وكل ذلك في سبيل اللؤلؤ والهند.
الفصل التاسع
مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
مبارك الصباح وخزعل
لم يبق في قراء العربية في العشر السنوات الأولى من هذا القرن العشرين قارئ لم يشغل وقته وفكره بأخبار الكويت والمحمرة، فكنت في عصر كل يوم تتناول الصحف فلا تجد إلا أخبار الكويت ومبارك الصباح. وكان هؤلاء المكاتبون المأجورون يرسلون برسائل تمليها الأغراض الشخصية والمنافع المادية، فلم تكن تستبين الحق. ولم يفطن في مصر إلا القليل من النبهاء إلى أن وراء الستار ما وراءه، فإنه ما كان يصل إلينا من الأخبار سوى نتف عن حوادث خطيرة تحدث في جزيرة العرب، فهؤلاء الأمراء وهم من علمنا خلقا ونشأة وحبا للمال والشهوات قاموا يجلسون على العروش بعدل وبغير عدل ويقترفون الجرائم ويبددون الأموال.
وقد أخذنا هذين الرجلين نموذجا لغيرهما من أمراء العرب. كلمة كوت معناها بيت ومنها كوت الإمارة الذي اشتهر في الحرب، والكويت تصغير كوت، وهو اسم لإمارة في الخليج الفارسي لها عاصمة هو ثغرها، وعائلة الصباح التي حكمت الكويت أصلها من عرب خيبر حيث يكثر اليهود في التاريخ القديم، وقد توطنوا في الكويت منذ مائتين وخمسين عاما. وقد نسج صباح رأس الأسرة خيوط الدسائس حتى تمكن من الإمارة على كويت، وكان الحكم شورى بين العشائر إلى أن تولى صباح بن جابر ثالث أو رابع هذه الأسرة، وقد تقلص ظل تلك الشورى تماما في أيام ابنه مبارك الذي كان ظالما مستبدا، فهذه أسرة عربية إسلامية توصل مؤسسها إلى الملك بحيلة وأخذ يعدل بين الناس هو واثنان من خلفائه إلى أن فسد الجيل الثالث والرابع، فوصل حكمهم إلى الظلم والاستبداد والقتل وبيع الضمائر ودس الدسائس والعيش في جو من الفتنة والدنايا، وبدلا من أن استتباب الأمر للأمراء يؤدي بدولتهم إلى الترقي في سبيل المدنية والنظام والعدل، تراهم يتأخرون وينحطون وتفسد مشاربهم وتندثر تقاليدهم، ويجرون إلى الفساد والهاوية تلك القبائل والعشائر التي ملكتهم عليها. حكم الفرد والغنى وعدم المسئولية والميل الشرقي للاستبداد وتقلص ظل الفضيلة وعدم الوازع الديني والخلقي وانحطاط دول الشرق والإسلام في أنحاء العالم؛ قد تعاونت كل هذه العناصر على تسميم عقول هؤلاء الرؤساء وقضت عليهم، ولو أنهم وجدوا مثالا حسنا في تركيا أو في مصر أو في جزيرة العرب أو في شمال أفريقيا فلعلهم كانوا يخجلون من أنفسهم ومن الأمم الأخرى إن لم يستحوا من الله ورسوله. فهذه نفوس فطرية تستعمل الحيلة في الحصول على السلطة، وقد يكون منهم الذكي والشجاع والقائد المغوار والسياسي الداهية، ولكن لا يكون منهم الحاكم العادل الرحيم، فيستغلون الشعوب لمصلحتهم ثم يستنجدون بالعدو الأجنبي على إخوتهم وأعمامهم وأبنائهم وعلى شعوبهم أنفسها فضلا عن الأمراء جيرانهم، ثم يقعون في يد المغتصب أو المستعمر، ويموتون ميتة المجرمين والجناة بعد أن يقضوا حياة خاصة مخزية في الشهوات والخمور وتبديد المال واعتلاء صهوة الأهواء والانغماس في كل رذيلة. أما الحياة العامة فهي عندهم الدسائس والقتل والتقرب من الدول القوية لتنفيذ المآرب الشخصية، أما الأمم التي وكلت إليهم شئونها والتي كانت وديعة في أعناقهم، أما حياة الشعوب، أما الرعية التي هم مسئولون عنها بوصف كونهم رعاة فعليها السلام والإكرام ... وبعدهم الطوفان.
أمراء العرب
كان مبارك الصباح الذي حكم الكويت أكثر من عشرين عاما شابا قويا ذكيا، وقد ولد حوالي نصف القرن التاسع عشر، واشتهر في شبابه بالشجاعة والفروسية، وقد روينا فيما مضى من هذا الكتاب أنه في سنة سبعين المسيحية عندما كانت حرب ألمانيا وفرنسا بالغة أقصى شدتها كان في جزيرة العرب حرب أخرى ولكن ليس بين دولتين متعاديتين مثل بروسيا وفرنسا، ولكن بين أخوين هما عبد الله وسعود ولدا فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الكبير، وهذان الولدان هما من أعمام الملك عبد العزيز ملك الحجاز الحالي وقد كان له ثمانية أعمام، فلجأ عبد الله إلى الدولة العثمانية وفاوض مدحت باشا الذي كان والي بغداد، وعلمنا أن مدحت عين عبد الله قائمقاما وانتهز الفرصة وأرسل جيشا ففتح القطيف والأحساء، ولما رأى مشايخ الكويت جيش الدولة العثمانية انضموا إليه، وتولى مبارك الذي كان شابا جيشا كبيرا من رجال العشائر وساعد على فتح الأحساء، واعتبرت الدولة إمارة الكويت موالية لها واعترفت الكويت بسيادة اسمية للدولة.
في سنة 1313ه توفي الشيخ عبد الله شيخ الكويت وخلفه أخوه محمد، وكان له أخوان طامعان في الملك هما مبارك وجراح، ولكن محمدا علم بتلك المنافسة فأراد أن يضعفها بضم أحد أخويه إليه فأشرك معه أخاه جراحا في الحكم كما لو كان وزيرا أو وكيلا، فهنا إخوة ثلاثة لم يكونوا من أم واحدة وقد ورثوا البغض من أمهاتهم وليس لهم ما يشغلهم عن التطلع للإمارة كما هي الحال عند أمراء أوروبا، مثل الانشغال بأعمال البر أو طلب العلم أو اقتناء التحف أو السياحة في أنحاء العالم ... وقد رأوا بأعينهم أو سمعوا أن سلاطين آل عثمان يضطهدون إخوتهم وعمومتهم وأولياء عهودهم، وقد يلجئون إلى خلع بعضهم بعضا، ويسجن السلطان الجالس على العرش أخاه أو عمه إن لم يدس له السم في الدسم أو يناوله فنجان القهوة المشهور. وهؤلاء العرب محاربون بطبيعتهم، قد يغدرون في سبيل السلطة وقد يخونون العهود، أما الله والدين والعقيدة والذمة والشرف فقد وضعوها في «الخرج» من زمن طويل.
وهذا ما تراه مجسما في حياة عائلة صباح المنكودة.
صفحة غير معروفة