يوم جديد على عجلة التعذيب، شخص آخر نام في فراشي، أفطر، حلق ذقنه، خجل من النظر في المرآة، تثاءب وهز رأسه، وسأل: متى تكون أنت نفسك؟ بعد ساعة أجلس أمام الميكروفون؛ صوت يخرج من بئر مجهولة، جسد أنكره تنظره ألف عين. الأفكار تتوثب من ليلة الأمس لتقفز، تلمع وتخبو كأنوار قوارب صيد بعيدة في بحر مظلم: الجوهر، والوعي، والمنهج. الجدل، والكوجيتو والوجود. وجراد الاكتئاب يزحف فأستسلم له، وجرس الرعب البيتي يرن فأنتفض: من؟ ويأتيني صوت الصديق الأسمر فأتصور وجهه المتألم وعينيه الطيبتين ودعاباته بالجيم المعطشة: أهلا أهلا، يا صباح الخير .
أنتظر الدعابة المفاجئة، أتهيأ للهجوم المعتاد؛ للإعلان عن فتح جديد في القصة، لتجديد موعد بعد منتصف الليل، تأتي الإشارة بالصمت حاسمة: خبر سخيف أبلغه لك، لا وقت عندي، لا بد من إبلاغ الآخرين.
تصبح الإشارة لطمة مباغتة، إعصارا يقتلع الشجرة، بين الجنون والذهول ينغرز خنجر الكلمة في القلب، تمتد يد الغريق تستغيث وتتلوى وترفض الكابوس؛ لكن الكلمة سقطت، والموت اخترق الدوامة؛ الموت.
من ثلاثة أيام مر علي، ترك لي ورقة تحت الباب، أذكر السطور الثلاثة المتعرجة، الحروف الدقيقة المائلة، المسافات البيضاء بين كل كلمة وأخرى (ثبت في ذاكرتي من قراءة قديمة في علم الخط أنها علامة لا تخيب على طيب القلب)، روح الطفل المعذب تبتسم وراء كل كلمة، تحمل وعدا باللقاء القريب، أعيد قراءتها قبل أن أطويها وأبتسم لمطلعها: إلى عناية ... ولربة القدر المشاكسة التي مدت خيطا بعد غيبة أسبوعين فأفلت منا. كنت عنده في نفس اليوم ونفس الوقت، أعدت مجلة استعرتها منه وربت بكفي وجه الابن، والحنين كان في القلبين، وسؤال الأصدقاء من الطرفين، ونية اللقاء القريب والحديث الطويل مشتركة ومعلقة كالنجم؛ لكن الخيط يفلت. إلهي، أيمكن أن يفلت إلى الأبد؟
أرتدي ملابسي بسرعة، أتحسس سلسلة المفاتيح في جيبي، أطلب مكان العمل لأعتذر، وألعن كل شيء، أستعيذ بالله وأضبط شفتي تتحرك بآيات محفوظة، أرد الباب وأخجل من جسد لا يزال يتحرك ويقفز درجات السلم ويهز الرأس للبواب. العالم ما زال، الشمس ترسل ضوءها كما فعلت بالأمس ومنذ ملايين السنين، والجدران قائمة، والناس تتحرك، والعربات تجري، والكلاب تتطلع بعيونها الحزينة الذليلة، وكل شيء ... إلهي! لم أنت وحدك؟ كيف أقول عنك «كان»؟ أين تتمدد؟ كيف تنام؟ كيف أصدق!
