مقدمة
1 - الزعماء في الشرق
2 - الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
3 - بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق
4 - تألب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام
5 - الأديان في الشرق وتحول بعض شعوب العالم عن المعتقدات
6 - أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
7 - الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته
8 - سبب انحطاط العرب وتاريخ الدولة البحرية الإسلامية العظمى
9 - مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
صفحة غير معروفة
10 - المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
11 - الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس
12 - التناسل في الشرق والحالتان السياسية والاقتصادية
13 - الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
14 - مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
15 - نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
16 - تاريخ الفرس ونهضتها
17 - أمنا الهند
18 - محمد علي وأخوه شوكت
19 - أسباب الانشقاق بين الترك والعرب
صفحة غير معروفة
20 - بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية
21 - الحركة العربية والخلافة
22 - السياسة الأوروبية في بلاد العرب
23 - العراق قديما وحديثا
24 - العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل
25 - أفريقيا والإسلام والاستعمار
26 - الحلف العربي قديما وحديثا
27 - الحلفاء بعد الحرب يقتسمون الغنيمة
28 - إندونيسيا وجزر الشرق الهندية والاستعمار الهولندي
29 - نظرة عامة وخلاصة رأي المؤلف
صفحة غير معروفة
مراجع الكتاب «حياة الشرق»
مقدمة
1 - الزعماء في الشرق
2 - الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
3 - بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق
4 - تألب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام
5 - الأديان في الشرق وتحول بعض شعوب العالم عن المعتقدات
6 - أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
7 - الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته
8 - سبب انحطاط العرب وتاريخ الدولة البحرية الإسلامية العظمى
صفحة غير معروفة
9 - مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
10 - المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
11 - الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس
12 - التناسل في الشرق والحالتان السياسية والاقتصادية
13 - الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
14 - مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
15 - نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
16 - تاريخ الفرس ونهضتها
17 - أمنا الهند
18 - محمد علي وأخوه شوكت
صفحة غير معروفة
19 - أسباب الانشقاق بين الترك والعرب
20 - بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية
21 - الحركة العربية والخلافة
22 - السياسة الأوروبية في بلاد العرب
23 - العراق قديما وحديثا
24 - العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل
25 - أفريقيا والإسلام والاستعمار
26 - الحلف العربي قديما وحديثا
27 - الحلفاء بعد الحرب يقتسمون الغنيمة
28 - إندونيسيا وجزر الشرق الهندية والاستعمار الهولندي
صفحة غير معروفة
29 - نظرة عامة وخلاصة رأي المؤلف
مراجع الكتاب «حياة الشرق»
حياة الشرق
حياة الشرق
دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
تأليف
محمد لطفي جمعة
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا (سورة القصص).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة غير معروفة
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (سورة القصص).
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (سورة الأعراف).
وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (سورة آل عمران).
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين (سورة الشعراء).
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (سورة آل عمران).
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (سورة الأنفال).
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (سورة التوبة).
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (سورة التوبة).
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (سورة آل عمران).
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (سورة آل عمران).
صفحة غير معروفة
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (سورة الأنفال).
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (سورة الرعد).
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (سورة آل عمران).
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (سورة الشورى). «كلام سيدنا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في حديث مسلم، الذي رواه المستورد القرشي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»، فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك». رواه مسلم، جزء ثان، صفحة 500، في باب «تقوم الساعة والروم أكثر الناس.»
مقدمة
في بيان حالة العالم وآمال الشرق في المستقبل
لا ريب في أن العالم بجميع أقطاره، وشعوبه، وحكوماته، يجتاز الآن مرحلة من أشد مراحل التاريخ وعورة، وسواء في ذلك الشرق والغرب، فالعالم اليوم في مفترق الطرق، العالم القديم والعالم الجديد، مضطربان مرتبكان يبحثان عن وسائل النجاة، فكأن الدنيا تتمخض عن حوادث كبار، والإنسانية بأسرها تنتظر بفارغ الصبر مولد تلك الحوادث، ولكنها لا تعلم شيئا عن حقيقتها، ولا تستطيع التكهن بمصيرها.
صفحة غير معروفة
وقد أصبح قياس المستقبل على الماضي والحاضر نوعا من الخطأ في التقدير، وصار استنتاج المجهول من المعلوم خرقا في الرأي ومجازفة في التعليل والتدليل، فالإنسانية حيرى ولسان حالها يقول كيف السبيل؟ فإنه لم يكد هذا القرن العشرون ينبثق نور شمسه حتى علقت الإنسانية عليه أعظم الآمال، وأفسح الأماني، وذلك بعد أن تمكنت مبادئ الحرية من النفوس، وتشبعت بها أفئدة الشعوب التي باتت ترقب ساعة الخلاص. ولم يكد ينصرم القرن 19 حتى أخذ أنصار العلم يمنون الإنسانية بعصر الذهب بعد عصر الحديد، ويشيدون قصورا من الآمال الجميلة على أسس التفكير الحديث، ويحاولون بإخلاص إقناع البشرية بأن عصور الجهاد والمكافحة في سبيل الرزق وأجيال مقاومة الطبيعة في سبيل التمتع بالسعادة بالحياة قد مضت وانقضت، وأن المدنية الحديثة قد قلبت صفحة جديدة في سجل الوجود الإنساني. وكان رجال السياسة يبشرون العالم بعهد السكينة والسلام، ويؤكدون لرعاياهم والأمم المختلفة أن قد استتب الأمن في جميع أنحاء العالم، وأن الطبيعة فتحت للإنسان كنوزها فملك ناصية الكهرباء والأثير، وصعد إلى أجواز الفضاء، كما غاص في قاع المحيط، وأن الحياة الاقتصادية ستأخذ مجراها في أفضل الظروف وأسعدها بحيث تنفرج الأزمات ويزول الضيق من العالم، وتصبح الحياة الاقتصادية مرآة تنجلي فيها صنوف اليسر والنعيم وصور الرخاء الدائم، فتتقلب الأمم في فراش من البحبوحة والهناء، وسوف يستطيع الرجل من أية طبقة كان تعليم ولده، وعلاج مرضه، وضمان شيخوخته وراحته في كبره لدى ضعفه وعجزه.
وأكد لنا المكتشفون والمخترعون أن الإنسان الحديث قد أتته الطبيعة مختارة تجرر أذيالها، فأسلمته زمامها وباحت له بأسرارها، فتناول قيادها، ووقف على ما خفي من أمرها، وتمكن بذلك من السيادة المطلقة على قواها، كما أن الدنيا قد أخرجت له خفاياها وأظهرت له ما بطن من أمرها، فاستخرج الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة من جوف الأرض، واستنطق الجماد وسخر البخار، وجلس على بساط سليمان، وقبض بيده على مفتاح أوزوريس، فصار بحق خليفة الله في الأرض لإصلاحها وعمرانها، وارتقت العلوم والفنون بأنواعها، وانتشرت الكتب والصحف في جميع الأرجاء، وتخصص رجال لكل فن من الفنون، وكادت الدنيا تبلغ غاية الكمال في زينتها وجمال مبانيها وفخامة مؤسساتها، وكان كل شيء في الحق يدعو للتفاؤل وحسن الظن بالأيام، وناهيك بجيل بدأ بنشر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، بفضل الثورة الفرنسية الكبرى!
ولكن هذه السعادة لم تكن، واأسفاه، إلا وهما، أو حلما لذيذا، أو برقا لامعا في دياجير الحياة! فإن ذلك الحلم لم يلبث أن زال وأعقبته يقظة فاجعة، راحت الرؤيا الجميلة وجاءت بعدها إفاقة مروعة.
