ولادة قلم
قلم يشق طريقه
الصحافة قبل خمسين سنة
أزمة قلم
بين الأمل واليأس
بين الوظيفة والصحافة
في الحرب العالمية الأولى
بين الموت والحياة
ذكريات وشخصيات
في أرض الميعاد
صفحة غير معروفة
دين وفلسفة
في الشعر العربي
أدب وفن
المدرسة الرمزية
ولادة قلم
قلم يشق طريقه
الصحافة قبل خمسين سنة
أزمة قلم
بين الأمل واليأس
بين الوظيفة والصحافة
صفحة غير معروفة
في الحرب العالمية الأولى
بين الموت والحياة
ذكريات وشخصيات
في أرض الميعاد
دين وفلسفة
في الشعر العربي
أدب وفن
المدرسة الرمزية
حياة قلم
حياة قلم
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
ولادة قلم
ألا أعرف نفسي؟
سؤال نسمعه كل يوم ولا نجيب عنه، ولا يجيب عنه قائله؛ لأنه في عرفنا جميعا غني عن الجواب، أو جوابه بلسان الحال يغني عن جوابه بلسان المقال، وكأننا نقول لكل من يسأله: عفوا ... كيف لا تعرف نفسك؟ ... تعرفها بالتحقيق!
ومع هذا أقول بعد تجربة طويلة للبواعث النفسية التي تدفعني إلى أكبر الأعمال وأصغر الأعمال على السواء: إن الإنسان يعرف نفسه بالتخمين لا بالتحقيق، وإنه كثيرا ما يكون في تخمينه عنها غريبا يبحث عن سر غريب، ولا فرق في هذا بين البحث عن أعمالنا، والبحث عن أعمال غيرنا إلا في الدرجة والمقدار، بحكم العادة والتكرار.
حديث مع نفسي!
إنني أعمل في تحرير الصحف من خمسين سنة، وكنت أكتب لها متطوعا قبل ذلك بسنوات قليلة ... وأزيد القارئ فأقول: إنني منذ بلغت سن الطفولة وفهمت شيئا يسمى المستقبل لم أعرف لي أملا في الحياة غير صناعة القلم، ولم تكن أمامي صورة لصناعة القلم في أول الأمر غير صناعة الصحافة.
ولكنني مع هذا أسأل نفسي الآن كما سألتها من قبل: لماذا اخترت هذه الصناعة دون غيرها في طفولتي، وجعلتها أملا من آمال الحياة الكبرى ... بل أمل الحياة الأكبر؟ فلا أدري باعث هذا الاختيار على سبيل التحقيق، ولا أستغني فيه عن التخمين أو التخمين الكثير، بعد المقارنة بين ذكريات الطفولة وملابساتها، وبعد الترجيح من هنا والشك من هناك، كما يفعل الباحث في السير والتراجم حين يعمد إلى التخمين عن حياة الآخرين.
وأكثر من هذا: إنني «أضبط» نفسي وهي تروغ مني، وتحاول أن تقنعني بوجهة غير الوجهة التي تعنيها أو تعنيني، ثم نتلاقى مبتسمين، وأكاد أسألها: أأنت هنا؟ وتكاد تسألني: وها أنت يا صاح؟ ... ثم لا نلبث أن نعلم أننا لم يفهم بعضنا بعضا من الكلمة الأولى، وأننا نحتاج بعدها إلى كلمة أو كلمات نثوب بعدها إلى التفاهم والاتفاق. •••
صفحة غير معروفة
قلت: إنني لم أعرف لي في طفولتي أملا غير صناعة القلم.
وهذا صحيح ...
وهذا غير صحيح ...!
صحيح إذا نظرنا إلى الوجهة القصوى في نهاية الطريق.
وغير صحيح إذا نظرنا إلى عطفة هنا أو منعرج هناك، أو زقاق بين بين في أثناء الطريق ...
كلا! بل تمنيت حينا أن أكون جنديا، وتمنيت حينا أن أكون عالما زراعيا، وهما فيما يبدو صناعتان متباعدتان!
ولكنني لم ألبث أن علمت أنني تعلقت بالجندية لأنني أريد صناعة القلم، وتعلقت بالعلوم الزراعية لأنني أريد صناعة القلم، وأن صناعة القلم كانت تلمحني بعينيها الساحرتين من وراء النقاب، وأنا أحسبني أغازل صناعة السيف، أو أغازل صناعة المنجل والمحراث ...
حادث مع قومندان الإنجليز
كانت لعبة الجيوش في أواخر القرن التاسع عشر لعبة الأطفال المفضلة في أسوان، وكانت دروب المدينة وحيشان المدارس والمكاتب ميادين قتال لا ينتهي بين جيش مصر وجيش السودان وجيش الدراويش وجيش الترك وجيش الإنجليز ... وكلهم بين قادة وجنود من صغار الأطفال الذين لا يجاوزون العاشرة؛ لأن المسألة كانت جدا - ولم تكن لعبا فحسب - مع الأطفال في هذه السن على الخصوص؛ إذ كانوا يسمعون أن الدراويش إذا دخلوا قرية قتلوا رجالها، وسبوا نساءها، وحملوا أطفالها مطعونين على أسنة الحراب، فلا جرم تشغلهم هذه الحرب عن كل شاغل من شواغل الخطر والخوف، فضلا عن شواغل الألعاب ...
