(63) وقد يستعملون اسم الجوهر في مثل قولنا " زيد جيد الجوهر " ، ويعنون به جيد الجنس وجيد الآباء وجيد الأمهات. فالجوهر يعنون به الأمة والشعب والقبيلة التي منهم آباؤه وأمهاته - وأكثر ذلك في الآباء - ، والجودة يعنون بهاالفضائل - فإنهم إذاكانوا ذوي فضائل قيل فيهم إنهم ذوواجودة. فإن آباءه وجنسه متى كانوا فاضلين قيل فيه إنه جيد الجوهر، ومتى كانوا ذوي نقص قيل فيه ردئ الجوهر. والجوهر ههنا إنما يعنون به الجنس والآباء والأمهات - فهم إما مادته وإما فاعلوه.فإن الإنسان إنما يظن به دائما أنه شبيه مادته وآبائه وجنسه. فإنه يظن أولا أنه يفطر في فطرته الإنسانية على فطر آبائه وجنسه النفسانية التي كانت لهم، وبحسب فطرته النفسانية تكون أفعالهالخلقية جيدة أو ردية. ثم أنه بعد ذلك يتأدب بما يراهم عليه من الآداب ويتخلق بما يراهم عليه من الأخلاق ويقتفي بهم في كل ما يعملونه، إذ كان لا يعرف غيرهم من أول أمره. ولأنه أيضا يثق بهم أكثر من ثقته بغيرهم. ولأنه أيضا يحتاج أن يسعى في حياته لما يسعى له جنسه. فمتى كان أولئك ذوي نقائص بالطبع والعادة تظن به النقائص التي كانت فيهم، ومتي كانوا ذوي فضائل بالطبع والعادة تظن به أيضا تلك الفضائل التي كانت فيهم. فإنما يلتمس بجودته ورداءته فضيلته ونقيصته لا غير، إما بالطبع وإما بالعادة.
(64) وكثيرا ما يقولون " فلان جيد الجوهر " ، يعنون به جيد الفطرة التي بها يفعل الأفعال الخلقية أو الصناعية، وبالجملة الأفعال الإرادية. فإن الإنسان إنما يفطر على أن تكون بعض الأفعال الإرادية أسهل عليه من بعض، فإذا خلا يفه نفسه منذ أول الأمر فعل الأفعال التي هي عليه أسهل. فإن كانت تلك أفعال جيدة قيل إنه بفطرته وطبعه جيد. فيحصل الأمر في هذا وفي ذلك الأول على الفطر التي يفطرالإنسان عليها من أن تكون الأفعال الجيدة عليه أسهل أو الردية أسهل، إما فطرة آبائه وعاداتهم وإما فطرته هو في نفسه.
(65) وبين أن فطرته التي بها يفعل هي التي منزلتها من الإنسان منزلة حدة السيف من السيف، وتلك هي التي تسمى الصورة. فإن فعل كل شيء إنما يصدر عن صورته إذا كانت في مادة تعاضد الصورة في الفعل الكائن عنها ( عن الصورة ). وبين أن ماهية الشيء الكاملة إنما هي بصورته إذا كانت في مادة ملائمة معاضدة على الفعل الكائن عنها. فإذن للمادة مدخل لا محالة في ماهيته. فإذن ماهيته بصورته في مادته التي إنما كونت لأجل صورته الكائنة لغاية ما. فإذا كان كذلك، فإن الفطرة التي كان الناس يعنون بقولهم " الجوهر " إنما هي ماهية الإنسان، كان ذلك جوهر زيد أو آبائه أو جنسه. وأيضا فإنهم يظنون أن آباءه وأمهاته وجنسه الأقدمين هم مواده التي منها كون، ويظنون أن مواد الشيء متى كانت جيدة كان الشيء جيدا، مثل مواد الحائط ومواد السرير. فإنهم يظنون أن الخشب إذا كان جيدا كان السرير جيدا، إذ تكون جودة الخشب سببا لجودة السرير، وإذا كان الحجارة واللبن والآجر والطين جيدا كان الحائط المبني منها أيضا جيدا، إذ كانت جودة تلك سببا لجودة الحائط. فعلى هذا المثال يرون في آباء الإنسان وأمهاته وأجداده وقبيلته وأمته وأهل بلده، فإن كثيرا من الناس يخيل إليهم أنهم مواد الإنسان الكائن عنهم أو فيهم. ومواد الشيء هي إما ماهيته وإما أجزاء ماهيته، فهم إذن إنما يعنون بالجوهر ههنا ماهيته أو ما به ما هيته. وقد يقولون " هذا الثوب جيد الجوهر " ، يعنون به سداه ولحمته من كتان أو قطن أو صوف، وتلك كلها مواد. فهم يعنون بالجوهر ههن أيضا مواد الثوب، ومواد الشيء إما ماهيته وإما أجزاء ماهيته؛ فإن قوما يرون أن ماهية الشيء بمادته فقط، وآخرون أنها بأجزاء ماهيته.
(66) فهذه هي المعاني التي يفال عليها الجوهر عند الجمهور. وهي كلها تنحصر في شيئين، أحدهما الحجارة التي في غاية النفاسة عندهم، والثاني ماهية الشيء وما به ماهيته وقوام ذاته - وما به قوام ذاته إما مادته وإما صورته وإما هما معا. ويكون الجوهر عندهم إما جوهرابإطلاق وإما جوهرالشيء ما.
صفحة ٢٠