Indesirable
وتعهدت وزارتا الداخلية والخارجية بتنفيذ هذا التفسير ، وسوف يعطي هذا الحل فرصة للمشاكل - فمن له الحق في الوصف؟ وكيف تكون طريقة المعارضة؟ وهل تتخلى الدول عن حماية رجل من أقوياء رعاياها؟ - بعد الذي رأيناه من حوادث القتل الواقعة من زعانف الأجانب على المصريين، فينقلون إلى عواصم الممالك الحامية وتصدر في حقهم أحكام مخففة تكاد تكون أحكام الأم الحنون على الولد المدلل! يجب في مثل هذا المجال فعل حاسم وإظهار رغبة صريحة، وكان العقل لا يقبل أن مصر تتعرض لأجنبي مسالم أو مستقيم، وهذه الحلول تسمى أنصاف الحلول وهي أشد خطورة من بقاء المشاكل بغير حل، وبقاء القديم خير من حل ضعيف.
أما الخطوة الثانية (ومن غرائب المصادفات أنها خاصة بالمادة الخامسة عشرة أيضا، ولكن من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) فخاصة بوضع حد للأقضية التي سارت عليها المحاكم المختلطة حين بسطت اختصاصها على الأجانب من غير ذوي الامتيازات استنادا إلى المادة التاسعة من لائحة ترتيبها، وكانت تلك المحاكم وهي جهات قضائية أولى برجع الحق إلى نصابه وحسن تفهم النصوص. والآن لقد تغير الزمن وألغيت الامتيازات من سائر أمم الشرق، ولم تعد مصر في حاجة إلى الالتجاء إلى نظرية الامتيازات الأجنبية لحماية الفكرة السياسية بفكرة قانونية، فقد كشفت أوروبا قناعها ومدت يدها الحديدية وظهرت نياتها واضحة صريحة في جميع أنحاء العالم، وإن لم نكن حاربنا الحلفاء وانتصرنا لنحوز الاحترام في نظرهم فقد حاربنا في صفوفهم، وقد أظهر القضاء المصري في خلال الأربعين سنة الماضية قدرته واستقلاله، فالأولى بنا أن نصارح الدول الممثلة لدينا والتي لنا شرف التمثيل السياسي لديها بحقيقة أفكارنا، وهي أن الامتيازات الأجنبية أصبحت أنظمة غير لائقة وغير جديرة بكرامة الطرفين.
تدرج مصر في الحضارة
لا ريب في أن مصر الآن في فترة سكون ومراقبة، ومثلها كمثل الجالس في برج عال يشرف على ما حوله من الأمم القريبة والبعيدة، ولا يمكن من كان في مثل موقفها أن لا يتأثر بما يقع أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله من الحوادث الكبار، وقديما تأثرت مصر بأوروبا في السياسة والتجارة والتعليم والصناعة والصحافة واتخاذ المخترعات الحديثة والانتفاع بالمفيد منها، ولا يخلو الأمر من أنها أوذيت في هذا السبيل بالتقليد أو باتخاذ الضار من الأخلاق والعادات.
