قسرا في عصر العبودية والإقطاع، تعود إليه في عصر التحرر والثورة. وهذا هو موقف ماركس الشاب الذي ما زال هيجليا فيورباخيا، ولكن محللا الاغتراب، لا على المستوى الميتافيزيقي، مثل هيجل، ولا الاغتراب الديني، مثل فيورباخ، بل الاغتراب الاجتماعي، ومن ثم لا يسترد الإنسان هويته إلا إذا صحح وضعه الاجتماعي، وامتلك نتائج عمله، وشعر بقيمته، وتحرر من وضعه الطبقي. ولا يتأتى ذلك إلا بالصراع الطبقي وتحرير العبد من السيد.
وهذا هو الإحساس بالشقاء أو سبب نشأة الوعي الشقي؛ يوجد الإنسان ولا يوجد، يعمل ولا يحصل على نتاج عمله، ينتج ولا يعود عليه إنتاجه بشيء، يوجد لغيره، ويعيش لآخر، ويظل منقسما بين ما يريد وما لا يستطيع، بين ما يبغي وما يحقق، ويتراكم الوعي بالبؤس أو الوعي بالشقاء حتى يصبح البؤس هويته، والشقاء ماهيته، وتنطفئ هويته الأصلية وتنزوي ماهيته الأولى إلى حين.
وقد يتولد الكبت وطمس الهوية عن طريق الخلاف الأيديولوجي بين الحاكم والمحكوم. لقد حلل ماركس الاغتراب الاجتماعي والسياسي لوضع العمال والفلاحين في المجتمع الصناعي والمجتمع الإقطاعي. فالكبت الأيديولوجي كان قد تم التحرر منه عند الإصلاح الديني قبل ذلك بقرنين من الزمان؛ الكنيسة ضد معارضيها، والكاثوليك ضد البروتستانت. أما في العالم الإسلامي فالقهر والإزاحة والاستبعاد ضد الجماعات الإسلامية التي تنتسب إليها كل الطبقات الاجتماعية؛ فقراء وأغنياء، عليا ودنيا ومتوسطة. فالأيديولوجيا تخترق الطبقات، والهوية الأعمق من الولاء الأيديولوجي قبل الانتساب الطبقي، وهو ما لم تدركه الماركسية العربية التي ظلت على اعتقادها الماركسي التقليدي بأن الانتساب الطبقي سابق على الولاء الأيديولوجي.
وقد يتحول كبت الهوية - عن طريق السجن والاعتقال والتعذيب والملاحقة والمطاردة - إلى ثورة مفاجئة؛ إذ تكمن الهوية ولكن لا تنعدم، فالهوية هي أصالة الوجود؛ تنعدم بانعدامه. ولما كان الوجود باقيا، الفردي أو الجماعي، فإن الهوية هي الباقية، بل إنها تشتد وتزداد وترفض ما سواها؛ كما حدث عند الجماعات الإسلامية بعدما اعتقلت وعذبت على مدى نصف قرن، ثم خرجت أكثر تمسكا بالهوية الإسلامية، مكفرة كل أنظمة الحكم التي عذبتها؛ ليبرالية أو قومية أو اشتراكية أو ماركسية، تفرض نفسها على باقي الهويات أو تزيحها من أمامها، وترفع شعارات «الحاكمية لله» ضد حاكمية البشر، و«الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، ضد الأيديولوجيات العلمانية، «تطبيق الشريعة الإسلامية»، ضد التذبذب في القوانين وتبديلها وتكييفها طبقا لإرادة الحكام. ويتحول الوجود الإنساني من العدم المطلق إلى الوجود المطلق، من السلب المطلق إلى الإيجاب المطلق، وتتحول الهوية المنطوية المنكمشة المتقلصة إلى الهوية المنبسطة المنفرجة المتمددة، تتضخم الهوية بحيث تطغى على الوجود ذاته.
