تأسيس (1)
تأسيس (2)
الكعبات
مكة حلم السيادة
قصي بن كلاب
الصراع على السلطة بعد قصي
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
جذور الأيديولوجيا الحنيفية
ظهور النبي المنتظر
العصبية والسياسة
الدولة
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الكعبات
مكة حلم السيادة
قصي بن كلاب
الصراع على السلطة بعد قصي
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
جذور الأيديولوجيا الحنيفية
ظهور النبي المنتظر
العصبية والسياسة
الدولة
الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية
الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية
دور الحزب الهاشمي والعقيدة الحنفية في التمهيد لقيام دولة العرب الإسلامية (مدخل إلى
قراءة الواقع الاجتماعي لعرب الجاهلية وإفرازاته الأيديولوجية)
تأليف
سيد القمني
تأسيس (1)
«إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء.» قالها «عبد المطلب بن هاشم» وهو يشير إلى أبنائه وحفدته، فبرغم التفكك القبلي في بيئة البداوة التي عاشتها جزيرة العرب، فإن هناك من استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة؛ هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها «مكة» تحديدا، برغم واقع الجزيرة المتشرذم آنذاك.
وكان هناك من هو على رأي عبد المطلب من ذوي النظر الثاقب، والفكر المنهجي المخطط، الذين استطاعوا أن يصلوا إلى النتيجة نفسها بعد قراءة واعية للخريطة السياسية، والظروف الاجتماعية والاقتصادية. لكن الكثرة الغالبة لم تكن مع هذه الرؤى، حتى اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهراني العرب - كعرب - ما خطر لهم هذا التوقع قط، وإنما كانوا يترفعون على سائر العرب، ويفاخرون بأن لهم من الأنبياء عددا وعدة، ومن الأسفار المقدسة كتابا سماوي المصدر. ومن ثم أجاز الأستاذ العقاد لنفسه - وهو رجل متزن ومتوازن - أن يجزم قاطعا: «بأن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق كان أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب.»
1
وهذه الحقائق التي يعنيها الأستاذ العقاد هي أنه برغم عدم قراءتهم الصحيحة لإفرازات الواقع على الأقل بالنسبة لمكة؛ فإن حكاياتهم عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها الملك النبي داود، وما لحقها من تهويلات ومبالغات، كانت وراء الحلم الذي داعب خيال سراة العرب وأشرافهم؛ حتى بدا لكل منهم طيف زعامته للدولة الموحدة مشرقا في الخيال، تدعمه ما بدأت تشهده الجزيرة في مناطق متعددة من محاولات لتوحيد القبائل سياسيا؛ سواء عن طريق التحالفات الجانبية التي شكلت نويات مرجوة لوحدة أكبر، أو عن طريق إخضاع قبيلة لأخرى، أو التحالفات التي تتفق ومنطق البداوة، والتي كانت تتم بين القبائل المنتمية إلى سلف واحد؛ مما يجعل انتظامها تحت إمرة زعيم واحد أمرا أيسر، خاصة عند حدوث جلل طارئ أو خطر مشترك. ولا ننس المحاولات الأخرى المباشرة التي اتخذت صيغة الملك وصبغته؛ كمحاولة «زهير الجنابي» زعيم قضاعة تمليك نفسه على بكر وتغلب،
2
أو الممالك التي قامت فعلا من زمن سابق لكن في ظروف مختلفة - على حدود الإمبراطوريات الكبرى - مثل: مملكة الحيرة، ومملكة الغساسنة.
لكن بقية الناس - حتى داخل مكة - ممن كانوا يعتبرون أنفسهم عقلاء لم يكونوا مع هذا التفاؤل، ولا مع هذا الجموح في الآمال؛ فهذا «الأسود بن عبد العزى» يقدم الاعتراض البدهي والواضح والمباشر، قائلا: «ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك.»
3
وهو اعتراض يستند إلى قراءة أخرى؛ فالعرب - أيا كان الظرف الاجتماعي - لا تقبل بفرد يملك عليهم ويسود؛ لأن معنى ذلك سيادة عشيرة على بقية العشائر، وقبيلة على بقية القبائل، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه. ولعل هذه القراءة تجد حجتها البالغة في تجربة رجل مثل «النعمان بن المنذر»، الذي ورث الملك أبا عن جد في مملكة الحيرة، ومع ذلك وقف يلقي خطابه أمام كسرى الفرس، وفي حضرة وفود دول عدة، مدافعا عن عروبته بقوله:
فليست أمة من الأمم إلا وجهلت آباءها، وأصولها، وكثيرا من أوائلها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا، فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى لغير أبيه ... وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد إلى رجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم، إذا أنست من نفسها ضعفا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف. وإنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد، يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين.
4
والخطاب هنا - سواء صحت نسبته للنعمان بن المنذر أو لم تصح - لصاحب رؤية سياسية فذة، حاول أن يوضح - بإيجاز - الظرف الاجتماعي العربي، الذي حال حتى هذا الوقت دون قيام وحدة سياسية كبرى لعرب الجزيرة؛ ذلك الظرف المتمثل في «نظام قبلي»، و«عصبية عشائرية» كانت من لزوم ما يلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر، للإبقاء على دوام وجود القبيلة؛ باعتبارها وحدة عسكرية مقاتلة يلزمها التماسك اللزج دوما، والذي كانت مادته اللاصقة: رابطة الدم التي اكتسبت قدسية مفرطة، وهو ما يفسر الشكل الديمقراطي البدائي الذي تمتعت به القبيلة؛ بحيث وقف جميع الأفراد داخلها على قدم وساق، بمساواة تامة، وبمعيار الانتساب لأب واحد، وذلك وحده كان كفيلا بإلغاء أي تمايز، إضافة لظرف آخر دعم هذه المساواة؛ وهو مواجهتهم جميعا لذات المصير دوما، كمقاتلين.
والخطاب يوضح أيضا - بشكل وضاء - الأسباب التي لم تؤد بالنظام البدوي إلى إفراز مؤسسات سياسية (ملكية) متوارثة؛ لأن القبيلة وحدة عسكرية طارئة، و«زعامتها بدورها أمر طارئ» متغير، تبعا لمقتضيات الصراع الناشئ وظروفه؛ تلك المقتضيات التي تحدد سمات الزعيم المطلوب آنيا؛ وعليه فالزعامة كانت تمنح منحا لصاحب القدرات التي تناسب الظرف ومقتضياته، وهي صفات مكتسبة لا تنتقل بالوراثة؛ على حين ينضوي الجميع في الظروف الاعتيادية تحت لواء الأحكم، الأكبر، الأكثر دراية والأكثر قدرة على المنح والعطاء. وفي كلا الحالين «تظل المساواة حاضرة»؛ مما جعل البدوي واعيا تماما لفرديته، مصرا على الاعتداد بنفسه؛ بإسراف تمثله دواوين العرب في الحماسة، والفخر، والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب.
وفي خطاب «النعمان» دعم آخر لوجهة نظر «الأسود بن عبد العزى»؛ فهو يؤكد أن الأمم إنما تقبل الخضوع لملك فرد في وحدة سياسية، إذا «تخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف». وقد أثبت الحجاز - ومكة بالذات - أنه بعيد المنال، ولا يتخوف نهوض عدوه إليه؛ فبينما كانت الممالك العربية قد وقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي - ففقدت اليمن استقلالها منذ الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وسقطت تحت حكم الأحباش ثم الفرس، وفقدت مملكة الحيرة استقلالها وتحولت إلى إمارة يحكمها أمير فارسي، واضطربت أحوال المملكة الغسانية بعد أن قلب لها الرومان ظهر المجن - فإن منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين «مكة ويثرب»، كانت تتمتع باستقلال نقي، هيأها له وضعها الجغرافي، ووعورة الطريق إليها؛ فكانت هي البيئة العربية الخالصة، البعيدة عن مجال الصراع الدولي، وعن التأثر بالحضارات الأجنبية، بدون أن تفقد التواصل معها. ولم تخضع لحاكم أجنبي، ومع ذلك فلم تكن فيها ممالك بالمعنى الحقيقي، «ولا وحدة سياسية كبيرة تنتظم أمر قبائل الحجاز جميعا»؛ وهذا كله إنما هو دعم حقيقي لرأي «الأسود بن عبد العزى»!
وإزاء كل هذه العوائق الواضحة، والمحبطات السافرة للحلم، وللأمل، وللتوقع، لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيا مثل داود، وعندما وصلوا إلى هذا، فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب؛ حتى اشتد الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة، وآمن هؤلاء بذلك، وأخذوا يسعون للتوطئة للعظيم الآتي، وإن ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوحدة، وظن كل منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل «أمية بن عبد الله الثقفي» الذي راودته نفسه بالنبوة والملك، فقام ينادي:
ألا نبي منا فيخبرنا ما
بعد غايتنا في رأس محيانا؟
لكن العجيب فعلا ألا يمضي من السنين غير قليل، حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة، بل دولة قوية ومقتدرة، تطوي تحت جناحيها - وفي زمن قياسي - ممالك الروم والعجم؛ بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ، أنه النبي المنتظر!
تأسيس (2)
يقول الدكتور «أحمد شلبي» في كتابه «السيرة النبوية العطرة»: إن «أهم مصادر الثروة عند العرب ارتبطت بالتجارة، وقد اشتهر العرب في الجاهلية بالتجارة شهرة واسعة؛ حتى قيل: «إن كل عربي تاجر.» وكانت الجزيرة العربية تمثل بحرا واسعا تخترقه قوافل الإبل في شبه مجموعات من السفن، تمخر عباب البحر الفسيح، وقد حلت هذه القوافل محل الملاحة بالبحر الأحمر الذي كانت فيه الملاحة عسيرة ... وكان هناك طريقان رئيسيان للقوافل؛ أحدهما من الشمال إلى الجنوب، وغير بعيد عن البحر الأحمر، وهو في الشمال يتفرع إلى الشمال الشرقي تجاه سوريا، وإلى الجنوب الغربي تجاه فلسطين، وهو في الجنوب يسير شوطا مع ساحل حضرموت. أما الطريق الثاني فهو يخترق الجزيرة العربية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي مارا بمكة، ويتفرع في قلب الجزيرة إلى فرعين: يتجه أحدهما إلى الشمال الشرقي فيصل شط العرب، ويتجه الآخر إلى الجنوب الشرقي ويسير مع الخليج العربي مارا بدبي ومسقط وظفار. ولما وقعت اليمن فريسة الاستعمار الحبشي ثم الفارسي، استطاع المستعمرون أن يسيطروا على النشاط البحري الذي انكمش انكماشا ظاهرا، أما النشاط البري داخل الجزيرة، فقد انتقل إلى مكة؛ لأن نفوذ القوى الأجنبية لم يستطع قط أن يمتد إلى قلب الجزيرة.»
1
ثم إن الدكتور «شلبي» يعمد إلى إعادة تفصيل هذه المسألة في موضع آخر من كتابه، فيقول: «إن هؤلاء البدو استطاعوا أن يلعبوا دورا مهما في تجارة العالم، في تلك الأزمان السحيقة ... ولم تكن سفن ذلك العهد تستطيع استعمال البحر الأحمر المملوء بالجزر، التي تجعل الملاحة خطرا عليها، ومن عيوب الملاحة في البحر الأحمر أيضا أن شواطئه قليلة الموانئ، وأن به كثيرا من الشطوط الضحلة، التي كان اقتراب السفن منها أمرا محفوفا بالخطر. ولم تكن السفن تستطيع استعمال الخليج الفارسي؛ بسبب وجود الفرس على ساحله الشمالي، وهم أعداء لسكان حوض البحر المتوسط؛ وعلى هذا «أصبحت المواصلات البرية هي الطريق المهم للتجارة عبر البادية»، بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وقد حدد البدو أماكن للراحة والاستجمام طوال الطريق، فكانت بمثابة محطات يتزودون منها بالماء والزاد، وكانت أيضا بمثابة مخازن يودعون فيها بعض المتاجر لتلحق بقافلة أخرى عبر طريق آخر.»
2
ويضيف هنا الأستاذ «أحمد أمين» قوله: إن «طريق البحر لم يكن طريقا مأمونا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلا وخطرا؛ لذلك أحاطوه بشيء من العناية؛ كأن تخرج التجارة في قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محددة، وطرق محددة.» ثم يشير إلى تحول هو جد خطير؛ برغم أنه كان ناتجا طبيعيا من تحول مكة من مجرد محطة على الطريق، تأخذ عشورها وضريبتها، إلى حاضرة تجارية تظهر فيها طبقة من التجار تحتكر الأمر لنفسها، فيقول:
ثم انحط اليمنيون ... وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ بداية القرن السادس للميلاد؛ فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلا ما كانوا يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة. وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم.
3
ومصداقا لقول الأستاذ «أحمد أمين» نجد الروايات الإخبارية تجمع على قيام «تبع» ملك اليمن في وقت مبكر بحملة لإخضاع مكة ويثرب، كأهم المحطات التجارية على الطريق.
ويقول «المسعودي»: «وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج حروب، وأراد هدم الكعبة، فمنعه من كان معه من أحبار يهود.»
4
كما تجمع هذه الروايات على عدد آخر من محاولات ملوك حمير التبابعة، لتوسيع نفوذهم وسيطرتهم على الخطوط التجارية في أماكن مختلفة من الجزيرة، ومنها قيام «تبع بن ملكي كرب» بتجريد حملتين: الأولى على طريق التجارة مع الفرس، وقصدت منطقة الحيرة؛ والثانية على طريق الشام مصر، وقصدت الحجاز؛
5
هذا إضافة إلى حملة الفيل المشهورة على مكة. ولعل الصراع الذي نشأ في اليمن بين الديانة اليهودية والديانة المسيحية كان ناتج سعي الرومان للحد من نفوذ اليمن وسيطرته على الشريان التجاري. وعادة ما اتخذ مثل ذلك الصراع أشكالا دينية، وقد بدأ بلا جدال في تحالف الحبشة - كمنافس لليمن - مع الروم، واعتناق المسيحية، من أجل دعم سيطرتهم على الطريق التجاري. ثم ظلت اليمن محلا لاصطراع الروم والفرس، أو اصطراع المسيحية المدعومة من الروم، واليهودية المدعومة من الفرس، «لظروف اقتصادية بحتة»؛ حتى الفتح الإسلامي سنة 628م.
وقد فشلت الحملات جميعها على الحجاز ولم تحقق أغراضها، وما إن أطل القرن السادس على ربعه الأخير، حتى بدأت المنافسة بين مكة ويثرب - أهم محطتين في الحجاز - تبدو أكثر وضوحا. وكان ممكنا أن تصبح يثرب صاحبة شأن خطير في العصر الجاهلي، بحسبانها محطة مرور ضرورية يمر عليها الطريق التجاري القادم من مكة شمالا، لولا دخولها مرحلة تمزق، نتيجة الخلافات الداخلية التي ربما كان سببها تركيبها الهجين؛ فبرغم تجانس السكان - فسكانها من الأوس والخزرج من اليمن وبطون اليهود يعودون إلى أصول يمنية - فإن العامل الديني ووجود اليهود فيها كان لا شك عاملا مؤججا للصراع الداخلي، حتى أشرفت على هلاك كامل أدى بها إلى محاولة سبق لمكة؛ فكادت تقوم بها مملكة على يد «عبد الله بن أبي بن أبي سلول» قبل الهجرة النبوية إليها.
