هذه صفحة من تاريخ الزعامة السياسية بمصر، قد أتينا بها لتكون مثالا لما سبقها ولحقها في الشرق العربي الإسلامي عامة ومصر خاصة.
زعيم السياسة والحرب
لقد تطورت الزعامة السياسية في الشرق تطورا عميقا.
فقد كان الزعيم السياسي في أول الأمر يجمع بين السياسة والحرب، وقد يسعى بالحرب إلى الوصول إلى السلطة العليا ثم يستعين بالسياسة في توطيد مركزه، وكان من هذا القبيل المرحوم أحمد عرابي الذي كان زعيما سياسيا، وكانت صفته الحربية ملحقة بزعامته السياسية، لأنه لم يكن جنديا عظيما ولا قائدا موفقا، وسمح لخصومه أن يهزموه وأخطأ في أمور حربية كثيرة، ولم يعمل بنصيحة كثيرين من المخلصين له الذين كانوا أدرى منه بمواطن النصر والهزيمة. قال لي «بلنت» في منزله سنة 1909 بحضور صديق مصري: «لم يكن عرابي جنديا ذا قيمة حربية، فلا تحتقروه ولا تنصبوا له تمثالا.» ولكن الثورة العرابية ضمت زعماء آخرين يجمعون بين السياسة والحرب والأدب، ومنهم المرحوم محمود سامي البارودي الذي قيل عنه إنه كان روح الثورة، وقد حارب خارج مصر في حروب الدولة العثمانية ضد روسيا. أما الزعماء الحربيون الحقيقيون فلم يكن لمصر نصيب فيهم، بل ظهر معظمهم في تركيا، ومنهم من قوض تركيا القديمة في سبيل الحرية والاستقلال، ومنهم من شاد بناءها الجديد، أما الزعماء الحربيون الذين ظهروا في تركيا - أمثال أنور ونيازي وجمال وشوكت - فقد ماتوا جميعا شهداء بأيد أجنبية مأجورة وذهبت دماؤهم هدرا، ما عدا أنور الذي مات شهيدا وهو يحارب ضد البولشفيك في بخارى، ولكن الآخرين قد ذهبوا كلهم غيلة بأيدي الفوضيين، ولعل الفوضيين كانوا مدفوعين أو مأجورين بدول أوربية كبرى للخلاص من هؤلاء الرجال الذين قاموا بنهضة تركيا الحديثة وأقلقوا بال المستعمرين.
أما الزعيم التركي المحارب الذي نظم دولته تنظيما جديدا في السياسة والاجتماع وهو الغازي مصطفى كمال رئيس جمهورية أنقرة، فلم يسلم من عداء الأتراك والمسلمين في أنحاء العالم، ولم ينج من دسائس أوروبا ضده، ولم يهدأ بال من حوله من المؤامرات التي تدبر في كل حين لاغتياله.
زعيم الأفغان
وقد يكون الزعيم ملكا يجمع بين صفات السياسي والقائد الحربي والمصلح الاجتماعي، وقد اجتمعت هذه الصفات أخيرا للملك أمان الله خان الأفغاني الذي زار مصر منذ ثلاث سنين؛ فإن هذا الملك الشجاع المصلح تمكن من استرداد استقلال بلاده بالحرب ثم جلس على أريكة الملك، وأخذ يصلح المملكة بنشر التعليم وتقوية الجيش، فلما رأى جيرانه الأقوياء أنه ربما يصبح قوة ذات خطورة انتهزوا فرصة غيبته في سياحة عالمية وحرضوا القبائل على شق عصا الطاعة وأوهموا تلك القبائل أن الملك كفر وخرج على الدين وأباح السفور، واستعملوا سفاكا للدماء من قطاع الطرق اسمه باجي سقاء أو ابن السقاء، فلما عاد الملك أمان الله إلى وطنه حارب وانهزم وانسحب من عاصمة ملكه ثم هاجر إلى أوروبا هو وأسرته. وظهر في ميدان السياسة القائد نادر خان، وكان من رجال أمان الله، وحارب باجي سقا وفي طرفة عين هزم باجي سقا وحوكم وأعدم، واستتب الأمر لنادر خان ونودي به ملكا على الأفغان، وكان كثيرون يظنون أنه يطفئ نار الفتنة ليمهد السبيل لأمان الله، ولكن خابت ظنون هؤلاء وثبت لهم أن نادر خان لم يكن ليخوض غمار هذه الحرب وينتصر فيها ثم يسلم الملك سالما لصاحب العرش الأصلي ولا سيما ونحن في الشرق.
وإن في ثورة الأفغان على أمان الله أسرارا كشفت الأيام عن بعضها ولا يزال البعض في فؤاد الدهر كامنا.
فقد ذاع خبر الفتنة إذ كان أمان الله في إنجلترا، ثم كذبوه، وكان أمان الله صريحا في جهات كثيرة من التي زارها، وظهر بمظهر الآمن المطمئن على ملكه وعلى قوته، وهو لا يحسب حساب القبائل نصف المتحضرة التي يحكمها، ولا يحسب حساب اليد الأجنبية الخفية، فقد ذاع أن الكولونيل لورنس الشهير كان في الأفغان ينثر الذهب الإنجليزي، ويظهر أن نادر خان - ويطلقون عليه لقب شاه - يؤيد السياسة البريطانية، وقد روى الميرزا يعقوب خان خيلا، في مارس سنة 1931، أن الشاه نادر يؤيد سياسة الاستقلال والسير بالبلاد تدريجيا إلى أرفع مستوى، وقد بعث بالميرزا محمد عمر خان إلى لندن لدرس القوانين التجارية، وقد تألفت في كابول شركة مساهمة هندية أفغانية للقيام ببعض المشروعات الاقتصادية العمرانية وعرضت على الحكومة قرضا بمبلغ مليوني روبية.
ويستخلص من الحوادث أن إنجلترا لا تزال تحسب للأفغان حسابا بسبب قربها من الهند واتصالها بإيران المستقلة الناهضة وتركيا، وقد أزعج الإنجليز ظهور أمان الله بمظهره المعلوم فكان جزاؤه الحرب فالطرد، لتعود الأفغان إلى أيد تؤمن على السير بالبلاد في سبيل الرقي بالتدريج.
صفحة غير معروفة