وتنفجر الهوية ضد كل مظاهر الاستبداد السياسي والثقافي؛ عن طريق الاستبعاد والتهميش وتزوير الانتخابات؛ كما حدث في الانتخابات المصرية قبل الثورة، بل وتدبير الانقلابات إذا ما نجحت الجماعة الإسلامية، جماعة الإنقاذ مثلا في الجزائر، ونشوب حرب أهلية بينها وبين الجيش كلفت أكثر من مئة ألف قتيل. تنفجر الهوية ضد انتهاك الحقوق والإهانة بالضرب والتعذيب، فالهوية هي الحارسة للوجود، والضامنة لبقائه.
وقد يكون اللون وسيلة لتأكيد الهوية تحت الاضطهاد مثل اللون الأسود، هوية منبسطة وممتدة، وهي الهوية البيضاء، على هوية منكمشة ومنطوية، وهي الهوية السوداء؛ بصرف النظر عن الوضع السياسي الاجتماعي للجماعة السوداء وحقوق الإنسان. فاللاوعي العنصري ما زال قابعا في المجتمع الأبيض مهما تغيرت القوانين العنصرية إلى قوانين إنسانية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، فبقدر ما تضغط الهوية البيضاء تتفجر الهوية السوداء، وإن لم تستطع الهوية السوداء أخذ حقوقها سلما، فإنها تتفجر عنفا، وبقدر ما يكون استبداد اللون الأبيض يكون تفجر اللون الأسود. وهو ما لا يزال حادثا في الولايات المتحدة الأمريكية، وما قامت بسببه الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر بسبب تجارة العبيد. وقد ألقيت القنبلة الذرية الأولى في العالم من الجنس الأبيض على الجنس الأصفر، مع أن ألمانيا أيضا كانت هي التي أشعلت الحرب أولا، ولكنها كانت من الجنس الأبيض، بل إنها كانت تعتبر نفسها خلاصته.
يتمثل فقدان الهوية في العنف، وغياب رابط للذات، تصبح عاصفة هوجاء، هويتها خارجها تبحث عنها، تمتد خارج حدودها، لا تعترف بهويات الآخرين مثل النازية والفاشية والصهيونية؛ كما تجلى ذلك في الاستعمار والتبشير، فالنازية ترى أن «ألمانيا فوق الجميع»، وأن الجنس الألماني هو أنقى الأجناس، وأن الجنس الآري أرقى من الجنس السامي، الآخر ليس له إلا أفران الغاز أو معسكرات الموت. وقد كانت النازية ترجمة للعنصرية البيولوجية التي سادت القرن التاسع عشر، وتطور الأحياء، والتي بلغت ذروتها في نظرية النشوء والارتقاء وفي موسيقى فاجنر وفلسفة نيتشه. والفاشية صيغة أخرى للنازية الإيطالية. الهوية الزائدة تؤدي إلى العدوان، وعدم الاعتراف بالغير.
والنزعات القومية المتطرفة أيضا تعبير عن تخضم الهوية، والانتشار خارج الحدود في مناطق جغرافية يصعب تقسيمها إلى دول؛ مثل أواسط آسيا أو جنوب شرق آسيا، أو وسط وجنوب أفريقيا أو شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية، فالمنطقة كلها وحدة جغرافية وتاريخية وثقافية واحدة. أما اللغة فإنها لهجات قبلية متعددة؛ بصرف النظر عن الحدود، ففي داخل القطر الواحد أكثر من لهجة، واللهجة الواحدة قد توجد داخل القطر وخارجه عبر الحدود.
والصهيونية أيضا قومية متطرفة تأخذ الدين ذريعة وأساطير المعاد وسيلة لاحتلال أرض الغير؛ فلسطين. قامت على نفس الأسس التي قامت عليها أيديولوجيات القرن التاسع عشر العنصرية والرومانسية، والعودة إلى الأرحام. فاليهودي هو صاحب الأرض منذ الأزل؛ بفضل عهد عقده الله مع بني إسرائيل بتمليكهم هذه الأرض، وتوريثها لأحفادهم إلى يوم الدين. وقد كلفت العنصرية تشريد شعب بأكمله، نصفه في الخارج في مخيمات، ونصفه في الداخل تحت الاحتلال.
