قالت البائعة: زبون دائم عندي، في يوم فتح مجلة وأشار لصفحة فيها، وقال في فرح الأطفال: الحمد لله، نشروا قصيدتي. قالت له البائعة: شعر؟ يعني حضرتك ما شاء الله شاعر؟
ابتسم ومضى يقرأ قصيدته في سره وهتف غاضبا: كلها أخطاء مطبعية.
قالت له البائعة: بركة دعا الوالدين!
ابتسم في حزن وقال: تعيشي يا حاجة.
سمعت ألطاف ذلك ولم تهتم به؛ فما لها والشعر وهي تدرس المالية والمحاسبة والاقتصاد؟ إنها لا تذكر شيئا مما كانوا يسقونه لها في حصة العربي والإنشاء، وحاولت أن تذكر منه بيتا واحدا يمسك بعضه بعضا فلم تستطع، قالت لنفسها: ما كل ما يتمنى المرء يدركه! لكنها لم تذكر الشطر الآخر ولم تعرف إن كان لشوقي أو حافظ أو النابغة الذبياني، وضحكت في سرها للاسم الأخير، وقالت لنفسها: إن نطقه وحده يميت من الضحك.
ومع الأيام راحت تتابع الشاعر المجهول، كانت تراه في معظم الأيام واقفا كالتمثال في انتظار الأوتوبيس، ويبدو أنها كانت قد فرغت من ملاحظة هيئته وملابسه الرثة، وحفظت قميصه القذر الذي لا يتغير، وبذلته البنية الداكنة؛ ولا بد أن المصادفة وحدها هي التي جعلتها تنظر مرة إلى عينيه، بدتا لها بعكس ملابسه ووجهه وكل شيء فيه، كأنهما هما الشيء الوحيد الذي يدل على الحياة فيه!
كانتا ضيقتين، تلمعان لمعة غريبة، وتتحركان باستمرار في قلق وحزن لا يطاق.
وقد فطنت بغريزة الأنثى أنه يسلطهما عليها في شوق أخرس مكتوم، ومع أنها كانت تنفر منهما وتحاول أن تتجاهلهما على الدوام؛ فقد بدأت تسأل نفسها عما تريده منها النظرة الخرساء؛ إذ ليس هناك أفظع من عينين صامتتين حزينتين، تقولان لك: إنني أحبك ولا أريد منك شيئا! هل كان هذا المخلوق البائس الزري يحبها؟ وماذا كان يرجو من وراء هذا الحب الأخرس المخبول؟ إن جدارا هائلا كثيفا من التقاليد والظروف يبعدها عنه! بل يسحقه كالحشرة الذليلة أو الدودة البائسة! وهل يعقل أن تبادله النظر أو تطمعه بأدنى إشارة أو لمحة؟ يا له من خائب مجنون!
في يوم من الأيام جاءت متأخرة عن موعدها قليلا إلى محطة الأوتوبيس، كان هناك زحام غير عادي وجماعة من الناس يتحلقون حول رجل ممدد على الأرض، وشاب يجري له تنفسا صناعيا، ويصيح بالواقفين أن يبتعدوا لكيلا يمنعوا الهواء عنه، وآخر يصرخ في طلب الماء. وحشرت نفسها لتلقي نظرة، فرأت الشاعر ممددا على الأرض ببذلته الداكنة، وقميصه وحذائه الباليين، ووجهه المصفر المجدور الذي يشبه وجه ميت. وبعد قليل نهض واقفا، ونفض التراب بشدة عن ملابسه، وراح يعتذر إلى الناس ويشكرهم، ثم تقدم من سائق عربة كارو كان يقف في خوف بعيدا عن الجمع المحتشد، وإذا به يتقدم منه خجلا كالفتاة العذراء، فيعتذر إليه بصوت مسموع، ثم يحتضنه فجأة ويقبله! بادرتها بائعة الجرائد العجوز قائلة: مجنون؛ بدل ما يطلب التعويض!
سألتها: هل داسه العربجي؟
صفحة غير معروفة