أقف على محطة الأوتوبيس، أنتظر وأنتظر، المشكلة الأزلية، وأنت هناك، والموعد المستحيل يقترب، أشير إلى تاكسي؛ تتم المعجزة، أصارح السائق الشاب بدهشتي، ألاحظ وجهه الذابل وعينيه الصامتتين المنكسرتين. يهز رأسه موافقا: زمن المعجزات لم يفت، المعجزة أمام أعيننا، على مرمى من أقدامنا، حولنا وفينا؛ لكنا لا ننتبه، أبدا لا ننتبه. يلتفت برأسه وينظر إلي. أنهال عليه بالشكر وأسترسل في الكلام عن قدرة الله؛ هل تملك إلا التسليم؟ يؤمن على قولي بإطراقة من رأسه، أناشده أن يسرع قليلا، تفلت مني كلمات الموت والجنازة والصديق. يردد في عينيه الواسعتين، تخرج من فمه الكلمات المعتادة، أخجل من ثرثرتي، أعجب من نفسي: هل قلت الموت؟ هل صدقت؟
والوجه الأبيض الحبيب أمامي؛ مستدير ومائل باستطالة نحو الذقن الصغير المدبب، ممتلئ بالحيوية، بدا عليه الإرهاق والسهر، وتحت الحاجبين الأسودين عينان واسعتان يفيض منهما نهر حنان لن أنسى عذوبته، ويتوثب فيهما طموح قلق لا يكف عن المغامرة، وجبهة عريضة عالية أجبرت الشعر أن ينسحب عنها شيئا فشيئا لتواجه - كصخرة على الشاطئ - أمواج المخاطرة، والفم الصغير المزموم الشفتين تصطرع فوقه المرارة مع خفة الدم الآسرة، والصوت ... الصوت الرجولي الخشن الذي يندفع ويعلو ويشق الزحام كصوت القبطان المرح الآمر الذي ينبه البحارة المتعبين. هذا الوجه وهاتان العينان وهذا الصوت؛ لم لم أعرفها إلا من عام واحد؟
من النافذة الزجاجية ألمحهم واقفين على منعطف الطريق المنحدر، أمام السور القديم المتآكل. يتحرك كياني ولا أعرف من يحركه، كتلة ثقيلة سوداء. يقترب مصطفى مادا ذراعيه، طويلا منحني الظهر، كفه اليمنى تصنع السؤال الأزلي، يأخذني بين أحضانه، يريح رأسه على كتفي اليسرى، ينهنه كالطفل. فراغ من حولي، فراغ في داخلي، هاوية تحيط بي، العين جافة، والدمع لا يستجيب. أعرف نفسي: لم يأت الجيشان بعد. القلب أرض خراب، سطح ساكن، لا بد من وقت طويل قبل أن ترتفع الموجة، جربت هذا من قبل. أخجلني وجودي الصخري أمام أمي وأخي. وفي الليل، وحدي، ينهمر الطوفان. هدهدت رأسه وكتفيه، قبلت وجهه ورقبته، تلعثمت بالعزاء المحفوظ، السؤال: كيف ومتى وأين عقيم، والكلام لا يشرخ جدار الموت، يرتد إلينا كاللطمة في الوجه، يصرخ شيء في: هذا وقت الصمت. اللفظ خيانة، والعجز الراقد فيك كقزم عار يتوسل لك: دثرني بالله عليك، برداء الصمت. أتقدم من الواقفين، أرى الوجوه المربدة، والرءوس المدفونة بين الكفين، والسخط العاجز يتأجج في العينين، كبقايا نار تخبو. تسلم في صمت، تخجل أن يشغلنا شيء عنه، نريد أن ننفرد به، نرفض التسليم، مصطفى يأخذني من يدي، يدخلني معه في الكابوس؛ صباح الأمس كان في عمله، وهو عائد للبيت مع محمد، شعر برعشة، رغبة في القيء، غمر العرق وجهه، انتفض من البرد، صاحبه للبيت، طمأنه، دوار ويزول بعد الأكل والنوم، وعده بالزيارة مساء (نادرا ما كان يفعل، أهو الإلهام الأسود، النبوءة تخرج من قلب الفنان بلا وعي؟) وفي المساء - لم تكن الساعة قد جاوزت السابعة - تم كل شيء؛ انهار العالم، وسقطنا تحت الأنقاض. - وأين هو الآن؟ - يحضر الغسل، لم يتركه طوال الليل. - قبل أسبوعين كان عندي، إحدى زياراته التي أترقبها وأظل أشتاق إلى مفاجأتها الحلوة، يدخل مسكني المقهور المعتم دخول الغزاة، يسبقه الصوت الخشن المشروخ يجلجل ويهلل: أهوه! نائم أم صاح؟ دائما نزعجك! وأحس بأن جيوش الفرح تزاحمني، تدفعني، تضيء ألف مصباح في القبو المظلم، يهتف: أزعجنا صومعة الحكمة. أضحك: سمعت صوتك فانتحرت من ثالث دور! أتمنى ألا ترجع أبدا. الحكمة ليل، موت، قبر أحمله حيث ذهبت. نضحك ونضحك. أنظر في عينيه ولا أشبع، أقول لنفسي: هل أستحق كل هذا الحب؟ نصنع الشاي، يمد يده بنفرتيتي، يقول لا بد أن أصالحك عليها، أشير له إلى صورتها على الحائط المقابل؛ الملكة أعبدها، أما السيجارة فألعنها، كادت أن تسبب لي سرطان الحلق. نتكلم ونتكلم. أطلب منه أن نبتعد عن النقد، ألعن نقاد العالم فيضحك، ألح عليه أن يقرأ لي شيئا لم ينشر. لم يفعل هذا قط، يمنعه الخجل الفطري. ألح مرة ومرات. تطلع لي في يأس، يتردد أن يخيب أملي، يمد أصابعه إلى جيبه ليخرج ورقة مطوية. أغمض جفني وأتهيأ لاستقبال النسمة الرطبة التي تنعش التائه في صحراء.