6 «ولم تكن قريش بريئة كل البراءة مما يحدث في يثرب»، وإنما أسفرت عن توجهها بالتحالف مع الأوس ضد الخزرج يومي معبس ومضرس، وهو مما يلقي الضوء على المستقبل القريب؛ «عندما يتحالف أهل يثرب وعلى رأسهم الخزرج مع النبي
صلى الله عليه وسلم
ضد قريش»، ويفسر لنا التحالف الذي سبق ذلك بين عبد المطلب بن هاشم ممثلا لبني هاشم، وبين الخزرج من أهل يثرب.
ومع نهاية القرن السادس الميلادي نجد مكة تقف على الطريق، مالكة لمركز رئاسي لا شك فيه، بعد أن أتاحت لها الظروف الداخلية تجميع التجارة الخارجية في يدها، وأتاحت لها الظروف الخارجية أن تستغل الأوضاع العالمية لصالحها، خاصة الصراع الدولي الهائل بين الروم والفرس في الشمال والجنوب، وهو الأمر الذي أعانها على «القيام بأمر تجارة العالم، والنجاح فيه بكفاية أكسبت أهل مكة ثروة عظيمة»، فحظيت باحترام عربي عام؛ حتى باتت مؤهلة للزعامة، في وقت أخذ فيه العرب يتطلعون إلى منطقة عربية مستقلة تتولى زعامة النهضة العربية وتقودها. أو كما يقول الدكتور «أحمد الشريف»: «أصبحت أهلا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية ، واطمأنت قريش إلى هذا المركز، وعملت على دعمه، وحرصت على دوامه.»
7
الكعبات
هكذا تناثرت - في الوسط الاجتماعي العربي - جماعات البشر على هيئة قبائل متنافرة؛ لا حكم فيها ولا سلطة إلا للعرف القبلي، الذي يختلف بدوره باختلاف القبائل وظروفها. ومع تعدد القبائل تعددت المشيخات وكثر الشيوخ وأبطال الغزو؛ أولئك الذين تحولوا بعد موتهم إلى أسلاف مقدسين، وأقام لهم أخلافهم التماثيل والمحاريب، ليلتمسوا عندهم العون كلما حزبهم أمر أو حل بهم جلل. ومن أجل هؤلاء الصالحين السالفين، أقيمت بيوت العبادة، وشرعت طرق التقرب إلى الأرباب أو الأسلاف (الرب لغة هو سيد الأسرة أو القبيلة، وهو بعلها)؛ ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد الأبطال والصالحين الراحلين، و«بتعدد الأرباب تعددت الكعبات»! حيث كانت الكعبة (البناء المكعب) هي الصيغة المعمارية المفضلة لبيوت أرباب الجاهلية، وأحيانا أخرى كانت هذه الكعبات تقام تقديسا للأحجار الغريبة والنادرة؛ مثل الأحجار البركانية أو النيزكية، وكلاهما كان يغلب عليه اللون الأسود نتيجة عوامل الاحتراق. ونظن هذا التقديس ناتجا - إضافة لغرابة شكل الحجر - من كونه قادما من عالم غيبي مجهول؛ فالحجر البركاني مقذوف ناري - من باطن الأرض وما صيغ حوله من أساطير قسمته طبقات ودرجات، واحتسبته عالما لأرواح السالفين المقدسين - كذلك الحجر النيزكي، وربما كان أكثر جلالا لكونه كان يصل الأرض وسط مظاهرة احتفالية سماوية تخلب لب البدوي المبهور؛ فهو يهبط بسرعة فائقة محتكا بغلاف الأرض الغازي، فيشتعل مضيئا ومخلفا وراءه ذيلا هائلا؛ لذلك كان هول رؤيته «في التصور الجاهلي» دافعا لحسبانه ساقطا من بيوت وعرش الآلهة في السماء، حاملا معه ضياء هذا المكان النوراني؛ ومن ثم كان طبيعيا أن يحاط بالتكريم والتبجيل.
ومع كثرة الأحجار القادمة من عند الأسلاف، أو الهابطة من السماء، كثرت أيضا الكعبات. وعن الكعبات ومحجات العرب يقول الباحث «محمود سليم الحوت»: «يجب ألا يخطر على بال أحد أن مكة - وإن ارتفعت مكانتها عن سواها من أماكن العبادة - هي القبلة الوحيدة في الجزيرة؛ فقد كان للعرب كعبات عديدة أخرى تحج إليها في مواسم معينة وغير معينة، تعتر (تذبح ) عندها، وتقدم لها النذور والهدايا، وتطوف بها، ثم ترحل عنها بعد أن تكون قد قامت بجميع المناسك الدينية المطلوبة.»
1
وقد اشتهر من بيوت الآلهة أو الكعبات ما وجدنا ذكره عند الهمداني: «بيت اللات، وكعبة نجران، وكعبة شداد الإيادي، وكعبة غطفان»؛
2
وما ذكره الزبيدي: «بيت ذي الخلصة المعروف بالكعبة اليمانية»؛
3
وما جاء عند ابن الكلبي: «بيت ثقيف»؛
4
إضافة إلى ما أحصاه «جواد علي»: «كعبة ذي الشرى، وكعبة ذي غابة الملقب بالقدس»؛ ومحجات أخرى لآلهة مثل: «اللات، وديان، وصالح، ورضا، ورحيم، و«كعبة مكة»، وبيت العزى قرب عرفات، وبيت مناة»؛
5
هذا مع ما جاء في قول الأستاذ العقاد عن «... البيوت التي تعرف ب «بيوت الله أو البيوت الحرام»، ويقصدها الحجيج في مواسم معلومة تشترك فيها القبائل ... «وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة»، وهي: بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت رضاء، وبيت نجران، وبيت مكة ... وكان بيت الأقيصر في مشارف مقصد القبائل، من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده ... «فالأمر الذي لا يجوز الشك فيه أن البيوت الحرام وجدت في الجزيرة العربية» لأنها كانت لازمة ... وقد اجتمع لبيت مكة من البيوت الحرام ما لم يجمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة؛ لأن مكة كانت ملتقى القوافل؛ بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب.»
6
ويفهم من العقاد أن هذه البيوت كانت محرمة ولها أيامها الحرام، لكن بيت مكة بالتحديد أخذ في التمايز؛ لموقع مكة العظيم على طرق القوافل التجارية جميعا، حتى جاء وقت - كما قلنا - أصبحت فيه مكة ملتقى تجارة العالم، وأصبح أهلها أهم تجار الدنيا.
ويمكننا هنا التمييز بين مفهوم العربي الجاهلي لمعنى الألوهية ومعنى الربوبية؛ فالألوهية تعني إلها غير منظور يسكن السماء، ومن هناك يتساقط ملاط بيته الإلهي من آن لآخر، على هيئة أحجار سوداء. في حين أن الربوبية تشير إلى تقديس للأسلاف يتفق حجمه مع أهمية رابطة الدم عند العربي البدوي؛ وعلى هذا النحو عبد النبطيون حجرا أسود يرمز إلى الشمس كإله للسماء،
7
وعبد الهذليون حجرا أسود يرمز لمناة، وكان ذو الشرى حجرا أسود، وكذلك كانت الكعبة المكية إطارا لحجر أسود،
8
كما كانت باقي الكعبات تتسم بذات السمة؛ فهي أطر لأحجار سود. وسميت هذه الكعبات بيوت الله لأن «كل بيت منها فيه حجر من بيت الإله الذي في السماء»؛ تمييزا له عن الأرباب التي لم تكن سوى مجرد تماثيل أو أحجار بركانية توضع في أفنية الكعبات؛ انتفاعا ببركات الأسلاف الصالحين، وتشفعا بهم عند إله السماء.
وواضح لدى أي باحث أن «هذا التفرق العقائدي، وتعدد العبادات والأرباب، قد ساعد بفعالية في زيادة الفرقة القبلية»، بحيث أصبح عائقا دائما ومستمرا في سبيل المحاولات التي قامت من أجل خلق كيانات سياسية في جزيرة العرب. إضافة إلى الطبع القبلي الذي يأنف كبرياؤه وينفر من فكرة سيادة سياسية واحدة - تلك المحاولات التي سبق أن أشرنا إليها - مثل محاولات زهير الكلبي، وعبد الله بن أبي، وكندة، والغساسنة، والمناذرة، وكان الدافع إليها جميعا حلما وأملا أججه الشعور الآتي بإمساك عنان تجارة العالم، ووجود هذا العالم مسترخيا ينزف في حروب طال مداها بين الإمبراطوريات الكبرى.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن مثل هذه المحاولات اتسمت بروح العصبية العربية الخالصة التي تجلت بدءا في اعتناق المناطق العربية الواقعة تحت النفوذ الإمبراطوري؛ أيديولوجيات أو مذهبيات دينية تخالف مذاهب الإمبراطوريات، حتى بلغ الطموح مداه في هجمات عربية متفرقة - لكنها شرسة - كرا وفرا، على حدود الدول العظمى، إلى درجة أن الشعور العربي بلغ أوجه متمثلا في فرح عام بالجزيرة كلها، عندما انكسر الفرس بعظمتهم وجبروتهم أمام حلف عربي صغير لقبائل شيبان وعجل وبكر بن وائل؛ في وقعة ذي قار؛
9
مما دفع بالحلم إلى الخروج من ساحة التمني إلى ساحة التوقع، وربما التحقيق! مرهونا بشرط واحد هو تحالف وتوحد كتوحد العرب في ذي قار؛ ذلك التحالف الذي بدأت تباشيره في شعور عام دفع الوفود القبلية من كل صوب وحدب، إلى أن تحث خطاها بين الفيافي والقفار نحو اليمن؛ لتهنئ معد بن يكرب أو سيف بن ذي يزن بطرده الأحباش، وبعودة الحكم العربي إلى اليمن.
مكة حلم السيادة
وقد لعب جدل السياسة الدولية، وما تبعه من تغيرات هائلة على المستوى الاقتصادي؛ دورا خطيرا لصالح عرب الجزيرة، وخاصة في يثرب ومكة؛ حيث أخذت أوضاع الخط التجاري تضطرب وتتقلب؛ مما أثر على بنية التركيب الاجتماعي في المدينتين، وبخاصة مكة التي تطورت كمحطة مرور على طريق القوافل التجارية، حتى أضحى أهلها في حالة تناقض مع الشكل الاجتماعي البدوي المتفكك وغير المستقر؛ فبدأت تدخل مرحلة تحولات بنيوية واضحة في تركيبها الاجتماعي، وبدأت تضمحل في داخلها التركيبة القبلية، مع إفراز جديد لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل، وهو إفراز طبيعي للاستقرار والملكية، وما يتبعه بالضرورة من صراع حول امتلاك وسائل الإنتاج، ثم السلطة السياسية، بعد أن اشتدت الحاجة إلى استقرار أمثل، للقيام على شئون هذا العمل التجاري الهائل، وتقسيم الأدوار حول هذا العمل، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم، وأموالهم هم، وتوفير جو من الأمن العام، وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر، كان أهم عناصره وركائزه طبقة العبيد؛ «ومن ثم كان حتميا أن يتطور المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديمقراطية ومساواة بدائية، إلى مجتمع متمايز طبقيا».
ويشرح لنا الدكتور «أحمد الشريف» ظروف المجتمع المكي من الداخل؛ فيقول: «غير أن الثروة لم تكن موزعة توزيعا عادلا؛ فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية ... وكان التفاوت الطبقي موجودا - على الرغم من الإحساس بالقرابة، ووجود علاقات الحلف والولاء، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بالمساواة - متمثلا في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي، بالنظر إلى ما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها، من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة ... وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي.»
1
وعليه فقد تهيأت مكة لإفراز عناصر قيادية عربية، «كما قدرت أحداث الجدل الدائر للكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى والمحج الأقدس دون غيرها من الكعبات»، وساعد على ذلك أسواق مكة المختلفة، ومواسمها المتنوعة التي وضعت لجذب التجار، ثم انتشرت لغة قريش وعاداتها بين القبائل الحالة والمرتحلة، بعد أن حتمت مصالح القرشيين التجارية عليهم اليقظة والاهتمام بما يجري حول جزيرتهم من أحداث، لتأثير هذه الأحداث المباشرة على ما بأيديهم. وكان هذا الوعي دافعا لنزعة قوية من التسامح الديني، ولنضوج ميزهم عمن حولهم من أعراب؛ فاستضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة برفقة أصحابها التجار، وقاموا بتبني هذه الأرباب تدريجيا، فكان أن تركها أصحابها في كعبة مكة، ليعودوها في مواسمها؛ فكثرت المواسم المكية بالاحتفالات الدينية بالأرباب المختلفة، وكثر أيضا الخير والبركة من التجارة، وكان حتميا أن تهفو قلوب العرب وتجتمع عند كعبة فيها أربابهم ومعاشهم وأمنهم ومرحهم وسمرهم، وأن يضمحل بالتدريج شأن بقية الكعبات التي توارت في الظل، ثم في الزوال حتى طواها النسيان.
وكان موقع مكة الجغرافي بعيدا عن يد البطش الإمبراطوري (فارسية أو رومانية)، إضافة إلى حالة الضعف والانهيار التي أصابت هذه الإمبراطوريات، مع الفشل الذريع الذي منيت به المحاولة اليتيمة من روما لضرب مكة كمركز تجاري قوي بواسطة جيش أبرهة الحبشي في عام الفيل. عوامل مجتمعة ساعدت على صعود النجم المكي واتساع السطوة المكية؛ مما أعطى القرشيين الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم، خاصة بعد أن تدهورت اليمن مرة أخرى، وأصبحت قاصرة عن القيام بهذا الدور، وانتهت كتابع للدولة الفارسية.
وإن ارتفاع النجم المكي وصعوده بعد حملة الفيل، أمر يحتاج إلى الوقوف معه وقفة سريعة، توضح لنا إلى أي مدى بلغ أمر قريش في نفوس القوم، إلى الحد الذي دفع العرب جميعا إلى رجم قبر أبي رغال؛ دليل الجيش الغازي، وإلى الاعتقاد الواثق برب الكعبة المكية الذي صد عن بيته جيشا ما كان ممكنا أن يصده العرب؛ تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن «جيش أبرهة قد تعرض لهجوم جوي فريد في نوعه»؛ إذ أرسل الله على الجيش طيورا ترميه بالأحجار، وينقل السهيلي عن النقاش: «أن الطير كانت أنيابها كالسباع، وأكفها كأكف الكلاب. وذكر البرقي أن ابن عباس قال : أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل.» وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحق في رواية يونس عنه، وفي تفسير النقاش أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر.
2
وبهذا الاعتقاد أرسل «رؤبة بن العجاج» رجزه قائلا:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل
ترميهم حجارة من سجيل
ولعب بهم طير أبابيل
فصيروا مثل عصف مأكول
3
ويروي ابن هشام في متن شرح السهيلي للسيرة: ««وكان اسم الفيل محمودا»، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: «ابرك يا محمود، أو ارجع راشدا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام.» ثم أرسل أذنه؛ فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم مراقة فبزغوه بها فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول. فأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه؛ أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك.»
