إن العرب قد ثاروا في وجه الترك خلال الحرب العظمى ليس لأن الحكومة التركية كانت فاسدة فسادا شديدا، بل لأنهم ابتغوا نيل الحرية وراموا إدراك الاستقلال، فلم يخوضوا غمار المعمعة لكي يستبدلوا سادة بسادة كأن يخضعوا لبريطانيا أو فرنسا، كلا! بل لكي ينشئوا دولة عربية.
والحقيقة أن كل ما كان يذاع عن ظلم الترك للعرب كان مدسوسا ومصطنعا لصالح المستعمرين، ونحن لا نقول مع بعض القائلين إن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ولا إن استبداد الترك أرحم من عدل الأجانب، حاشا! ولكن التاريخ والحوادث المستقبلة أثبتت أن العرب كانوا مخدوعين، فإنه ليس من مملكة احتلها الأوروبيون بعد الحرب العامة في الشرق الأدنى وأتوا فيه بإدارة تفوق الإدارة العثمانية التي كانت قبل الحرب، بل أتوا فيه بإدارة تترقى إلى درجة محاكاة الإدارة العثمانية التي وإن لم تكن المثل الأعلى فقد ثبت عند الجميع أنها كانت أعدل وأحكم وأعف وأضبط من إدارة الحلفاء في البلدان التي جاءوا لتنظيم أمورها بزعمهم، فخدموا الأتراك بإدارتهم هذه أجل خدمة من حيث لا يشعرون. (ص185 حاضر الإسلام).
أما ما حدث بعد ذلك في سورية وحرب الدروز وتخريب دمشق وجميع الحواضر السورية، فلا يزال حاضرا في الأذهان ولا يزال أبطال الحرية السورية مشتتين في الأقطار، ومنهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي يقطن القاهرة وكثيرون من الذين حكم عليهم بالإعدام من السلطة الفرنسوية. ولا يزال زعماء الدروز منفيين بإرادتهم في الصحراء، وبينهم البطل الأعظم سلطان باشا الأطرش، يكابدون أنواع المشقات في العيش بعيدين عن وطنهم في سبيل مبادئهم، وهم على أشد أنواع التعب والشقوة يتقوتون من محصول الأرض ويستمدون المعونة من المهاجرين في أمريكا ومصر. وقد أظهر البطل الضرغام سلطان باشا من ضروب الشجاعة والاستبسال في حرب الفرنسويين ومهاجمة دباباتهم والقضاء على جيوشهم الجرارة ما جعل اسمه في بضع سنين قرين أسماء عبد القادر الجزائري والأمير عبد الكريم.
أما في العراق فقد أقر كولونيل لورنس في بيان نشره في أغسطس سنة 1920 بما يأتي: «لقد غدونا على مقربة من الداهية الدهماء، وصارت حكومتنا أسوأ وشرا من الحكومة التركية البائدة، فإن الترك قد استطاعوا أن يحكموا في البلاد ويوطدوا الأحكام بأربعة عشر ألف جندي من أهل البلاد وبقتل مائتي عربي كل سنة (في مناوشات)، أما نحن (الإنجليز) فإننا نحفظ جيشا عدده تسعون ألف مقاتل تام العدة مجهزا بالطائرات الحربية والدبابات المسلحة والسفن الحربية والقطر المصفحة وقد قتلنا نحوا من عشرة آلاف عربي في ثورة هذا الصيف (مثل من كان الترك يقتلون في خمسين عاما)».
