وارتفع صوت مكتسح النبرة يطالب الجميع بالسكوت، فساد الصمت. راح يخطب قائلا: «هنيئا لأهل مصر. هنيئا لمصر. اختارك الأكرم مأوى ومستقرا لشخصه ولذريته. هنيئا لك يوم قصدك قادما من المشارق. على قدميه جاء. يستأنس وحوش البراري. يخترق الجبال، يسير فوق الماء، يفجر العيون في الصخر. وهل على القاهرة السعيدة كالبدر. وتجول في أطراف متباعدة حتى استقر به المقام في هذه البقعة الطاهرة حيث يقوم مسجده وضريحه. هنيئا يا مصر، وهنيئا يا حارتنا، حارة الأكرم وموطن ذريته ومريديه. منذ قرون خلت انبثق في هذا المكان نور ما زال يجذب إليه فراشات من طالبي الهداية والغفران، وترك لكم المسجد والبيت الكبير. البيت الكبير مركز الروح والنور والهدى، تدور حوله كواكب الأكرمية ما بين سوريا والعراق وتركيا ولبنان وفلسطين والجزيرة والهند وفارس وتونس والجزائر ومراكش وطرابلس. بيت هو القلب الخفاق لعالم روحي شامل. يا سيدي الأكرم تحية وسلاما. يا من جبت الأقطار كلها واخترت لمقامك هذا القطر، هذه العاصمة، هذه الحارة، هذا البيت. يا صانع الكرامات تحية وسلاما. ولآخر خلفائك وذريتك مولانا محمود الأكرم تحية وسلاما.»
تعالت الهتافات من الأركان، ثم أنشد المنشد وردد المريدون: «يا سيدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»
تحول عن النافذة. بوجه أسمر مستطيل ولحية سوداء قصيرة مدببة. تطلع إلى شيخ في الستين يقف وسط البهو الكبير تحت نجفة برنزية على هيئة مئذنة. أنعم فيه النظر فتلقى الشيخ نظرته بخشوع وقال: تحية وسلاما يا مولانا محمود الأكرم.
فتمتم الرجل باسما: طاب يومك يا شيخ عمار.
مضى - والآخر يتبعه - إلى كنبة تركية مفروشة بالسجاد الشيرازي على مقربة من باب السلاملك. جلس ودعا الشيخ إلى الجلوس. تتابعت نسائم الصيف العطرة متهادية في تضاعيف أصيل غابت شمسه وراء أشجار التوت المعششة بالعصافير. قال الشيخ محمود: من يرى موكبنا لا يتطرق إليه شك في استقرارنا.
فقال الشيخ عمار بحماس: ما زالت الدنيا بخير.
هز الرجل رأسه في أسى متسائلا: ماذا جرى لحارتنا؟ - لا شيء، سحابة صيف، عبث أطفال. - إنك لا تؤمن بما تقول يا شيخ عمار، هل سبق أن نال لسان من الطريقة؟ - إنه جيل جديد عجيب يمتطي مركبة الشيطان.
قطب محمود الأكرم قائلا: يسخرون من الطريقة، ومن المريدين، ومني شخصيا، ويرسلون النكات في مقاهي الحارة بكل وقاحة. - وباء هذا الزمن، ماذا جرى لهذا الجيل؟ كيف هانت عليه مقدساته، ولكنه عبث أطفال ليس إلا. - ألم يسمعهم المريدون؟ - بلى يا مولاي. - ماذا فعلوا؟ - نصحوهم بالتي هي أحسن، وركبهم الغضب مرات، ولكن أحدا منهم لم ينس أن الحارة أسرة واحدة.
قال محمود الأكرم بحدة: لولا الأكرمية ما كان للحارة شأن! - هو الحق يا مولاي، وقد هيجني الغضب مرة فكدت ...
صفحة غير معروفة