4
وابن نفيل صاحب هذه الكرامة، تمتد كراماته في التراث لتلحق حفيده «عمر بن زيد بن نفيل» على ما سنرى، وابن نفيل يسجل اعتقاده فيما حدث بقوله:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
وخفت حجارة تلقى علينا
5
وذات الحديث هو أيضا ما دفع «عبد الله بن الزبعرى» ليرسل شعره قائلا:
تنكلوا عن بطن مكة إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يثوبوا أرضهم
ولم يعش بعد الإياب سقيمها
6
أما «عبد المطلب بن هاشم» زعيم قريش آنذاك فقد نصح بعدم التعرض لجيش أبرهة، وبأن يترك مكة أهلها إلى شعاب الجبال، ثم توجه إلى أبرهة مع يعمر بن نفاثة وخويلد بن وائلة، «يعرضون عليه ثلث أموال تهامة» على أن يرجع عنهم فرفض؛
7
فرجع عبد المطلب يناجي ربه:
لاهم إن العبد يم
نع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقب
لتنا فأمر ما بدا لك
8
أما ابن هشام فيتابع سرد الأحداث قائلا: «وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون. قال ابن إسحق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث: «إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري في أرض العرب ذلك العام.»
9
وهو ما يترك في الجسد مثل الحمص والعدس.» وأما الأستاذ عباس العقاد فكان يبدو على قناعة تامة بدور الجدري في هزيمة جيش الفيل، فيقول مؤكدا جازما قاطعا: «وقد حدث بعد ذلك ما حدث مما لا شك، «وهو فتك الجدري بجنود أبرهة» وانهزامه عن البيت ... إن حديث الجدري الذي فشا سنة 569م مثبت ... في تاريخ بروكوب
الوزير البيزنطي المعروف.»
10
ثم يختم ابن هشام الأمر بإعلان نتيجة حدث الفيل العظيم بقوله: «فلما رد الله الحبشة عن مكة، وأصابهم ما أصابهم من النقمة؛ أعظمت العرب قريشا، وقالوا: «هم أهل الله، قاتل الله عنهم».»
11
أما كيف دخلت مكة هذا الدور، فهو ما سيعود بنا إلى عهد استفاضت في ذكره كتب التراث؛ ذلك العهد الذي استطاعت فيه قريش أن تستولي على مكة قبل زمن الفيل بزمان، تحت قيادة «قصي بن كلاب»؛ ذلك القرشي الذي استطاع بعبقرية من نوع نادر أن يكون في مكة سيدا مطلقا.
قصي بن كلاب
تنبئنا كتب الأخبار أن محاولات السيطرة على مكة مسألة قديمة، تعود في قدمها إلى قبيلة جرهم، وهي من أصل يمني قحطاني؛ وكيف أنه قد اصطرع حول مكة عرب الجنوب القحطاني وعرب الشمال العدناني، فتنتقل من سيادة جرهم إلى سيطرة إياد بن نزار، ليغلبه عليها بعد ذلك مضر، ومن مضر تنتزعها خزاعة اليمنية مرة أخرى، لينتهي بها الأمر إلى الاستقرار في يد قريش؛ في قبضة قصي بن كلاب.
ومن البداية كان واضحا «مدى دهاء قصي ووعيه السياسي»، وإدراكه لما يحدث على المستوى الاجتماعي من جدل وتغير مطرد؛ إبان سعيه العبقري للاستيلاء على السلطة، وانتزاعها لقريش من خزاعة؛ فقام يتودد إلى حليل سيد خزاعة، وأدى الود إلى وداد المصاهرة، فتزوج قصي بنت حليل. وهنا يروي ابن هشام، فيقول: «إنه لما هلك حليل ... رأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة ... فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة، وبخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي - وكان عجوزا خرفا - مفاتيح الكعبة، مقابل زق من الخمر وقعود، في ليلة سامرة.» ويقول الحافظ ابن كثير: «فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق من الخمر وقعود؛ فكان يقال: أخسر من صفقة أبي غبشان.» ويزيد ابن هشام بقوله: «فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا؛ أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كلها.»
1
ونفهم من كتب التراث أن خزاعة لم تستطع استعادة أمرها على مكة، بعد أن تحالف مع قصي القرشيون والكنانيون وغيرهم، حتى انتهى الأمر بطرد الخزاعيين من مكة، وتولى قصي أمر الكعبة، وبدأ بفرض الضرائب والعشور على القوافل التجارية المارة بمكة مقابل تأمينهم وتأمين السقاية والرفادة لهم. ويقول «المسعودي»: «واستقام أمر قصي، وعشر على من دخل مكة من غير قريش، «وبنى الكعبة»، ورتب قريشا على منازلها في النسب بمكة.»
2
وهو قول يشير إلى تطور في خطط قصي لرفع شأن دولته المكية عن طريق الكعبة واستضافتها أرباب القبائل الأخرى، ثم إن «المسعودي» يربط بين خطط قصي ومعنى التقريش (من قريش) والإيلاف (بمعنى الأمن)؛ وهو أمر يظهر وعيا سياسيا واضحا تمثل بعد استيلائه على السلطة في إيفاد الرسل إلى الممالك على أطراف الجزيرة لإقامة علاقات مع هذه الممالك؛ ليعطي مكة بذلك دور الدولة. وبهدف طمأنة هذه الممالك على تجارتها ليستمر النشاط المار بمكة، فيقول المسعودي: «وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن، وتقرشت، والتقريش الجمع.»
3
في حين يشير ابن كثير إلى منحى ثان في معنى التقريش وقريش ، يظهر بوضوح بداية تكون المجتمع المستقر، مرتبطا بالنشاط الاقتصادي؛ أو التغير في بنية المجتمع المكي مع الاستقرار الملازم لتعاظم دورها لتصبح أهم محطة ترانزيت. ثم كان محتما أن تكون أكثر المحطات أمانا؛ قياسا على ما أفرزه الواقع السياسي العالمي، من انهيار تام لأنظمة حفظ الأمن التجاري على الخطوط الدولية، وما نتج عن ذلك من تراكم الثروة اللازمة لتحولات المجتمع المكي، وذلك بربطه بين معنى القرش، ومعنى الكسب والتقرش؛ فيقول: «وأما اشتقاق قريش؛ فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق. وذلك في زمن قصي بن كلاب؛ فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم، وقد قال حذافة بن غانم العدوي:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر ... وقيل سميت قريش من التقرش، وهو التكسب والتجارة، وحكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع، وقد قرش يقرش ... قال البيهقي: إن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ... فأنشده شعر الجمحي إذ يقول:
وقريش هي التي تسكن البح
ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تت
رك فيه لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد هي قريش
يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهم والخموشا»
4
وكان أبرز مؤسسات قصي السياسية هو دار الندوة التي بناها، والتي ربما كانت ذات الكعبة أو فناءها؛ فكانوا يجتمعون إليه ليقضي بينهم ويدير أمور دولته الصغيرة، ومن بعده كانت قريش تجتمع فيها لتتشاور في حربها وسلمها، ومن هناك تعقد ألويتها؛
5
مما يعني دخول قريش مرحلة متحضرة وشوطا بعيدا، ابتعد بها عن النظام المشيخي القبلي الذي حلت محله دار الندوة، ومثل القبائل فيه كبراؤهم أو «الملأ»، وهو مما سيفرز - بالضرورة - بداية الصراع حول امتلاك وسائل الإنتاج والسلطة السياسية كما سيأتي بيانه؛ فبالندوة ابتعد قصي بقريش وبمكة عن القبلية باتجاه الحضارة، وحل الملأ محل الشيوخ، وحلت الندوة محل الديمقراطية البدوية .
ثم يقول ابن كثير: «فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا، أطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعا بين قومه؛ فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة ... فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته، واللواء، وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة.»
6
ولعله من الواضح أن اللواء أو قيادة الجيش كان الإفراز الأخطر لجدل الأحداث، لبناء جيش قوي يمكنه الوفاء للملوك بالعهود، وتأمين التجارة التي استبدلت ببحر الرمال في الجزيرة، بحار الدنيا بحروبها وويلها.
ولا يغيب عن فطن أن امتلاك قصي السيادة على مكة، قد تم وفق خطة مرسومة ومدروسة ومنظمة؛ قامت على وعي سياسي نافذ هادف نحو غاية، وسائلها هي: الدين؛ ممثلا في الكعبة المكية، حتى قال ابن الأثير: «كان أمر قصي فيهم شرعا متبعا، معرفة منهم لفضله وتيمنا بأمره.»
7
وقال الطبري: «فكان أمره في قومه في حياته وبعد موته كالدين المتبع.»
8
والمال؛ وقد تيسر من عشور التجارة، وتأليف القلوب حوله بالبذل والعطاء كالملوك، من خلال السقاية والرفادة.
وهكذا استطاع أن يجمع بين يديه كل الوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية؛ فكان أول سيد مطلق النفوذ في دولته الصغيرة مكة.
الصراع على السلطة بعد قصي
إيمانا منه بفردية الحكم المطلق، وحتى لا تتفرق مكاسبه وتتناثر؛ ترك قصي بن كلاب كل سلطاته ووظائفه وسنته الزكية، لولده البكر عبد الدار، دون أخيه عبد مناف، ورحل إلى عالم الأسلاف، بعد أن أسس لقريش «دولتها الواحدة في مكة». ولكن قصي ما كان يعلم أن الحقد سيتملك قلب عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف؛ فكان أن توارث الأبناء أحقاد الآباء، وقام أبناء العمومة يستعدون القبائل على بعضهم، وتجمع بنو عبد مناف مع مؤيديهم في حلف المطيبين؛ فرد عليهم بنو عبد الدار وحزبهم بحلف الأحلاف، وتجمع الفريقان للقتال من أجل السيادة على مكة. ويشرح ابن كثير الأمر في قوله: «ثم لما كبر قصي؛ فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها؛ من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة، إلى ابنه عبد الدار، وكان أكبر ولده ... فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص عبد الدر بذلك ليلحقه بإخوته؛ فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه. وقال بنو عبد الدار: هذا أمر جعله لنا قصي، فنحن أحق به. واختلفوا اختلافا كبيرا، وانقسمت بطون قريش فرقتين؛ فرقة بايعت بني عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك.»
1
ولعله واضح لمن أصاب خبرة ودربة مع كتب التراث، انحياز هؤلاء الكتاب وأصحاب السير والأخبار الواضح لحزب عبد مناف، فيما وضعوه من تفاسير للأمر والتسميات؛ كما ورد - كمثال - في شرح السيرة الحلبية لما حدث: «فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف، أراد بنو عبد مناف وهم: هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم ... ونوفل أخوهم لأبيهم ... أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة ... وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم؛ فسموا المطيبين ... فتطيب منها بنو زهرة، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو تميم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل، وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا؛ فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما، من دم جزور نحروها ... وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها؛ فسموا «لعقة الدم».»
2
وكان واضحا أنه برغم هذا الاصطراع، فإن المصلحة الاقتصادية العامة فرضت نفسها على جميع الأطراف؛ فكان الحرص على المصالح التجارية، وما سبق وحققه قصي من هيبة لقريش؛ عاملا جوهريا في حقن الدماء، وانتهى الأمر بالسلام؛ حيث تقاسم أبناء العمومة ألوية الشرف الموروث. حيث نجد «برهان الدين الحلبي» يتابع في سيرته القول: «ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف ، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك.»
3
لكن الواضح للمتعامل مع كتبنا الإخبارية أن بني عبد مناف قد علا نجمهم وفشا أمرهم، إلى حد أنهم كانوا هم سفراء الأمان والإيلاف لدول العالم الكبرى حينذاك؛ وهو ما لاحظه الدكتور «أحمد شلبي» وسجله بقوله: «وكان بنو عبد مناف الأربعة يتوجهون إلى الجهات الرئيسية الأربع التي كانت تتجه إليها قريش؛ فكان هاشم يتجه إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل (أخوهم غير الشقيق) إلى فارس، وكان تجار قريش يذهبون إلى هذه البلاد في ذمة هؤلاء الإخوة الأربعة، لا يتعرض لهم أحد بسوء.»
4
أما ابن كثير فقد أكد أن بني عبد مناف قد «صارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم المجيرون؛ وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم، ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم.»
5
وقد استقرت ألوية الشرف (القيادة والسقاية والرفادة) المنتزعة من بيت عبد الدار لبيت عبد مناف، في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية إخوته؛ لذا فما إن رحل أخوه عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه من ألوية الشرف بالقوة، ووقف نوفل مؤقتا على الحياد، وكادت الحرب تقطع صلات الرحم، وتهدر الدم الموصول. ومرة أخرى تفادى القوم الكارثة، فرضوا بالاحتكام إلى كاهن خزاعي؛ فقضى الكاهن بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات إلى منفى اختياري، ولم يجد أمية بدا من الرضا بحكم ارتضاه؛ فشد رحاله إلى بلاد الشام ليقضي بين أهلها من السنوات عشرا.
6
وهكذا، دارت العداوات حول هاشم؛ عداوة بني عبد الدار، وعداوة بني عبد شمس الذي انضم إلى حزب عبد الدار (ونوفل يقف محايدا)؛ عداوة بني عبد الدار لاعتبار ما بيد هاشم من ألوية شرف هو حق خصهم به جدهم قصي، وعداوة بني عبد شمس لاعتبار أنفسهم شركاء في التشريف الذي ناله هاشم بن عبد مناف.
وكانت السنوات العشر التي قضاها أمية بن عبد شمس في منفاه الشامي رصيدا لبيته الأموي من بعده ؛ فقد ارتبط هناك بأهلها بأواصر السنين والمصاهرة التي كانت لأبنائه ذخرا وعتادا؛ حيث قامت هناك دولة كبرى بعد سنين، يرأسها حفيده معاوية؛ تلك التي عرفتها الدنيا باسم الدولة الأموية. وكان حكم الكاهن الخزاعي مدعاة لفرقة وفجوة بين بيت هاشم وبيت عبد شمس وولده أمية، ورثها الأبناء والحفدة، حتى فيما بعد قيام الدولة الإسلامية؛ حيث استمر الصراع ممثلا في الأمويين (نسبة لأمية بن عبد شمس) والعباسيين (نسبة للعباس بن عبد المطلب بن هاشم، الذي ظلت بيده ألوية الشرف، من سقاية ورفادة بتصريح من النبي
صلى الله عليه وسلم )، أو بين المذهب الشيعي والمذهب السني. ورغم محاولات قريش رأب الصدع مبكرا، بعقد حلف الفضول بين الأطراف المتنازعة، فإن الصدع استمر يغور ويتسع - باستمرار وإصرار - بين أبناء العمومة.
7
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
على الرغم من أن ألوية السيادة المستقرة في بيت عبد الدار قد كفلت له اختصاصات التحكم والقوة، فإن تكتيك هاشم اتجه منحى آخر تمثل في اكتساب القلوب؛ فقام يهشم الثريد لقومه بيديه - لذلك لقب هاشما - ومد بسخائه القاصي والداني، أما اسمه الحقيقي فكان عمرو. يقول ابن كثير: «هاشم واسمه عمرو، سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل للزبعرى والد عبد الله:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف.»
1
وإذا كان هاشم هو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف؛ فلا ريب أنه فعل ذلك في الوقت الذي بدأت فيه قريش تتحول من مجرد حارس وقابض للعشور، أو مجرد محطة ترانزيت، إلى بلدة تحتكر التجارة لنفسها، وتتاجر في بضائع الأمم بأموالها. ولنلحظ أن القرآن الكريم يربط بعد ذلك بين هذا العامل الاقتصادي المتمثل في التجارة - وأثر ذلك في التقرش والاستقرار - والعامل الديني؛ في قوله:
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . وحول الفهم نفسه يكتب الدكتور «أحمد شلبي» قوله: «فأصبحت مكة «جمهورية صغيرة تجارية» ... وراجت تجارة مكة، فأخذت قريش توطد مركزها في البلد الحرام؛ فسنت ... رحلتي الشتاء والصيف؛ رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام؛ فارتفعت مكانة مكة في الجزيرة، واعتبرت العاصمة المعترف بها، وسمت منزلة سوق عكاظ؛ فأصبح ملتقى الخطباء وقطب الدائرة الفكرية ... وهاشم الجد الثاني للرسول كان سفير قريش لدى الملوك، وقد عقد مع الروم معاهدة تجارية لتذهب تجارة قريش إلى الشام في أمان ومنعة.»
