ولما كان المقصود بهذا الكتاب التوسع في الموضوع بقدر الطاقة، قسمناه إلى قسمين: جغرافية وتاريخ. وبدأنا بالجغرافية لأنها سابقة للتاريخ، ولم نقتصر في الجغرافية على ما كانت عليه أسبانية في أيام العرب أو في القرون الوسطى، غير ناظرين إلى أحوالها الحاضرة، بل جمعنا القديم إلى الحديث ونظمنا بين الخالي والحالي وقرنا ما كتبه العرب بما كتبه الأفرنج، وإن كنا لم نحب أن نملأ الكتاب بالأرقام والإحصائيات، في الكليات والجزئيات، مما قد تمل الأنفس مطالعته.
وقد أدخلنا في القسم الجغرافي ذكر من نبغ من أهل العلم في كل بلد من البلدان التي ذكرناها؛ ولم نحصر ذلك في العرب، بل تجاوزناه إلى الأسبان، ولكننا استقصينا في أسماء العرب بالبديهة ما لم نستقص في أسماء أولئك، واكتفينا من الأسبان بالمشاهير، لأن قراءنا هم من العرب وغرضنا إنما هو تعريف ناشئة العرب بالأندلس العربية، ولن يقرأ كتابنا من غير العرب إلا من شاء من المتخصصين. وقد كان مرادنا بادئ ذي بدء أن نسرد أسماء العلماء والأدباء المنسوبين إلى كل بلدة سردا مجردا من دون ترجمة، ثم نرد تراجم أحوالهم إلى جزأين في الآخر ، مخصصين بذلك الموضوع؛ ولكننا رأينا في ما بعد أن السرد المجرد لا يفيد شيئا ولا يبلغ في صدور القراء حاجة، وأنه لا بد من شدو شيء من ترجمة كل واحد منهم، ومن تبيين العلم الذي كان متخصصا به، وذلك في الأجزاء الأولى. وإن كنا عولنا على هذا الأسلوب فهو لا يمنعنا من أن ننتخب من هؤلاء المترجمين طبقة عبقرية وفئة ممتازة نكتب لهم في الآخر سيرا ضافية، إن شاء الله، نأتي فيها بمختارات من أقوالهم وأنموذجات من نظمهم ونثرهم.
هذا ولقد أحببت أن أتوج هذا الكتاب الذي تعبت فيه هذا التعب كله، باسم أحد أمراء الإسلام وأقطاب الشرق، الذين يتفق في شأنهم الكلام ممن يملأ العيون والصدور، ولا يكون الثناء عليه تنميق جمل وتشقيق ألفاظ، بل يكون نفس فعله هو هو الهاتف بمدحه بدون منة لقائل، ولا فضل لمنوه، وتكون سيرته الشخصية ومآثره المستمرة هي المخلدة له في الأعقاب وعلى طول الأحقاب، وإذا رآني الناس اخترته لتتويج هذا الكتاب باسمه قالوا بأجمعهم: تالله لقد أحسن الاختيار وأتى الأمر من بابه، وما أطرى ولا بالغ، ولا تملق ولا داهن، وإنما هو الحق الذي لا يجهله أحد. ولا يأتي على هذا الشرط عظيم من عظماء الإسلام قبل الأمير الكبير العلامة الخطير صاحب السمو الأمير عمر طوسون حفظ الله مهجته للإسلام والمسلمين وأمتع بطول حياته الشرق والشرقيين فقد أصبح هو في هذا العصر أمين هذه الأمة في كل ملمة، ومفزعها في كل مهمة. وإليه ارتاحت جميع الضمائر، وعليه حامت جميع الخواطر، وما من بزلاء إلا وقد نهض بها يشار إليه بالبنان في جميع أنحاء العالم الإسلامي لا يعمل شيئا مما يعمله رئاء ولا سمعة ولا ابتغاء شهرة ولا أمارة، هو الذي يزينها وليس بالذي يتزين بها، وإنما يعمل ما يعمله ابتغاء وجه الله تعالى، وخدمة لهذه الأمة التي أبى أن يكون من أعظم أمرائها نسبا وجلاء، وبدون أن يكون من أجل أمرائها علما وعملا وجداء، فكان قدوة لكل أمير لا يعرف العبث، ولا يريد أن يضيع من عمره لحظة واحدة بدون فائدة للبشر. وما أقول هذا عن متابعة للناس في شأن هذا الأمير المنقطع النظير، ولا عن روايات معنعنة ولا عن شهرة طائرة وإن كان التواتر يفيد اليقين وإن كان الناس أكيس من أن يجمعوا على مدح رجل إن لم يكن لذلك أهلا، وإنما أقول ما أقوله عما خبرته بنفسي وشاهدته بعيني، وتبادلت معه فيه الكتب المتصلة والرسائل المتواترة، مدة تزيد على خمس وعشرين سنة، من أيام الحرب الطرابلسية إلى الحرب البلقانية، إلى الحرب الكبرى إلى جميع الخطوب والنوازل التي حلت بالإسلام من بعدها مما قيدت خلاصته في ترجمة حياتي التي أوصيت بأن تنشر من بعدي، واستودعتها مكتب المؤتمر الإسلامي في بيت المقدس، وكذلك مما سجلته في تاريخ الدولة العثمانية الذي حررته تعليقا على تاريخ العلامة ابن خلدون رحمه الله إجابة لطلب المتصدي لتجديد طبعه الحاج محمد المهدي الحبابي الفاسي وفقه الله، ولست والله يعلم في شيء مما قيدته من أعمال الأمير الأوحد عمر طوسون مد الله، في حياته بالذي وفاه إلا النزر الأقل مما يجب من حقه على هذه الأمة التي تعرف له من فضله عليها بقدر ما ينكر هو من ذاته، ولست في جعلي هذا الكتاب باسمه الكريم إلا الكاتب الذي عرف أن يسد ما نقصه من العلم ويتلافى ما فاته من براعة الإنشاء بما وفق إليه من معرفة الفضل وألهمه من براعة الإهداء.
ولأبدأ الآن بالموضوع مستمدا من الله الصواب والسداد
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد .
هوامش
الفصل الأول
لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية
من الأمثال المضروبة في أوروبا أن جبال البرانس - كما يقول العرب
1 - أو البيرانة
صفحة غير معروفة