ومما أتمثله أمامي حتى الساعة، وأبتسم له كلما تمثلته: منظر زميلنا المقدام «عبد المعطي فرج» قائد الجيش السوداني المغير على مكتب «القومندان» في المعسكر الإنجليزي، وهو يصيح وأذنه في يد القومندان الجبار: «مش أنا يا عمي ... مش أنا والله يا مستر ...» ويكاد القومندان يقهقه وهو يدفعه إلى الخارج، ويزجره قائلا: «سأعلمك كيف تنط يا خنزير!»
صفحة غير معروفة
ذلك أننا في هذه الهجمة زدناها حبتين، ولعلها زادت في الحقيقة أكثر من حبتين!
قررنا - نحن قادة الجيوش المصرية - والسودانية أن نهجم حقا على القومندان الإنجليزي في معقله بجانب المدرسة، وكان هذا القومندان رجلا صارما يخافه الإنجليز من مرءوسيه، ويستعيذ من شره أهل المدينة الخاضعون لأحكامه العرفية، فما هو إلا أن سمع دبة عبد المعطي تحت السور حتى وثب إلى الباب مستغربا أن يجترئ أحد على اقتحام مكتبه هذا الاقتحام في وضح النهار، وفتح الله على قائدنا المغوار - عبد المعطي - بالعذر الوحيد الذي لا يقبل التصديق في هذا الحرج الشديد: أذنه بين أصبعي الرجل، ولسانه يصيح: إنه ليس هو المقبوض عليه.
على الربابة!
هذه اللعبة - لعبة الجيوش - كانت شغلنا الشاغل في المدينة التي لا لعب ولا لهو فيها، وكانت من جانبي أنا على الأقل لعبة عسكرية أدبية في وقت واحد ... لأنني كنت قائد الجيش المصري الذي يطلب المبارزة من الأعداء، ويطلبها على الطريقة العنترية الهلالية اليزنية المشهورة في ملاحم شعراء الربابة، فلا يبدأ الصدام قبل تبادل الشعر الحماسي على حسب المقام ...
وكان زملاؤنا - أو أعداؤنا - يستعينون في تحضير هذه الحماسيات بشعراء الربابة، الذين امتلأت بهم قهوات البلدة في أيام الحملة السودانية، وأغنوها عن المسارح، وملاعب البهلوانات والقرقوزات؛ لازدحام المدينة بالجنود والباعة من أبناء الصعيد - طلاب هذا الضرب من القصص والأناشيد - ومن لم يجد من الطلاب بغيته عند شاعر الربابة طلبها في بيت هنا أو قطعة هناك من كتب المحفوظات أو روايات التمثيل، وفيها الكثير من مواقف الفخر والحماسة، أو مواقف التخويف والتهويل.
وكنت أنا قد جربت نظم الشعر في بعض المقاصد المدرسية، فشجعتني التجربة على نظم الأناشيد الحماسية لميدان المبارزة، وأردت أن أثبت للسامعين أنني صاحب تلك الأناشيد، فالتزمت في نظمها أن أذكر اسمي كاملا في كل قطعة منها، وانتصرت بها انتصارا أعظم من انتصار القتال؛ إذ أوشكت المناوشة كلها أن تنحصر في الاستماع إلى قصائد الفخر والحماسة بغير قتال ...
وانتهت مدتي في الجندية بنهاية هذه الجندية المتطوعة! ... فلم يعسر علي أن أفهم أن حماسة النشيد هي بيت القصيد عندي من الجندية والتجنيد، وأنها كانت منفسا للملكة الناشئة التي لم تستقر بعد على قرار ...
سر الولع بالزراعة
أما الولع بالعلوم الزراعية، فلم ألبث أن علمت أنه في دخيلته ولع بتطبيق الأشعار التي كنت أقرؤها عن الأزهار والعصافير، والحدائق وجداول الماء والأنهار ... وربما كان مدخلها إلى نفسي أعمق من ذلك، وأخفى مكانا على النظرة الأولى التي نظرتها بها يوم ذاك، فإن علوم الزراعة تعين على مراقبة أطوار الحياة، وغرائب الحيوان والنبات، وليس أوثق من العلاقة بين الدراسات النفسية، وبين تلك الغرائب والأطوار، ولا أراني حتى الساعة أوثر كتابا في سيرة علم من أعلام التاريخ على كتاب في طبائع الأحياء والحشرات، أو آثارها القديمة في بقايا الحفريات ...
كانت أمنية الجندية وعلوم الزراعة إذن ترجمة لأمنية الكتابة مستعارة في صورة من صور الصناعات الأخرى، وبخاصة حين نذكر أنها كتابة لا تخلو من نضال، ولا تخلو كذلك من زراعة ولا من عناية بالحياة والأحياء.