2
لكن هاشما أعطى الوضع المتأزم أبعادا جديدة، عندما دعم قوى حزبه العسكرية برجال الحرب والدم والحلقة من بني النجار والخزرج في يثرب؛ فشد الوثاق بهم بأن «تزوج سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج»؛
3
ليكون ذلك لحزب عبد الدار وعبد شمس إعلانا صريحا عن قيام التحالف بين الحزب الهاشمي وأهل الحرب اليثاربة، وترك ولده شيبة المعروف بعبد المطلب ينمو ويربو ويرضع الفروسية بين أخواله، حيث كان كل التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود.
وبموت هاشم تولى أخوه المطلب منصب السقاية والرفادة والقيادة، «والمطلب كان يقال له القمر لحسنه» فيما يزعم ابن كثير.
4
ثم إنه اتبع أسلوب أخيه وسياسته في اجتذاب القلوب بالكرم والعطاء والبذل؛ فنال ألقاب المحبة والتكريم، حتى لقبوه لجوده بالفيض.
ولم يطل العمر بالمطلب سيدا؛ فقد رحل تاركا استكمال المهمة الجليلة لابن أخيه؛ ذاك العبقري الفذ شيبة بن هاشم المعروف بعبد المطلب، الذي تربى صغيرا في كنف أخواله من أهل الحرب اليثاربة، ثم تزوج بنت جناب بن كليب الخزرجي شدا للأواصر ومدا للوثاق.
5
وكان واضحا من البداية فهمه الثاقب لأبعاد الأوضاع في مكة؛ فحرص على استدامة حلف المطيبين بالزواج من بني زهرة. ومن المهم هنا أن نذكر أنه عند عودته من المدينة إلى مكة ليتبوأ مكان عمه المطلب، وجد عمه نوفلا قد وضع يده على أملاكه خارجا عن حياده مستهينا بحداثة سنه، إلا أن عبد المطلب كتب من فوره إلى أخواله بني النجار في يثرب مستنصرا:
أبلغ بني النجار أنى جئتهم
أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوما إذا جئتهم
هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلا قد أبى
إلا التي يغض عنها الخسيس
6
وما كاد إبراقه يصل الأخوال، حتى قدحت حوافز خيول ثمانين محاربا يثربيا بالبرق، يحملون السيوف إلى مكة؛ مما دفع نوفلا إلى التراجع من فوره، ورد أملاك عبد المطلب إليه، لكنه أعلن خروجه على حياده، وانحيازه لحزب عبد الدار وعبد شمس، ضد عبد المطلب وحزبه الهاشمي. وهذا ما تشرحه لنا السيرة الحلبية عن المطلب وابن أخيه في قولها: «وكان شريفا مطاعا جوادا، وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده، فلما كبر عبد المطلب فوض إليه أمر السقاية والرفادة. فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف، وغصبه أركاحا (أي أفنية ودورا) ... فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل، فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة، فنزل بالأبطح؛ فتلقاه عبد المطلب وقال له: المنزل يا خال. فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا. فقال: تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش. فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائما وقال: يا أبا سعد أنعم صباحا. فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحا. وسل سيفه، وقال: ورب هذه البنية (الكعبة)؛ لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه، لأملأن منك هذا السيف. فقال: لقد رددتها عليه ... ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم.»
7
أما الطبري فيقول: «فلما رأى ذلك نوفل، حالف بني شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر، فحدث بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال:
يا ابن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقربا إلينا، إذ صير الله الدولة فينا؛ عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه. قلت: أصلح الله الأمير؛ قد احتاج إلى نصرهم من كان خيرا من عبد المطلب . قال وكان متكئا فجلس مغضبا، وقال: من خير من عبد المطلب؟ قلت: محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم . قال: صدقت. وعاد إلى مكانه وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن ابن أبي بكر.»
8
ويتضح لنا وعي عبد المطلب بن هاشم السياسي، وبعد نظره، وحسه القومي؛ في قيادته وفدا إلى اليمن برفقة ابن أخيه أمية (قبل النزاع المشار إليه)، وحلفائه: أبي زمعة جد أمية بن عبد الله بن أبي الصلت - وسيكون لأمية هذا شأن - وخويلد الأسدي بن أسد بن عبد العزى (ومن الواجب ملاحظة امتداد ذلك التحالف في زواج حفيد عبد المطلب، النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، من السيدة خديجة بنت خويلد الأسدي رضي الله عنها) في الوقت الذي استمر فيه على التكتيك الهاشمي؛ بأن سار على السنة الكريمة المعطاء بالجود؛ حتى لقبه الناس: شيبة الحمد.
9
لكن الجديد في أمره هو عمله على وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه؛ فكان إدراكه النفاذ لسنة جده قصي الدينية والسياسية مساعدا على تحديد الداء ووصف الدواء؛ والداء فرقة قبلية عشائرية، والأسباب تعدد الأرباب وتماثل الشفعاء. ومن هنا انطلق «عبد المطلب يضع أسس فهم جديد للاعتقاد؛ فهم يجمع القلوب عند إله واحد»، ويتميز بأنه يلغي التماثيل والأصنام وغيرها من الوساطات والشفاعات؛ لأنه لا يقبل من أحد وساطة ولا شفاعة إلا العمل الصالح!
وتمهيدا لما أزمع، أعلن في الناس: أنه بينما كان نائما في الحجر بالكعبة أتاه رئي، وغته ثلاث مرات، وأوحى إليه الأمر بحفر البئر المعروفة باسم زمزم. وتقول كتب الأخبار الإسلامية إنها كانت بئرا لجرهم بين صنمي إساف ونائلة، دفنتها حين تركت مكة.
10
نعم، لقد تمثل تنافس بني العمومة من قبل في احتفار الآبار، جذبا للقبائل وقوافل التجارة، فقديما حفر عبد الدار «أم جراد»، ولما حفر عبد شمس «الطوى»، رد عليه هاشم بحفر «بدر»، فزاد أمية في الكرم وحفر «الحضر»، فرد عليه عبد المطلب بحفر «زمزم».
11
لكن زمزم ليست ككل الآبار؛ فهي البئر الوحيدة التي قيل فيها إنها حفرت بأمر غيبي - في حلم عبد المطلب - إضافة إلى ما شاع يتردد حول أمرها، بحسبانها فعلا إلهيا لا إنسانيا، فجرها الله قديما تحت خد إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) ليشرب وأمه منها. وفي ذلك يقول ابن هشام في السيرة: «فضل زمزم على سائر المياه: فعفت زمزم على المياه التي كانت قبلها يسقى عليها الحجاج، وانصرف الناس إليها لمكانها في المسجد الحرام، ولفضلها عما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ...»
12
ويقدم لنا ابن كثير نص هذا الأمر أو الوحي بحفر زمزم، وهو:
احفر زمزم، إنك إن حفرتها لن تندم، هي تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام حافل لم يقسم، وينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.
13
ثم يعقب بالقول: إن عبد المطلب «ساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورئاستهم؛ فكان جماع أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدد حفر زمزم بعدما كانت مطمومة من زمن جرهم، وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها، من تينك الغزالتين اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية.»
14
ثم يؤكد أن عبد المطلب كان مؤسسا لملة واعتقاد، فيروي عن ابن عباس وابن عمرو ومجاهد والشعبي وقتادة ... (عن ديانة أبي طالب بن عبد المطلب): «هو على ملة الأشياخ ... هو على ملة عبد المطلب.»
15
ويبدو أن أخطر شأن في هذه الملة وفي أمر عبد المطلب جميعه، هو إدراكه للنسب وخطورته بين الأعراب، بحسبانه العامل الجوهري في تفككهم السياسي؛ لاعتزاز كل قبيلة بنسبها القبلي - والذي ظل مستبطنا في بطن التحول الجديد للبنية الاجتماعية المكية - ومن هنا كان إعلانه أن العرب جميعا وقريش خصوصا، «يعودون بجذورهم إلى نسب واحد؛ فهم برغم تحزبهم وتفرقهم، أبناء لإسماعيل بن إبراهيم»؛ لذلك، ولأنه ينتمي إلى هذه السلالة الشريفة، فقد أعلن في الناس تبرؤه من أرجاس الجاهلية، وعودته إلى دين جده إبراهيم، ودين إبراهيم هو الفطرة الحنيفية التي ترفض أي توسط بين العبد والرب، فإذا أهل رمضان صعد إلى غار حراء متحنفا، ثم عاد ينادي قومه أنه قد حرم على نفسه الخمر،
16
وكل ضروب الفسق؛ حاثا على مكارم الأخلاق، داعيا الناس لاتباعه، مؤمنا بالبعث والحساب والخلود، هاتفا: «والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بسيئاته.» ثم لا يلبث أن «يبشر قومه بقرب قيام الوحدة السياسية»، فيشير إلى أبنائه وحفدته الذين أصبحوا له عزوة وشد أزر، ويقول: «إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء.»
17
أولئك الأبناء الذين كاد يقدم أحدهم ذبيحا (ابنه عبد الله أبو النبي عليه السلام) كما كاد يفعل جده البعيد إبراهيم (عليه السلام) مع ولده إسماعيل (عليه السلام).
وفي أمر عبد المطلب يقول المسعودي: «تنازع الناس في عبد المطلب، فمنهم من رأى أنه كان مؤمنا موحدا، وأنه لم يشرك بالله عز وجل ... وكان عبد المطلب يوصي بصلة الأرحام وإطعام الطعام ويرغبهم ويرهبهم، فعل من يراعي في المتعقب معادا وبعثا ونشورا.»
18
هذا بينما يتحدث الأستاذ العقاد عن صراع الهاشميين وأبناء عمومتهم على الرئاسة، وعن عبد المطلب بوجه خاص فيقول: «وقد تنافس بنو هاشم وبنو أمية على هذا الشرف، فأسفرت المنافسة بينهم عن فارق ملحوظ في الطباع؛ ملحوظ الأثر في خلائق الأسرتين من أيام الجاهلية إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون ... لقد كان بنو هاشم - أسرة النبي
صلى الله عليه وسلم - أصحاب رئاسة، وكانت لهم أخلاق رئاسة ... وكان عبد المطلب متدينا صادق اليقين، مؤمنا بمحارم دينه ... وكان في الحق نمطا فريدا بين أصحاب الطبائع التي فطرت على الاعتقاد ومناقب النبل والإيثار. كانت مناقبه مطلبية تدل عليه ولا تصدر عن غيره، وكانت كلها مزيجا من الأنفة والرصانة والاستقلال ... وأدعياء التاريخ خلقاء أن يسألوا أنفسهم هنا سؤالين، لا يغفلهما أحد يفقه معنى تمحيص الخبر، وأولهما في هذا السياق: «لماذا يخترع الرواة هذه الأخبار عن عبد المطلب دون غيره؟» وثانيهما: لماذا لم يخترعوها ولا اخترعوا أمثالها عن حرب بن أمية؟ وكل ما تفرقت فيه الروايات من أمر عبد المطلب قد استقرت على صفة لا تفترق فيها روايتان، وهي «صدق التدين والإيمان بمحارم الدين».»
19
هذا بينما يقول الحافظ السيوطي: «إن أجداده (عليهم السلام) من آدم إلى مرة بن كعب مصرح بإيمانهم ...» وقد ذكر في عبد المطلب «أنه كان على ملة إبراهيم (عليه السلام)؛ أي لم يعبد الأصنام ...»
20
كما جاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يبعث جدي عبد المطلب في زي الملوك وأبهة الأشراف ...» وكان أبو طالب ممن «حرم الخمر على نفسه» في الجاهلية كأبيه عبد المطلب.
21
وليس أدل على مثل هذه التوجهات بشأن عبد المطلب مما «زعمه الإخباريون» من اعتقاد العرب في شأنه، كصاحب ملة، وكرجل له نوع ما من العلاقة بالسماء؛ وفي أنه ثمة رابط بين ذلك «وعلمه اليقيني المسبق بأن حفيده؛ محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
هو نبي الأمة وموحدها المنتظر». فتشير كتب التراث إلى أن قريشا استقت به من السماء بعد جدب أشرفت معه على الهلاك؛ فصعد بهم ومعه حفيده إلى جبل أبي قبيس ينادي ربه: «اللهم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بهم ما ترى، وتتابعت علينا السنون، فذهبت بالظلف والخف والحافر (أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير)، فأشفت على الأنفس (أي أشرفت على ذهابها)، فأذهبن عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب.» فما برحوا حتى سالت الأودية. أما الاعتقاد الثابت لدى هؤلاء فقد كان هو: «له فخر يكظم عليه (أي يسكت عنه ولا يظهره)، وسنن يهتدي بها (أي يرشد إليها).» وفي الاستسقاء به قالت رقيقة بنت أبي صيفي شعرها:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا
وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر
22
ولا بأس هنا من إيراد نص يحكي عن اعتقاد في علاقة عبد المطلب وسننه بالسماء، واستجابة السماء له؛ يقول:
ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر، فاجتمع عظماؤهم (وذهبوا إليه يقولون): قد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك وصح عندنا خبرك، فاشفع لنا عند من شفعك، وأجرى الغمام لك. فقال عبد المطلب: سمعا وطاعة ... ثم قال: اللهم رب البرق الخاطف، والرعد القاصف، رب الأرباب، وملين الصعاب، هذه قيس ومضر، من خير البشر، قد شعثت رءوسها، وحدبت ظهورها، تشكو إليك الهزال، وذهاب الناس والأموال، اللهم فافتح لهم سحابا خوارة، وسماء خرارة، لتضحك أرضهم، ويزول ضرهم. فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة سوداء دكناء، لها دوي، وقصدت نحو عبد المطلب، ثم قصدت نحو بلادهم؛ فقال عبد المطلب: يا معشر قيس ومضر، انصرفوا فقد سقيتم. فرجعوا وقد سقوا.
23
أما ما جاء عن فخر له يكظم عليه ولا يظهره؛ فقد كان زعما واضحا في الحديث المتواتر في كتب السير والأخبار، عن اللقاء السري الذي تم بينه وبين سيف بن ذي يزن، عندما قاد وفد قريش لتهنئته باستقلال بلاده عن الحبشة. وبهذا الشأن يورد ابن عبد ربه ما زعم أنه دار في هذا اللقاء، في حديث مسجوع الفواصل؛ فقال سيف - فيما يزعمون - لعبد المطلب:
إني مفوض إليك من سر علمي أمرا لو غيرك كان لم أبح له به، ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه، فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره. فإني أجد في العلم المخزون، والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خيرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافة ولرهطك عامة، وبنفسك خاصة ... إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة ... هذا حينه الذي يولد فيه، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا (المقصود هنا أهل يثرب؛ فهم من أصل يمني)، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد النيران، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل، وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله ... والبيت ذي الطنب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب، لجده من غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدا ... قال ابن ذي يزن: اطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك؛ فإني لست آمنا أن تدخلهم النفاسة، في أن تكون لكم الرياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم.
