سورية منشأ روح العصيان
قلت آنفا إن سورية كانت منشأ روح العصيان على الترك لأنها كانت أكثر الأقطار العربية تعرضا لتلقي الروح الغربية والمؤثرات الأوروبية، ولأن لفرنسا فيها أخلافا وأحفادا يدعون أنهم بقايا الصليبيين، وينادون بفرنسا، ويستغيثون بها ويسمونها «الأم الحنون»! وترجع دسائس أوروبا في سورية إلى سنة 1895 عند تأسيس الجمعية الوطنية العربية، وقد قضوا عشر سنين في نشر دعوتهم انتشارا غامضا ملتبسا إلى أن شبت نار الفتنة المسلحة في الحجاز واليمن 1905، وما زالت تلك الفتنة مشتعلة حتى تكبدت تركيا خسارة فادحة في المال والرجال، وأنتجت تلك الخسارة ضعفها المالي والحربي إلى أن كانت كارثة الحرب البلقانية وحرب طرابلس. فخراب تركيا وضياع قطر من أهم أقطار شمال أفريقيا كانا النتيجة المباشرة للدعاية السورية الفرنسوية التي استهوت أهل الجزيرة البسطاء الذين قاموا في وجه تركيا دولة الإسلام الوحيدة ، فكان خرابها وخراب أنفسهم على أيديهم.
وكان السراب الذي رسمه الساسة الأوروبيون للعرب في تلك الفترة هو عين الحلف العربي الذي ينادون به اليوم، فقد نشرت الجمعية الوطنية في باريس (اقرأ وزارة خارجية فرنسا) منشورا موجها إلى الدول العظمى، جاء فيه:
إن انقلابا سلميا هائلا حادث عما قريب في تركيا (سلميا؟! ... وما قولكم في فتنة الحجاز واليمن المشتعلة من 1905 والتي دامت إلى سنة 1911؟) والعرب الذين لم ينفك الترك آخذين في إرهاقهم وتفريق حزمتهم تفريقا دينيا ليتسنى لهؤلاء حكمهم؛ قد استيقظوا وجعلوا يشعرون بائتلاف بعض عناصرهم مع بعض ائتلافا وطنيا وقوميا وتاريخيا، وهم يرغبون الآن في الانسلاخ عن الأرومة العثمانية النخرة لينشئوا لهم دولة مستقلة، وهذه هي الإمبراطورية العربية التي تكون تامة بحدودها الطبيعية من وادي دجلة والفرات إلى قناة السويس (لم يجرءوا على ذكر مصر خوفا من الإنجليز) ومن بحر الروم حتى بحر عمان، ويرأسها سلطان عربي ذو حكومة دستورية حرة (!) وأما ولاية الحجاز الحالية وفيها المدينة المنورة (وقد أرادوا إيهام المسلمين بالمحافظة على الأماكن المقدسة، وحفظوا نصيب شريف مكة الذي لم يكن يطمع في أكثر من ذلك) فيتألف منها مملكة مستقلة يحكمها ملك جامع بين كونه ملكا وخليفة جميع المسلمين (؟!) وبهذا تحل العقدة الكبرى في الإسلام وهي التفريق بين السلطتين المدنية والدينية. ا.ه. المنشور الذي كتب بإيعاز فرنسا.
وقد جاء الدستور العثماني في 1908 محبطا لآمال أوروبا، لأن جميع العناصر العثمانية وفي مقدمتهم العرب نالوا قسطهم الأوفى من الحقوق الدستورية، ولكنهم لم يلبثوا طويلا حتى أيقظوا الفتنة النائمة حينا وأوعزوا إلى العرب أن يطالبوا باللامركزية، فرفض رجال «تركيا الفتاة» مطالبهم لأن اللامركزية معناها الاستقلال الداخلي فالانشقاق الذي كان يرمي إليه ساسة الاستعمار. وبعد الدستور العثماني عقد مؤتمر عربي (اقرأ فرنسي سوري) في باريس وهو الذي كانت رياسته معقودة للمسكين الزهراوي الذي دفع حياته ثمنا لكرسي الرياسة على يد جمال باشا، وكنا قد قابلناه في سنة 1910 بالأستانة وهو إذ ذاك عضو مجلس الأعيان ومتمتع هو ورفاقه العرب النواب في المجلسين بالكرامة والاحترام، وينشر جريدة أسبوعية للدفاع عن حقوق العرب في شارع نوري عثمانية. وقد نجا من الشنق بعض الرجال الأذكياء الذين لم يكن لهم ضلع مع الفرنسويين، أمثال صديقنا الكريم الأستاذ صاحب السعادة د. ل. رئيس ع. م. بدمشق، فإن هؤلاء كانوا يميلون إلى نصرة العرب في حدود الوطنية العثمانية ولم ينضموا يوما إلى أعداء الدولة الذين خانوها وهم يعلمون أو لا يعلمون.
