وكانت عرب الجاهلية مقسمة قبائل متنافرة متباغضة، فتمكنت الدول القوية من استعمار بعض بلاد العرب، فكان لليونان والرومان والفرس نصيب من بلاد العرب بالاستعمار والاستغلال والإذلال، وكانت دولة الأكاسرة تسوم بعض قبائلهم سوء العذاب فيما جاورها من شرقي الجزيرة وشماليها وجنوبيها، وما زالت الحال كذلك حتى جاء محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
فانتصف العرب لأنفسهم وانتقموا ثم انتصروا في يوم ذي قار ويوم القادسية.
ولكن العرب والفرس كانوا أعقل من أن يتطاحنوا أو يتباغضوا بعد انتصار الإسلام على دولة الأكاسرة فحصل بينهم التآخي والامتزاج والمحبة، واستفاد الفرس من سلطة العرب ونفوذهم ودينهم وآدابهم الجديدة ومعتقدهم الذي جاء بالتوحيد وقضى على الوثنية الشمطاء، كما استفاد العرب من حضارة الفرس وتمدينهم وتنظيم جيوشهم ودواوينهم وأنظمة حياتهم ومؤسساتهم. وبقوة الإسلام العجيبة امتزجت الأمتان وصارتا أمة واحدة، وكان لأبناء فارس أوفر نصيب في خدمة الدولة الفتية، وكان لهم القدح المعلى في ترقية الحضارة الإسلامية والآداب العربية بنفس اللغة العربية، ومنهم ظهر الأئمة في التفسير والحديث والفقه واللغة.
ومن العجيب أن دين الإسلام على بساطته وقلة تكاليفه وسهولة مآخذه وحداثة عهده قد تغلب على جميع العقائد السابقة له، وبالأخص على المجوسية التي كان يدين بها أهل فارس وهي العقيدة التي جاءهم بها نبيهم زردشت في كتابه المكتوب بالذهب في اثني عشر ألف مجلد على ما قاله المسعودي مبالغا، وهو كتاب «البستاه» الذي يسميه ياقوت «البستاق» بإضافة القاف في محل الجيم، وهذا الكتاب هو المعروف عند الإفرنج باسم
Avesta . ومن الطبيعي أن بعض هؤلاء المجوس استمروا متشبثين بدينهم فهاجروا إلى الهند وأقاموا ببومباي كما قدمنا، ويبلغ عددهم الآن نحو مائة ألف ومنهم كثيرون من المجاهدين في سبيل الهند.
الحضارة القديمة والدين
وإن كان الشعب الفارسي حديث العهد بالنهوض في الجيل الحاضر فقد كان من أوائل الشعوب التي تحفزت للنهوض، فقد تواطأ الروس في عهد القياصرة والإنجليز على اقتسام تلك البلاد الإيرانية، وقد وقع بعض رجالها الرسميين معاهدة لوندرة التي تقر هذا الاقتسام من غير إرادة البلاد وبدون علمها فهبت الأمة من رقدتها وقامت قومة الأسد الرئبال (الذي هو شعارها في علمها)، فاستجمعت صفوفها ووحدت جهودها ونقضت المعاهدة ومزقتها إربا، وبذلك نفضت عن نفسها غبار العار وعادت إلى الحياة وضربت المثل لغيرها من أمم الشرق.
كان ناصر الدين شاه إمبراطورا لفارس، وقد تولى في ذي الحجة سنة 1264ه ومات رغم أنفه في سنة 1316ه. وقد قاسى أهل إيران في عهد هذا الملك كل أنواع الظلم والاستبداد، وكان كثير السياحة في أوروبا ولكن تلك السياحات بدلا من أن تدله على طرق الخير والحضارة لبلاده كانت تزيده إكبابا على الشهوات وبغضا في رعيته، تلك الرعية التي كانت تدفع من أموالها ومن دمائها ما كان ينفقه الشاه عن سعة على شهواته وأغراضه في تلك الرحلات، وكان الشاه الذي يكثر من الرحلات إلى بلاد أوروبا ليتمتع يمنع شباب الأمة الإيرانية من السفر في سبيل العلم أو التجارة أو التنور، ولما لمح بريق الذكاء والنبوغ في بعض رجال الفرس عمد إلى القضاء عليهم بالنفي والسجن والقتل ليقضي على زهرة البلاد، وهم أمثال ميرزا تقي خان أمير كبير وهو الذي شاد بذكره الأستاذ إدوار براون في رسالة «تاريخ الدستور الإيراني» 1909 والسيد جمال الدين الأسدآبادي المشهور بالأفغاني وميرزا حسين خان سباهسالار وغيرهم.
ولما قلت مصادر المال ونضب معينها وصار الشاه في احتياج واضطرار، أخذ يتاجر بحقوق أمته فباع للبارون يوليوس روتر في سنة 1889 حق تأسيس بنك شاهاني إيراني وحق إصدار البنكنوت باسم الدولة، وباعه حق استخراج المعادن من جميع المناجم الإيرانية وحق إنشاء سكة حديدية بين طهران وأهواز. وأسرف الشاه في منح الامتيازات وبيع حقوق البلاد، وقد تشجع المستر تالبوت فأخذ احتكار التمباك في مارس سنة 1890 لمدة خمسين سنة بشروط بخسة تعود كلها على المحتكر وعلى جلالة الشاه، فهاج الشعب وثار وتكاتف الأحرار على مقاومة ذلك الشاه المبذر المسرف المتهاون في حقوق الأمة.
صفحة غير معروفة