ويردف ابن عبد ربه القول: إن ابن ذي يزن «أمر لكل منهم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة، وحلتين من حلل اليمن، وكرش مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك. فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك؛ فإنه إلى نفاذ، ولكن يغبطني مما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين.»
24
وعن اليقين بعلم عبد المطلب بأمر حفيده؛ يتحدث كتبة التراث مسلمين بالأمر كما لو كان حقائق صادقة صدقا مطلقا، ثم يقصون أقاصيص تعبر عن هذا التسليم وذاك اليقين؛ فيذكرون عن ولده العباس (رضي الله عنه) قوله: «قال عبد المطلب: قدمت من اليمن في رحلة الشتاء، فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور، فقال: من الرجل؟ قلت: من قريش. قال: من أيهم؟ قلت: من بني هاشم. قال: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قلت: نعم ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيها، ثم نظر في الأخرى، فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك ملكا، وفي الأخرى نبوة، وإنما نجد ذلك (أي كلا الملك والنبوة) في بني زهرة! فكيف ذاك؟! قلت: لا أدري ... فقال: إذا تزوجت فتزوج منهم. فلما رجع عبد المطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف! فولدت له حمزة وصفية. وزوج ابنه عبد الله أمنة بنت وهب أخي وهيب، فولدت له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكانت قريش تقول: فلح عبد الله على أبيه؛ أي فاز وظفر ... ثم رأيت في أسد الغابة ... أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد ... وجاز أن يكون الملك والنبوة اللذان تكلم عنهما الحبر، هما نبوته وملكه
صلى الله عليه وسلم
لأنه أعطيهما.»
25
وعليه فإن هذا الخبر - سواء حل محل الصدق من عدمه - يشير إلى أن علماء الأخبار يريدون تأكيد علم عبد المطلب، بل سعيه لتحقيقه وإنجاحه. وثمة شاهد آخر يتفق عليه الرواة، ويقول عنه البيهقي: «كان يوضع لعبد المطلب جد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يأتي حتى يجلس عليه؛ فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول جده عبد المطلب: دعوا ابني. فيمسح على ظهره ويقول: إن لابني هذا لشأنا.»
26
أو بتعبير السيرة الحلبية: «دعوا ابني، إنه ليؤنس ملكا.» أو قولها: «دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس في نفسه بشرف (أي يتيقن من نفسه شرفا)، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.»
27
أو بتعبير ابن كثير: «دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا ... دعوا ابني، إنه يؤسس ملكا.»
28
ثم كان يشتد وجد الجد بالحفيد: «فقال عبد المطلب لبنيه: تحفظوا بابن أخيكم.» أو قوله لأم أيمن حاضنته: «يا بركة ... لا تغفلي عن ابني؛ فإن أهل الكتاب - أي ومنهم سيف بن ذي يزن - يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم.»
29
ويروي البيهقي: «فكان عبد المطلب فيما يزعمون يوصي أبا طالب برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأم، فقال عبد المطلب - فيما يزعمون - فيما يوصي به (واسم أبي طالب عبد مناف):
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بموحد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد
فكنت كالأم له في الوجد
إن الفتى سيد أهل نجد
يعلو على ذي البدن الأشد
30
وبما أن لكل مجتهد نصيبا؛ فقد أتت مساعي عبد المطلب وجهوده التي لم تكل بثمارها، وأتبعه كثيرون على ملته الإبراهيمية وعقيدته الحنيفية، التي لم يستنكف المؤرخون والباحثون من نعتها ب «دين عبد المطلب».
31
ومن هؤلاء التابعين (وفيهم السابقون الممهدون): قس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن أبي الصلت، وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني ، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وعامر بن الظرب العدواني، وعلاف بن شهاب التميمي، والمتلمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان بن غيث العبسي، وعبد الله القضاعي، وكعب بن لؤي بن غالب، وعبد الطابخة بن ثعلب، وزيد الفوارس بن حصين، وزيد بن عمرو بن نفيل،
32
وأكثم بن صيفي، وأبو قيس بن الأسلت، وحنظلة بن صفوان، وغيرهم كثير. وبانتشار الأيديولوجيا الحنيفية بدأ أتباعها يتنافسون في التقوى والتسامي الخلقي؛ عل أحدهم يكون نبي الأمة وموحد كلمتها، حتى شكلوا «تيارا قويا، خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة.»
33
جذور الأيديولوجيا الحنيفية
يبدو أن التوحيد بمعناه الحنفي يعود إلى زمن بعيد، فحوالي القرن الأول قبل الميلاد كان بعض أهل اليمن يعبدون إلها باسم «ذوي سموي» أو إله السماء، كإله واحد، وقد ذكرت نقوش المسند اليمنية عبادة إله واحد يدعى «رحمن»، ويرى الباحثون أنهما كانا مسميين لواحد. وتؤكد «ثريا منقوش»: «أن عباد هذا الإله كانوا يعرفون بالأحناف.»
1
ويذهب الدكتور «جواد علي» إلى افتراض أن تكون عقيدة حنفاء مكة التي نادى بها عبد المطلب بن هاشم، بعد سبعة قرون؛ امتدادا لحنيفية رحمن اليمن؛ رب السماء «ذوي سموي»، ويلمح إلى ذلك في قوله عن أحناف مكة: «لا نستطيع أن نقول إنهم نصارى أو يهود، إنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء «ذوي سموي»، أو عبادة الرحمن في اليمن.»
2
ويذكر الفخر الرازي أن عقيدة أحناف اليمن، كانت أركانا أربعة هي: حج البيت، واتباع الحق، وملة إبراهيم، والإخلاص لله وحده. ثم يضيف قوله: إن عدم معرفة هؤلاء لتاريخ نشوء عقيدتهم؛ «فقد نسبوها إلى إبراهيم النبي العبري»! (لنا في جذور هذا الأمر بحث خاص، ألقينا فيه الضوء على مساحات مظلمة في تاريخ هذه العقيدة، بعنوان: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول.)
ويذهب الألوسي إلى أن الصابئة هم قوم النبي إبراهيم (عليه السلام) وأهل دعوته؛
3
مما دفع بعض العلماء إلى حسبان الحنفاء صنفا عن الصابئة، وبالتحديد: الصنف المؤمن أو من بقي على الإيمان منهم.
4
وكان منهم بالجزيرة العربية نفر غير قليل، «وكانوا يقيمون الصلاة عدة مرات في اليوم كفرض إجباري للإيمان، يقومون فيها ويركعون، ويتوضئون قبلها، ويغتسلون من الجنابة، ولهم قواعد في نواقض الوضوء.»
5 (ولعل ذلك يفسر لنا لماذا أطلق أهل مكة على من يتبع دعوة الإسلام ويشاهدونه يؤدي هذا الشكل من الصلوات: أنه قد صبأ!)
ولا بأس هنا من التعريف السريع بأهم حنفاء الجزيرة، أو من شاء حظهم أن يذكرهم التاريخ ولو بكلمات، ومنهم - كما أشرنا - قس بن ساعدة الإيادي، الذي يكاد يجمع المؤرخون على موته قبل البعثة بقليل، وقد ورد أن «النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يسمع إليه في سوق عكاظ». ونقل الألوسي بعض ما نسب إلى قس فقال: «ومن خطباء إياد قس بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
لجارود: يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني حفظته. فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه، كنت حاضرا ذلك اليوم، فقال في خطبته: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، جهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج، أقسم قس قسما حتما، لئن كان في الأرض رضا ليكونن بعده سخط، وإن لله دينا هو أحب إليه من دينكم».»
6
ثم يعلن توحيده الخالص النقي، مناديا: «كلا، بل هو الله المعبود الواحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا.»
7
ثم يرسل شعره قائلا:
في الذاهبين الأولي
ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجعن قومي إل
ي ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر
8
ويقول أيضا:
يا ناعي الموت والأموات في جدث
عليهم من بقايا برعم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم
فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم
خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
فيهم عراة ومنهم في ثيابهم
منها الجديد ومنها المبهج الخلق
حتى قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «والذي بعثني بالحق، لقد آمن قس بالبعث.»
9
ومن الحنفاء «سويد بن عامر المصطلقي»، ذكرت المصادر أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وقد جاء في شعره ذكر المنايا وحتمها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وأنه ليس للمرء يد فيما يصيبه من القدر، فكل شيء محتوم مقدور. قال مسلم الخزاعي المصطلقي: «شهدت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم
حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن
بكل ذلك يأتيك الجديدان
فكل ذي صاحب يوما يفارقه
وكل زاد وإن أبقيته فان
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لو أدركته لأسلم.»
10
ومنهم أيضا - قبل عبد المطلب - «وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي»، الذي بنى صرحا بأسفل مكة، جعل فيه أمة يقال لها حزورة، وبها سميت حزورة مكة، جعل فيها سلما يرقاه، زاعما أن الله يناجيه فيه، وكان يتكلم بالخير، وزعم العرب أنه صديق من الصديقين.
11
وهو بهذا المعنى رجل متأله مدعي الوحي متنبئ، وذكروا عنه كلمات مسجوعة مثل: «إن ربكم ليجزين بالخير ثوابا، وبالشر عقابا، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وزيلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد.» أو مثل: «من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة.»
12
ومنهم أيضا «أبو قيس صرمة بن أبي أنيس»، وهو من بني النجار أهل يثرب؛ أنسباء البيت الهاشمي. وتقول الأخبار إنه فارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وتطهر ودخل بيتا له اتخذه مسجدا لا تدخله طامث ولا يدخله جنب، وقال: «أعبد رب إبراهيم.» وكان قوالا بالحق، معظما لله. وقال ابن حجر: إنه لما قدم النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى يثرب، أسلم وحسن إسلامه، وهو شيخ عجوز ، وكان ابن عباس يختلف إليه ويأخذ عنه الشعر،
13
ومن هذا الشعر قوله:
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تحفل النخل المعيمة ربها
إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
وقوله:
يا بني الأيام لا تأمنوها
واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن مرها لنفاذ ال
خلق ما كان من جديد وبالي
وقوله:
سبحوا الله شرق كل صباح
طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا
ليس ما قال ربنا بضلال
14
ومنهم أيضا ورقة بن نوفل الذي قال عنه الألوسي أنه ممن وحد الله، وترك الأوثان وسائر أنواع الشرك، واجتهد في طلب الحنيفية دين إبراهيم، ثم تنصر، لكنه لم يتبع النصارى في التبديل، وظل موحدا.
15
وقد سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن ورقة، فقالت له خديجة (رضي الله عنها): إنه كان صدقك، وإنه مات قبل أن تظهر. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : رأيته في المنام وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك.
16
وقس هو الذي كان ينادي الناس ناصحا:
لا تعبدون إلها غير خالقكم
فإن دعوكم فقولوا: بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به
وقبل قد سبح الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
لا شيء مما نرى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
وهو الذي قال في «زيد بن عمرو بن نفيل» رفيقه على درب الحنيفية بعد موته:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما
تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله
وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته
ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها
تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن
من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
17
ومنهم «عامر بن الظرب العدواني»، وكان من حكماء العرب وخطبائهم، وكانت له نظرات وآراء في العقيدة؛ تتضح في قوله في وصية طويلة منها: «إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء ... إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيا ...»
18
وقالوا عنه: إن إيمانه بملة إبراهيم، دفعه إلى تحريم الخمر على نفسه،
19
وفي ذلك يقول:
إن أشرب الخمر أشربها للذتها
وإن أدعها فإني ماقت قال
لولا اللذاذة والفتيان لم أرها
ولا رأتني إلا من مدى الغال
سأالة للفتى ما ليس يملكه
ذهابة بعقول القوم والمال
مورثة القوم أضغانا بلا إحن
مزرية بالفتى ذي النجدة العال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
حتى يفرق ترب القبر أوصالي
20
ومنهم «علاف بن شهاب التميمي» الذي آمن بوحدانية الله وبالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب، وهو القائل:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة
فأخذت منه خطة المغتال
وعلمت أن الله جاز عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال
21
ومنهم «المتلمس بن أمية الكناني» الذي كان يخطب في فناء الكعبة مناديا بنبذ الفرقة القبلية عن سبيل نبذ الأوثان، والاتجاه إلى رب كعبة مكة. وكان يقول لهم: «إنكم تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به، وإن الله رب هذه الآلهة، وإنه ليحب أن يعبد وحده.»
22
ومن الحنفاء أيضا من حاز بعض الشهرة، مثل «زهير بن أبي سلمى»، وذكر أنه كان يتأله ويؤمن بالبعث والحساب، ويروى أنه كان يمر بالعضاة قد أورقت بعد يبس فيقول: «لولا أن تسبني العرب، لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم.» وقد سلكه ابن حبيب ضمن من حرموا على أنفسهم الخمر والسكر والأزلام،
23
وهو القائل مقسما بالكعبة:
أقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
24
وهو القائل:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
ولو خالها تخفى على الناس تعلم
ومن هاب أسباب المنية يلقها
ولو رام أسباب السماء بسلم
25
ثم هو يحدد موقفه واضحا من لعقة الدم في حلف الأحلاف المناوئ للمطيبين في قوله:
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
وذبيان، هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
26
ثم يقول مؤمنا:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى
من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
بدا لي أن الله حق فزادني
إلى الحق تقوى الله ما كان باديا
27
إن الفكر السليم ليعزو انتشار الحنيفية في الجزيرة والحجاز إلى تمهيد هؤلاء وتوطئتهم، حتى تحولت إلى تيار قوي قبل الإسلام. وإن أهم رجالات الحنيفية وأساتذتها - وربما كان أولهم من حيث الأهمية والأثر - هو «عبد المطلب بن هاشم»، إضافة إلى اثنين من تلامذة الحنيفية الكبار هما: «زيد بن عمرو بن نفيل بن حبيب»؛ ذاك الذي استطاع جده إقناع الفيل محمود بالعودة إلى اليمن راشدا، وكان حليفا لعبد المطلب؛ والثاني «أمية بن عبد الله بن أبي الصلت»، وكان جده حليفا بدوره لعبد المطلب، ورفيقه في رحلته لتهنئة ابن ذي يزن باستقلال اليمن.
ويؤكد الدكتور «جواد علي» أن أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن غيرهم، هي: «الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد بيده الخير والشر، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.»
28
وفي ملل الشهرستاني نجد أن الحنفاء كانت تقول: «إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانية، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية.»
29 «إذن هي النبوة! ولا بد للأحناف من نبي!»
وهنا يقول لنا الدكتور أحمد الشريف: «والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا - حسب تفكيرهم - يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم؛ وقد روى القدماء معجزات ونذرا قالوا إنها وقعت قبل ظهور الإسلام؛ إرهاصا به ومنبئة بقرب ظهوره، وتلك الروايات - إن صحت - كانت دليلا على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح، وإلى ظهور مصلح من بينهم، «وكان الإصلاح قديما لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء »، وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها ... وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة، من الناحية اللغوية، ومن ناحية الجنس ... وكان من المتوقع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينين، لولا أنهم بدءوا نهضة قومية ... لذلك يريدون ديانة خاصة يعتبرونها «رمزا لقوميتهم ... ديانة تعبر عن روح العروبة» وتكون عنوانا لها؛ لذلك بحث عقلاؤهم عن الحنيفية؛ دين إبراهيم الذي كانوا يعدونه أبا لهم ... وقد ظهرت حركة التحنف قبل الإسلام مباشرة، وكانت رمزا إلى أن الروح العربي كان يتلمس يومئذ دينا آخر غير الوثنية. والإسلام حين جاء ... كان دليلا على «نضوج ديني فلسفي، استعد له العرب في القرون المتطاولة السابقة» ... وكذلك كانوا يحسون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمر فيه ذلة وعار ... في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ ظهرت النهضة العربية، وكانت دينية، والدين كان عاملا من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية، إلا بانتشار العلوم، «ووجود العوامل التي تنافسه في القيام بهذا الدور في العصر الحديث».»