صفحة غير معروفة
ومثل هذه الترجمة فيما أظن معهودة في كل محاولة ناشئة قبل أن تستقر على قرارها، فلا يزال الناشئ يتمنى شيئا بعد شيء، ويجهل ما يتمناه حتى يثبت فيه على القرار الأخير ... ويومئذ يعلم أنها كانت جميعا أمنية واحدة في باطنها، وأنه كان بينه وبين نفسه في هرب ولقاء كأنهما في طراد البحث والاستخفاء.
أول مجلة
وأحسبني حتى الساعة لم أبلغ من معرفة الباعث الصحفي في نفسي مبلغ اليقين الجازم الذي لا رجعة فيه، ولكنني على يقين جازم من أنني أنشأت صحيفة في طفولتي الباكرة، وأنني لم أنشئها قبل أن أطلع على ودائع دولاب المنظرة في بيتي، وأكثر ما فيه صحف أسبوعية أو شهرية قديمة، وأكثر هذه الصحف القديمة من مجلات عبد الله نديم، وليس بينها أكثر عددا ولا أكبر حظوة عندي يومذاك من مجلة «الأستاذ».
ودولاب المنظرة مستودع عزيز يعرفه أبناء الريف، ولا تخلو منظرة في بلدة ريفية من دولاب منه على الأقل، يفرغ في جوف الحائط، ويقام عليه باب بمفتاح أو بغير مفتاح، ويغلب أن يكون بغير مفتاح؛ لأن الودائع التي يحرص عليها أصحابها لا تودع في المناظر على متناول الداخل الغريب.
وعلى تعداد الصحف في دولاب المنظرة عندنا لم تكن بينها صحيفة أبرع في العناوين من صحف عبد الله نديم، وكان هذا الصحفي المطبوع أستاذ زمانه، بل لعله أستاذ من أساتذة العناوين في كل زمان ...
من عناوينه عنوان «كان ويكون» للترجمة، وعنوان «التنكيت والتبكيت» لاسم صحيفة، وعنوان «المسامير» لكتاب هجاء، وعناوين أخرى بهذه البراعة لعشرات من الفصول والأخبار.
معارضة النديم!
ولفتتني العناوين البارعة فقرأت كل ما وجدته من صحف النديم، ووجدتني ذات يوم أقطع الورق قطعا على قدر المجلة، وأعمد إلى مكان العنوان منها، فأكتبه بخطي متأنقا، وأعارض عنوان «الأستاذ» بعنوان «التلميذ».
أما المقالة الافتتاحية فقد كانت أيضا من قبيل المعارضة لمقالة من أشهر المقالات، التي تردد صداها زمنا في البيئات المصرية، وهي المقالة التي جعل عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، وافتتح بها الجزء الثاني والعشرين من السنة الأولى.
فكتبت مقالي الافتتاحي وجعلت عنوانه «لو كنا مثلكم ما فعلنا فعلكم».
صفحة غير معروفة
وكان فحوى مقال النديم أننا نطلب الاستقلال، وندعي أننا والأوروبيين أشباه وأمثال، ولكن الأوروبيين ينكرون هذه الدعوى، ولا يكلفون أنفسهم غير دليل واحد يثبتون به الفارق البعيد بيننا وبينهم، فإذا قلنا لهم: نحن مثلكم قالوا لنا: تلك دعواكم، ولو كنتم مثلنا لفعلتم مثلنا ...
واستغرقت مقالة النديم أكثر من عشرين صفحة ختمها بقوله:
إن آخر الدواء الكي وقد بلغ السيل الزبى، فإن رفأنا هذا الخرق وشددنا أزر بعضنا ... أمكننا أن نقول لأوروبا: نحن نحن وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجانب فريقا بعد فريق، حق لأوروبا أن تطردنا من بلادنا إلى رءوس الجبال؛ لتلحقنا بالبهيم الوحشي وتصدق في قولها: لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
وتناولت في مقالي فقرات النديم واحدة واحدة بردود لا أذكرها الآن، ولكني أذكر منها ما يدل عليه العنوان، وفحواه أننا - نحن الشرقيين - لو كنا مثلكم - أيها الغربيون - فاتحين منتصرين لما فعلنا فعلكم من نهب الأموال، واستباحة الحقوق وافتراء الأكاذيب والتعلل بالمواعيد، ولكننا لسنا مثلكم ولا نريد أن نفعل فعلكم، وسترون فعلنا عما قريب ...
ثم أصدرت من صحيفة التلميذ المخطوطة بضعة أعداد لم يكن لها من قراء غير زملائي في المدرسة، وأقاربي المشجعين أو المتندرين المتفكهين، ولم يكن لها من اشتراك غير تعب النسخ لمن يراها مستحقة لهذا الثمن ...
عادة ... من أيامها!