وبدأت في مستهل القرن سلسلة حروب في الشرق والغرب والشمال والجنوب، بين بريطانيا والبوير، وبين روسيا واليابان، وبين تركيا وإيطاليا، ثم بين تركيا ودويلات البلقان. ولم يكد العقد الثاني من القرن العشرين يشارف على نهاية شطره الأول حتى شبت نار الحرب الكبرى التي اجتاحت العالمين وأنذرت الدنيا بأسرها بالويل والعظائم.
فغيرت الحرب وجه العالم، ولا يزال يعاني آثارها. وكان الناس يزعمون أثناء صلصلة السيوف وقصف المدافع، في الفترات التي تعقب أزيز الطيارات المهاجمة وفي جو مفعم بسموم الغازات الخانقة؛ أن الذين يصبرون على ويلات هذه الحرب ويصمدون لها سوف يجنون بعد نهايتها ثمرات السعادة والغنى المتوافر والهناءة التي ليس بعدها هناءة ... فأثبتت الأيام أن هذه التكهنات لم تكن سوى تخرصات من نوع الدعاية القائمة على أساس سياسة «سوف ترى ما يسرك» أو ما يطلق عليه بعض ساسة الإنجليز
Wait and see
.
وكان محتوما في ألواح القضاء والقدر أن هذا الحلم الثاني ينهار أيضا كسابقه، وترغم الإنسانية على مواجهة الحياة بحقيقتها، فإذا الحرب تنتهي وتجر وراءها ويلات أشد من ويلاتها إبان اشتعالها؛ ديونا وغرامات تفرض، وعروشا تثل، وطرقا جديدة للاستعمار تشرع، وعصبة أمم تتكشف عن منتهى العجز والخيبة، ومعاهدات سرية ضد الأمم الضعيفة ، وشيوعية منحوسة مجرمة في روسيا تحارب الأديان وتحتقر حقوق الملك الخاص، وتهزأ بروابط الأسرة، وتحاول المساواة بين البشر على أسس كاذبة باطلة، وغايتها سيادة بضعة أفراد على شعوب كبيرة عظيمة، ثم تفلس تلك العصبة الشيوعية في النهاية لعدم صلاحيتها، فتخجل أن تعلن إفلاسها وتضطر للمساومة في مبادئها فتبدو للعالم كالتاجر الذي يفلس مدلسا ومزورا فيستحق السجن والفضيحة!
ونحن نكتب هذه الأسطر، يقيم في القاهرة ثلاثة ضيوف كرام يمثلون مسلمي روسيا، وهم السيد النبيل سعيد بك شامل حفيد البطل العظيم المغفور له الشيخ أحمد شامل إمام مجاهدي القوقاز الذي سلخ في مكافحة الروس أربعا وأربعين سنة، معتمدا على الإيمان بالله ومستندا إلى حب الوطن.
والثاني حضرة العالم الفاضل والخطيب البليغ والذكي الأريب عياض إسحاقي بك ممثل مسلمي بلاد أورال، وهي تلك البلاد التي أنبتت فيما مضى طائفة فاضلة من علماء الإسلام وفحوله. والسيد موسى جار الله ممثل مسلمي تركستان الشرقية.
صفحة غير معروفة
وقد وفدوا على مصر بعد اختتام المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس، ليشرحوا لمسلمي مصر مبلغ ما يلاقيه موفدوهم من ظلم البلشفيك، فلا رزق ولا راحة ولا أمان عند هؤلاء المسلمين الذين أخضعتهم طوارئ الحدثان لظلم طغاة بطرسبرج وموسكو.
لقد جاء هؤلاء الزعماء إلى مصر عقيب انفضاض المؤتمر، لاعتقادهم واعتقاد موفديهم من المسلمين المضطهدين أن مصر هي فؤاد الإسلام الخافق ورأسه المفكر ومناره الذي يشع منه النور على كل ضال وتائه وحائر، ومصدر معونة لكل ملهوف ومستغيث ومستنجد ومستنصر في بلاد المسلمين، ومقر العلوم الإسلامية ومنبت الثقافة الشرقية ومهد الحضارة.
وقد راعنا وراع كل شرقي ما يقاسيه إخواننا أهل القوقاز والتركستان والأورال المسلمون من مظالم روسيا البلشفية المشاعية المتعصبة الممقوتة، بعد أن ألقى عياض بك إسحاقيعلى خير معونته وحسن والأمير سعيد شامل في المؤتمر الإسلامي وفي مدينة القاهرة (يناير سنة 1932) نتفا من أنواع الاضطهاد والتعذيب التي يذوق هؤلاء الإخوان مرارتها، ولم ندهش فإن روسيا البلشفية هي بنفسها روسيا القيصرية في التعصب الديني وبغض الشرق والإسلام [أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال].
وإنا ننتهز هذه الفرصة لنؤكد ونعلن على الملأ مضار البلشفية للإسلام والشرق، وعدم صلاحيتها بعضها أو كلها لشعوبنا، فإن الإسلام غني بمبادئ الإصلاح والمساواة والإحسان والعدل والحرية بما لا يوجد عند البلشفيك أو غيرهم.
وكل مسلم أو شرقي يتشيع للشيوعية يكون عدو نفسه وعدو وطنه ودينه، وهذا البرهان ماثل في بلادهم. ونحث كل مسلم على مد يد المعونة لتلك الشعوب الرازحة تحت مظالمهم. •••
وقد تلا الحرب العظمى هجوم جديد من الغرب ضد الشرق، فتحاول إنجلترا إذ ذاك القضاء على تركيا في آسيا فتسلح يد ذلك المغامر الشيخ الرومي فيشهر على تركيا حربا دينية يجاهر فيها بأنه يريد القضاء الأخير على دولة الإسلام الوحيدة في أوروبا وإعادة كنيسة أيا صوفيا إلى ما كانت عليه قبل فتح محمد الثاني القسطنطينية في 1453، ونصب هذا الشيخ الذي نشأ وتربى بعتبات الأتراك وفي حمى حكامهم، وفي جزيرة كانت خاضعة لهم عندما كان هو وأجداده في عالم العدم، نصب هذا الشيخ نفسه زعيما للنصرانية ضد الإسلام ونصيرا للغرب على الشرق، وتخيل نفسه شبحا حديثا لثمستوكليس الذي رد غائلة الفرس عن اليونان قبل العصر المسيحي ببضعة أجيال. ولكن حلم هذا الشيخ المجازف المغامر قد انهار وتحطم فسقط شر سقطة، وجر معه في الهاوية ذلك الوزير الإنجليزي الكبير الذي كسب الحرب وخسر نفسه، وكان المشجع الوحيد للوزير الرومي في حرب الأناضول، فسقط الرجلان في يوم واحد، وفر الرومي إلى أوروبا وهوى الثاني عن كرسي الرياسة في دوننج ستريت. ويرجع الفضل في تلك الهزيمة الشنعاء التي كانت أقل ما يستحقه ذانك السياسيان المغامران؛ إلى رجل تركيا الأوحد وبطلها الأمجد، زعيم الحرب والسياسة ومصلح العصر الحديث مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية ومبيد عهد الاستبداد والرق.
وكان من المحتم أن تتطور الحياة في العالم بعد شرور الحرب وأوزارها تطورا ينبئ عن مستقبل الإنسانية الذي لعبت به أوروبا المستهترة وجعلته من أدوات لهوها ومطامعها؛ فكان في روسيا ما كان، واستولى مغامر يدعى بيلاكون على السلطة في المجر، وثارت ألمانيا بقيادة امرأة فوضوية اسمها روز لوجزمبرج لم تلبث أن قتلت في الشوارع، وهاج العمال في إيطاليا واستولوا على المصانع والمعامل، وحصلت فتن وثورات في الشرق والغرب، بعضها على حق مثل نهضة مصر وكثير منها على باطل.