ولما كانت الهوية نسقا من القيم - وفي مقدمتها الكرامة - فإن أي نيل من كرامة المواطن يفجرها؛ كما حدث في حرق بوعزيزي نفسه عندما نالت شرطية من كرامته، وكان ذلك بداية اندلاع الثورة في المدينة ثم المقاطعة ثم في تونس بأكملها، ثم امتدت الشرارة إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا، ووصلت إلى أبعد مدى في البحرين وعمان شرقا، والأردن وسطا، وفي المغرب غربا. فقد انتشرت الثورات العربية الأخيرة دفاعا عن الكرامة قبل الحرية والعدالة، لا فرق بين كرامة الفرد وكرامة الشعب، كرامة المواطن وكرامة الوطن.
بل امتدت ثورة الكرامة خارج المنطقة العربية؛ فالكرامة بلا حدود. امتدت إلى الإقليم المحيط إلى حوض البحر الأبيض المتوسط في جنوب أوروبا، البرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، واليونان، وإلى شرقه في روسيا. فأوروبا وآسيا بعدان إقليميان للمنطقة العربية، بل امتدت إلى ما وراء الأطلنطي في حركة «وول ستريت» ضد النظام الرأسمالي الذي يطعن في كرامة الفقراء لحساب الأغنياء.
خامسا: هل يمكن تحديد الهوية؟
هل يمكن تحديد الهوية؟ ومم تنشأ؟ هل هي هوية المكان؟ فالإنسان يولد في بقعة من الأرض، في وطن وفي دولة، ينشأ فيه ويترعرع، يقضي طفولته وصباه، ورجولته وشيخوخته، يحن إليه كلما غادره، وطالما نشأت الأغاني في الحنين إلى الأوطان، وآلام البعد عنها، وضرورة عودة «الطيور المهاجرة». والتغريب جزء من الحدود؛ أي: إن الإخراج من الأوطان لمدة عام حماية للمجتمع من سوء أفعال صاحبها، وللرسول قول ساعة الهجرة من مكة وهو ينظر إليها ويصفها بأنها أحب الأماكن إلى قلبه، ولكنه يتركها مضطرا إلى أن عاد إليها بعد الفتح. وكتب أبو حيان «الحنين إلى الأوطان»، فالهوية المصرية نسبة إلى مصر، والتونسية نسبة إلى تونس، واليمنية نسبة إلى اليمن، والسورية نسبة إلى سوريا. والإقليم هو الجغرافيا وليس الدولة؛ إذ تتغير حدود الدولة مثل السودان، ولكن الإقليم لا يتغير. والوطن عند فشته يجاوز الحدود الجغرافية؛ هو الوطن المثالي، الوطن الفكرة، الوطن الروح؛ فمهما احتلت الأرض فإن الروح لا يحتل.
10
الوطن شقيق الروح، هو وطن الصوفية الذي تعود إليه أرواحهم في عالم الأرواح خارج عالم الأبدان، فمصر ليست هي الموجودة في كتب الجغرافيا للمدارس الابتدائية، المحدودة بالبحر الأبيض المتوسط شمالا والسودان جنوبا، والبحر الأحمر شرقا، والصحراء الغربية غربا، بل هي:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كل روحي ودمي
فعلى الرغم من أن الوجود الإنساني في بدن، والبدن في مكان، فإنه مستقل عن البدن والمكان. هو وجود مثالي في مكان مطلق، فالبدن حامل للروح. والمكان حامل للبدن. وقد تحدث الصوفية عن جغرافيا الروح؛ أي: أن الروح هو المكان والمناطق والأقاليم.