إخالني الآن على حق إذا قلت: إن هذا السر - سر دولاب المنظرة - هو كذلك سر الاتجاه الأول عندي إلى صناعة القلم، ويؤيد هذا الظن الراجح أنني تعودت من أيامها عادة لم تفارقني إلى اليوم في تجهيز ورق الكتابة الصحفية بصفة خاصة ... فهذه الورقة التي أكتب عليها الآن مقصوصة على النحو الذي اخترته لصفحات مجلة «التلميذ» ... ومتى كتبتها طويتها طولا كما تطوى المجلة، ووضعتها في غلاف مستطيل كالغلاف الذي توضع فيه المجلات، وقد اتخذت من هذه الأوراق ومن ذلك الغلاف ذخيرة حاضرة أوصي بصنعها إذا نفدت من السوق، كما تنفد أحيانا في بعض أيام الحروب العالمية. •••
وعلى هذا النحو من التخمين نعرف أنفسنا باحثين مترددين، قبل أن نصل إلى اليقين، إن وصلنا إلى يقين ...
لكنني لا تفوتني كلمة سمعتها من صديق كان يناقشني كلما تساءلت عن سر اتجاهي إلى صناعة القلم، فيقول: وهل من حاجة إلى البحث عن سر لهذا الاتجاه؟ ألا يكفي أنك أنست من نفسك القدرة على الكتابة، فاتجهت إلى صناعة الكتابة؟ ...
ولست على رأي الصديق في هذا التعليل لاتجاهاتنا النفسية، فإن الملكة النفسية تخلق فينا قبل أن تخلق لها أدواتها، وربما كانت سهولة الكتابة عندي نتيجة مستفادة من سهولة القراءة، ولم أكن قارئا إلا لأنني سأكون كاتبا يوما من الأيام متى تيسرت الأداة.
صفحة غير معروفة
على أن شعور الطفل بقدرته على الكتابة لا يأبى عليه أن يتمنى الوزارة، أو يتمنى الوجاهة الاجتماعية، أو يتمنى صناعة القلم مبتدئا بعمل من الأعمال الكتابية غير الصحافة، ولست أعتقد أن مئات الأطباء والمهندسين والصناع، وذوي الملكات المنوعة الذين ظهروا من أبناء جيلنا قد استلهموا اختيار صناعاتهم من وحي القدرة على علم من علومهم المدرسية، بل لعلهم توجهوا وجهتهم في مستقبلهم على الرغم من جميع تلك العلوم.
جيل وجيل
كان عبد الله النديم أستاذ مدرسته في الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل بين واحد من اثنين: إما تلميذ يقتدى به، وإما خصم يبغضه وينحى عليه ...
ونشأ مصطفى كامل في هذه المدرسة، وكان خصوم النديم يزعمون أن الخديو لم يعرض عن الأستاذ ويقبل على التلميذ إلا لأن أبناء الأسرة الخديوية غضبوا لتقريبه رجلا كان يحاربهم في الثورة العرابية، ويعمل على تقويض عرشهم، فاختار الخديو من تلاميذه شابا بعيدا عن هذه الشبهة، وميزه على أستاذه لمعرفته باللغة الإفرنجية، وقال «ولي الدين يكن» في كتابه «المعلوم والمجهول»:
من أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة على مصر: إن مقام الإمارة لا يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه، وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على «كامل»، وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية، واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك.
إلا أن الأمر لم يكن في هذه المسألة خاصة أمر اللغة الإفرنجية؛ لأن الخديو قرب إليه الشيخ علي سوف الأزهري، وهو ممن أنشئوا الصحف منافسة للنديم، وتطلعوا إلى محاكاته في المنهج والأسلوب، ولكنها مسألة المدرسة الصحفية التي كانت تحمل علم الدعوة أمام الصحافة المسخرة للدعاية الأجنبية، ولم تكن هناك مدرسة تحمل هذا العلم في أول عهد الاحتلال غير مدرسة النديم.
ويصدق هذا على جيل النديم والجيل الذي تلاه، ولكنه لا يصدق على الجيل الذي نشأ بعد ذلك بسنوات؛ لأن هذه الفترة قد اتسعت لعوامل جديدة في السياسة والتفكير تخالف العوامل التي غلبت على الثورة العرابية، أو على جيل المخضرمين بين الثورة والاحتلال.
أنا ... والنديم
ولهذا أرجع إلى ظواهر كثيرة صاحبت نشأتي الصحفية، فلا أستطيع أن أقول: إنني على الجملة من تلاميذ مدرسة النديم، وإن كان النديم أول من لفتني إلى العمل في الصحافة، وكانت مطالعته أول مطالعة وجهتني إلى هذه الصناعة ...
لا بل هناك مشابهات عديدة بين النديم وبيني لا أدري هل جاءت من وحي القدوة الخفية، أو جاءت مصادفة بغير قصد مني ولا من أحد ...
صفحة غير معروفة
فقد تعلمت صناعة التلغراف كما تعلمها النديم، واشتغلت بالتعليم في مدرسة خيرية كما اشتغل النديم، وجربت الاستخفاء على الطريقة البوليسية أكثر من مرة إبان الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعل النديم عند مطاردته في أعقاب الثورة العرابية.