30
المهم، أنه عندما وصل الحنفاء إلى النتيجة المحتومة، بدأت مباراة تتسم بسمو الروح الرياضية ورقيها؛ فأخذوا يتنافسون في الترفع عن صغائر الأفعال. وهذه الأفعال التي تعففوا عنها هي التي أصبحت فيما بعد أفعالا شريرة، ويجب تجنبها في نظر الناس، أما عندما جاء الإسلام فقد أوجب تحريمها. ومن هؤلاء الرواد الذين لا ينبغي أن يتخطاهم البحث المحايد، من يصح الوقوف معهم رويدا.
الوقفة الأولى:
مع «زيد بن عمرو بن نفيل»؛ الذي تعود أرومته إلى قصي بن كلاب، وأمه هي أمية بنت عبد المطلب! ويعد ثاني الرواد الحنيفيين أثرا وأكثرهم خطرا بعد عبد المطلب بن هاشم. وعنه يقول ابن كثير: «إنه اعتزل الأوثان، وفارق الأديان؛ من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية، دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه ... وذكر شأنه للنبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: «هو أمة وحده يوم القيامة ... يبعث يوم القيامة أمة وحده» ... وكان يحيي الموءودة؛ يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: «لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها.» فيأخذها ... وكان يقول: «يا معشر قريش، إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر ...» فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى ابن مريم» (إسناده جيد). وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: «غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم ...» مات زيد بمكة، ودفن بأصل حراء، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين».»
31
ويقول البيهقي في دلائل النبوة: إنه التقى برجل من أهل الكتاب، فقال له عليك بالدين الحنيف؛ «قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما. ومن ثم عاد مؤمنا بدين إبراهيم وحنيفيته الإسلامية.»
32
ولكلام البيهقي هنا مصداقية خاصة يدلل عليها شعر زيد ذاته الذي أفصح فيه عن «إعلان حنيفيته تحت اسم الإسلام». وعندما تنبأ المصطفى محمد
صلى الله عليه وسلم ، كان يترحم على زيد ويقول: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا.»
33
وعرف عنه الجاهليون دأبه الذي لا يكل ولا يمل؛ متنقلا دوما، يدعو لنبذ الأسلاف المتفرقة في أرباب شفيعة، والعودة إلى أب واحد يجمع العرب هو إسماعيل بن إبراهيم، وإلى رب واحد هو رب إبراهيم؛ مباشرة ومن دون وسيط، نبذا للفرقة القبلية، وتهيئة للوحدة. ثم لا يأتي شهر رمضان إلا ويصعد إلى غار حراء متحنفا متحنثا معتكفا يتأمل ويتعبد.
34
وفي «البداية والنهاية»، يطالعنا زيد بشعره قائلا:
أسلمت؟!
أسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا
35 (وليلحظ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية، إضافة إلى العودة إلى حل مسألة الانتحال فيه ، والأخذ بما انتهى الباحثون لتأكيده غير منحول؛ فهي مهمة لها رجالها المتخصصون، وإليهم مرجعنا في الأمر، وينسحب ذلك على كل ما أوردناه من أشعار الحنفاء.)
36
وفي «السيرة النبوية» لابن هشام، نجد زيدا إذا دخل الكعبة قال: «اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكنني لا أعلمه.» ثم يسجد على الأرض.
37
ويؤكد «ابن هشام» أنه حرم على نفسه أمورا - نقلها الناس عنه من بعد كتشريعات؛ لانبهارهم بشدة ورعه وعلمه وتقواه - مثل: «تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله من ذبائح تذبح على النصب.»
38
نعم، لقد أصبحت هذه تشريعات لمجرد امتناع زيد عنها، «وربما كان امتناعه عن بعضها لا لعيب فيها، وإنما لأنه كان لا يسيغها»، ومع ذلك كان لإعجاب الناس به دور كبير في تحولها إلى قوانين متعالية.
وتروي لنا الأخبار أن زيدا قد عاصر النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم ، وأنه التقاه. عن عبد الله بن عمر: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لقي زيدا بأسفل بلدح، فدعاه إلى تناول طعام مما يذبح للأرباب، فقال زيد للنبي
صلى الله عليه وسلم : «إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم.» ويعلل ابن هشام أكل النبي، قبل بعثه نبيا، لأضحيات أو قرابين الأصنام بقوله: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرا مباحا، وإن كان لا يأكل فلا إشكال»!
39
ويورد لزيد شعره القائل في فراق الوثنية:
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
ولا صنمي بني عمرو أزور
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
40 «وقال حجير بن أبي إهاب: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل، وأنا عند صنم بوانة - بعدما رجع من الشام - وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى ركعة وسجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرا ولا أصلي إلا إلى هذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك، ولا ند لك. ثم يدفع من عرفة ماشيا وهو يقول: لبيك متعبدا لك مرقوقا.»
41
وقالت أسماء بنت أبي بكر: «رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما؛ مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري.» وكان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، البر أرجو لا الخال، وهل مهجر كمن قال، ثم قال:
عذت بما عاذ به إبراهيم
مستقبل الكعبة وهو قائم
يقول أنفي لك عان راغم
مهما تجشمني فإني جاشم
42
ويقول أيضا:
إلى الله أهدي مدحي وثنائيا
وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولا رب يكون مدانيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى
أدين إلها غيرك الله ثانيا
43
الوقفة الثانية:
مع «أمية بن عبد الله بن الصلت»: الذي تصله أمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي،
44
وهو صاحب القول المأثور:
كل دين يوم القيامة عند الله - إلا دين الحنيفية - زور
وكان يحاور أبا سفيان ويقول له: «والله يا أبا سفيان، لنبعثن ثم لنحاسبن، وليدخل فريق الجنة، وفريق النار.»
45
وحول عقيدته في البعث والحساب يقول شعرا:
باتت همومي تسري طوارقها
أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم
أوت براة يقص ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة الن
ار محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد ال
أبرار مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال
أعمال لا تستوي طرائقها
هما فريقان فرقة تدخل ال
جنة حفت بهم حدائقها
وفرقة منهم قد أدخلت الن
ار فساءتهم مرافقها
46
ويقول جواد علي: إن أمية حرم على نفسه الخمر، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة: «باسمك اللهم» (استعملها النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
ثم تركها واستعمل: بسم الله الرحمن الرحيم). وقد روى الإخباريون قصصا عن التقاء أمية بالرهبان، وتوسمهم فيه أمارات النبوة، «وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نظفته وطهرته تهيئة لمنحه النبوة».
47
وأمية هو القائل في رب الحنيفية الخلاق:
إله العالمين وكل أرض
ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا
بلا عمد يرين ولا حبال
وسواها وزينها بنور
من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها
مراميها أشد من النصال
وشق الأرض فانبجست عيونا
وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى
بها ما كان من حرث ومال
ويعتبر أمية أحسن الحنفاء حظا في بقاء الذكر، فقد بقي كثير من شعره وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك عند «جواد علي» بقاؤه إلى ما بعد البعثة، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرا، وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم، ولم يرض بالدخول في الإسلام؛ لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة، ويكون مختار الأمة وموحدها؛ ولذلك «برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد»، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف «كافرا بالأوثان وبالإسلام»!
48
ويذكر الإخباريون المسلمون أنه لما سمع بخبر البعثة ذهب ليسلم، لكن بعض أهل مكة علموا بمسيره، فأرادوا رده عن غايته، فالتقوه عند القليب حيث قبر المسلمون سادات قريش في بدر الكبرى، ولعلم القرشيين بحكمة أمية - التي دعته من قبل إلى تقدير السادات من حكماء مكة وأشرافها - فقد قالوا له: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. فقالوا له: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشق ثوبه وبكى قائلا: «لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته.» وعاد يرسل نواحه شعرا يرثي قتلى بدر من أهل مكة، في قصيدته الحائية التي يقول في بعضها:
ألا بكيت على الكرا
م بني الكرام أولي الممادح
كبكا الحمام على فرو
ع الأيك في الغصن الصوادح
إن قد تغير بطن مك
ة فهي موحشة الأباطح
من كل بطريق لبط
ريق نقي اللون واضح
ومن السراطمة الجلا
جمة الملاوثة المناجح
القائلين الفاعلي
ن الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فو
ق الخبز شحما كالأنافح
خذلتهم فئة وهم
يحمون عورات الفضائح
ولقد عناني صوتهم
من بين مستسق وصابح
49
وقال الإمام أحمد: «حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول: قال الشريد: كنت ردفا لرسول الله (أي راكبا معه على بعير واحدة) فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: فأنشدني بيتا. فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتا: إيه. حتى أنشدته مائة بيت.»
50
ومن هذا الشعر ما يصح الوقوف معه كنموذج - لا شك رائع - لمعتقدات واحد من رجالات الحنيفية (مع ملاحظة أن هذا الشعر قد يختلف الأمر في نسبته إليه أو إلى زميله في الحنيفية زيد بن عمرو بن نفيل، وما عدا ذلك فمتفق عليه)؛ فهو يقول في إيمانه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الحنيفة لم تنفد خزائنها
مملوءة طبق الآفاق سلطانا
وفي إيمانه - مثل عبد المطلب وزيد - بيوم بعث ونشور، يقول:
ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا
يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر
وأبرزوا بصعيد مستو جرز
وأنزل العرش والميزان والزبر
ويستطرد شارحا مفصلا عن هذا اليوم:
عند ذي العرش يعرضون عليه
يعلم الجهر والكلام الخفيا
يوم نأتيه وهو رب رحيم
إنه كان وعده مأتيا
رب كلا حتمته وارد النا
ر كتابا حتمته مقضيا
ويحذر من عذاب الآخرة فيقول:
وسيق المجرمون وهم عراة
إلى ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلا طويلا
وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا
وكلهم بحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق
وعيش ناعم تحت الظلال
لهم ما يشتهون وما تمنوا
من الأفراح فيها والكمال
وعن إبراهيم (عليه السلام) وابنه إسماعيل (عليه السلام) - اللذين يرجع إليهما الحنفاء عقيدتهم - يحكي قصة الذبح والفداء، في حوار طويل ممتع، نجتزئ منه:
أبني إني نذرتك لله
شحيطا فاصبر فدا لك خالي
فأجاب الغلام أن قال فيه
كل شيء لله غير انتحال
فاقض ما قد نذرته لله واكفف
عن دمي أن يمسه سربالي
بينما يخلع السراويل عنه
فكه ربه بكبش حلال
وعن يونس يقول:
وأنت بفضل منك أنجبت يونسا
وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وعن عيسى وأمه يقول:
وفي دينكم من رب مريم آية
منبئة بالعبد عيسى بن مريم
تدلى عليها بعدما نام أهلها
رسولا فلم يحصر ولم يترمرم
فقال: ألا لا تجزعي وتكذبي
ملائكة من رب عاد وجرهم
أنيبي وأعطي ما سئلت فإنني
رسول من الرحمن يأتيك بابنم
فقالت له: أنى يكون ولم أكن
بغيا ولا حبلى ولا ذات قيم؟
فسبح ثم اغترها فالتقت به
غلاما سوي الخلق ليس بتوءم
فقال لها: إني من الله آية
وعلمني والله خير معلم
وأرسلت لم أرسل غويا ولم أكن
شقيا ولم أبعث بفحش ومأثم
ويقول «جواد علي» ما نصه: «وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار؛ تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا، لما ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث، فلا يمكن - بالطبع - أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلا يومئذ. وأما بعد السنة التاسعة الهجرية، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضا؛ لأنه لم يكن حيا؛ فلم يشهد بقية الوحي! ولن يكون هذا الفرض مقبولا في هذه الحال ... ثم إن أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه. ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.»
51
وهذا - بالطبع - مع رفض فكرة أن يكون شعره منحولا أو موضوعا من قبل المسلمين المتأخرين؛ لأن في ذلك تكريما لأمية وارتفاعا بشأنه، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم
بشعره، ولا يبقى سوى أنه كان حنيفيا مجتهدا استطاع أن يجمع من قصص عصره، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره، خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير: «وقيل إنه كان مستقيما، وإنه كان أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه.»
52
ولا ريب أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلتقيها، وربما كتب ما كتب إبان هذه الفترة التي يحددها لنا ابن كثير، ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية؛ لأنه بعده - ولا شك - زاغ عن إيمانه واستقامته؛ إذ رأى الملك والنبوة يخرجان من بين يديه؛ بعد أن أعد نفسه لهما طويلا.
ظهور النبي المنتظر
يتأكد مما سبق أن قدسية الكعبة، وتحريمها، ثم تحريم شهور محددة لانطلاق قوافل التجارة، وحج العرب إليها؛ قد جسد - رمزيا - مكانة مكة القيادية بالنسبة إلى القبائل العربية على الجانب السياسي، وكان تحريمها ضمانا آخر لتقديسها، وأمانا من مطامع من يريد السيطرة عليها من القبائل الأخرى، مع ما أضافته بئر زمزم وقصتها مع عبد المطلب من قدسية أخرى؛ تضاف إلى لبنات الأيديولوجيا الدينية المتنامية التي بلغت أوجها في توحيد القبائل على شعائر محددة تقام في مكة، حددت نوع الولاء، ونوع العبادة؛ مما حمل في رحمه بذور الوحدة السياسية المقبلة التي ارتهنت بولاء القبائل لسلطان مكة. وعندما جاء دين الإسلام العظيم، لم يلغ شعائر الحج القديمة ولا حرمة مكة، وإنما أخذ على عاتقه محاربة العصبية القبلية وتعدد الآلهة، ثم اعتبر ذاته من جهة أخرى استمرارا لدعوة إبراهيم (عليه السلام). كما كان واضحا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
اتخذ خطوات متسارعة لتكوين قوة عسكرية، قامت بدورها في توحيد جزيرة العرب كلها.
ومعلوم أن المصطفى
صلى الله عليه وسلم - بعد أن طوت راحة الزمن جده عبد المطلب - شب في كنف عمه أبي طالب، وببلوغه
صلى الله عليه وسلم
مرحلة الشباب تزوج السيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) التي وصفها ابن إسحق بأنها «كانت امرأة تاجرة؛ ذات شرف ومال»،
1
ووصفها ابن سيد الناس بأنها كانت أكثر نساء العرب مالا،
2
وكانت تكبر النبي
صلى الله عليه وسلم
بنحو خمس عشرة سنة ؛ مما وفر له
صلى الله عليه وسلم
الوقت الكافي، والاطمئنان النفسي للانصراف من السعي وراء الرزق إلى التفكير في شئون قومه السياسية والدينية. وفي ذلك يقول الدكتور أحمد الشريف: «ثم إن النبي وجد بعد زواجه من خديجة بنت خويلد - وهي إحدى النساء الغنيات الشريفات في مكة - نوعا من الراحة النفسية ... وقد كان في هذا الزواج من «العوامل التي جعلته يتخفف من بعض أعباء الحياة، ومن بعض عناء السعي»؛ فخديجة الغنية بمالها التي كانت امرأة نصف - قد فارقت عهد الشباب الأول - وكانت لها تجربة في إدارة أموالها؛ كانت أقدر على حياة زوجية هادئة رصينة، هيأت لمحمد أن يتخفف من أعباء الحياة لأفكاره الذاتية.»