وفي أوروبا تقدم رجال ظنوا في أنفسهم قوة الحكم المطلق المفرد فبدأ عهد الديكتاتوريات الحديث، فظهر بنجالوس في اليونان وبريمو دي ريڤيرا في إسبانيا وموسوليني في إيطاليا، وأشباه لهم في بولونيا ويوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، واستبد بعض القواد في الصين وفي بلاد العرب، وبالجملة تزعزعت ثقة الأمم بالحياة الدستورية وظهر عجز حكم الجماعة المنتخبة، وأعلن بعض المفكرين إفلاس النظم النيابية، إما لمآرب شخصية وإما لاعتقادهم بنية حسنة. غير أن مما يجدر بالنظر أن هؤلاء المستبدين «من طراز 1920» لم يتخلوا عن المجالس النيابية ولم يلغوا الدساتير وهي حقوق الشعوب المكتسبة، إنما أبقوا عليها وأبقوا على زمامها في أيديهم، فكان مثلهم كمثل مروض الوحوش الكاسرة والحيوانات المفترسة يقنصها ويغذيها وهي سجينة.
ونحن نكتب تلك الكلمة نكاد نسمع صدى أصوات الحرب في منشوريا بين الصين واليابان، وتوشك الحرب أن تعلن في أوروبا من جراء استفحال الأزمة المالية التي ضيقت الخناق على العالم، والمعركة حامية بين ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنجلترا، ويصح أن يقال اليوم: «إن الحرب على الأبواب!»
وأنصار السلم أنفسهم يزعمون أن الاستعداد للحرب يقضي على شبح الحرب، ولورد لويد الذي كان سفير إنجلترا في مصر وعزلته حكومة العمال إن صدقا وإن كذبا، والله أعلم بالسرائر؛ ينصح اليوم لأمته بالتسلح، ويبذل قصارى جهده في إقناع بريطانيا بالاستعداد للحرب.
صفحة غير معروفة
وأمريكا أو جمهورية الولايات المتحدة واقفة موقفا مريبا، فهي تميل إلى إلغاء ديون الحرب التي تئن منها ألمانيا بعد أن ثبت عجزها عن الدفع، ولكنها لا تستطيع المجاهرة برأيها أو الظهور في الميدان الدولي بمظهر الحكم والمسيطر، لئلا تلقى من الخيبة والسخرية ما يعد جوابا صريحا وردا بليغا على سياسة ويلسون الخادعة المخدوعة.
وتكاد الهند تلتهب عقيب عودة غاندي من إنجلترا بعد فشل مؤتمر المنضدة المستديرة للمرة الثانية.
ومن الأمور التي حدثت أثناء طبع هذا الكتاب فشل مؤتمر المنضدة المستديرة المذكور وعودة غاندي إلى الهند واعتقاله بعد يومين من عودته ولما يسترح من وعثاء السفر ولما يجف مداد مقالات الإعجاب التي دبجتها أقلام كتاب الإنجليز، فكان لاعتقاله ضجة عظيمة واحتج العالم المتحضر، ولا سيما أن الرجل لم يتحول عن إعلان نصحه لشعبه وكل الشعوب المغلوبة بالمسالمة وعدم العنف والمقاومة السلبية التي تقنع الخصم ولا تؤذيه، فوقعت بسبب اعتقاله معارك ومواقع كان اتقاؤها خيرا وأولى، فنحن نعرب عن إعجابنا بغاندي ونعجب بحبه السلام وعدم العنف ونرسل إليه تحيتنا وندعو له ولوطنه بالنجاح! ويسوءنا أن يبقى المسلمون من الهنود بمعزل عن الجهاد السلمي الشريف في سبيل الحرية، فإن الهند ليست وطنا للهندوكيين وحدهم بل إنها وطن للجميع، وقد سرنا انتخاب أبي الكلام زعيما.
الآن تكاد حركة العالم تقف بعد أن وقف فعلا دولاب الحياة الاقتصادية في معظم أنحاء العالم، وأصبح العاطلون من عمال العالم يعدون بالملايين في الشرق والغرب حتى شرعت الحكومة المصرية نفسها تحصي العاطلين، وليس العطل في عصرنا كالعطل فيما مضى، لأن معناه الآن الموت جوعا وبردا في العراء!
فالقوت الضروري غير موجود عند معظم العاطلين، والثوب الذي يستر العورة نعمة كانت ثم زالت، مما يجعل الحياة الإنسانية أقسى منها في أي عصر سابق.
والسبب الجوهري في هذه الحال التي يئن منها العالم انقسام الإنسانية إلى شطرين: الشطر الأول هو أوروبا والشطر الثاني هو الشرق. وأوروبا تريد اغتيال الشرق واستغلاله والقضاء على مصادر الحياة فيه وتسخيره لأغراضها حتى في محاربة أعدائها - ولو كانوا من الأوروبيين أنفسهم - وفي قهر أهل الشرق من سكان المستعمرات، كما صنعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أثناء الحرب وبعدها.
وبيان ذلك أن الشرق بدأ منذ خمسين عاما يتنبه من غفلته ويستيقظ بعد طول الرقاد، وأصبح الشرق يرى لنفسه الحق في الحياة، أصبح الشرق بأممه وشعوبه وأفراده وحكوماته يريد الحياة الحرة والسعادة المادية والمساواة بينه وبين أمم الغرب. وأصبح الشرقي بعد وقوفه على خفايا السياسة الأوروبية التي فضحتها الحرب العظمى لا يرى لأحد من أهل أوروبا حقا في التسلط على بلاده مباشرة أو بالواسطة. وأصبحت العلوم والمبادئ والفلسفة ملكا مشاعا للجميع، وليس في خزائن الغرب أسرار خفية ولا مخبآت غامضة حتى ولا المعاهدات السرية التي كانت غايتها التواطؤ بين ممالك أوروبا على اغتيال الشرق واللعب بمقدراته، فقد نشرت كلها على الملأ وأصبحت خبرا مذاعا.
وكان الفضل الأول في نهضة الشرق لليابان، فإن تلك الدولة الفتية أو بلاد «الشمس المشرقة» قد فاجأت العالم بيقظتها وقوتها وقدرتها على هضم الحضارة الحديثة، مع التمسك بوطنيتها وجنسيتها ومعتقداتها. وما أبلغ ما قاله الأمير شكيب أرسلان في كتاب منشور في مجلة الكويت والعراقي التي تصدر في بوتنزورخ من أعمال إندونيسيا (العدد الرابع الصادر في غرة شعبان سنة 1350)! قال الأمير:
رائحة التفرنج تؤذيني، فالتفرنج لا يفيد شيئا، والتعلم غير التفرنج، واليابانيون تعلموا وبقوا يابانيين بجميع عواطفهم وأطوارهم وأوضاعهم. والإسلام قوة معنوية عظيمة لا حد لها، ليس لنا الآن غيرها في وجه القوتين الهائلتين ...
ولم تنشر المجلة بقية الجملة، ولعل الأمير يقصد بالقوتين الهائلتين أوروبا والاستعمار أو الاستعمار والمسيحية.
صفحة غير معروفة
فخشيت المجلة عاقبة التصريح بكلمة المسيحية.