ومصر ليست متصلة بالغرب والشرق مجرد اتصال، وإنما هي مشتبكة اشتباكا وثيقا، وكل خطوة من الخطوات التي قطعتها في المائة سنة الأخيرة كانت تدنيها من أوروبا، ففي عهد محمد علي الكبير كانت دولة حربية صناعية في دور التكوين، وكانت معنويا تابعة لفرنسا في علومها وسياستها وتقاليدها لقرب العهد بالفتح الفرنسي ولرغبة محمد علي في محالفة تلك الأمة لأسباب يطول شرحها، فحاربت وتقدمت واستتب الأمر لحاكمها الذي كان من نوع المستبد المحب للخير
Benevolent Despot ، وفي عهد خليفته إبراهيم باشا حاربت في الشرق وانتصرت في الشام وفي تركيا، ووقفت عند حدها وعرفت شخصيتها بين الأمم الغربية والشرقية. وفي عهد سعيد نبتت فكرة قناة السويس في رأس الفرنسي فردينان ديلسبس، المنحدر من مدرسة سان سيمون الفلسفية، واتصل البحران على يد المصريين الذين هلك منهم مئات الألوف في سبيل الإنسانية وتقريب المسافة بين إنجلترا والهند، ولما رأت إنجلترا عجزها عن منع حفر القناة انصرفت إلى الاستيلاء عليها، وتم هذا الاستيلاء أو كاد في زمن الحاكم الذي احتفل بافتتاح القناة. وكان المغفور له إسماعيل باشا حاكما حديثا يحب أن تكون بلاده جزءا من أوروبا، فمدن المدن ومصر الأمصار وشق الطرق وحفر الترع واستقبل الإمبراطورة والسلاطين والملوك، واستدان حتى اضطر لترك وطنه بعد أن أثقل كاهله بالملايين في سبيل المدنية الحديثة، ولم يجد له من أوروبا ناصرا ولا معينا سوى ملك إيطاليا الذي ضافه. وفي عهد خليفته نضج «الخراج» وعملت العملية الجراحية، وظهرت الثورة العرابية ودخل الإنجليز مصر، وكانوا في أول عهدهم شبه مسالمين لأنهم لم يشاءوا أن يكذبوا دعواهم بحماية العرش. فلما مات توفيق إلى رحمة الله وخلفه ابنه على العرش وكان في ريعان الشباب، بدأ عهد المقاومة بين إنجلترا يمثلها ذلك الكهل المحنك المدرب لورد كرومر، وبين الوطنية المصرية، إلى أن أعلنت الحرب العظمى سنة 1914 فكانت فترة الاستسلام والحماية تحت حكم القهر، ثم ظهرت الحركة الوطنية الأخيرة وكان من تاريخها ما لا يزال عالقا بالأذهان.
وفي كل فترة من تلك الفترات كانت أوروبا تزداد منا تقربا وبنا احتكاكا وتتدخل في شئوننا الصغيرة والكبيرة، ونحن نقبل الحوادث تارة بالإرغام وطورا بالمساومة. وقد وضعت الحرب أوزارها وخشيت ممالك أوروبا الظافرة التي كانت تسمى «الحلفاء» أن لا تسفر تلك المذبحة البشرية البشعة عن شيء من الخير الذي كانت تمني به جموع الإنسانية المجرحة المظلومة المغلوبة على أمرها، وتلك الشعوب الصغيرة الدامية. وأرادت من جهة أخرى أن تكون لذاتها نواة دفاع ضد حوادث المستقبل الخفي، فابتدعت فكرة عصبة الأمم، ولم تكن تلك الفكرة حديثة العهد بل قال بها كثيرون من ساسة أوروبا لا سيما الفرنسيون منهم، وفي مقدمتهم مسيو ليبرجوا الذي كان يرجو اتقاء الحرب بوسيلة التضامن بين الأمم المتمدينة (راجع كتابه الذي نشره قبل الحرب
La Paix par Solidarité internationale )، وكان ظاهر هذه العصبة خلابا خداعا لكل الأمم حتى إن بعض ساستنا كان يعد الانضمام إليها نعمة كبرى، فما لبثت حقيقتها أن انجلت عن كونها عصبة الأمم الغالبة، وقد اخترعت نظام الانتداب وهو استعمار حقيقي يلبس ثوب الصداقة، ودليله ما حدث في سورية والعراق، وقد أراد الله فلطف بنا ولم تمسنا ريح ذلك الانتداب المنحوس، ولعل السادة السياسيين أدركوا أننا تعلمنا ما يكفي لعدم قبول تلك الحيلة. ولم تدخل أمريكا تلك العصبة فأظهرت أنها تعرف بواطنها، ودخلتها ألمانيا ليكون لها صوت مسموع في تخفيف وطأة الدين وتعجيل الجلاء عن بعض أراضيها المحتلة واسترداد بعض مستعمراتها.
وقد قرأنا من المباحث الأخيرة في الكتب والمجلات ومحاضرات أساتذة الحقوق الذين انقطعوا لدرس روح عصبة الأمم وتفهم طرقها
صفحة غير معروفة