ولكنني - مع هذه المشابهات - لم أشعر من قبل، ولا أشعر الآن بأن الرجل قدوتي المختارة بين أمثلة النبوغ التي أتمناها، أو بين «الشخصيات» المثالية التي أجلها وأحب أن أنتمي إليها ...
وأحسب أن المرجع في هذا الاختلاف إلى سببين: أحدهما يرجع إلى الأحوال العامة، والآخر يرجع إلى المزاج الشخصي الذي فطرت عليه ...
فالأحوال العامة في عصرنا تخالف الأحوال العامة قبيل الاحتلال، أو في الفترة بين الثورة العرابية والاحتلال؛ لأن دخول الإنجليز مصر كان مسألة دولية تعمل فيها الدولة العثمانية عملا «قانونيا»، يصح الاعتماد عليه باعتبارها صاحبة السيادة القانونية على الديار المصرية، وكانت مناورات الدول المتنافسة على فتوح الاستعمار بابا مفتوحا على مصراعيه، يتسع للمساومات والدسائس والمعاكسات، ويتعلق الأمل به من جانب المصريين ولو إلى حين ...
وهذا فيما نظن أحد الأسباب التي تحولت بأنظار عبد الله النديم وتلاميذه إلى الدولة العثمانية، وجعلت سيادة هذه الدولة على مصر ركنا مهما في برنامج مصطفى كامل، والحزب الوطني الذي قام على يديه ...
أما في عصرنا - نحن الذين ولدنا بعد الاحتلال - فقد أصبحت مسألة الاحتلال من أعبائنا الوطنية، التي لا عمل فيها للدولة العثمانية، ولا للمناورات الدولية، وإنما يقع العبء الأكبر فيها على عواتقنا نحن المصريين ... فلا يجوز لنا أن نفرط في مبدأ الاستقلال من أجل صيغة «شكلية» لا تفيدنا في جهادنا إن صح أنها كانت تفيدنا قبل ذلك ...
هذا هو سبب الاختلاف بين جيلنا وجيل النديم، فيما يرجع إلى الأحوال العامة.
وأما سبب الاختلاف الذي يرجع إلى المزاج الشخصي، فخلاصته في كلمتين: إن الرجل كان ينزع كثيرا أو قليلا إلى شيء من التهريج، وإنني نشأت في بيئتي البيتية بين أبوين محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار و«اللياقة»، ونقلت هذا الخلق منهما بالوراثة كما نقلته بالقدوة والمحاكاة ...
كل الناس ... ولا عباس!
ومما يحضرني من ذكرياتي فيما دون العاشرة أنني رفضت كل الرفض أن ألبس البنطلون القصير يوم دخلت المدرسة في نحو السابعة من عمري، وأنني رفضت أشد الرفض أن أجيب نداء المعلم حين دعاني باسم «عباس حلمي»، جريا على تقاليد ذلك العهد التي بقيت إلى الآن في أسماء المعاصرين ... فلم يكن أحد من التلاميذ يدعى باسم أبيه، ولكنهم كانوا يلقبون بألقاب حلمي وصبري ولطفي وحسني وشكري، وما شاكلها على حسب المطابقة لأسماء المشهورين، أو الموافقة لجرس اللقب ورنينه في الأسماع، فبقيت واحدا من قليلين يذكرون بأسماء آبائهم بين أبناء ذلك الجيل، ولولا إصراري على رفض اللقب المستعار لكان اسمي اليوم «عباس حلمي محمود»، كما كتب في قائمة «التصنيف»؛ أي توفيق الأسماء والألقاب.
صفحة غير معروفة
وإلى اليوم يذكر شيخاتنا وشيوخنا في الأسرة كلمة الأمهات التي كن يرددنها لأطفالهن، كلما أصابهم ما يسوءهم من التورط في المزاح معي وراء الحد الذي أسيغه، فإذا ذهبوا إلى أمهاتهم يشكون ما أصابهم كان الجواب الذي يقال بين الضحك والغضب: امزح مع من شئت يا بني ... ولكن «كل الناس ولا عباس»!
ومن الطبيعي لطفل في هذا المزاج أن ينظر إلى مثله الأعلى، فلا يراه في صاحب التنكيت والتبكيت وصاحب المسامير، وأحسبني لم أفضل الأستاذ الإمام محمد عبده على صاحبنا النديم إلا لسبب من جملة أسباب ترجع إلى هذا المزاج، فإن وقار محمد عبده هو القدوة التي أرتضيها حين أنظر إلى النديم، فيظفر مني بالثناء ولا يظفر مني بالاقتداء، وكلاهما فيما عدا هذا الخلق صنوان ينتميان إلى الثورة العرابية، وإلى مدرسة جمال الدين وإلى العمامة والبيئة الأزهرية ...
مدرستان!
وأيا كانت أسباب الاختلاف بين النديم وبيني، فالعصر الذي نشأنا فيه لا يسمح لمدرسة واحدة أن تطغى على أفكار الناشئة في كل بقعة من بقاع البلاد المصرية ... لأنه كان عصرا مزيجا مضطربا بين عصرين ذهب أحدهما، ولم يخلفه العصر القادم على رأي واضح مقسوم بين كل فئة من الناشئين وما يوافقها وتوافقه من التفكير الحديث.
