53

ولم أفارق المنزل بحملي من الكتب على دفعتين أو ثلاث حتى اعتقدت الخطيبة أنني أنوي الرحيل، وأهم بفسخ الخطبة التي لم تنعقد قط بكلمة تصريح أو تلميح ... وعزز اعتقادها عندها أنني كنت أحمل كتابي للمطالعة إلى حقل من حقول الليمون بجوار جدول في طريق كنيسة، فقيل لها: إنه يهيم بفتاة قبطية هناك، وإنه يؤجل مسألة الزواج بها لأنها مشكلة لا تنحل إلا إذا انحلت بينهما مشكلة الاختلاف في الدين ...

وأين أنتم يا أصحاب المنازل الغافلين عن سكانه وعن زواره وجيرانه؟ إن ساكنكم الأعزب ليستعد للهرب بالأجرة المتأخرة عليه ... فإن لم تصدقوا فتربصوا له في الطريق، وانظروا إليه وهو يحمل كتبه دفعة بعد دفعة؛ ليترك لكم حجرتكم خواء خلاء، لا يعوضكم عن أجرتكم الضائعة إن حجزتم عليه!

وصدق أصحاب المنزل الغافلون، أو المزعوم عنهم بالباطل أنهم غافلون ...

وحيل بيني وبين أول «رصة» من الكتب خرجت بها بعد هذه الوشاية، وكادت أن تكون مشاجرة ريفية من طراز الشجار بالنبوت على الحقوق الضائعة، ولكن الله سلم، وألهمني أن أسلم الكتب وأمضي بسلام ...

وفي يومها اقترضت أجرة السفر للعودة إلى أسوان ...

وفي اليوم التالي لوصولي إلى أسوان، أرسلت منها حالة بريدية إلى صديق لي من أبناء الإقليم يدير محلا مشهورا لبيع الطرابيش وتركيبها ...

وانتهى كيد حواء ليلحق به كيد المقادير التي لا تقع في حسبان ...

فقد كان صاحبنا الطرابيشي ممن اشتركوا في ترويج الطربوش الأبيض احتجاجا على دولة النمسا التي كانت تصدر إلينا الطرابيش الحمراء؛ لأنها أعلنت ضم بلاد البشناق إليها من أملاك الدولة العثمانية، فقاطعها المصريون، واستغنوا برهة عن الطرابيش الحمراء بالطرابيش البيضاء ...

واضطغنها وكلاء المعامل النمسوية في القاهرة، فنصبوا فخاخهم وحبائلهم لجماعة التجارة الذين اشتركوا في حركة المقاطعة، ومنهم صديقنا الطرابيشي من إقليم أسوان ...

فلما وصلت الحوالة البريدية إلى القاهرة ضاعت في تيه الحراسة، والحجز والتصفية، وإجراءات «السنديك» وأمناء الحسابات ...

صفحة غير معروفة