هل تنشأ الهوية من العرق؟ الهوية الكردية نسبة إلى الأكراد، والهوية الدرزية نسبة إلى الدروز، والهوية الأمازيغية نسبة إلى الأمازيغ ... وهي الأعراق الغالبة في الوطن العربي. العرق ليس هو الماهية أو الوجود؛ العرق هو مادة طبيعية ما دام الإنسان موجودا بيولوجيا، والأحياء سلالات، ويتفوق الإنسان على غيره من السلالات بأنه حيوان ناطق؛ أي: حيوان عاقل. ويصعب تحديد الأعراق نظرا إلى التداخل بينها من خلال التزاوج والهجرات، بل والحروب والغزوات. وقد يتحد العرق بالطائفة؛ مثل الدروز والدرزية. والعرق سلالة بيولوجية لا دخل للإنسان فيها، وللإنسان أكثر من سلالة، والهوية لا ترتبط بالسلالة بل بالوعي الخالص، والوعي الخالص هوية خالصة، وعي ذاتي، لا صلة له بالبدن، وكل النظريات العنصرية قائمة على ربط الهوية بالعرق والسلالة، وهذا ما ساد في النظريات البيولوجية في القرن التاسع عشر في الغرب، عندما ازدهرت العلوم الحيوية بفضل نظرية التطور والنشوء والارتقاء. وقد انتقلت إلى العالم العربي على يد شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وغيرهم. وتحدت نظرية الخلق التي تقوم على أن الشيء يخرج من لاشيء؛ في حين أنه في نظرية التطور يخرج الشيء من شيء حتى في التطور المنقطع الذي يسمح بوجود الطفرة. البدن يفنى ولكن تبقى الذكرى، ويستمر العمل الصالح بعد الموت. تتشابه السلالات في مادتها العضوية، ولكن تتفاوت الأعمال.
هل تنشأ الهوية من الطائفة؟ فهناك الهوية الشيعية كأساس للدولة الشيعية، أليست الطائفية خطرا على وحدة الأوطان التي تتكون من عدة طوائف؛ مثل لبنان وسوريا والعراق ودول الخليج واليمن؟ بل إن الدول الأوروبية نفسها تتكون من عدة طوائف؛ بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس. ولا يكفي في بعض الدساتير ذكر الإسلام دينا رسميا للدولة، بل أيضا تعيين الطائفة. الطائفية خلاف تاريخي في الدين بين عدة قوى سياسية متصارعة على السلطة، ترجمت صراعاتها في شكل عقائد متباينة؛ مثل السنة والشيعة، والكاثوليك والبروتستانت، والشيعة والسنة والمارونية في لبنان. الطائفية إنكار للوطنية والمواطنة، والتفرقة بين المواطنين على أساس طائفي؛ مع أن الوطن الواحد يتكون من عدة طوائف تتساوى في المواطنة. وجعل رئيس الجمهورية مارونيا، ورئيس البرلمان شيعيا، ورئيس الوزراء سنيا؛ تغليب للطائفة على المواطنة. وخطورة الطائفية تحولها إلى تعصب وانتهاء بالحروب الطائفية التي ينتج عنها آلاف الشهداء، بل والمذابح منذ سانت بارتلمي في القرن السادس عشر بين البروتستانت والكاثوليك، حتى المذابح بين المسلمين والمسيحيين في أفريقيا وآسيا. الطائفة ولاء ديني تاريخي وليس هوية، وليس الطائفي مسئولا عنه؛ يولد ويموت فيه، يستطيع أن يتحرر منها إذا بلغ حدا من العقلانية والرشد. بل إن الطائفة ليست علاقة بين الإنسان وربه؛ هذا هو الدين أو الإيمان؛ فلا علاقة بين الإنسان والتاريخ باسم الله، فقد نشأت الطائفية في التاريخ بسبب الخلاف بين المؤمنين وصراعهم على السلطة، والكل إلى رسول الله منتسب. الإيمان هو تجريد الطائفية عن التاريخ وتخليصها منه؛ حتى تعود صافية رائقة كالدين.
هل تنشأ الهوية عن الدين؟ فهناك الهوية اليهودية من الدين اليهودي، فاليهودية في تفسيرها الصهيوني دين وسياسة، وهي في الحقيقة سياسة تستغل الدين لتبرير السياسة. اليهودية منتشرة منذ نشأتها في كل مكان، وتمتزج بكل الحضارات كاليهودية. الصهيونية دين وقومية؛ أي: دين ودولة، وتريد أن يعترف بها العرب، ليس فقط كدولة بل كوطن قومي لليهود. فالدول تقوم وتنهار، أما القوميات الدينية أو الأديان القومية، فإنها تنشأ وتبقى.