كان عصرنا «برج بابل» يبنى ويعاد بناؤه بين عام وعام ...
كنا نعيش في عصر الجامعة الإسلامية على مذاهب، ونعيش في عصر الجهاد الوطني على مذاهب، ونعيش في عصر التجديد الفكري على مذاهب، ولا نرى أمامنا مذهبا واحدا في قضية من قضايانا الكبرى، وكلها مشكلات ...
فالجامعة الإسلامية مدرستان: مدرسة جمال الدين ومدرسة الدعاة الرسميين ...
مدرسة جمال الدين تعني بالجامعة الإسلامية أن تكون جامعة شعوب متيقظة مسئولة عن شئونها مرعية الحقوق مع ملوكها وأمرائها، فضلا عن حقوقها مع الطامعين المتربصين بها ...
ومدرسة الدعاة الرسميين تعمل للملوك والأمراء، وتريد من الجامعة الإسلامية أن تكون وحدة سياسية بزعامة هذا الخليفة أو ذاك من ملوك المسلمين، وأعلاهم صوتا في مصر من كان يعمل لخليفة بني عثمان ...
ومدرسة الجهاد الوطني على هذه الحال: مذهب يعتمد على مناورات الدول وحقوق السيادة الشرعية، ومذهب يستضعف هذا الرأي، ويحسب العمل فيه من ضياع الوقت على غير جدوى، وبخاصة في أمر التعويل على السيادة العثمانية؛ لأن حقوق هذه السيادة لم تكن عصمة للمعتمد عليها، بل كان مجرد الانتماء إلى الرجل المريض صاحب التركة المنتظرة - كما كانت الدولة العثمانية تسمى في ذلك الحين - ذريعة إلى ضياع البلد في معركة النزاع على التركة، أو في مساومات التقسيم والتفريق! ...
صفحة غير معروفة
بلبال!
ويزيد البرج بلبالا خليط الأصوات المنبعثة من طغمة الدعاة المأجورين المسخرين لخدمة الدسائس الأجنبية ...
فمن هؤلاء من كان يضرب المعول في أركان الدولة العثمانية جاهدا مكابرا باسم الإصلاح، والثورة على الاستبداد، وهو في باطن الأمر صنيعة للدول وسمسار من سماسرة الاستعمار الذين يقصدون في الواقع إلى هدم الإسلام، وتمكين المستعمرين من الدولة المستقلة الباقية بين بلاد المسلمين ...
ومن هؤلاء من كان يعلن الغيرة على حقوق مصر والدولة العثمانية، وهو في باطن الأمر صنيعة السياسة الفرنسية في الشرق يناوئ الاحتلال بأمرها، ويورط البلد في المشكلات تحقيقا لمآربها ...
ومنهم من كان يثير دعوة الجامعة الإسلامية؛ ليتخذها وسيلة إلى إيقاع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، تأييدا لدعوى الدول التي تستفيد من تهمة التعصب الديني، وتلوح بها لإقناع الأجانب بحاجتهم الدائمة إلى الحماية من دولة أوروبية ...
ومنهم من كان يطلب الدستور، ولكنه لا يطلبه حبا للحرية، ولا إنصافا للأمة، بل تعزيزا لسلطان الخديو ... وتمهيدا لإطلاق يده في ميزانية الدولة ووظائف الحكومة بمعزل عن دار المندوب البريطاني ومستشاريها في الدواوين ...
بلبال، وأي بلبال! ...
وأشد منه اختلاطا بلبال آخر في ميدان الفكر والثقافة، ويضطرب فيه القول بين تفكير من يعجب بالثقافة الحديثة، وبين اتهام من يزدريها بالجهل المطبق والبهيمية العجماء، وسوف نعرض لهذا البلبال الفكري في مكانه من الفصول القادمة؛ لأننا نبدأ بالكلام عن الصحافة وموضوعاتها الغالبة عليها قبيل اشتغالي بالتحرير فيها، ثم نقفوه بالكلام على غيره من الموضوعات.
بلبال يهون إلى جانبه ضوضاء برج بابل ... فأين يذهب الطفل الناشئ في دروب هذا التيه وزواياه بين مهابطه ومراقيه ...؟!
وأنا في السادسة عشرة!
صفحة غير معروفة
لا أعيد هنا كل ما عرض لي في هذا الطريق من حيرة وشك وعثرات وأزمات.
ولكنني أعلم علم اليقين أنني كنت على قرار واضح في كل قضية من هذه القضايا حين بلغت السادسة عشرة، ثم عملت لأول مرة في تحرير صحيفة الدستور ...
الجامعة الإسلامية عندي هي جامعة جمال الدين، أو جامعة شعوب متيقظة متعاونة لا جامعة ملوك وعروش تساق لخدمة هذا الخليفة أو تخليف ذلك السلطان ...
الدولة التركية نتمنى بقاءها وصلاحها، ولكننا لا نتمنى سيادتها، ولا نستمع لمن يحاربها باسم الشورى أو النقمة على الاستبداد ...