حادث. لم ترفرف نحوي الآن هذه القصة الصغيرة الزرقاء؟ ألأني أنظر فأرى محطة الأوتوبيس القريبة؟ أكان يقف عليها الرجل الأسمر الطويل في جلبابه الناصع الكشمير؟ يشمر كم جلبابه من حين إلى حين ليمسح حبات العرق المتصبب على جبينه ووجهه، ينتظر في الزحام مكانا في عربة، يتدافع الرجال والنساء والأطفال وتتدافع العربات، وهو واقف في مكانه يمسح عرقه المتصبب، على صدغه وشم أخضر لأسد أخضر، فوق ذراعه أبو زيد الهلالي فوق حصان أخضر شاهرا سيفا أخضر، تراقبه فتاة سمينة بيضاء، وسط الزحام يتهاوى على الطوار، يتمدد جثة. يتقدم شاب يفتح صداره الأسود، ينفخ في فمه، يتحسس نبضه، يكشف عن سيف بن ذي يزن يركب حصانا أخضر ويشهر سيفا أخضر يشطر به فارسا آخر فوق حصانه، الحصانان والسيفان خضر، وعيون الأسد وأبي زيد وسيف والفارس المشطور نصفين تلمع بالدهشة قبل أن تغطيها الجريدة، والجثة ترقد وحيدة فوق الطوار، تحت شمس أغسطس اللافحة، وسط العربات والخلق المتزاحمين. والصديق الأسمر في البيت يحملك على صدره، يصب عليك الماء الأخير، وعربات الحياة والأدب تمضي ولا تتوقف؛ أهي النبوءة؟ هل كانت تتربص بأصابعك، تحرك سن القلم؟
أتعرف على بعضهم، أذكر أنني رأيت أحدهم مرة، أحاول أن أتذكر، في إحدى دور المجلات أو في ندوة كانت تعقد في كازينو على النيل، ربما قرأت له أيضا، ليته لا يسألني! أقف بجوار شاب يبكي بكاء مريرا، أمد يدي وأربت كتفه، أقول كلاما لا أسمعه ولا أدريه، لم يخرج مني بل من عقل جمعي موروث، أنظر في عينيه المحمرتين كالدم، أحس انتفاضة دمعة وشيكة، أحاول أن أهدئه، أن أعزيه. هذا الوجه الطيب المجد قبل الأوان، الملامح الريفية الدافئة، جيل الفقر والتمرد والبحث عن الانتماء؛ يكلمني من خلال الدموع كأنه يعرفني. أخجل أن أسأله عن اسمه، أخجل من تقصيري في حقه، أشعر شعورا غامضا أنني متطفل أو غريب. هو وحده الذي كان يجمعني بهم، هو وحده الذي نبهني من سباتي الأكاديمي إلى جهودهم، هل أستحق معاملتهم لي؟ تأتي عربة «فيات» يجلس فيها ثلاثة. خمنت أن السائق هو رئيسه في العمل. كلمه الناقد الصديق وآخر لا أعرفه. ترددت كلمات عن تصريح الدفن وإصابة العمل ومكافأة الشركة ومصاريف الجنازة والهبوط المفاجئ في القلب. ارتعشت تأملاتي الساكنة، اهتزت ربة الحكمة الجامدة: الحقيقة الدموية تنتقل من يد طبيب الصحة إلى يد الصراف. تدخل دفاتر الحسابات والمعاشات والمكافآت والإعانات، أتذكر أبياتا جاءت في إحدى قصصه:
صفحة غير معروفة