وقد حدث للأمير فيصل أنه بعد أن خلع عن عرش سوريا قصد سويسرا حيث أقام وقتا طرق فيه أبواب عصبة الأمم فلم يجد مجيبا، فأرسل الرسل إلى لندن وباريس فأغلقوا الأبواب في وجوههم، وكشرت جماعة دوننج ستريت والفورين أوفيس وكي دورسي عن أنيابها ورمته بخيانة قضية الحلفاء إذ قبل عرش سورية وإعلان استقلالها وهو يعلم أنها أرض فرنسوية، ولم يذكروا شيئا من غدرهم وخيانتهم. وبعد أن قضى الأمير نحو عامين وهو في حيرة المخلوع المقصي عن ملكه وتحقق لديه أنه ربما يعود إلى مكة بيد فارغة والأخرى لا شيء فيها، عاد فطرق أبواب الساسة مرة أخرى فلم يشأ كلمنصو لقاءه، وكذلك لما علم لويد جورج بوجوده في لندن ورغبته في لقائه بان واحتجب وادعى الغضب ثم سمح له باللقاء، وعينوه على مضض منهم ملكا على العراق، طمعا في أن يكون تعيينه وسيلة لتهدئة الخواطر لا سيما وأن لويد جورج كان ألقى خطابا في 19 سبتمبر سنة 1919 إبان انتشار الثورة المصرية جاء فيه أن «العرب قد وفوا حقا بعهودهم وبروا بوعودهم لبريطانيا العظمى، فيجب علينا إذن أن نقابل الإحسان بمثله فنفي بعهودنا ونبر بوعودنا لهم.»
وقد عينوه ملكا تابعا للانتداب البريطاني طبعا، وأوفدوا إليه مندوبا ساميا إنجليزيا وسيدة أخرى اسمها ميس بيل - توفيت منذ بضع سنين - وكانوا يسمونها «أفعى العراق» لأنها كانت العقل المفكر واليد المنفذة. وكان ارتقاؤه العرش من حظ العراق.
وما زالت القلاقل قائمة قاعدة والوزارات ناهضة ساقطة حتى يومنا هذا، وقد تخلل ذلك ثورات ومحاكمات، ومن أفجع ما جرى في العراق انتحار رئيس الوزارة السابق السعدون، الذي قتل نفسه وترك مكتوبا يشرح فيه السبب وهو عجزه عن التوفيق بين الإنجليز والملك ورغبات الشعب العراقي وضميره، ويوصي ولده بالإخلاص للعرش، «ويسرنا أن العراق دخلت عصبة الأمم ونجت بهمة ملكها من الانتداب.»
نجاة العراق على يد الأمير فيصل
وبعد أن عين الملك فيصل على عرش العراق ونودي بأبيه الحسين ملكا على الحجاز وبأخيه الأمير عبد الله أميرا على شرق الأردن؛ نهض ابن سعود وهو الملك الوهابي الوحيد في الجزيرة العربية في سنة 1925 وحارب الحجاز واحتل مدائنه واحدة إثر أخرى، وفر ملك الحجاز الشيخ إلى شرقي الأردن بعد أن تنازل عن الملك لولده الأمير علي، فظهر في الحجاز حزب وطني وتحصن الأمير علي في مكة وجدة، ولكن لم يلبث أن عجز عن المقاومة ودخل ابن سعود ظافرا إلى المدينة المقدسة، ولحق الملك علي بأبيه ثم لجأ إلى أخيه فيصل. أما الملك الشيخ وكانوا يطلقون عليه في جريدة القبلة التي كان يحررها وينشئ مقالاتها لقب «المنقذ الأعظم»، فقد أخذه الإنجليز معززا مكرما إلى قبرص حيث بقي بضع سنين يشكو الفقر في الصحف ليكذب ما ذاع عنه من أنه نقل معه مئات ألوف الجنيهات في أوان مختومة من المعدن.
وفي آخر سنة 1930 ذاع نبأ وفاته فسافر أولاده على عجل إلى قبرص وعادوا به للاستشفاء في جو بلاده، وقد أقام في شرق الأردن في ضيافة أحد أولاده حتى توفي إلى رحمة الله وقد صار اثنان من أبنائه ملوكا وثالثهم أميرا في عمان.
صفحة غير معروفة