الدول الأجنبية لا تنفعنا إن لم ننفع أنفسنا، وسياسة «مصر للمصريين» هي أقوم سياسة يتبعها المصريون، ويهتدون بهديها فيما لهم من حق وعليهم من واجب ...
الحزب الوطني حزب مخلص مجتهد، ولكنه مفرط في مجاملة «يلدز» و«عابدين» مقصر في مساعيه نحو «مصر للمصريين».
الملوك والأمراء يخدمون القضايا القومية بمقدار ما تخدم عروشهم، فإن تلاقت مصالحهم ومصالح الوطن فحبا وكرامة، وإن تشعبت الطريق بين هذه المصالح وتلك المصالح، فلا خفاء بالطريق القويم ...
الحكم الدستوري لا غنى عنه، ولا وجه للمقارنة بينه وبين حكم الاستبداد بحال من الأحوال ...
داخل النطاق
منذ كتبت في صحيفة الدستور لم تخرج كتابتي عن هذا النطاق في قضية من هذه القضايا.
صفحة غير معروفة
لم أمدح الخليفة «عبد الحميد» إلا في مناسبة واحدة وهي إعلان الدستور، ويومئذ كتبت أبياتا أهنئه بها، وأسجل تاريخ السنة بحساب الحروف الأبجدية، فكان التاريخ هذه الشطرة:
قد أنشأ الدستور عبد الحميد
ومجموع حروفها بحساب الجمل «1326»، وهي السنة الهجرية التي أعلن فيها الدستور ...
ولما توفي مصطفى كامل شيعته صحيفة الدستور - وهي من صحف الحزب الوطني - برثاء أبلغ من رثاء صحيفة اللواء، ولكنني أحجمت عن رثائه بثناء خلو من النقد، وأحجمت في ذلك المقام من نقد سياسته قبل الآستانة، وقبل الخديو وقبل السيادة العثمانية، وكاشفت الأستاذ فريد وجدي بحرجي وحرج صحيفته، وهي لسان الجامعة الإسلامية الأولى ولسان الحزب الوطني الثاني بعد اللواء، فقال لي رحمه الله: إنه يفهم هذا الحرج وإنه يقوم عني بما أتحاشاه، فآثرت الصمت عن الرثاء على ثناء بغير نقد، أو نقد متحفظ، متحرج، بين مضطرب الآراء ... •••
وانقطعت الصلة بيني وبين الصحيفة بضعة أشهر لا أكتب فيها ولا أكتب إليها، ولكنني كتبت إليها مقالي الوحيد من الخارج يوم أعلن الدستور في إيران، وقلت فيه مهنئا للشاه الصغير: لو كنت في فرنسا لكان مصيرك كمصير الصبي ابن لويس السادس عشر، ولكنك تحمد الله؛ لأنك في بلد إسلامي وتحمد لشعبك - ولا ريب - جميل هذا الصنيع.
والآن - بعد نصف قرن كامل - أقول: إنني قد جربت هذا البرنامج السياسي، الصحفي، في مشكلات هذه الحقبة وأزماتها جميعا ... فحمدت مغبة هذه التجربة، ولم أجد فيما وجدته من الحوادث المتناقضة برنامجا أصح منه، ولا أصلح لقضية مصر وقضايا الأمم الشرقية، ولا أعلم أن الحوادث بعد الحوادث كشفت لنا عن خطة أهدى منه للعاملين، وأحق منه باتباع المتبعين ...
وبعد، فإنني لا أحب أن أنافق القارئ باصطناع التواضع الكاذب طلبا للثناء الأكذب، فأقول: إن الحكاية سهلة على كل من يطلبها، وإنها حكاية يطلبها كل من شاء بغير عناء ...
الاستقلال
كلا، ليس من السهل على كل ناشئ في العشرة الثانية من عمره أن يسلك سبيله بين تلك النقائض والشبهات، دون أن يروض نفسه على استقامة القصد إلى الحقيقة، واستقلال الرأي بين شتى الدوافع والمغريات ...
ولكنني أعود فأقول: إنه لا استقلال الرأي، ولا استقامة القصد، كانت كافية لهدايتي إلى سبيلي لو لم أستفد من ظروف الآونة التي نشأت فيها، وظروف البلد الذي نشأت فيه ...
صفحة غير معروفة
لقد كانت الآونة في مصر آونة نادرة، لم تمتحن فيها العقول بعد بمحنة المحن في العصر الحديث: محنة تكوين الرأي جماعات جماعات، فلا ينطوي الشاب في جماعة صاخبة حتى يحرم القدرة على نقدها ونقد سواها، فهو مع جماعته التي انطوى فيها يقبل خطأها كما يقبل صوابها، وهو مع الجماعات الأخرى يرفض صوابها كما يرفض خطأها، وإنه لخاسر مضلل في كلتا الحالتين ...
