عالم تركستاني يتجسس على الأتراك
فلما استتب الأمر للاتحاديين بدءوا يفكرون في تنفيذ الخطة، فاتفق أمرهم على إيفاد مائتي ضابط من أمهر رجال الجيش وأعلمهم وأشجعهم وكلفوهم بالسفر إلى تلك الأقطار النائية تحت ستار المشيخة والأساتذة والدراويش، فأتقنوا التخفي وساروا إلى أواسط آسيا حيث انتشروا واتصلوا بالمدارس الأولية يعلمون الأطفال ويبثون فيهم روح الرابطة الطورانية في سر وخفاء. وكانت الحكومة العثمانية التي اتخذت لهذا الأمر ما يحتاج إليه من الحيطة والحذر قد حفظت حقوق هؤلاء الضباط في الترقي والمرتبات حتى لا يضيع عليهم الوقت الذي يصرفونه في غاية الإمبراطورية السامية.
وقد أقام هؤلاء الضباط المعلمون نحو سنتين لقوا فيهما أكثر مما كانوا ينتظرون من حسن الاستعداد وكمال القبول، ولمسوا بأيديهم علائم النجاح التي تبشر بتحقيق هذا الحلم الجميل.
ويظهر أنه في أثناء تلك المدة أخذ الكتاب الأتراك في العاصمة ممن اقتنعوا بصحة الرأي يدعون إليه بالكتب والمقالات حتى بالأناشيد والقصص. ولما كان أمر كهذا لا يمكن أن يبقى سرا مكتوما على رجال الخفية والجواسيس الروس وغيرهم، فقد اشتموا رائحة الخبر بما حرك شكوك حكومة بطرسبرج، فأوفدت عالما مسلما تتريا ووكلت إليه تحقيق الأمر في الآستانة، فسافر إليها محاطا بمظاهر الصلاح والتقوى، وأظهر من ضروب الوطنية التترية والطورانية ما جعل زعماء الاتحاديين يتصلون به ويأمنون جانبه ويفضون إليه بحقيقة الأمر، وقد طالت إقامته عاما.
وعندما عزم على الرحيل زودوه بالمال والكتب وأطلعوه على أسماء الضباط ومهمتهم وفوضوا إليه معونتهم عن طريق العلماء والطلاب، فوعدهم خيرا وعاد محملا بالخيرات والخطط، ولكن لا ليشد أزر الطورانية، إنما ليبوح بالأسرار كلها لسادته الروس الذين أرسلوه وكانوا يدفعون إليه المرتب، فانظر إلى خيانة عالم شرقي لوطنه وإخوانه!
ولم يمض على وصوله شهر حتى صدر أمر الحكومة الروسية بالقبض على جميع الضباط الأتراك المتخفين ونفيهم من آسيا الوسطى وردهم إلى تركية أوروبا، وكان قد مضى عليهم في آسيا سنتان أو ثلاث، ولكنهم عندما وصلوا إلى الأستانة في يوليو سنة 1911 ونقلوا إلى الاتحاديين أخبار رحلتهم وإقامتهم في التركستان وسمرقند وطاشكند وبخارى وخيوه. كانت الفكرة الطورانية قد بلغت أشدها وقد ساعدتها كتب البحاثة المستشرق أرمنيوس ڤامباري المجري الذي هو في طليعة علماء الجنسيات في العالم، ولعل انتسابه إلى الشعب المجري هو الذي جعله يعطف هذا العطف العظيم البادي في كتبه ومقالاته على الشرق والترك والإسلام، ولم يكن ليون كوهين الكاتب الفرنسي ليقل عنه سعيا في نشر الفكرة الطورانية ولكن غايته كانت علمية محضة.
على أن بعض الباحثين يرى أن الفكرة التي كان رسولها أحمد أغاييف وعصبته لم تكن وليدة فرد من الأفراد ولم تكن أوروبية النشأة، إنما كانت ترجع إلى الشعب التتري نفسه الذي تذكر ماضيه الحافل بأخبار الفتح والغزو والاستيلاء على الممالك ورأى نفسه في أواخر القرن التاسع عشر رازحا تحت قهر الروس واستبدادهم وتعصبهم، فنهضوا نهضة جنسية وأظهروا من الذكاء والفطنة ما كان كفيلا بحفظ كيانهم السياسي، إلى أن جاءت الثورة الروسية الأولى في سنة 1905 فظهرت نهضتهم واعتزت. ولما كانوا يبلغون في ذلك الحين نحو خمسة وثلاثين مليونا فقد اشتمل مجلس الدوما الأول في روسيا على عدد كبير منهم كانوا في جهادهم السياسي عصبة متحدة فغالبوا الصعاب بغاية البذل في الذكاء والدهاء والحنكة حتى غدا الرأي العام الروسي على خشية منهم، فأخذ يحمل الحكومة الروسية على أن تقلل من عدد النواب المسلمين التتر كيما يقل بذلك نفوذهم في دور الحياة الدستورية الجديدة.
فإذا نظرت إلى أن البرلمان الروسي سابق للبرلمان التركي بأربع أو خمس سنين، وأن التتر ومسلمي روسيا والقريم كان منهم مهذبون وكتاب وسياسيون أمثال المرحوم إسماعيل عضبرنسكي الذي زار مصر حوالي سنة 1904 أو سنة 1905 وإسحاق عياض بك المنفي والمقيم ببرلين؛ أدركت أن الحركة الطورانية كانت حركة محتمة الحدوث، وأنها كانت ذات شعبتين الأولى في الشرق ومركزها تركستان وبطرسبرج والثانية في الغرب ومركزها في الآستانة، وأن أحمد أغاييف لم يكن إلا رسول الطورانية الشرقية إلى الطورانية الأوروبية، وقد وجدوا غير ڤامباري وكوهين رجلا منهم يعد كاتب الحركة غير مدافع هو يوسف أقشورة أوغلي المسلم التتري مؤلف «الأنظمة السياسية الثلاثة» وهو يعد بحق الكتاب الاتباعي في هذا الموضوع.
وما ناله يوسف أقشورة أوغلي بكتابه نال أكثر منه أغاييف بجريدة «تورك يوردي» أو الوطن التركي التي كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم الطوراني.
خرافة الدب الأبيض
صفحة غير معروفة