وما دامت لليهود دولة قومية، فللدروز والأكراد والمسيحيين والعلويين والشيعة والأمازيغ والمارونيين والتركمان والإباضية في عمان والزيدية في اليمن؛ دول قومية أخرى، حتى تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من المنطقة ذات الدول الدينية، وتصبح أقوى دولة دينية دولة ليهود المنطقة؛ خصوصا أن أكثر من نصفها من اليهود الشرقيين، دول قومية أخرى، يؤيدها الغرب العلماني الذي ينعى على العرب والمسلمين تكوين دول إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية؛ خوفا من الدول الدينية، وهو معيار مزدوج للحكم على الأشياء. لقد تخلى الغرب عن الدولة الدينية في بداية العصور الحديثة، ومع ذلك ظل الدين أداة طيعة في أيدي السياسة عن طريق التبشير كمقدمة للاستعمار. المسيحية الغربية جزء من الهيمنة الغربية، تستعملها أداة للهيمنة على غيرها من الشعوب التي يبدأ التبشير فيها. وإذا كان في الوطن الواحد دينان، مثل معظم الأوطان العربية، وكانت الهوية هي الدين، شق الصف الوطني إلى مسلمين وأقباط؛ كما هو الحال في مصر.
ويحاج أنصار الدولة الإسلامية بنفس المنطق؛ فالإسلام دين ودولة، هو الدين الرسمي للبلاد، والشريعة الإسلامية دستورها، والحاكمية فيها لله، وهو ما يخيف الأقباط باعتبارهم أهل كتاب أو أهل ذمة، وتطبيق الحدود عليهم دون مساواة في المواطنة؛ مساواة في الحقوق والواجبات، وهو ما يخيف أيضا «العلمانيين» والليبراليين والقوميين والاشتراكيين والماركسيين. والدولة الإسلامية ليست شعارا أو إعلانا أو شهادة، بل هي الدولة التي تحكم بمبادئ الدستور التي تقوم على الحرية والعدل، وهي المبادئ الإسلامية كما حددها الشاطبي في مقاصد الشريعة ووضعها ابتداء؛ وهي خمسة: الدفاع عن الحياة ضد المرض والجوع وكل ما يؤدي إلى التهلكة، والدفاع عن العقل ضد الجهل والأمية والخرافة والسحر والشعوذة، والدفاع عن الدين؛ أي: عن الحقيقة المطلقة التي لا يختلف عليها اثنان؛ مثل مبادئ التوحيد والعدل، والأصول الخمسة كما بينها المعتزلة،
11
والدفاع عن العرض؛ أي: الكرامة الفردية والوطنية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية، ضد انتهاكها بالاعتقال والتعذيب، والدفاع عن المال العام والثورة الوطنية، ضد كل مظاهر الفساد والتبذير والتهريب. لا فرق في ذلك بين دولة إسلامية ودولة علمانية؛ ليبرالية أو قومية أو اشتراكية أو ماركسية. فالصراع بين هويتين، إسلامية وعلمانية، ليس صراعا فكريا، بل هو صراع على السلطة بين قوتين سياسيتين متعارضتين.
وهل تنشأ الهوية من اللغة؟ العروبة من اللغة العربية، فليست العروبة بأب أو أم؛ إنما العروبة هي اللسان، فكل من تحدث العربية فهو عربي، فهناك هوية عربية هي أساس القومية العربية والثقافة العربية. لا تقوم القومية العربية على العرق، بل على اللغة والثقافة والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، وقد كان معظم النحاة العرب، مثل سيبويه وأبي علي الفارسي، من الفرس. وقد حرصت القوى الاستعمارية الكبرى على نشر لغاتها في البلاد المستعمرة، فخلقت الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبافونية. وكان أول شيء حرصت عليه هو القضاء على اللغات الوطنية؛ كما حدث في الجزائر مع اللغة العربية عندما حاولت فرنسا محوها لصالح الفرنسية ؛ لولا جهود التعريب بفضل مصر وسوريا، حتى عادت الجزائر عربية. وما زال بعض البلاد الأفريقية فرانكفونيا مثل غينيا، أو أنجلوفونيا مثل غانا. فاللغات الوطنية لغات محلية لا يمكن أن تخرج على الصعيد الإقليمي أو الدولي. وأنشأت فرنسا مجموعة الفرانكفونية للحفاظ على انتشار اللغة الفرنسية خارج حدودها؛ خصوصا في أفريقيا، وقد قامت إسبانيا بنفس الشيء في جنوب غرب آسيا في الفلبين؛ بجعل الإسبانية لغتها الوطنية، وقامت هولندا بنفس الشيء عندما حاولت جعل لغة إندونيسيا الهولندية؛ لولا حركات التحرر الوطني والمحافظة على اللغة الوطنية بهاسا، كعلامة على النضال الوطني. وما زالت اللغة