والحقيقة أن المسيحية الحقة الصادقة ليست هي الملومة وليست مسئولة عن شيء ولا يمكن أن تؤدي إلى الاستعمار أو البغضاء أو المطامع الأشعبية أو إذلال الأمم، ولكن تعصب الأمم الأوروبية التي تنتسب إلى المسيحية خطأ وكذبا هو الذنب الأعظم، وهو الذي يظنه الناس ممثلا للمسيحية مع أن هذا التعصب الذميم ليس من الدين المسيحي المجيد في شيء، لأن دين عيسى دين حب وعطف وحنان ورحمة وسماحة.
ويصح أن يقول الأمير شكيب: والقوتان الهائلتان الاستعمار وتعصب شعوب أوروبا التي تنتسب كذبا إلى الدين المسيحي المجيد.
وبهذه المناسبة نذكر أن أوروبا هاجمت الشرق بالتبشير في مراكش وطرابلس كما تهاجمه في مصر وجزائر الهند الشرقية، وقد شهدنا أخيرا في مصر أن بعض أوساط التبشير قد وصل بها الاستهتار بمبادئ حرية الأديان التي تنادي بها في أوطانها إلى درجة أن استهوت شابا مسلما وحولته عن عقيدته تارة بالتنويم المغناطيسي وطورا بالاستهواء والترغيب حتى انقطع عن مدرسته وبيته، وشرعوا فعلا في إقصائه عن القطر المصري ونقله خفية إلى بعض جهات العالم الجديد لولا تدخل الحكومة المصرية والصحف في أمره.
أما في جزر الهند الشرقية فقد استعملت حكومة هولندا كل الوسائل في تنصير المسلمين من أهل جاوا، حتى بلغ عددهم في هذه السنة ستين ألفا انتقلوا من الدين الإسلامي إلى الدين المسيحي، وقد كان عدد الحجاج الجاويين الذين يقصدون إلى الأماكن المقدسة بالحجاز في كل عام ستين ألفا فصاروا في سنة 1350 بضع مئات، أما عدد الستين ألفا فقد تحول بحذافيره من قبلة الكعبة إلى عقيدة البروتستانت!
والذي يشهد تلك الحالة في أفريقيا وآسيا وجزر الهند يعتقد أنها خطة مدبرة لجأت إليها أوروبا أخيرا بعد أن فشلت جميع الوسائل في محاربة الإسلام.
نعود إلى سر عظمة اليابان وتقدمها ذلك التقدم العجيب الذي بهر العالم منذ حربها مع الصين في سنة 1895 إلى اليوم، فقد كان سبب نهوضها ضرب بعض موانيها بمدافع الأسطول الأمريكي، بقيادة أمير البحر بيري في أواسط القرن التاسع عشر، فكانت أصوات تلك المدافع المباركة بمثابة دقات الناقوس المنبه لليقظة بعد طول الرقاد لتلك الدولة الفتية، التي نهضت بنفسها منذ ستين سنة نهوضا عجيبا حتى أصبحت صناعتها وتجارتها تنافسان صناعة أكبر الدول وتجارتها بغض النظر عن نموها الأدبي وقوتها العسكرية، حتى أصبح لها بين الأمم مركز ممتاز وكلمة يحسب لها حساب في أمور الشرق الأدنى.
ولكي يقدر القارئ تقدم اليابان نستسمحه في إيراد بعض الأرقام فهي أبلغ دليل:
كانت الصادرات اليابانية في سنة 1868 تبلغ قيمتها مليونا و553 ألف «ين»، فأصبحت في سنة 1929 ألفين و148 مليون ين. وكانت وارداتها تبلغ نحو عشرة ملايين ين، فأصبحت ألفين و216 مليون ين. وكان لها في سنة 1883 ثلاثة وستون ميلا من السكك الحديدية، فأصبحت الآن 8509 أميال. وكان لها في سنة 1870 خمسة وثلاثون باخرة حمولتها خمسة عشر ألف طن، فأصبحت الآن 661 باخرة حمولتها نحو أربعة ملايين طن. وكان عدد المصانع اليابانية 661 في سنة 1885، فأصبح الآن 550577. وأخيرا كان عدد العمال الذين يشتغلون بتلك المصانع 381000، فأصبح الآن 2202000!
فما هو سر هذا التقدم العجيب؟
صفحة غير معروفة
إن العامل الأكبر الذي ساعد على هذا التقدم هو تحول اليابان من بلاد زراعية - كالبلاد المصرية الآن - إلى بلاد صناعية، بالرغم مما كان ينقصها في أول عهد نهضتها من رءوس الأموال ووفرة المواد الأولية والتخصص في مناحي الإنتاج والتجارة والخبرة الفنية ورجال العلم الحديث. زد على ذلك أنه في ذلك الوقت، أي حوالي سنة 1870، كانت البلاد الأوروبية والأمريكية أتمت تحولها الصناعي وفي استطاعتها خنق الصناعة اليابانية في مهدها، كما أن الامتيازات الأجنبية كانت تحول دون تمتع اليابان بالحرية التشريعية اللازمة للدفاع عن منتجاتها، كما هي عليه الحال الآن في مصر المثقلة بأعباء تلك الامتيازات، ومع ذلك كله تغلب اليابانيون على جميع هذه الصعاب، ووصلوا ببلادهم إلى ما هي عليه من رقي وفلاح. وقد جعلهم النمو المطرد في عدد سكانهم لا يتوانون في العمل، ففي سنة 1870 كان عددهم نحو 35 مليونا من الأنفس فأصبح الآن نيفا و90 مليونا، وهم يزدادون بنحو 912 ألف نفس في السنة الواحدة. وعلى الرغم من استغلال البلاد استغلالا زراعيا لا نظير له، فإنها لم تعد تنتج ما يكفي لإطعام مثل هذا العدد العظيم من السكان، فكان ذلك مساعدا على السرعة في نمو الصناعة اليابانية لكي تتمكن من التصدير وشراء ما يلزمها من الخارج، ومثلها في هذا الشأن مثل إنجلترا نفسها.
وكان للحكومة اليابانية الفضل الأكبر في تحويل البلاد من بلاد زراعية إلى صناعية، فهي لم تقتصر على مساعدة المشروعات الوطنية مساعدة مالية واسعة النطاق، بل إنها أنشأت أعمالا جديدة وأكثرت من المدارس الصناعية والتجارية، وجعلت نفسها بواسطة التشريع في مقام الوصي والرقيب على هذا التطور المجيد، آزرت المشروعات الوطنية ماليا بتقرير إعانات سخية وجوائز عديدة للصادرات والمنتجات، وكان ذلك أكبر مشجع لنمو الملاحة اليابانية فأصبحت اليابان من جهة عدد سفنها التجارية وحمولتها في الدرجة الثالثة بين جميع الدول، أي بعد بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، كما أنها أنشأت مصانع الحرير ونسيج القطن والصوف والمواد الكيماوية، وأكثرت من الإرساليات اليابانية لأوروبا، ومن استخدام الخبراء الغربيين لتدريب اليابانيين على الأعمال الميكانيكية، وبذلت جهودا جبارة في الأزمات الاقتصادية لكي تخفف وطأتها عن مالية البلاد وتجارتها وصناعتها، وذلك بتأسيس الاتحادات الكبرى ومعاونة المصارف الوطنية معاونة قوية.
وأما العامل الثاني الذي ساعد على تقدم اليابان العجيب فوطنيتهم الصادقة التي مكنتهم من اقتباس كافة وسائل المدنية الغربية وأسباب رقيها مع المحافظة التامة على تقاليدهم الدينية والاجتماعية وعلى مبادئهم وأخلاقهم الوطنية، ومن بديع خصالهم أنهم متى علموا بتنفيذ مشروع وطني، سواء أكان ذلك شركة ملاحة أم مصرفا ماليا أم تأسيسا صناعيا أو تجاريا، فجميع اليابانيين، من الميكادو إلى أصغر عامل، يبذلون أقصى جهدهم في إنجاحه مهما كلفهم ذلك من تضحية.
