إن الفكر السليم ليعزو انتشار الحنيفية في الجزيرة والحجاز إلى تمهيد هؤلاء وتوطئتهم، حتى تحولت إلى تيار قوي قبل الإسلام. وإن أهم رجالات الحنيفية وأساتذتها - وربما كان أولهم من حيث الأهمية والأثر - هو «عبد المطلب بن هاشم»، إضافة إلى اثنين من تلامذة الحنيفية الكبار هما: «زيد بن عمرو بن نفيل بن حبيب»؛ ذاك الذي استطاع جده إقناع الفيل محمود بالعودة إلى اليمن راشدا، وكان حليفا لعبد المطلب؛ والثاني «أمية بن عبد الله بن أبي الصلت»، وكان جده حليفا بدوره لعبد المطلب، ورفيقه في رحلته لتهنئة ابن ذي يزن باستقلال اليمن.
ويؤكد الدكتور «جواد علي» أن أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن غيرهم، هي: «الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد بيده الخير والشر، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.»
28
وفي ملل الشهرستاني نجد أن الحنفاء كانت تقول: «إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانية، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية.»
29 «إذن هي النبوة! ولا بد للأحناف من نبي!»
وهنا يقول لنا الدكتور أحمد الشريف: «والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا - حسب تفكيرهم - يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم؛ وقد روى القدماء معجزات ونذرا قالوا إنها وقعت قبل ظهور الإسلام؛ إرهاصا به ومنبئة بقرب ظهوره، وتلك الروايات - إن صحت - كانت دليلا على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح، وإلى ظهور مصلح من بينهم، «وكان الإصلاح قديما لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء »، وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها ... وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة، من الناحية اللغوية، ومن ناحية الجنس ... وكان من المتوقع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينين، لولا أنهم بدءوا نهضة قومية ... لذلك يريدون ديانة خاصة يعتبرونها «رمزا لقوميتهم ... ديانة تعبر عن روح العروبة» وتكون عنوانا لها؛ لذلك بحث عقلاؤهم عن الحنيفية؛ دين إبراهيم الذي كانوا يعدونه أبا لهم ... وقد ظهرت حركة التحنف قبل الإسلام مباشرة، وكانت رمزا إلى أن الروح العربي كان يتلمس يومئذ دينا آخر غير الوثنية. والإسلام حين جاء ... كان دليلا على «نضوج ديني فلسفي، استعد له العرب في القرون المتطاولة السابقة» ... وكذلك كانوا يحسون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمر فيه ذلة وعار ... في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ ظهرت النهضة العربية، وكانت دينية، والدين كان عاملا من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية، إلا بانتشار العلوم، «ووجود العوامل التي تنافسه في القيام بهذا الدور في العصر الحديث».»
30
المهم، أنه عندما وصل الحنفاء إلى النتيجة المحتومة، بدأت مباراة تتسم بسمو الروح الرياضية ورقيها؛ فأخذوا يتنافسون في الترفع عن صغائر الأفعال. وهذه الأفعال التي تعففوا عنها هي التي أصبحت فيما بعد أفعالا شريرة، ويجب تجنبها في نظر الناس، أما عندما جاء الإسلام فقد أوجب تحريمها. ومن هؤلاء الرواد الذين لا ينبغي أن يتخطاهم البحث المحايد، من يصح الوقوف معهم رويدا.
الوقفة الأولى:
مع «زيد بن عمرو بن نفيل»؛ الذي تعود أرومته إلى قصي بن كلاب، وأمه هي أمية بنت عبد المطلب! ويعد ثاني الرواد الحنيفيين أثرا وأكثرهم خطرا بعد عبد المطلب بن هاشم. وعنه يقول ابن كثير: «إنه اعتزل الأوثان، وفارق الأديان؛ من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية، دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه ... وذكر شأنه للنبي
صفحة غير معروفة