3
ومعلوم أيضا أن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
كان الزوج الثالث للسيدة خديجة، بعد عتيق بن عابد الذي أنجبت منه هندا، وأبي هالة الذي أنجبت منه هالة وهندا أيضا،
4
وقد أوضح القرآن الكريم فضل هذه السيدة في قوله تعالى:
ووجدك عائلا فأغنى . وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس.»
وعندما تزوج المصطفى
صلى الله عليه وسلم
من السيدة خديجة (رضي الله عنها)؛ أكثر الناس من الكلام في هذه الزيجة، وهنا يروي لنا ابن كثير: «أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خديجة، وما يكثرون فيه، يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها؛ إني كنت له تربا، وكنت له إلفا وخدنا، وإني خرجت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذات يوم، حتى إذا كنا بالحزورة، أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بلى لعمري. فذكرت لها قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم، فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة ، وصفرت لحيته (أي صبغت بالحناء)، وكلمت أخاها؛ فكلم أباه وقد سقي خمرا، فذكر له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومكانه، وسأله أن يزوجه؛ فزوجه خديجة. وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه، ونام أبوها، ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟! وما هذا الصفرة؟! وهذا الطعام؟! فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمار بن ياسر: «هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة. فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح» حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكلموه؛ فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته»!
5
أما عمه أبو طالب فألقى في العرس خطبة، منها قوله: «فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا ينكر العرب فضلكم ... ورغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم ...» وأمرت خديجة جواريها أن «يرقصن ويضربن الدفوف»، وفرح أبو طالب فرحا شديدا.
6
وبعدها أخذ محمد
صلى الله عليه وسلم
يتابع خطوات جده عبد المطلب إلى غار حراء؛ مما حول هذا الكهف إلى مكان مقدس ودخل التاريخ دون ملايين مثله. وبالحنيفية آمن، ولم يكد يبلغ الأربعين من عمره حتى حسم الأمر، بإعلانه أنه نبي الأمة، بعد أن أوحى إليه إله إبراهيم ... أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا (النحل: 123).
وكما حدث مع أمية بن عبد الله حدث مع محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فتحدثنا الأخبار أن راهبا مسيحيا يدعى «بحيرا» قد توسم فيه أمارات النبوة، واكتشف خاتمها في كتفه. ويحدثنا النبي
صلى الله عليه وسلم
عن نفسه فيقول: «أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، رأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لنا خلف بيوتنا نرعى بهما، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، بطست من ذهب مملوء ثلجا ، فشقا بطني واستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه»!
7
وتقول سيرة ابن هشام: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لما بادأ قومه بالإسلام؛ لم يجدوا في دعوته غضاضة، ولربما لم يكترثوا لها، ولعل مرجع ذلك إلى حرية الاعتقاد التي كانت عرفا مسنونا؛ عرفا حتمته المصالح التجارية في مكة؛ فكان المسيحي فيها يعيش إلى جوار الحنفي، إلى جانب اليهودي، مع الصابئ، والزرادشتي، وعبدة النجوم، وعبدة الجن، وعبدة الملائكة، وعبدة الأسلاف وتماثيل الشفعاء؛ دونما قهر أو فرض أو إجبار؛ حتى إن العبد كان يظل على دين يخالف دين سيده دون أن يخشى في ذلك مساءلة أو ملامة. وبالرغم من أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
من الفرع الهاشمي، فإن حزب «عبد الدار - عبد شمس - نوفل» لم يهتم كثيرا في البداية للدعوة الجديدة؛ خاصة أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يخرج آنذاك عن أطر عرفهم المسنون في حرية الاعتقاد؛ فلم يجبر أحدا على اعتناق دعوته، كما لم يحاول فرضها أو اعتبارها الديانة الوحيدة الواجب اعتناقها، وتشهد بذلك الآيات الكريمة:
لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6).
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس: 99).
إن أنت إلا نذير (فاطر: 23).
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (الأنعام: 107).
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (المزمل: 10).
ومع أن المناوشات الكلامية التي دارت بين المكيين ومحمد
صلى الله عليه وسلم
لم تصل بالقوم إلى حافة شفير الحرب مرة أخرى؛ فإنها نبشت الجمر الثاوي في القلوب؛ بعدما أعلن محمد
صلى الله عليه وسلم
دعوته مطالبا أهل مكة باتباعه؛ فكان حتما أن يتساءل الناس، لكن تساؤل الوليد بن المغيرة «الملقب بالوحيد لمكانته بين سادات مكة»، والأخنس بن شريق «كبير من رءوس ثقيف»؛ كان تساؤلا مهينا لشخص النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقد قالا: أمفتون محمد أم مجنون؟
8
فكان أن ردت لهما الآيات الكريمة الصاع صاعين:
بأيكم المفتون ... هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم (القلم: 6-13)، والزنيم هو ابن الزانية، ثم يخاطب الله نبيه في شأن الوحيد قائلا له:
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر (المدثر: 11-20). وفعلا مات الوليد قتيلا بسهم مسموم، قتله الله فيما تروي كتب السير والأخبار. ثم قامت الآيات تشبه رءوس القوم الذين لم يدركوا أبعاد تلك الدعوة العظمى ومراميها الكبرى بالحمير، فتقول:
فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة (المدثر: 49-51).
حتى ذلك الحين كانت قريش لا تزال في هدوء وترقب، لكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
الذي صمم على إتمام الأمر مهما تكلف من مشقة، قام يؤلب العبيد على أسيادهم، يناديهم: «اتبعوني أجعلكم أنسابا، والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.» وهنا بدأ القوم يشعرون بحجم الخطر الآتي؛ فالأرستقراطية القرشية حتمت مصالحها وجود العبيد، بل أن يتكون جيشهم الذي يحمي التجارة من هؤلاء العبيد في أغلبه، وبات الأمر أمر حياتهم ومعاشهم، ثم إن دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى جعلهم أنسابا التي تمثلت في عتقه لعبده زيد بن حارثة ثم إعطائه أفضل النسب وأشرفه، بتبنيه إياه؛ كان يعني لبقية الدهماء من الأعراب أملا عظيما، لما كان للنسب من خطورة وأهمية تعطي صاحبها حماية عشائرية وقبلية. ثم إنه يعدهم بأموال أعظم؛ بأموال كسرى وقيصر، إن هم تبعوه. وعندما وصلت قريش إلى ذلك الفهم، أصبح النبي
صلى الله عليه وسلم
في نظرهم، وحسب منطقهم المصلحي؛ «مجرد مغامر طموح يهدف لغرض سياسي يبدأ بضرب قريش في مقتل؛ في مصالحها التجارية، حتى إذا تهيأ له الأمر امتلك أمر الحجاز، وزحف على ممالك الروم والعجم»، وما يتبع ذلك بالضرورة في منطق العشائر من رفع شأن بيت هاشم، وخفض شأن بيت عبد الدار وعبد شمس ونوفل؛ هكذا تصوروا الأمر العظيم!
ثم ها هو ينزع عنهم صفة أخرى ترتبط تماما بمصالحهم التجارية؛ تلك الصفة التي أكسبها لهم انكسار حملة الفيل على حدود مكة؛ صفة أنهم «أهل الله»، وينادي أهل مكة:
قل يا أيها الكافرون ... لكم دينكم ولي دين (سورة الكافرون). نعم، ما زالت الآيات تبرز التسامح الديني
لكم دينكم ولي دين ، لكنها نعتت أهل مكة بأنهم الكافرون، برغم تأكيدها من قبل أنهم قوم يؤمنون بالله رب العرش خالق السموات والأرض:
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (العنكبوت: 61).
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون (المؤمنون: 86-89).
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (الزخرف: 9).
وسعيا وراء تعليل، اكتشفت قريش أن إيمانها بالشفعاء هو الكفر، خاصة عندما بدأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يعيب أربابهم؛ فاستنتجوا أن محمدا
صلى الله عليه وسلم «قد جعل شرط الإيمان الصحيح يمر عبر الإيمان به كرسول لإله واحد»؛ انطلاقا من قرن الشهادة له مع الشهادة لله، في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ فهو في فهمهم العنيد، إنما يطلب منهم الاعتراف بسيادته عليهم بهذه الشهادة، ويطلب توحدهم جميعا تحت راية قيادته وحده، بسلخ كل الشفاعات إلا شفاعته. ويذكر لنا الطبري أن النبي
صلى الله عليه وسلم
حينما دعا قومه لما بعثه الله، «لم يبعدوا عنه أول ما دعاهم»، وكادوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم،
9
وهو ذات ما أوضحته رواية عن لقاء وفد قريش وفيه أبو الحكم، بأبي طالب وابن أخيه
صلى الله عليه وسلم ؛ ليطلب من محمد
صلى الله عليه وسلم
الكف عن سب أربابهم ويتركونه لإلهه؛ فكان رد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليهم: «أي عم، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟» قال: وإلام تدعوهم؟ قال: «أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين بها لهم العرب، ويملكون بها العجم!» فقال أبو جهل (التسمية الإسلامية لأبي الحكم) من بين القوم: ما هي ؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. وكانت الكلمة هي الشهادة الإسلامية؛ فنفروا منه وتفرقوا.
10
وهنا تحول أرق الحزب المناوئ وترقبه، إلى تحفز واستنفار، خاصة عندما أخذت الآيات الكريمة في فواصل قصيرة مؤثرة، تؤجج الحمية القتالية، وما يحمله ذلك من احتمال وقوع المجابهة العسكرية، وتقول:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا (العاديات: 1-4). هذا مع التحول الذي بدأ يطرأ في سلوك النبي تجاههم، وتحوله عن الصبر الجميل إلى الهجوم، وما جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يطوف بالكعبة، فكان أن التفت إليهم هاتفا: «أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح.»
11
وبر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقسمه في بدر الكبرى!
العصبية والسياسة
وعظم الأمر على الحزب المناوئ فذهب رءوس القوم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وغيرهم من الأشراف، لمقابلة أبي طالب عم محمد
صلى الله عليه وسلم
ليثنيه عما اعتزم، فكان أن ردهم أبو طالب ردا حسنا، ولم يتوقف النبي عما اعتزم؛ فعادوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: «يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا؛ من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين ...» فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم.
ودعا أبو طالب ابن أخيه وكاشفه بما كان من أمر بني العمومة، فقال: «يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا ... فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.» محاولا بذلك وقف أمر قد يجر حربا لا تبقي تجارة ولا نسلا. لكن هذا الاجتماع التاريخي بين العم وابن أخيه، لم ينته كما بدأ، بدليل أن أبا طالب ختمه بقوله: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. وكانت النتيجة التي سجلتها كتب التاريخ الإسلامي أن ... حقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا. وقام حزب عبد الدار يستجمع حلفاءه لمواجهة ما بدأت نذره في الأفق،
1
برغم نداء بعض العقلاء، مثل عتبة بن ربيعة الذي التقى النبي، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة؛ فقام يقول لقريش:
يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
2
وعلى الطرف الآخر، أعلن الهاشميون أنهم قد منعوا فتاهم، «برغم عدم متابعة دعوته دينيا»، اللهم إلا أفرادا فرادى؛ فكانت عصبيتهم القبلية درعا قويا لدعوة حفيد عبد المطلب، التي استنفرت الحزب المناوئ الذي أصر على زعمه أنها دعوة لو كتب لها النجاح لصار الأمر كله إلى البيت الهاشمي.
وفي روايتها عن هذه المنعة الهاشمية تقول سيرة ابن هشام: «وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وعبد المطلب؛ فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه لما دعاهم إليه، إلا ما كان من أمر أبي لهب.»
3
وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولقب بهذا اللقب لحمرة شديدة في وجهه وحسن، وهو من تبت الآيات الكريمة يديه؛ لأنه كان حريصا على مسالمة بيت عبد شمس المناوئ؛ لأن امرأته - في الآيات حمالة الحطب - كانت في الصدارة من شريفات البيت الأموي، وكانت شقيقة أبي سفيان رأس هذا البيت.
ويتجلى مدى قدرة هذه المنعة الهاشمية وقوتها، وأثرها على نفوس الأطراف المناوئة، في قول نعيم بن عبد الله لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقد التقاه يسعى لقتل محمد
صلى الله عليه وسلم : «والله لقد غشتك نفسك في نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟» وبهذا يمكن إدراك ما وصل إليه حال بني العمومة وحزبهم، وأبناء عبد مناف الهاشميين الذين ظهر فيهم نبي الأمة وموحد كلمتها. لكن كان كل الهم لدى الأحلاف أنه يمكنه بدعوته حيازة كل الألوية لبيته وعشيرته.
وفي أشعار أبي طالب اعتزاز واضح بأهله وبنيه ورهطه؛ مع عمق غير خاف في النظرة السياسية للوضع المكي، ومثال لذلك قوله:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
4
نعم، ليحلم بنو عبد الدار، ليحلم نوفل، ليحلم بنو عبد شمس، ليحلم الأمويون ما شاءوا؛ فالرؤية التنبئية لأبي طالب تتوقع أو تخطط لتطيش هذه الحلوم؛ لأن هاشما ستقف مع محمد
صلى الله عليه وسلم
حتى تنصره وتنتصر به. ويوضح جانب آخر من شعر أبي طالب سر هذا الجهر في مواجهة حزب عبد الدار بقوله:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
5
ويفهم من أبيات أبي طالب هنا أنه لما رأى العداوة بادية في الحزب المناوئ، وأنهم برغم عرى القرابة حالفوا ضدهم أحلافا؛ غيظا وكمدا وحسدا، لأن منهم نبيا، جمع رهطه وأهله وتعاهدوا عند الكعبة وهم يمسكون بأرديتها. وعلى الطرف الآخر، نجد عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يقول: «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبني عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! والله لا نؤمن به ولا نصدقه.»
6
ثم يرسل شعره قائلا:
أتونا بإفك كي يضلوا عقولنا
وليس مضلا إفكهم عقل ذي عقل
7
ومن الجدير بالذكر أن عمرو بن هشام لم يكن رجلا أحمق أو أبله؛ بدلالة تحاكم العرب إليه من النفورة والمشاورة والمخايرة منذ حداثته؛ حتى إنهم أدخلوه دار الندوة صبيا، وقال عنه حكيم فزارة «قطبة بن سيار»، لما تنافر إليه ابن طفيل وعلقمة بن علاثة: «عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن.»