هذا سر تقدم اليابان تقدما لا مثيل له في تاريخ الأمم، ففيه قدوة بالغة لمصر الناهضة إذا ما أرادت أن تبلغ شأوها وما وصلت إليه من قوة ونفوذ بين الدول.
وليست نهضة الشرق نهضة دينية مقصورة على يقظة الشعوب الإسلامية، ولا جنسية قاصرة على نهوض الأمم العربية أو الأمم الوثنية مثل الهنادك، بل هي نهضة إنسانية عامة مثلها كمثل دبيب الحياة الذي يسري في الأجسام بعد طول سقمها فهو البرء يتمشى في البدن المريض، وبداية النقاهة التي تبشر بالشفاء التام، بل هي تحقيق الحلم القديم الذي رآه بعض رجالنا الملهمين، أمثال المغفور لهم جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل وإسماعيل عضبرنسكي ومحمد عبده وعبد الله نديم ومحمد باش حمبا التونسي.
يبلغ عدد المسلمين والعرب في العالم أربعمائة مليون، يقطنون أوطانا من أخصب الأرض وأغناها، من الدار البيضاء وطنجة غربا إلى تين تسين بالصين شرقا، وكلهم يقرءون العربية ويفهمونها بحكم عبادتهم وعقيدتهم وكتابهم المنزل، ومعظم هذه الملايين خاضع للدول الأجنبية المستعمرة، وهم بطبيعة الحال قوة عظمى لا يستهان بها، ونحن ننادي بنهضتهم لا ليقاوموا أوروبا بالسلاح أو غيره، بل ليتعاونوا مع أوروبا في العمل على تقدم العالم. إن تقهقرهم ونومهم خسارة على الإنسانية، نريد سيادة المحبة بين جميع الأمم، وأن يشترك الشرقيون المسلمون منهم والوثنيون والنصارى واليهود في خدمة الحضارة مع أوروبا، لأنهم أرباب المدنيات القديمة في العالم، ولأنهم علموا أوروبا العلوم والفنون التي أنتجت المدنية الأوروبية الحديثة كما أثبته درابر وجوستاف ليبون وسدليو وإدوارد براون وعشرات غيرهم. لا نريد حربا ولا رقا، بل نريد سلاما وحرية وإخاء، هذا هو المثل الأعلى الذي ينشده الشرق.
إننا إن طلبنا للشرق نصيبه في الحياة، وألححنا في ضرورة إحلاله محله في ضوء الشمس، فلا نطلب ذلك مبالغين ولا متعنتين، ولكن نطالب به متمشين مع روح العصر، فقد تغيرت الدنيا ومن عليها، وتطورت الأفكار العامة والخاصة في جميع ناحياتها، حتى علاقة إنجلترا بمستعمراتها وأملاكها وراء البحار وأمام البحار قد تغيرت وتبدلت، وقد شرحنا في فصل [نظريات الاستعمار وتطور الامبراطورية] من هذا الكتاب طريقة التطور الطبيعي التي طرأت على علاقة الحكومة الإنجليزية بأجزاء الإمبراطورية وأشرنا إلى ما طرأ على نظام الدولة بالقانون الجديد.
فقد وافق البرلمان البريطاني قبل انصرافه بالإجازة 1931 على قانون جديد أطلق عليه اسم «دستور وستمنستر»، والغريب أن الرأي العام لم يلتفت كثيرا إلى هذا القانون الخطير الذي لا نظير له في تاريخ التشريع البريطاني، وهذا القانون يقتصر على تثبيت القرارات التي أصدرها المؤتمر الإمبراطوري الذي انعقد سنة 1926، ومن جملتها التصريح الآتي:
إن بريطانيا العظمى والدومنيون طوائف مستقلة في داخل الإمبراطورية البريطانية، وجميعها في مستوى واحد غير خاضع بعضها لبعض في أية ناحية من نواحي أمورها الداخلية أو الخارجية، على أنها مرتبطة بولاء مشترك نحو التاج، وشريكة حرة في الجامعة البريطانية.
وبعبارة أخرى إن دستور وستمنستر يعلن بصفة قاطعة أنه ليس ثمة حكومة إمبراطورية ولا برلمان إمبراطوري، وأن كلمة «إمبراطورية» نفسها لم تعد قابلة للتطبيق على جماعة الأمم البريطانية التي يطلق عليها الآن بمقتضى هذا القانون، وللمرة الأولى في التاريخ، اسم
صفحة غير معروفة
The British Commonwealth of Nations .
ويقرر القانون الجديد في ديباجته ما يأتي:
بما أن التاج هو رمز على اشتراك أعضاء جماعة الأمم البريطانية اشتراكا حرا، وبما أن الأعضاء المذكورين مرتبطون بولائهم المشترك نحو التاج، فمما يتفق والمركز الدستوري المعترف به لكل عضو من أعضاء الجماعة من حيث علاقاتها بعضها ببعض أن يكون كل تغيير في القانون الخاص كلام سيدنا عمرو بنبوراثة العرش وبالألقاب الملكية موافقا عليه من برلمانات جميع الدومنيون ومن برلمان المملكة المتحدة.
ومعنى هذا القرار الخطير أن الجالس على عرش بريطانيا العظمى لم يعد ملك إنجلترا وكندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية ... إلخ، بل هو ملك في إنجلترا وفي كندا وفي أستراليا ... إلخ، فالفرق بين التعبيرين ذو مغزى كبير لا يعزب عن فكر الملمين بالأنظمة الدستورية.
ويقرر دستور وستمنستر بعد ذلك أنه لا يمكن رد أي قانون أقره برلمان إحدى الدومنيون بحجة أنه ليس منطبقا على قانون أصدره أو قد يصدره البرلمان الإنجليزي، وهذا القرار قاض على البرلمان البريطاني باعتبار كونه سلطة تشريعية لجميع أجزاء الإمبراطورية.
وجاء في بند ثان من ذلك الدستور أن لبرلمان كل دومنيون الحق المطلق في إصدار قوانين يكون لها مفعول خارج حدود البلاد، كالقوانين الخاصة بالملاحة التجارية مثلا. وفي بند ثالث اعتبر أنه لا صفة للبرلمان الإنجليزي في أن يسن قوانين لإحدى الدومنيون إلا بعد موافقتها.
وليس في كل هذا من جديد، بل إنه متفق مع الواقع، غير أن الدومنيون أصرت على أنه من الواجب أن يصدر البرلمان الإنجليزي قانونا يقرر فيه رسميا الحالة الراهنة التي يرجع أصلها إلى سنة 1919، وعلى الأخص إلى سنة 1926. وهذا ما يبين أهمية دستور وستمنستر، لأنه يدل على ماهية جماعة الأمم البريطانية، فهي ليست باتحاد
Union
أو
Fèdération
صفحة غير معروفة
بل إنها اتفاق بين عدد معين من الدول المستقلة يربطها التاج البريطاني بعضها ببعض باعتبار كونه رمزا لوحدة أصلها، وليس للغة الإنجليزية مثل هذه الدلالة؛ إذ إن في كندا لغتين رسميتين الإنجليزية والفرنسية، كما أن في أفريقيا الجنوبية لغتين رسميتين أيضا الإنجليزية والألمانية، أما أيرلندا فمن المعروف أنها تعمل على إحياء لغتها الوطنية.
هذا ما يقرره دستور وستمنستر، وهو في الواقع يحل الروابط التي كانت إلى الآن تربط أجزاء الإمبراطورية البريطانية من غير أن ينص على تعريف دقيق لجماعة الأمم البريطانية في تكوينها الجديد .
