ولما أن احتككنا بتلك الشعوب بنفسنا وجدنا أنهم يعلمون من شئون الشرق والإسلام ما لا نعلم، وأنهم كلهم متفقون على أكلنا وهضمنا ولا فرق في ذلك بين محافظ وحر وعامل، وأن أفراد الشعب أنفسهم ليسوا في حاجة إلى التنور، وأنهم موافقون لحكوماتهم في ابتلاعنا، لأن المسألة اقتصادية وهم يرغبون في الحصول على ثروة الشرق.
ولم يكن علماؤهم بأقل من ساستهم جشعا وطمعا، فقد حدث في سنة 1910 أن أحد إخواني كتب في جريدة اللواء مقالا يثني فيه على شاب جزائري اسمه ابن علي فخار كان دكتورا في الحقوق، وأشار صاحبي من طرف خفي إلى حالة الجزائر وبؤسها وجهلها وضياع حقوقها؛ فدب الرعب الشديد في قلب فخار هذا لأنه كان يعمل موظفا في بلدية ليون، وهرول إلى أحد أساتذة الحقوق في الجامعة وهو من أساطين الأحرار الذين دافعوا عن مصر وضحوا بمراكزهم في سبيلها وفي سبيل كرامته، وشكا له الكاتب وكان جديرا بشكره أو تنبيهه بلطف، فأنحى الأستاذ الفرنسي العالم على صاحبي باللائمة وأنبه وعنفه وقال له: «إن كنت يا صاحبي تحب أن تستبقي صداقتي فاترك لنا شمال أفريقيتنا ودافع عن مصرك ما بدا لك، اترك لنا تونسنا وجزائرنا واقصر همك على وطنك، فليس بينكم وبين الجزائر رابطة!»
وعبثا حاول صاحبي أن يفهم الأستاذ أنه لم ينل شمال أفريقيا بسوء وأنه لم يهاجم الحكم الفرنسي، ولم يفهم كيف يحب أستاذه الحرية لمصر والعبودية للجزائر!
وتكلم صاحبي هذا مع أستاذ حقوق آخر هو الأستاذ بول بيك أستاذ تشريع العمال في جامعة ليون، فذكر الجزائر وتونس فقال له الأستاذ ما نصه:
أرجوك أن تترك تونس جانبا، فإنني أفكر في أن أرحل إليها لأقضي البقية الباقية من عمري بعد إحالتي على المعاش؛ لأن لي فيها قطعة أرض وبيتا صغيرا.
فهذا الأستاذ الجليل صاحب المؤلفات الكبيرة والمباحث الواسعة وتلميذ ليون بورجواه الذي يرمي إلى تحرير العمال والتخفيف عنهم؛ يريد بقاء أمة في قيود الأسر لأنه ينوي أن يقضي إجازة آخر العمر في أرضها! وكان الأفضل له أن يختم حياته المباركة في نيس مونتكارلو، وكان وهي بحكم مناخها أفضل له من مناخ أفريقيا.
ولكنه في فرنسا يعيش كبقية الناس وإنما في أفريقيا يعيش عيشة السيد الآمر الناهي.
وهكذا قل عن الإنجليز في الهند وغيرها من بلاد الشرق الإسلامي وغير الإسلامي، فهم يعلمون حضارتهم الماضية ويعلمون المظالم الواقعة عليهم حالا ولكنهم لا يحركون ساكنا لأنهم يريدون الاستعمار والاستغلال فقط.
فمن العبث إذن أن نكتب لهم بلغتهم كتبا أو مجلات أو صحفا نخبرهم عن حقيقة الإسلام والشرق فإنهم يضحكون منا في أكمام ثيابهم، وإذا تظاهروا بالاكتراث لنا إنما يكون ذلك من قبيل المجاملة لا من الإخلاص ... وإنهم لينظرون شزرا إلى كل شرقي نابه نابغ يريد خيرا ببلاده، فإن لم يتمكنوا من القضاء عليه في وطنه بشتى الوسائل التي يملكونها أرسلوا عليه دعاية كالأفعى المتشعبة الألسن تتهمه في شرفه وذمته ودينه وعرضه وإخلاصه حتى يسقطوا هيبته في نظر شعبه
discrédit ، وأقل ما يصمونه به وصمة الدجل والاحتيال والمتاجرة بالدين أو بالوطن. وهم يكذبون ويعلمون أن الكذب يترك دائما أثرا مهما حاربه المكذوب في حقه ولا سيما في بلاد الشرق الجاهلة التي تذهب عقول أهلها مع كل ريح وتتجه في أحوالها اتجاه الأهواء بغير ثبات ولا رصانة.
صفحة غير معروفة