وبعد أن أعلنت الحرب العظمى وانضمت تركيا للألمان عاد المستعمرون وكلهم من الحلفاء إلى الخطة الأولى، فأوعزوا إلى شريف مكة بإشعال نار الفتنة فقدح الشريف حسين زنادها. وكانت بريطانيا ظهيرة تلك الثورة تمدها إمدادا كبيرا عن سعة وسخاء بالمال والرجال، ومن هؤلاء كولونيل لورنس الشهير الذي أطلق عليه لويد جورج لقب «ملك العرب غير المتوج». وقد نسبوا إلى هذا الرجل العجائب في الذكاء والشجاعة والفطنة وإتقان اللغة العربية بجميع لهجاتها، والقدرة على التخفي والزوغان، ومهارة الهرب، حتى يخيل للسامع أنه أحد أبطال القصص القديمة! والحقيقة أنه لم يكن على شيء من ذلك، وكل أمره أنه كان محملا بقناطير الذهب يوزعها ذات اليمين وذات الشمال، ويملك زمام زعماء العرب بالأصفر الرنان، وكل ما ينسب إليه من حذق ودهاء وسرعة خاطر وعلم واسع باللغات إنما هو من صفات الجنيه الإنجليزي جلت قدرته! وقد رأينا في قسم آخر من هذا الكتاب كيف كان أثر هذا الجنيه في فتح مصر وفي شراء ذمم العرب لعهد بالمر المستشرق الشهير.
نعم لم يكن الفعل كله لليرة والدينار، ولم تكن خيالة القديس جورج المرسوم على أحد وجهي الجنيه الإنجليزي (لأن العرب كانوا يرفضون تسلم أي نقد سواه) هي وحدها التي كسبت القضية لجانب الحلفاء، فإننا لو قلنا بذلك نكون قد هضمنا كل حقوق العرب وأنزلناهم منزلة اللصوص والخونة وقطاع الطريق الذين لا يرعون إلا ولا ذمة، بل إنه كان في هذا الهياج الجنوني ضد الترك نصيب للوعود الخلابة التي أدلى بها الحلفاء وهي وعود استقلال العرب وتقرير المصير. ويظهر أن العرب لم يطلبوا المساعدة المادية التي كانت تنهال عليهم انهيال المطر (حتى إن الوسطاء بينهم وبين الحلفاء قبل الاتصال المباشر أثروا واستغنوا، ومنهم قوم في مصر لا يزالون يمرحون في ثمار خيانتهم للشرق والإسلام والعرب)، بل طلبوا قطع العهود والوعود الباتة التي لا ريب فيها بأن ثورتهم هذه التي يشبون نارها سيكافئون عليها بإنشاء دولة عربية. ففي 25 أكتوبر سنة 1915 (وهذا تاريخ مهم يجب أن يحفظ) سلم مندوب إنجلترا بمصر المدعو هنري مكماهون، أو «مهما يكون»، إلى ممثل شريف مكة في القاهرة صك عهد تعهدت بموجبه بريطانيا العظمى - على شريطة قيام العرب بالثورة - بالاعتراف باستقلال العرب في الإمبراطورية العثمانية، فيما عدا جنوب العراق حيث المصالح البريطانية تقتضي اتخاذ تدابير مخصوصة في شأن السلطة الإدارية (وقد قيل في ذلك الحين إن ذلك كان ينصب على ميناء البصرة ليس غير) «وأيضا فيما عدا المناطق التي ليست بريطانيا العظمى حرة في التصرف بشئونها تصرفا منافيا لمصالح فرنسا.»
ولم يطلب ممثل شريف مكة تفسيرا لهذه الفقرة الأخيرة، لأنه لا ريب كان داخلا في المؤامرة ضد الشرق وكان يتقاضى مرتبا من الوكالة الإنجليزية إن لم يكن من الغباء والغفلة بأعظم مكان، ولكن الحقيقة أنه كان مأجورا على الصمت والقبول ولعله فسر نص هذه الفقرة لمولاه بأن هذه العبارة الشاذة في صك مكماهون تنصب على منطقة لبنان الضيقة فتهللوا فرحا وسرورا.
قال الأمير شكيب أرسلان في أحد تعاليقه القيمة على كتاب «حاضر الإسلام»: «هؤلاء الذين آمنوا وصدقوا وفرحوا ليسوا كل العرب، بل إن قسما من العرب كانوا يعرفون ما وراء الأكمة وطالما نبهوا وحذروا قومهم من الوقوع في الشرك فلم يجد تحذيرهم فتيلا، وما لنا وما للتذكير بما كل أحد يعرفه فما يوم حليمة بسر؟!»
والحقيقة التي يشير إليها الأمير شكيب أرسلان هي أن الحكومتين الفرنسوية والإنجليزية قد اتفقتا على تقسيم بلاد العرب والعراق أي على تقسيم تركة الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ، فكانت المنطقة البريطانية مشتملة على جنوب العراق عند رأس خليج العجم وكانت المنطقة الفرنسوية مشتملة على لبنان، فبادرت وزارتا الخارجية البريطانية والفرنسوية في عقد الوثائق والمساومات على السلع فوقعت الحكومتان في 5 مارس سنة 1915 - أي قبل صك مكماهون بسبعة أشهر - معاهدة سرية خولت فرنسا بمقتضاها حق التمتع بالتقدم على سواها في سورية وخولت بريطانيا مثل ذلك الحق في العراق.
صفحة غير معروفة