والحق أن هذه الجماعة لا مثيل لها في التاريخ ولا يمكن تعريفها بدقة، فليس بين الدومنيون أي شيء مشترك، ولأنها جميعا تعترف بأن الجالس على عرش إنجلترا هو ملكها الخاص؛ فليس لهذا الملك سلطة مشتركة على جميع الدومينيون، بل لا يمكنه أن يباشر سلطته في دومينيون ما إلا بواسطة حكومة ذلك الدومينيون.
ولما عرض مشروع هذا الدستور على مجلس العموم انتهز بعض النواب المحافظين هذه الفرصة لطلب إعادة النظر في مسألة أيرلندا، معربين عن القلق الذي يساورهم فيما لو حدث أن الانتخابات النيابية في أيرلندا أفضت عن أغلبية جمهورية، واتقاء لهذا الخطر اقترحوا إضافة المادة الآتية على المشروع:
وليس في نص هذا الدستور ما يسمح للسلطة التشريعية في أيرلندا بأن تلغي أو تنقح أو تغير أية مادة من مواد اتفاق سنة 1922 الخاص بالدولة الأيرلندية.
بيد أن الوزارة الحاضرة رفضت هذا الاقتراح.
فالقارئ يرى من هذا البيان الوجيز أهمية قانون وستمنستر من الوجهة التاريخية والسياسية، فهو قد قضى على الإمبراطورية القديمة وعلى الروابط التي كانت تربط أجزاءها بعضها ببعض، ولم يبق منها إلا الرابطة المعنوية ورابطة المنفعة المشتركة، وهاتان الرابطتان على أهميتهما لا تظهران دائما بوضوح تام نظرا لتشعب المصالح ومناقضة بعضها للآخر كما حدث مرات في السنين الأخيرة، ومن أجل ذلك يبذل رجال السياسة من الإنجليز جهودا عظيمة لإنشاء روابط جديدة بين جماعة الأمم البريطانية، من ضمنها المؤتمر المنوي عقده في كندا قريبا بقصد تنظيم شئون تلك الأمم من الوجهة الاقتصادية.
فلا عجب ولا غرابة إذا أطلق على هذا القانون اسم يدل على زوال عهد الارتباط بين أجزاء الإمبراطورية البريطانية، وإنما هذا التحلل أو التفكك حصل على الطريقة الإنجليزية، أي في حدود القانون وبتشريع أصدره البرلمان «بيدي، لا بيد عمرو!» فهو نتيجة التطور لا الثورة.
ولا عجب ولا غرابة إذا طلبت أمم الشرق العربية الإسلامية وغير الإسلامية لنفسها ما طلبته أستراليا وكندا وأيرلندا وجنوب أفريقيا من «الأم الرءوم»
The Mother country ، فلسنا أقرب إلى إنجلترا من تلك البلاد . ولئن اتفقت إنجلترا مع الشرق وتضامنت معه في السراء والضراء كما يريد غاندي في الهند وغير غاندي في مصر والعراق وفلسطين وعدن وبعض بلاد الجزيرة العربية، وتبعتها كذلك فرنسا في شمال أفريقيا والهند الصينية، وهولندا في إندونيسيا، وإيطاليا في طرابلس والصومال، وبلجيكا في الكونجو، واليابان في كوريا، لو حصل هذا وتضافرت أمم الغرب والشرق على مواجهة الحياة ومكافحة الحروب والأزمات والشرور الظاهرة والخفية، فلعل الحلم الذي تمثل للعالم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يتحقق ويصير جزءا من تاريخ العالم، وفترة من أسعد فترات الحياة الإنسانية.
صفحة غير معروفة
وبمناسبة ذكر المرحوم محمد باش حمبا بين زعماء الشرق في هذه المقدمة نقول: إنه كان من أعظم عظماء تونس فكرا وتضحية، وقد هاجر في سبيل وطنه فتوفي عقيب الحرب العظمى وهو في منفاه بتونس، وهي ميتة شبيهة بوفاة المرحوم محمد فريد بك المصري. وقد دفن باش حمبا في برلين في مقبرة المسلمين بهاينهيد، وتهدم قبره وكان مكتوبا عليه بالعربية:
لا إله إلا الله محمد رسول الله
محمد باش حمبا
ولد بتونس سنة 1883 وتوفي ببرلين سنة 1920، كان خطيب تونس وزعيمها، وقد قضى نحبه بعيدا عن وطنه ومنعت فرنسا نقل رفاته إلى أرض بلاده، وهو مثال من زعماء الشرق الذين أسهبنا في درس أحوالهم في الفصل الأول، ونشكر الأمير شكيب أرسلان لأنه لفت نظر الشرق لترميم قبر الزعيم الشاب، وندعو كل شرقي وعربي للعمل على صيانة مدفنه إلى أن تتاح لبني وطنه فرصة نقله إلى مضجعه الأخير في تونس الخضراء، فإنها أحق بقاع الأرض بضم رفاته وهو الذي أحبها وتفانى فيها حتى فني. ولم يكن كغيره ممن يحبون أوطانهم حب خيال ووهم بل كان حبه قائما على عقيدة وعلى حقيقة، وكان قليل الكلام بقدر ما كان كثير العمل، وقد روى لنا أحد أمراء الشرقيين أنه كان في برلين أخيرا فزار الدار التي قضى فيها المرحوم محمد باش حمبا نحبه، فلقي ربة الدار فلما سمعت سؤاله عن ضيفها الراحل بكت وقالت: «لا ننسى لطفه ورقة جانبه وحياءه وحلاوة شمائله، ولا ننسى فصاحته وحبه وطنه. وكان ليلة وفاته يحدثنا عن بلاده ويصف جمالها ومحاسنها وخصوبة أرضها ووفرة خيراتها. ونهض من بيننا حوالي نصف الليل وهو يقول: تونس، آه تونس! وكان هذا آخر ما سمعناه من صوته العذب، فإننا عند الصباح ذهبنا لنقدم إليه قدحا من القهوة فإذا هو جثة خامدة!»