الإنجليزية هي لغة الخطاب الوطني في المستعمرات البريطانية القديمة؛ مثل الهند وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وضاعت فرصة خلق لغة أفريقية واحدة مثل «السواحيلية» التي يتكلم بها غرب القارة، أو العربية التي حوربت في جنوب السودان، وفي الدول جنوب الصحراء التي شمالها مسلم وجنوبها مسيحي. صحيح أن الأجناس الأوروبية، الفرنسية والبريطانية والألمانية والإسبانية واليونانية، أجناس في علم السلالات، ولكنها كذلك لغات وثقافة، حضارة وتاريخ. وقد حرصت الدول الأوروبية على إنشاء جامعات أوروبية أو فروع لجامعاتها بلغاتها داخل الأوطان العربية؛ حتى تنشر لغاتها وثقافاتها. وأصبحت الإنجليزية في دول الخليج أشبه باللغة الوطنية في دور العلم والفنادق والبنوك والمؤسسات التجارية، والباشتون والهندي لغة الأسواق من المهاجرين الآسيويين. ولا تسمع العربية إلا لدى رجال الحكم؛ سكان البلاد الأصليين إذا ما تحدثوا بالفصحى دون لهجاتهم العامية.
هل تنشأ الهوية من الثقافة؟ هناك الهوية الإسلامية من الثقافة الإسلامية، وهو ما يربط المسلمين جميعا على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وأوطانهم. وتشمل العلوم الإسلامية النقلية والعقلية: الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، والعلوم النقلية: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والعلوم العقلية الرياضية: الحساب والفلك والجبر والهندسة والموسيقى، أو الطبيعية: الطب والصيدلة والمعادن والنبات والحيوان؛ وهي العلوم التي ما زالت تربط جميع أرجاء العالم الإسلامي. وإذا كانت الدولة الإسلامية، مثل الإمبراطورية العثمانية، قد انتهت، فإن الثقافة الإسلامية ما زالت باقية، لها مخطوطاتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها، وما زال طلبة العلم ينتقلون بين المعاهد الإسلامية الكبرى في الأزهر والقيروان والزيتونة، وما زالت الآثار الإسلامية يتوحد بها الجميع؛ وفي مقدمتها الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة، وخيرالدا إشبيلية، والمسجد الأموي، والجامع الأزهر قديما، وجامع الحسن الثاني بالرباط، وجامع كوالالمبور، وغيرها من المساجد الكبرى حديثا. وتشمل الثقافة العلوم والفنون والآداب، فما يربط المسلمين هو الإسلام؛ باعتبار لغته العربية لغة القرآن والثقافة الإسلامية.
والهوية أيضا مرحلة تاريخية تصف الشعوب بأنها متقدمة أو متخلفة أو في طريق النمو. إذا كانت الهوية ثابتة وأصيلة في الوجود، فإن مرحلة النمو متغيرة؛ من التخلف إلى التقدم مثل الدول الأوروبية، وكما حدث للحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى، منذ النشأة حتى ابن خلدون على مدى سبعة قرون أو من التقدم إلى التخلف، كما حدث في المرحلة الثانية في القرون السبع التالية بعد ابن خلدون؛ عصر الشروح والملخصات، الذي كاد ينتهي بفجر النهضة العربية الحديثة، الذي كان قد بدأ منذ قرنين من الزمان. فالهوية تأتي من المرحلة التاريخية لا من الانتساب الفكري أو الولاء الأيديولوجي. وقد كان العالم الإسلامي يصنف في الدول المتخلفة، والآن يصنف في الدول التي في طريق النمو أو النامية، والقليل منها مثل الدول المتقدمة مثل ماليزيا. فالهوية ليست ثابتة؛ بل متغيرة على الأمد الطويل، هوية تاريخية مثل غيرها من الهويات، هوية مفتوحة لا منغلقة، تقوم على التحدي والمنافسة لا على التعصب والكراهية. وفي الستينيات كان للعالم الثالث هوية واحدة؛ عدم الانحياز؛ الحياد الإيجابي، وهي الآن تعارض العولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، وتبحث عن تعاون إقليمي؛ مثل دول جنوب شرق آسيا، ودول أمريكا اللاتينية. عندما أتى الإسلام صنع تاريخا جديدا للعرب ولشبه الجزيرة العربية، بل وللعالم القديم كله، وجعل العرب يرثون إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من قرن حربا شرقا وغربا، وسلما جنوبا في أفريقيا، وشمالا في أوروبا في العصر الحديث.
