(78) والمعنى الثاني من معاني " ما بذاته " - وهو الذي يقال على ما يعرف ماهو المشار إليه الذي لا في موضوع - يجتمع فيه أن يقال له " بذاته " بالجهتين جميعا - بالجهة التي قيل في المشار إليه إنه " بذاته " والجهة التي قيل في ماهو محمول بذاته على الموضوع إنه " بذاته " - بمعنى واحد، وهو أنه مستغن في أن يحصل ماهيته بنفسه من غير حاجة إلى مقولة أخرى. و" المنسوب إلى شيء آخر بذاته " يقال عليه بمعنى واحد، وهو أن تكون ماهيته توجب أن يكون له تلك النسبة أو أن يكون يحتاج في أن تحصل له ماهيته إلى أن يكون منسوبا هذه النسبة. والذي يعرف ماهو المشار إليه يقال له إنه " بذاته " بالمعنيين جميعا، أحدهما أنه أيضا مستغن في أن تحصل له ماهيته بنفسه من غير حاجة إلى المقولات الأخر، والثاني أن المشار إليه يحتاج في ماهيته إلى أن يوصف به ويحمل عليه، إما في أن تحصل ماهيته موجودة أو معقولة. وقد يقال في الموضوع إنه " بذاته له محمول ما " متى كان يوجد له لا بتوسط شيء آخر بين المحمول وبين الموضوع، كما يقول قوم " إن الحياة هي للنفس بذاتها ثم للبدن بتوسط النفس " . وهذا أيضا قد يدل عليه بقولنا " الأول " ، كما يقول قائل " إن النفس توجد لها الحياة أولا " . وهذا ربما كان بالإضافة إلى شيء دون شيء. فإن المثلث يقال فيه " إنه توجد له مساواة الزوايا لقائمتين أولا " ، فتناوله قوم من المفسرين على أنه بلا واسطة أصلا. وهذا شنيع غير ممكن، ولكن هذا " أول " بالإضافة إلى جنس المثلث، ومعناه أن لا يوجد بجنسه قبله وجودا كليا. فإن قولنا في الشيء إنه " بذاته " قد يقال على ما وجوده لا ينسب أصلا لا لفاعل ولا مادة ولا صورة ولا غاية أصلا. ووجود ما هذه صفته يلزم ضرورة متى يترقى بالنظر إلى أسباب الأسباب وكانت متناهية العدد في الترقي.وكل مستغن عن غيره في وجوده أو فعله أو في شيء آخر مما هو له أو به أو عنه، يقال إنه " بذاته " .
(79) وهذه اللفظة وما تصرف وتشكل منها - أعني " الذات " و" ما بذاته " و" ذات الشيء " - ليست مشهورة عند الجمهور وإنما هي ألفاظ يتداولها الفلاسفة وأهل العلوم النظرية. والجمهور يستعملون مكانها قولنا " بنفسه " . فإنهم يقولون " زيد بنفسه قام الحرب " يعنون بلا معين، ويقولون " زيد هو بنفسه " أي بذاته لا بغيره، أي مستغن عن غيره في كل ما يفعله .
الفصل الخامس عشر:
الموجود
(80) الموجود في لسان جمهور العرب هو أولا اسم مشتق من الوجود والوجدان. وهو يستعمل عندهم مطلقا ومقيدا، أما مطلقا ففي مثل قولهم " وجدت الضالة " و" طلبت كذا حتى وجدته " ، وأما مقيدا ففي مثل قولهم " وجدت زيدا كريما " أو " لئيما " . فالموجود المستعمل عندهم على الإطلاق قد يعنون به أن يحصل الشيء معروف المكان وأن يتمكن منه في ما يراد منه ويكون معرضا لما يلتمس منه. فإنما يعنون يقولهم " وجدت الضالة " و" وجدت ما كنت فقدته " أني علمت مكانه وتمكنت مما ألتمس منه متى شئت. وقد يعنون به أن يصير الشيء معلوما. وأما الذي يستعمل مقيدا في مثل قولهم " وجدت زيدا كريما " أو " لئيما " فإنما يعنون به عرفت زيدا كريما أو لئيما لا غير. وقد يستعمل العرب مكان هذه اللفظة في الدلالة على هذه المعاني " صادفت " و" لقيت " ، ومكان الموجود " المصادف " و" الملقى " .
(81) وتستعمل في ألسنة سائر الأمم عند الدلالة على هذه المعاني التي تدل عليها هذه اللفظة في العربية وفي الأمكنة التي يستعمل فيها جمهور العرب هذه اللفظة لفظة معروفة عند كل أمة من أولئك الأمم يدلون بها على هذه المعاني بأعيانها، وهي بالفارسية " يافت " وفي السغدية " فيرد " - يعنون به الوجود والوجدان - و" يافته " و" فيردو " - يعنون به الموجود. وفي كل واحد من باقي الألسنة لفظة من نظير ما في الفارسية والسغدية، مثل اليونانية والسريانية وغيرها.
صفحة ٢٥