ولا يفوتنا أن نصرح بأننا كلما ذكرنا الإسلام لا نقصد به مجرد العقيدة، أو النظم الدينية التي جاء بها القرآن والسنة وأعمال السلف الصالح وآثار الخلفاء الراشدين في صدر الإسلام، بل نقصد المدنية والحضارة والفلسفة والعلوم والآداب ومجموعة الأفكار التي جاء بها الإسلام وصارت ثروة مشاعة لجميع الأمم التي اتخذت الإسلام دينا أو استظلت به. وقد ألقى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
خطبة الوداع في حجه الأخير الذي انتقل بعده من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد وصفها ج. ه. ولز المؤرخ الإنجليزي في «تاريخ العالم» بأنها أجمل وأعظم دستور إنساني رآه العالم، ونقل إلى اللغة الإنجليزية معظم فقراتها، وإليك نص تلك الخطبة البليغة: قال عليه الصلاة والسلام:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد، أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا أو الحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق: لكم عليهن أن لا يواطئن فراشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده؛ كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فالإسلام حضارة ومدنية ونظم سياسية واجتماعية كما هو دين وعقيدة، والإسلام دولة وعدل وقانون وفلسفة في الحياة كما هو تعاليم سماوية، ولا ريب في أن أمة تدين بالإسلام ليست في حاجة إلى غيره من النظم الوضعية، وقد خاب وأخطأ من ظن أو توهم أن الشيوعية أو المشاعية الروسية يمكن أن تظهر في الأمم الإسلامية أو تنمو أو تروج، فإن الإسلام غني بعدله ورحمته وإحسانه وزكاته ومساواته عن كل فكرة تأتي من الخارج مهما كان ما انطوت عليه من الخير أو مكافحة الشر أو تقليل مصائب الإنسانية ومتاعبها. وربما كانت روسيا أو أوروبا محتاجة إلى تلك المبادئ، فلهم الخيار في اتخاذها أو الإعراض عنها، أما نحن ففي غنى عنها وعما يشبهها، ويكفينا أن نتفهم ديننا ونحيي مبادئه في نفوسنا ونخلص لأنفسنا ولأقوامنا حتى نستعيد مجدنا، وإذا تعصبنا فإنما نتعصب للإنسانية والرحمة، للمدنية والحضارة، للتسامح والغفران، وهذه هي المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام ونشرها في جميع ناحيات العالم، فقد كانت غايته الأولى عتق الأفكار وتحريرها وإطلاق أعناق البشر من ربقة العبودية للأرباب والأوثان والظالمين، ومن مبادئه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
صفحة غير معروفة
وإنني أنتهز هذه الفرصة لأشكر جميع العلماء والفضلاء والمجاهدين والمفكرين الذين رجعت إلى كتبهم وانتفعت بمؤلفاتهم وآرائهم وأفدت بمحادثتهم، ولا سيما الأستاذ الفاضل والمؤرخ الثقة والرحالة الشرقي الشهير السيد عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس، والسيد ميرزا رفيع مشكي أديب فارس، وسير محمد إقبال شاعر الهند الإسلامية وفيلسوفها، والسيد غلام رسول مهر صاحب جريدة «انقلاب» الهندية بلاهور، والشيخ كامل القصاب، ودكتور عبد الرحمن شهبندر المجاهد السوري الأديب، وعياض بك إسحاقي والأمير سعيد شامل والأمير سعيد الجزائري والسيد مرسي جار الله زعماء قفقاسيا والأورال، وخير الدين الزركلي، وكل مؤلف أو كاتب لم يرد ذكره في صفحة مراجع الكتاب سهوا. والحمد لله على خير معونته وحسن توفيقه.
محمد لطفي جمعة
مصر الجديدة في رمضان المعظم 1350/يناير 1932
الفصل الأول
الزعماء في الشرق
ربما كانت مسألة الزعامة والزعماء في الشرق من أعضل المعضلات التي تعانيها تلك الشعوب من فجر التاريخ إلى يومنا هذا.
يكون الزعيم مصلحا دينيا أو مصلحا اجتماعيا أو زعيما سياسيا أو قائدا حربيا، وقد يوصله الدين أو السياسة أو الحرب إلى الملك.
وربما يكون نصيب المصلح الاجتماعي أقل الأنصبة في المجد والمنفعة الذاتية.
على أن الزعيم الصادق يكون دائما سامي الغرض بعيد الغاية فلا يتطلب لنفسه شيئا، كما قد يكون طموحا ذا مطامع فيسخر لنفسه ولذويه كل شيء. وبقدر ما يكون الأول نافعا يكون الثاني مضرا وذا خطر على الوسط الذي ينشأ فيه.
يجب علينا أولا أن نفحص شعوب الشرق من حيث الزعامة والمقارنة بينها وبين شعوب الغرب.
صفحة غير معروفة
في الغرب يظهر أعاظم الرجال بكثرة مهولة، وينبغون بسهولة، ويتقدمون في طريق الحياة يقودهم النجاح ويكللهم الظفر بأكاليل الغار، لأسباب لا توجد في الشرق، فإن الغرب ميال بطبيعة شعوبه لتشجيع النابغين والإقبال عليهم وتعضيدهم والانتفاع بهم، وربما كان الرجل العظيم في الغرب غالبا ذا ميل اجتماعي، أي إنه يفضل الصالح العام على الصالح الخاص، بل الأعجب من ذلك أن الطبقات الوسطى من الشعوب الغربية تفضل الصالح العالم على الصالح الخاص، وترى أفرادها على ما هم به من خصاصة يقدمون منفعة المجموع على منفعتهم الذاتية. وقد سمعت حديثا بين شرطي أجنبي وعامل مصري، قال الأجنبي: نحن في بلادنا ننظر أولا إلى المصلحة العامة والمصلحة الخاصة تأتي عرضا، أما في بلادكم فالمنفعة الشخصية عندكم مقدسة ولو أخذت في سبيلها المنفعة العامة وقضت عليها. لقد صدق هذا الشرطي وأصاب كبد الحقيقة، أصاب ليس لأنه عبقري أو قوي البصيرة أو عالم اجتماعي، بل لأن الأمر ظاهر كالشمس، الشرقي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة يفضل نفسه وذويه ويقدمهم، وقد يقدم قريبه أو صديقه مع عجزه وضعف خلقه على الغريب عنه ولو كان من أهل الكفاية وذوي الخلق القويم.
وهذا الأمر ظاهر في مناصب الحكومة، وفي الأعمال الرسمية، حيث يمكن الحصول على المنافع المادية على حساب الغير، ولكن ربما يتردد الشرقي في مصلحته الخاصة في تفضيل قريبه أو صديقه المضر على الأجنبي النافع، وهذا أيضا من الأنانية وحب النفس؛ لأنه هنا يدافع عن مصلحته الشخصية ولا يريد أن يعبث بها القريب الفاسد، إذا كان لديه أجنبي صالح يقوم بالعمل. إذن رابطة الدم أو رابطة المودة تنفع صاحبها ما دام الغرم واقعا على الغير، أي على المنفعة العامة، أما إذا كان الغرم واقعا على الشرقي صاحب العمل فهو يقصي قريبه أو صديقه، وحينئذ يجد الحجة الدامغة يقابل بها من يعترض عليه، حينئذ يقول الحق ويراه واضحا ويدافع به عن خطته. وهو نفسه يجد مثل هذه الحجة الدامغة إذا اعترضت عليه عند تفضيله القريب أو الصديق في العمل العام على الغريب ذي الكفاية، أقصد بالغريب عنه لحما ودما أو عصبية وصداقة، فهو يقول إن فلانا ليس أقل كفاية من غيره، إنه على الأقل يطيعني، ولا يخونني، وهو صادق إذ يقول ذلك لأنه ما دام لا يحتك مع قريبه أو صديقه في منفعة خاصة فيندر أن يحدث بينهما خلاف.
أرأيت كيف أن الشيء يمكن أن يكون حقا وباطلا في وقت واحد، وكل ذلك لدى تضحية المنفعة العامة. إن هذا الأمر مع فظاعته وهوله صحيح ومشاهد وواقع في كل مكان تجده وتجد آثاره حيث تضع أصبعك.
إن مضار هذه الحالة الخلقية عظيمة جدا، عظيمة لا تحد، ونتائجها الفاجعة لا تحصى. ليس هذا فقط، بل إننا نحن الشرقيين وبصفة خاصة المسلمين قد لدغنا منها مرات في التاريخ، وقد قال النبي: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، لأن الموعظة الأولى أو التجربة الأولى كافية لحمايته.
لقد حدث هذا في فجر تاريخ الإسلام، في حادثتين من أهم الحوادث: الأولى في خلافة عثمان، والثانية في خلافة علي.
أما في خلافة عثمان فإن الخلاف الذي نشب بين المسلمين أولا كان لأنهم انتخبوا عثمان دون علي، وكان فريق من أقارب علي يفضلونه لا لأنه من أبطال الإسلام ولا لأنه بذل في سبيل الدعوة ما بذل ولا لفصاحته وشجاعته، بل لأنه ابن عم النبي وابنه بالتبني وصهره بزواج السيدة فاطمة. قالوا إنه من العترة النبوية وإنه والد الحسن والحسين وكانا أحب الناس إلى جدهما الرسول، فلأجل هذا كان علي أحق بالخلافة من عثمان، وغضبت السيدة فاطمة وقالت ألفاظا رواها المؤرخون، ويفهم منها أنها دهشت لأن زوجها لم يكن الخليفة والأمر أمرهم وشأنهم. على أنني أعذر السيدة فاطمة - عليها رضوان الله - لأنها سيدة. وقد كانت بداية الفتنة هذا الخلاف العائلي.
