قال سليمان بعد أن تغلب على تردده: اسمع يا دكتور.
قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرا، أو يقول شيئا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأوا جماعة من الفلاحين ملتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدا عنهم بقليل، ورجلا يمسك بحبل مربوط حول رقبتها. أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يمسك برأسه أو قرينه، وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.
تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور. قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي، وقال آخر: عنك انت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد؛ ليساعدا في رفع الثور عن الأرض. لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الميت، أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان؟ قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور، ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله. نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل؛ فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة؛ لكن يظهر أن الثيران مثلنا ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.
سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟ قال سليمان: والله انتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!
ضحك الرجال وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!
نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره. قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر، وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع، تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران ، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ «دسوقي» حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف، وقال: يسعد الله مساءكم.
سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه. قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟
قال سليمان: نتمشى شوية في الطراوة.
كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر. سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة؛ أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك؛ لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، تطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته؛ نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت. قال سليمان: الله يرحمه كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك. كان ساعات يغيب عن وعيه، ولما يفوق يسألني: ابننا مش ها يرجع يا ابني؟ أقول له: إنت مش فاكر اسمه يا آبه؟ ابننا اللي في بلاد بره؟ أقول له: إن شاء الله يرجع لما ياخد الدكتوراه. يقول لي ربنا يسلمه يا ابني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له ده ابننا أحمد يا آبه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه، وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.
صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت! والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء، حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه! البركة فيك أنت يا دكتور. ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك. وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا، ففتح فمه مترددا وقال: الموت علينا حق يا سي الدكتور وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنظرة، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي؛ ولكنه تشكك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.
صفحة غير معروفة