الهوية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية واللغوية والثقافية. توجد قيم إنسانية عامة، مثل الحرية والعدالة، وافقت عليها الإنسانية على مدار التاريخ، مضمونها من داخلها من الفطرة والطبيعة، بلا حدود، ومع ذلك وجودية أرضية ، يحملها الوجود الإنساني ويحققها في الزمان والمكان؛ إذ تندرج الهويات في الخصوصية والعموم، ليست بالضرورة في خط رأسي بين الأدنى والأعلى، بل يمكن أن يكون في مسار أفقي بين الأمام والخلف. فطالما حاربت الشعوب من أجل الحرية والعدالة منذ سبارتاكوس حتى الربيع العربي، ومنذ المانوية حتى الماركسية. الفطرة واحدة منذ الخلق الأول، والعقل البديهي مغروز في النفس، وهو الذي خاطبه الوحي بقوله:
أفلا تعقلون ،
أفلا تتفكرون ... هذه الهوية الإنسانية هي التي تسمح بتأسيس المنظمات الدولية لحقوق الإنسان والطفل والمرأة، وقد ظهرت هذه الهوية الإنسانية في كل حضارة؛ عند كونفوشيوس في الصين، وبوذا في الهند، وسقراط عند اليونان، والمعري عند العرب، وإراسموس وشكسبير وجوته في الغرب. هي الهوية التي تنبع من الذات؛ من الجوهر، لا من الأعراض الخارجية. هي الهوية التي تصبح فيها الإنسانية هوية واحدة، لا تمييز فيها بين أجناس أو لغات أو ثقافات أو أوطان.
هي هوية تنبع من حضارات الشرق القديم، بعد أن أدت الحضارة الغربية الحديثة مهمتها في الحداثة بنموذجها في التحديث في القرون السبعة الأخيرة. العودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر للتخلص من اللاهوت الكنسي، والإصلاح الديني في القرن الخامس عشر للتخلص من السلطة الكنسية واحتكار التفسير، وجعل العلاقة بين الإنسان والله علاقة مباشرة، والنزعة الإنسانية في القرن السادس عشر، وجعل الإنسان مركزا للكون واكتشافه في قلب الوحي، والعقلانية في القرن السابع عشر، وإثبات الوجود بالفكر «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ثم تطبيق العقل في المجتمع وظهور فلسفة التنوير، الحرية والإخاء والمساواة، والمبادئ الثلاثة التي قامت عليها الثورة الفرنسية، ثم العقل في الطبيعة وتأسيس العلم الطبيعي، والثورة العلمية؛ خصوصا العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر ونظرية التطور، ثم أزمة القرن العشرين؛ كما بدت في العدمية وفلسفات العبث ثم في التفكيكية وفلسفات ما بعد الحداثة، وإعلان النهاية في الفينومينولوجيا. انتهت حضارة في الغرب وبدأت حضارة في الشرق فيما يسمى «ريح الشرق». وكما بدأت العنقاء تطير من الشرق إلى الغرب في الماضي، من الصين والهند وفارس وبابل وآشور وكنعان ومصر، إلى اليونان والرومان والعرب والحضارة الإسلامية حتى الغرب الحديث، فإنها تطير من جديد عائدة من الغرب إلى الشرق، مارة بالمنطقة العربية الإسلامية. فالهوية التاريخية تتحرك الآن ونحن في قلبها، وقد يكون الربيع العربي أحد مساراتها.
صفحة غير معروفة