الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
67

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

تصانيف

كما راح يلعن كل فئاتهم ويقول: إن النحويين ينقبون عن عيوب أوديسيوس على حين يغفلون عن عيوبهم، والموسيقيين ينغمون أوتار القيثار على حين يتركون أوتار نفوسهم متنافرة، والفلكيين يحملقون في الشمس والقمر في حين لا ينتبهون إلى الأشياء التي في متناول أيديهم، والخطباء والحكام يثيرون الضجيج حول العدالة في حين أنهم لا يمارسونها في أعمالهم! ويظهر أنه كان يكره اللغو والجدل أكثر من أي شيء آخر في الوجود؛ فقد راح يتحدث مرة في السوق حديثا جادا فلم يأبه به أحد، فما كان منه إلا أن أخذ يعوي ويصفر، والتف الناس حوله فقال لهم: «تسرعون لسماع اللغو، وتبطئون عندما يدور الحديث حول موضوع جاد!»

ويبدو أن كرهه للغو والجدل كان سببا في هجومه المستمر على الفلاسفة، ووصفه لهم - وهذا شيء مضحك من كلب مثله - بأنهم كلاب طويلة اللسان! ألم يسمع مرة زينون الإيلي وهو يجادل في الحركة، ويثبت بالعقل بطلانها، ويقدم حججه المشهورة عن السهم الطائر والسباق الخاسر بين أخيل والسلحفاة، فنهض من مجلسه غاضبا، وراح يمشي صامتا أمام زينون؟ ألم يحتقر أفلاطون الإلهي ويصف محاوراته بأنها مضيعة للوقت؟ ألم يسفه كل معاصريه ويقل عنهم: إنهم بلهاء يسلون بلهاء؟

قد لا يكون كل هذا الهجوم دليلا كافيا على غروره بل على تهوره أو قصر عقله؛ ولكن ماذا نقول في حادثته المشهورة مع الإسكندر الأكبر نفسه؟ فيبدو أن القائد الشاب قد سمع قواده أو عساكره يتحدثون بسخرية عن الكلب وبرميله المشهور، فلم تمنعه عبقريته ولا مشاغله من الذهاب بنفسه لزيارته. تصوروا معي القائد العظيم في ردائه الفخم وخوذته الذهبية وقامته الرشيقة ووجهه الناصع المتفجر بالشباب وهو يقف متعجبا أمام البرميل وحوله جماعة من قواده وحاشيته. إن الكلب الفيلسوف لا يحس به، ويتقدم أحد قواده فيخبط بسيفه على البرميل، ويطل بوجهه العجوز محاولا أن يفتح عينيه اللتين أتعبهما الظلام أو التأمل الطويل في أعماق النفس، ويسأله الإسكندر: ألا تخافني؟

فيسأله بدوره: ومن أنت؟

ويعجب القواد من جهله وغبائه؛ إذ يستمر في السؤال: أخير أنت أم شرير؟

ويقول الإسكندر: بل أنا رجل خير.

فيقول ديوجينيس: ومن ذا الذي يخاف الخيرين؟

ويغضب القواد، ولكن الإسكندر يهدئهم بإشارة من يده، ويسأله من جديد: أنا الإسكندر الأكبر.

فيرد عليه: وأنا ديوجينيس الكلبي. ويعود الإسكندر يسأل: اطلب ما تشاء.

فيقول قبل أن يختفي رأسه في قاع البرميل: ابتعد ولا تحجب عني ضوء الشمس!

صفحة غير معروفة