ولا يقل فضل شوكت علي عن فضل أخيه، فقد كان مربيه وصديقه وقد خطب في جمعية الشبان المسلمين 30 يناير سنة 1931 باللغة الإنجليزية، فذكر فتوح الإسلام وهمة العرب ونهضة الشرق، ثم قال: «إنني ربيت أخي ثم صرت له تلميذا، وكنا نعيش في بداية أمرنا كما يعيش الإنجليز نحلق لحانا وشواربنا ونلبس الثياب الأجنبية ونشترك في الألعاب السكسونية ونتقنها، وقد بنينا دارا على الطراز الإنجليزي وأثثناها على الطريقة البريطانية وأخذنا نستقبل أضيافنا من الأجانب فكانوا يأكلون طعامنا ويشربون شرابنا ويطعنون في شعبنا أمامنا ثم يحتقروننا في قلوبهم، فلما بانت لنا الحقيقة خلعنا ثيابهم وأرخينا لحانا لتكون احتجاجا على الظلم الأجنبي ورضينا بالثياب الوطنية التي تستر أجسامنا وتقينا البرد، وهي أقل في مظهرها من الثياب الإفرنجية الفاخرة ولكنها صنع أيدينا وبضاعتنا التي نفتخر بها. ومنذ صار لنا هذا المظهر الإسلامي الشرقي أخذ الإنجليز ينظرون إلينا بعين الاحترام والاعتبار ويعتبروننا أشخاصا نمثل الإسلام والشرق فكفوا عن احتقارنا، ونحن كففنا عن مظاهر الثروة ورضينا بالكفاف والزهد في العيش.
ومن أغرب ما حدث أنه في صبيحة إلقاء هذه الخطبة البريئة انبرت سيدة سورية تنتمي إلى العقيدة المارونية في إحدى الصحف السورية الموالية لفرنسا في الشرق تنتقد وترغي وتزبد وادعت باطلا أن خطبة شوكت علي تعني وجوب مقاطعة كل فكرة جديدة وكل أسلوب مستحدث والاكتفاء بما خلفه الماضي من الأفكار والأساليب ووسائل المعيشة، ولم تكن تلك الآنسة أو السيدة قد حضرت الاجتماع أو سمعت الخطاب الذي ألقاه مولانا شوكت علي ولم تكن قرأته في الصحف ليدلها على حقيقة أفكاره، ولكنها كانت آلة في يد أعداء الشرق والإسلام الذين أوعزوا إليها أن تهاجم شوكت علي وتتهمه باطلا بأنه يدعو إلى الرجعية والقهقرى وينشر فكرة المقاطعة والرجوع إلى الماضي واحتقار أوروبا ومدنيتها، وهذه شنشنة عرفناها من أخزم.
وفي الحق أن تلك الكاتبة المسترزقة وسادتها وأساتذتها ليس لهم دخل في شئون الإسلام كما أننا لا دخل لنا في شئون الموارنة أو الكثالكة، ولكنها سلاطة وإسفاف وغدر مبيت تظهر بوادره كلما سنحت من المصلحين سانحة، فهؤلاء القوم الذين آواهم الإسلام وفرش لهم وأنامهم وأسعدهم في كنفه، يفتئون يحاربونه بكل سلاح ولا يخجلون أن يسخروا صبيانهم ونساءهم لمناوأته. ومما يدل على جهل تلك الكاتبة وتعصبها وعدم فهمها الخطابين اللذين ألقاهما الثعالبي وشوكت علي في ذلك الاجتماع أنها خلطت بين الخطابين خلطا مدهشا.
فقد كان موضوع الثعالبي «انتشار الإسلام بغير حرب ولا سلاح»، وكانت خطبة شوكت علي شكرا للذين احتفلوا به وعزوه في أخيه، فسرد الثعالبي وقائع تاريخية تؤيد نظريته وهي نظرية جاء بها كثيرون من المؤرخين الإفرنج في كتبهم، مثل
G.H. Wells
وستودارد ومؤلف تاريخ عبد الحميد وغيرهم، وكلام شوكت خاص بتاريخ أخيه وأعماله في الهند. ومع هذا التباين العظيم في الموضوعين ومع حضور مئات من العلماء والأدباء لدى إلقاء الخطابين المختلفين، فإن السيدة الكاتبة المارونية الملة والمتعصبة النزعة قالت في استهلال مقالتها:
ومع أن خطاب الأستاذ الثعالبي كما نشرته الصحف في وصف الاجتماع الذي أقامته جمعية الشبان المسلمين أوفر إسهابا، فإنه في الجوهر وفي طائفة غير يسيرة من التفاصيل متوافق وخطاب مولانا شوكت علي، فحمدنا للأستاذ الثعالبي بيانه عن روح السلم والسماحة في الإسلام كما حمدنا لكل من الزعيمين الكبيرين محبتهما لهذا الشرق العظيم ورغبتهما في إنهاضه وتحريره وإسعاده باستعادة مجده السالف.
ولكن هذه مقدمة، ولين مدخل، واستدراج للقارئ ليتناول السم المدسوس في الدسم، وهذه طريقة تنبئ بحسن القصد وسلامة النية والتجرد عن الهوى ولكن وراءها الغدر والنكاية وإيغار صدر أوروبا والسلطات الحاكمة في الشرق على هذين الزعيمين، فإنها بعد أن نبهت إلى أنهما زعيمان يرميان على إنهاض الشرق حذرت أوروبا منهما لأنهما رجعيان ومتعصبان يقولان بمقاطعة أوروبا في أفكارها وبضائعها. قالت:
وقد استوقفنا من خطابي الزعيمين القول الواحد الذي يعني وجوب مقاطعة كل فكرة جديدة وكل أسلوب مستحدث والاكتفاء بما خلفه الماضي من الأفكار والأساليب ووسائل المعيشة.
واستمرت على هذه النغمة تنسج خيوطها وحبائلها للوقيعة والفتنة، وهذا من أشنع أنواع التجسس والاختلاق والبلاغ الكاذب والنميمة التي يجب على كل عاقل أن يتبينها قبل أن يأخذ بها أو يصدقها، عملا بنصوص القرآن الكريم وأحكام القوانين.
صفحة غير معروفة