بعد ذلك صار عثمان خليفة فوقع في عين الخطأ الذي قاومه أنصاره، لقد قرب أقاربه وأصهاره وأحبابه وعينهم في المناصب واستعملهم وولاهم شئون المسلمين في أنحاء الدولة، واستعمل حقه في الخلافة استعمال ملك شبه مطلق. لاحظ أنني أحب عثمان وأعجب به ولا أريد أن أمس شخصه الكريم، لا لأنه ثالث الخلفاء الراشدين ولا لأنه صهر النبي، بل لأنه مات شهيدا، وذاق أهوال الاضطهاد وهو في الثمانين من عمره، ورشق بالحجارة في شوارع مكة، ثم ذبح في بيته وهو يقرأ القرآن، ومن ذبحه؟ أحق الناس بالدفاع عنه محمد بن أبي بكر الذي يعد ولدا لعثمان. فانظر إلى هذا المصاب العظيم يصيب المسلمين في فجر تاريخهم!
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، وليت هذه الجناية كانت الأولى والأخيرة من حوادث القتل السياسي!
إن عثمان مات فكان دمه سببا في فتنة عظيمة هي الفتنة التي عانى الإسلام نتائجها أجيالا، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن في انقسام السنة والشيعة.
وفي هذه المرة كانت زعيمة الثورة والمعادية لعلي السيدة عائشة أم المؤمنين نفسها، التي كانت تحفظ نصف دين المسلمين وأمر المسلمون أن يأخذوه عنها، لقد هاجت الرأي العام ضد علي، واتخذت المطالبة بدم عثمان سببا لهذا الهياج.
صفحة غير معروفة
وحدثت حروب عظيمة ووقائع فظيعة قتل فيها عدد كبير من المسلمين، ودب الشقاق بينهم.
وفي هذه الأثناء قام رجال كمعاوية يناوئون عليا وانتهزوا فرصة انشغاله بفتنة السيدة عائشة والتمسوا سم الخياط ليدخلوا منه، وكانت الحروب والتحكيم والحيل والمخادعة، ثم ظهر شبح القتل السياسي ثانيا في صدر الإسلام فقتل علي ونجا معاوية وعمرو، وبذهاب علي على هذه الصورة المحزنة قضي على نظام الانتخاب الحر في تعيين الخليفة، لأن معاوية أخذ الخلافة بالقوة والحيلة كما لو كان أحد أمراء الشرق أو أمراء إيطاليا في القرون الوسطى.
لا أنكر أن الدولة الأموية كانت أعظم دولة في الإسلام وأن الفتوح التي تمت في عهدها كانت أعظم الفتوح وأجلها، ولكن ما قيمة الفتوح وأخذ الممالك وانتشار صولة الدين في جانب ضياع المبدأ الذي كان يضمن سلامة الإسلام إلى الأبد، وهو مبدأ انتخاب الخليفة انتخابا عاما حرا؟ لقد قضى معاوية بدهائه ومطامعه على هذا المبدأ، وأخذ يحصل من رعاياه على مبايعة ولده، وهكذا أخذ كل خليفة يكره الناس على مبايعة ولده، حتى إذا ظهر رجل قوي حيال ولي عهد ضعيف قضى عليه وأجبر الناس على نقض البيعة.
وعاد العباسيون إلى الخطة الأولى، فنادوا بقرابتهم واستعملوا أبا مسلم الخراساني للدعوة لهم في العراق حتى نجحوا فتخلوا عن السبب وأسسوا دولة على السيوف والرماح ... وهكذا.
بيد أنك ترى الأمر في الغرب على خلاف ذلك، فأول ما يفكر فيه الشعب هو تأسيس نظام الدولة وضمان سياسة الأمور بالعدل، لأنه مهما كان الرجل الرشيد الذي نمجده اليوم عظيما وعادلا ورحيما ومحبا للإنسانية ولوطنه، فنحن لا نضمن ابنه ولا حفيده.
ولا أنكر أن بعض المستبدين الأقوياء قاموا في أمم الغرب وأسسوا دولا بالقوة والخداع، ولكنهم كانوا من الشواذ والاستثناء، والقاعدة العامة اختيار الأصلح، أما في الشرق فقد كانت القاعدة هي الاستبداد ومجيء الصالح وتوليته هي الشاذ، فقد جاء عمر بن عبد العزيز منفردا في سلسلة من الخلفاء الضعفاء أو المتهاونين في شئون أمتهم، فكان الخليفة الفاضل يأتي مصادفة لا قصدا.
إذن كان يجب علينا أن نتعظ من الحوادث الأولى ولا نسمح لها بأن تتكرر، ولكننا لم نتعظ، حتى إن الدول التي وضعت أنظمة لولاية الملك باختيار الأرشد فالأرشد ، مثل الدولة العثمانية، اختل حبل النظام فيها، وأخذ القوي المبعد يسعى بكل الوسائل للاستيلاء على الملك ولم يتردد في هذا السبيل.
ينتج عن هذا أن التساهل في مسألة واحدة، وهي تفضيل الأقارب والأصهار، جلب كل المصائب التي حلت بالإسلام، كانوا يقولون إن الخلفاء فسدوا أو ضعفوا أو مكنوا الأجانب أو حاربوا العلماء أو اضطهدوا النابغين، وكل هذا صحيح لأن الرجل الذي كان على رأس الخلافة لم يكن الرجل الواجب الوجود، ولو أنه سلك في وجوده عين الخطة التي رسمها النبي ما وقع الإسلام فيما وقع فيه. إن النبي لم يضع نظاما للملك ولم يضع للدولة دستورا، هذا صحيح، ولكن لا ننسى أن النبي ترك أنظمة ودساتير لا تعد، في القرآن والسنة، ولو أنه أراد أن يحصر الملك أو السلطة في شخص معين ما كان هذا ليعجزه، ولكن احتراما للحرية ورغبة منه في تربية الشعب تربية سياسية ترك لهم الخيار بعد أن أبان لهم الحق من الباطل في مئات الأحاديث بعد الآيات القرآنية وفي خطبة الوداع التي تعد من أمهات الدساتير الإنسانية في الحكم والإدارة، فماذا يصنع النبي لشعب فاسد أو لأمة خالية من المبادئ أو لرجال يفضلون المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؟ ليس على أعمال النبي غبار حتى في نظر ألد خصومه، ولكن العيب كله راجع للذين جاءوا بعده وخلطوا وأفسدوا.
ماذا نرى في الشرق؟ الزعيم الدين أولا.
قام في الشرق عشرات من الزعماء الدينيين درسناهم بإيجاز في مكان آخر من هذا الكتاب، إنما الذى يهمنا الآن الزعيم أو البطل الديني الذي جاء بعقيدة منزلة، وهم في الشرق السامي ثلاثة موسى وعيسى ومحمد، ونترك غيرهم من الأنبياء المرسلين أمثال إبراهيم ونوح ويوسف، لأنهم لم يؤسسوا دولا أو بعبارة أخرى لأن أديانهم لم تؤد إلى إيجاد أنظمة سياسية أو اجتماعية، أما هؤلاء الثلاثة فقد أسسوا دولا لا تزال باقية في الشرق حتى الساعة.
صفحة غير معروفة