وقد أتاح لمكة هذا الدور المتعاظم عامل آخر؛ هو الضعف الذي طرأ على المدينة المنافسة «يثرب»، برغم أنها كانت مهيأة قبل مكة لأخذ هذا الدور، لوجود اليهود كمركز سياسي واقتصادي عريق فيها، لكن هذا الوجود ذاته كان عامل التدهور والضعف، نتيجة عنصر صراع داخلي، تمثل في انقسام طائفي بين الأوس والخزرج من ناحية، واليهود من ناحية أخرى. وقد رأى اليهود من جهتهم أن وجود هذا العنصر العربي يمكن أن يكتسب تعاطف عرب الجزيرة معه؛ فكان أن حدثت الوقيعة بين القبيلتين، وأسهمت قريش بدورها في إشعال الحرب لضرب يثرب كمركز منافس؛ فوقفت إلى جوار الأوس يومي معبس ومضرس. «لكن توجهات البيت الهاشمي في مكة رأت من مصلحتها محالفة الخزرج، وتوثيق هذا التحالف بعقد الزيجات المباركة»، لكن يثرب أخذت في الانهيار السريع أمام القوة المكية الطالعة؛ مما دفع بعقلائها إلى محاولة الإسراع في رأب الصدع، بتوحيد المدينة في كتلة سياسية متوحدة تحت حكم ملك واحد يرضى عنه الجميع. وفي هذا الوقت، كان كل الرجال المفترض فيهم قدرات الرياسة، والأكثر قبولا للترشيح للرياسة، وكانوا موضع التبجيل والاحترام وأصحاب كلمة نافذة، قد مات أكثرهم في وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ولم يبق سوى الرؤساء الثانويين. ومع ذلك بدأ القوم إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالاصطلاح على رجل منهم، هو «عبد الله بن أبي بن سلول»، ولكن الخزرج سرعان ما تراجعت إزاء التطورات الجديدة في مكة وأرسلوا وفودهم إلى ابن أختهم محمد
صلى الله عليه وسلم
في مكة، وقاموا بمحاولة إقناع الأوس بالأمر لما له من وجاهة من عدة نواح: الأولى أنه نبي مؤيد من الله وفي ذلك كفالة النصرة، والثانية أنه طرف محايد، فلا هو أوسي ولا هو خزرجي، أما الناحية الثالثة والأهم سياسيا واقتصاديا فهي أنه بخروجه من مكة إليهم يمكنهم بقيادته شن الحرب على أهل مكة، بل قطع خطوطها التجارية مع الشام التي تمر على المدينة، وفي ذلك لا لوم ولا تثريب؛ فهم إنما يتبعون أمر السماء، ثم إن قائدهم إنما هو فرد مكي ومن أهل مكة أنفسهم. ثم إن اليهود كانوا في تمام الرضا عن هذا التوجه؛ حيث الآيات الكريمة تكرم أنبياء بني إسرائيل وتفضل النسل الإسرائيلي على العالمين، ثم إن هذا النبي الآتي يصلي إلى الشام قبلة اليهود، وأتباعه في المدينة يصلون إلى الشام، بل ويصومون الغفران، كما أنه يؤكد حرية الاعتقاد تماما، وتؤكد الآيات السماوية التي يحملها:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 62). وإن الله يقول لنبيه في آياته الكريمة:
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43)، و
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44). وإن النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
هو
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة (الأعراف: 157)، وإنه يخاطبهم بالموحى إليه
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة (الصف: 6). ويلقي الدكتور أحمد الشريف الضوء على الأحداث الآتية بعد سنوات، فيقول: «ولقد عالج النبي
صفحة غير معروفة