8
وعلى ذلك، فلم يكن أمام عبد الدار وعبد شمس - منعا للحرب - إلا أن تطبق على بني هاشم عقوبات التجار، بمحاصرتهم اقتصاديا؛ فكان أن جاءهم الرد من أبي طالب بتحد هاشمي سافر في قوله:
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وإنا لعمر الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
فإن يلقيا أو يمكن الله منهما
نكل لهما صاعا بصاع المكايل
9
وإلى رءوس حزب عبد الدار: أبي الوليد، وعتبة، وأبي سفيان، يتوجه مستميلا متحببا محذرا:
وسائل أبا الوليد: ماذا حبوتنا
بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
وكنت امرأ ممن يعاش برأيه
ورحمته فينا ولست بجاهل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح
حسود كذوب مبغض ذي دغاول
ومر أبو سفيان عني معرضا
كما مر قيل من عظام المقاول
يفر إلى نجد وبرد مياهه
ويزعم أني لست عنكم بغافل
ويخبرنا فعل المناصح أنه
شفيق ويخفي عارمات الدواخل
10
ولما لا يجد ودا، يعلن أهداف البيت الهاشمي السياسية، بوضوح جهير ومباشر، فيقول:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخس شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا
وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
وكان لنا حوض السقاية فيهم
ونحن الكدى من غالب والكواهل
شباب من المطيبين وهاشم
كبيض السيوف بين أيدي الصياقل
فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما
وما حالفوا إلا شرار القبائل
بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم
ضواري أسود فوق لحم خرادل
11
وعن شدة تعلقه بابن أخيه وكلفه به، وأنه لولا المسبة والعار لآمن بدعوته الدينية، يقول:
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها
وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
12
فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنه سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذرا والكلاكل
فأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير باطل
13
الدولة
هذا ما بلغ إليه أمر مكة؛ المحطة الكبرى على طريق ترانزيت العالم، تلك التي تحولت إلى حاضرة كبيرة، في وقت تصاعد فيه الشعور القومي العربي في بطاح الجزيرة على اختلافها، وبلغ مداه في تضامن متأجج مع عرب قبائل شيبان وعجل وبكر بن وائل ضد الفرس العجم، والفرح الاحتفالي الهائل الذي امتد شهورا في بقاع الجزيرة بانتصار هذا الحلف على الفرس أو العجم، والذي ترك أثره في الفهم العربي الكلاسيكي الذي يقسم الناس إلى عرب وعجم. والفرح الثاني الذي تمثل في هرع القبائل العربية جميعا إلى الجنوب، تزفها البشرى ويدفعها الإحساس الفخري لتهنئ سيف بن ذي يزن بالاستقلال عن الأحباش؛ فقد كانت قبائل بكر وشيبان وعجل هي محطة المرور الأخيرة والكبرى على حدود فارس الغربية مع الجزيرة العربية، أما اليمن فكانت منذ القديم أخطر محطة تجارية على خطوط العالم القادمة من الصين والهند وشرقي أفريقيا، لتصب في بحر رمال الجزيرة، لتحملها سفن الصحارى إلى الشمال حيث إمبراطوريات ذلك الزمان؛ «فالأمر كان نزعة قومية واضحة ترتبط بمصالح اقتصادية أشد وضوحا»، حتى إن القرآن الكريم نفسه عندما جاء بعد ذلك، أبدى تعاطفه الكريم مع أصحاب الأخدود في اليمن، وهم مسيحيون اضطهدوا من قبل ذي نواس اليهودي المعضد من عجم فارس. ثم أبدى تعاطفه مع الروم بحسبانهم امتدادا طبيعيا للخط التجاري المكي؛ فإنه من وجهة نظر دينية بحتة إنما عاضد الديانة المفترض أنها الأصح قبل ظهور الإسلام، وبحسبانها الديانة الناسخة للديانة اليهودية. وبرغم ذلك، فإن القومية تبرز بوضوح جلي في موقفه من أصحاب الفيل؛ عندما يصبح الصراع بين المسيحية (برغم كونها كانت الديانة الصادقة في المنظور الديني قبل ظهور الإسلام)، وبين مكة رمز العروبة والروح القومية (برغم كونها كانت حتى عام الفيل مركزا من أخطر المراكز الوثنية في العالم)، وبالطبع مع اعتبار العامل الاقتصادي الذي دفع الحبشة لمحاولة احتلال مكة التي لم تعد في ذلك الوقت مجرد محطة تأخذ العشور والضرائب، وإنما تحول أهلها إلى امتلاك هذه التجارة، فكانوا يشترون تجارة اليمن والشام بأموالهم ويحققون الفائض الذي يحددونه هم أصلا.
وقد أتاح لمكة هذا الدور المتعاظم عامل آخر؛ هو الضعف الذي طرأ على المدينة المنافسة «يثرب»، برغم أنها كانت مهيأة قبل مكة لأخذ هذا الدور، لوجود اليهود كمركز سياسي واقتصادي عريق فيها، لكن هذا الوجود ذاته كان عامل التدهور والضعف، نتيجة عنصر صراع داخلي، تمثل في انقسام طائفي بين الأوس والخزرج من ناحية، واليهود من ناحية أخرى. وقد رأى اليهود من جهتهم أن وجود هذا العنصر العربي يمكن أن يكتسب تعاطف عرب الجزيرة معه؛ فكان أن حدثت الوقيعة بين القبيلتين، وأسهمت قريش بدورها في إشعال الحرب لضرب يثرب كمركز منافس؛ فوقفت إلى جوار الأوس يومي معبس ومضرس. «لكن توجهات البيت الهاشمي في مكة رأت من مصلحتها محالفة الخزرج، وتوثيق هذا التحالف بعقد الزيجات المباركة»، لكن يثرب أخذت في الانهيار السريع أمام القوة المكية الطالعة؛ مما دفع بعقلائها إلى محاولة الإسراع في رأب الصدع، بتوحيد المدينة في كتلة سياسية متوحدة تحت حكم ملك واحد يرضى عنه الجميع. وفي هذا الوقت، كان كل الرجال المفترض فيهم قدرات الرياسة، والأكثر قبولا للترشيح للرياسة، وكانوا موضع التبجيل والاحترام وأصحاب كلمة نافذة، قد مات أكثرهم في وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ولم يبق سوى الرؤساء الثانويين. ومع ذلك بدأ القوم إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالاصطلاح على رجل منهم، هو «عبد الله بن أبي بن سلول»، ولكن الخزرج سرعان ما تراجعت إزاء التطورات الجديدة في مكة وأرسلوا وفودهم إلى ابن أختهم محمد
صلى الله عليه وسلم
في مكة، وقاموا بمحاولة إقناع الأوس بالأمر لما له من وجاهة من عدة نواح: الأولى أنه نبي مؤيد من الله وفي ذلك كفالة النصرة، والثانية أنه طرف محايد، فلا هو أوسي ولا هو خزرجي، أما الناحية الثالثة والأهم سياسيا واقتصاديا فهي أنه بخروجه من مكة إليهم يمكنهم بقيادته شن الحرب على أهل مكة، بل قطع خطوطها التجارية مع الشام التي تمر على المدينة، وفي ذلك لا لوم ولا تثريب؛ فهم إنما يتبعون أمر السماء، ثم إن قائدهم إنما هو فرد مكي ومن أهل مكة أنفسهم. ثم إن اليهود كانوا في تمام الرضا عن هذا التوجه؛ حيث الآيات الكريمة تكرم أنبياء بني إسرائيل وتفضل النسل الإسرائيلي على العالمين، ثم إن هذا النبي الآتي يصلي إلى الشام قبلة اليهود، وأتباعه في المدينة يصلون إلى الشام، بل ويصومون الغفران، كما أنه يؤكد حرية الاعتقاد تماما، وتؤكد الآيات السماوية التي يحملها:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 62). وإن الله يقول لنبيه في آياته الكريمة:
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43)، و
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44). وإن النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
هو
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة (الأعراف: 157)، وإنه يخاطبهم بالموحى إليه
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة (الصف: 6). ويلقي الدكتور أحمد الشريف الضوء على الأحداث الآتية بعد سنوات، فيقول: «ولقد عالج النبي
صلى الله عليه وسلم
موقف اليهود في براعة وقدرة ... تغلب عليه حساسية الموقف التي كانت قائمة، بمحالفة اليهود مع بعض بطون الأوس والخزرج، وكانت هذه المحالفات لا يزال لها أثر في نفوس هذه البطون؛ فكان لا بد أن يعمل النبي حسابا لهذا الشعور، فنرى النبي
صلى الله عليه وسلم «يصانع اليهود مرة»، ويجادلهم مرة أخرى، ويصبر عليهم حتى تحين الفرصة، فيقلم أظفارهم، ثم يرى نفسه آخر الأمر مضطرا إلى التخلص منهم نهائيا.»
1
أما الأهم لأهل يثرب جميعا فهو أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
اتخذ من يثرب مركزا وعاصمة، وقوى قدرتها على المنافسة مع مكة؛ فساوى بينها وبين مكة من ناحية القدسية، فأعلنها مدينة محرمة حرمة مكة؛ وكما قال: «إن لكل نبي حرما، وإني حرمت المدينة، كما حرم إبراهيم
صلى الله عليه وسلم
مكة.»
المهم أن الأحداث تتابعت في مكة واستمرت المنعة الهاشمية للنبي
صلى الله عليه وسلم
الذي اتبع خطى جده - كما اتبع خطواته إلى حراء من قبل - وأعلن أنه نبي الفطرة الحنفية التي نادى بها الأولون السابقون، ونادى بها عبد المطلب. ومثلما أتى جده الرئي وغته ثلاثا ليحفر زمزم، فقد أتاه جبريل وغته ثلاثا، وكما اهتم عبد المطلب بتأكيد التحالف مع الأخوال من أهل الحرب في يثرب، اهتم حفيده أيضا بالأمر؛ فكان يلقى أهل الحرب اليثاربة عند العقبة، إلى أن هيئوا مدينتهم لاستقباله، بعد أن مات عمه أبو طالب، واشتد ضغط الأحلاف على الهاشميين. وكان الحل أن يغادر إلى الأخوال ليرفع الضغط عن الأعمام، في الوقت الذي كان فيه لجده عبد المطلب مكانة خاصة، وأثر لا يمحى من نفسه؛ تبرره حميته القتالية عند المعارك التي كانت تدعوه لأن يهتف: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.» كأني به ينادي طيف جده: أي جدي، ها أنا ذا أحقق حلمك!
وقد ظل دور بني هاشم قائما إلى ما بعد خروج النبي
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى يثرب، بل إنهم لم يتركوه يغادر إلا بعد أن استوثقوا لمنعة أخواله اليثاربة واطمأنوا إليها، ويظهر ذلك من ذهاب عمه العباس معه - وهو بعد على دين قومه - للقاء أهل الحرب، في بيعة العقبة الكبرى، ولم يذهب - فيما يقول الطبري - إلا لأنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، وكان هو أول المتكلمين في هذا الاجتماع هائل الخطورة الذي شكل على وجه الزمان منعطفا حادا، غير وجه التاريخ تماما، فقال:
يا معشر الخزرج، إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا؛ ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عزة في قومه، ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم ما تحملتم ذلك، وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم، فمن الآن دعوه؛ فإنه في عزة في قومه ومنعة في بلده.
2
ويخبرنا البيهقي أن هذا الوفد العظيم الذي يتكون من سبعين رجلا، ممثلين لأهل المدينة، «لم يكن بينهم سوى ثلاثة نقباء من الأوس» وهم: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، وأبو الهيثم بن التيهان. وأنه عندما انتهى النبي
صلى الله عليه وسلم
من كلامه ووصل إلى القول: «أبايعكم على أن تمنعوني ما منعتم منه أبناءكم ونساءكم»؛ تناول البراء بن معرور - كبير القوم - يده وقال: نعم والذي بعثك بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا؛ فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب والحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. وهنا اعترض أبو الهيثم بن التيهان «الأوسي» الأمر، قائلا: يا رسول الله، إن بيننا وبين أقوام حبالا، وإنا قاطعوها؛ فهل عسيت إن أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم ...» فأخذ البراء بن معرور بيد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فضرب عليها؛ وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا.
3
ثم أخذ عليهم العباس بن عبد المطلب المواثيق لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالوفاء، وعظم العباس الذي بينهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وذكر أن أم عبد المطلب، سلمى بنت عمر بن زيد بن عدي بن النجار.
4
وقبل أن ينصرفوا أراد أهل الحرب والحلقة استعراض قدراتهم القتالية وفنونهم الحربية للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال له ابن عبادة: إن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا. فأجل النبي
صلى الله عليه وسلم
الإمالة بالسيف إلى ما بعد الخروج من مكة بقوله: لم نؤمر بعد!
5
وكانت أهم المهام بعد الهجرة إلى يثرب هي تحريم المدينة، وعقد المعاهدة مع اليهود، ثم الخروج إلى طريق التجارة لقطعه تماما على أهل مكة، حتى إن عبد الله بن جحش استحل فيه الشهر الحرام؛ إعلانا لمكة بانهيار مقبل في هيكلها الاقتصادي، واستولى على تجارة لها، وأخذ أسيرين، وقتل عمرو بن الحضرمي؛ فقالت قريش: لقد استحل محمد
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال. وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى على رسوله
صلى الله عليه وسلم :
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (البقرة: 217).
6
أما المهمة الجليلة والعظمى، فكانت قيام النبي
صلى الله عليه وسلم
بإنشاء نواة أول دولة عربية إسلامية في الجزيرة، محققا نبوءة جده: «إذا أراد الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء.» وبهجرته خفت أثقال الاضطهاد عن كاهل الهاشميين؛ مما سمح لهم بالتظاهر بالحياد، ومجاملة بني عمومتهم أحيانا، كخروج بعضهم مع قريش إلى بدر، في الوقت الذي كان فيه العباس يسرب لابن أخيه أخبار مكة أولا بأول؛ لذلك كان الوفاء النبوي يجلجل في نداء النبي
صلى الله عليه وسلم
لرجاله، في غزوة بدر الكبرى، قبل هنيهة من الهجوم على أهل مكة: «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم، قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها.» وإنما نهى الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن قتل أبي البختري بن هشام؛ لأنه كان أكف الناس عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت على بني هاشم وبني المطلب. فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقالته، فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟» فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق أبي حذيفة، والله لقد نافق!» فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ.
7
ويقول الأستاذ أحمد أمين إن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد النصر في بدر، ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه وعلى من معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به؟! فوالله ما لقينا إلا عجائزا صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها! فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم قال: «يا ابن أخي، أولئك الملأ.»
8
نعم، هكذا انتهى أمر الملأ، أرستقراطية قريش ورجال الندوة وحملة اللواء! وتهيأت الدولة لنشر جناحيها على أرض العرب، وعلى مكة ذاتها؛ الأمر الذي دفع العقاد للقول:
نكاد نقول: إن العرب أقبلت على الإسلام أفواجا، حين صارت الكعبة إلى يديه وأصبحت عاصمة العروبة، عاصمة الدين الجديد، ولو لم تكن للعرب وحدة معروفة بينهم قبل البعثة الإسلامية، لما اعتزوا بالبيت الجامع لهم هذا الاعتزاز.
9
وهكذا، قامت الدولة الإسلامية بجهود البيت الهاشمي، وفضل لا ينكر لأهل الحرب والحلقة اليثاربة وخئولتهم، لكن ذلك كله لم يفت في عضد الحزب الأموي، فظل هؤلاء يترقبون الفرص حتى ما بعد اتساع الدولة بالفتوحات، وعندما سنحت الفرصة اقتنصوها، واستولوا على الحكم استيلاء صريحا بعد أن كان ضمنيا باستبعاد علي بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وساعتها تجلت مشاعرهم تجاه بني عمومتهم في المجازر الدموية التي راح ضحيتها كل من أيد البيت الهاشمي، حتى امتدت يد الانتقام الحمقاء إلى حفدة المصطفى
صلى الله عليه وسلم
استئصالا لهذا البيت وأهله، ووصل بهم حد الهوس إلى ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق؛ مشاعر عبر عنها لسان يزيد بن معاوية الأموي (منسوبا إليه عن قصيدة طويل لابن الزبعرى):
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
10
أو كما أورده ابن كثير:
لعبت هاشم بالملك فلا
ملك جاء ولا وحي نزل
11
صفحة غير معروفة