وكانت البلدة التي نشأت فيها بلدتي أسوان بأقصى الصعيد، يكاد الناشئ في مثل سني أن يأوي بها إلى صومعة من صوامع الفكر يقلب فيها وجوه النظر في كل ما يسمع أو يبصر من الشئون العامة، بغير تضليل أو تهويل ... وتهب الزوبعة القومية، فلا تفاجئنا في وسط غبارها فتعمى البصائر عما فيها، ولكنها تقترب منا رويدا رويدا فلا تصل إلينا حتى تنكشف على جلاء ...
وهل في ذلك عبرة؟
نعم ... عبر قريبة فيما نرى، فخير ما يصنعه الشاب في فترة تكوين الرأي أن يروض نفسه سنوات على النظر إلى ما حوله مستقلا عن طغيان الجماعات، فإذا دخل في جماعة منها بعد ذلك عرفها بمحاسنها وعيوبها معرفة تمييز وتقدير، ولم يعمل فيها آلة من الآلات ...
قلم يشق طريقه
صحيفة مطبوعة بعد المخطوطة
أصدرت صحيفتي المخطوطة - التلميذ - وأنا تلميذ في الثانية عشرة، لم أبرح المدرسة، ولم أملك في يدي مبلغا من المال يكفي للتفكير في طبع ورقة إن وجدت المطبعة، حيث كنت في الصعيد الأقصى ... وهي غير موجودة! ...
لكنني الآن موظف حكومة، تخرجت من المدرسة الابتدائية، واشتغلت بالقسم المالي في مديرية الشرقية، وعرفت لي مبلغا من المال أقبضه في أول كل شهر: خمسة جنيهات!
ومن هذه الجنيهات الخمسة أستطيع أن أدخر جنيها في كل شهر، وأن أجمع من هذه الجنيهات المدخرة مبلغا يكفي للإنفاق على العددين الأولين من صحيفة مطبوعة، ثم لا حاجة بعد ذلك إلى المال؛ لأن الصحيفة تباع وتأتي بتكاليفها عددا بعد عدد، أو عددين بعد عددين ...
وكنت قد عرفت شيئا عن تكاليف الطباعة في مدينة الزقازيق عاصمة الشرقية؛ لأنني اشتقت إلى بلدتي بعد أن فارقتها يافعا لأول مرة، فنظمت قصيدة على وزن قصيدة «المعري» التي يقول في مطلعها:
صفحة غير معروفة
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفان
فقلت في مطلع قصيدتي:
ذكراني نعيمها ذكراني
حبذا لو علمتما ما أعاني
وقلت منها أذكر أسوان:
لست أرجو عودا إلى أسوان
ولا يحضرني الآن الشطر الأول من البيت ...
وراقت القصيدة من سمعوها من الزملاء المتأدبين، فاقترحوا علي طبعها ليحتفظ كل منهم بنسخة منها ... وتكفل أحدهم بتقديمها لمطبعة المدينة، فلم تكلفنا ورقا وطبعا أكثر من ثلاثين قرشا لمائتي نسخة، وقيل لنا: إنها تكلفنا أقل من خمسين قرشا إذا طبعنا منها مائتي نسخة أخرى، فعرفنا السعر وعرفنا الفرق بين تكاليف طبع القصيدة وتكاليف طبع الصحيفة، وهي في تقديرنا تقع في ثماني صفحات بدلا من صفحتين.
حسبة ميسورة مشجعة، ومرتب شهر واحد يكفي للبدء في طبع الصحيفة على بركة الله!
صفحة غير معروفة
وماذا يبقى بعد الطبع مما يحتاج إلى التدبير والاستعداد؟
لا شيء!
فالتحرير مضمون بغير كلفة؛ لأنني محرر الصحيفة الوحيد ...
والتوزيع مضمون لا خوف عليه، وكيف لا يكون مضمونا وهؤلاء قراؤنا يتهافتون على اقتناء الطبعة الأولى، ويستنفدون منها مائتين في يوم أو يومين؟ •••
ومن البديهي أنني لا أصدر الصحيفة وأنا موظف بالحكومة ... ولا أطبعها، من ثم، في الزقازيق حيث طبعت القصيدة.
إلا أنها عقبة هينة لا يصعب علينا تذليلها، فليس أهون من الانتقال إلى القاهرة بعد الاستقالة من الوظيفة ، وليس أبناء القاهرة بأقل من أبناء الزقازيق إقبالا على قراءة المنظوم والمنثور ... وكنت أذهب إلى القاهرة مرة في كل أسبوع أو أسبوعين، أشهد التمثيل في مسرح الشيخ سلامة حجازي، وأزور حي الأزهر باحثا عن الكتب الأدبية القديمة بثمن رخيص ...
فذهبت إلى القاهرة، وأحببت أن أحقق وأدقق، وأستوفي المعلومات اللازمة قبل الشروع في العمل ... ووقع اختياري - لاستقصاء البحث في المسألة - على صاحب مكتبة عتيقة عظيم الخبرة بالمطبوعات القديمة والحديثة، كثير الاتصال بالصحفيين والأدباء، تعودت أن أشتري منه ما أجده عنده، وأن أوصيه باستحضار الكتب النادرة من الطبعات المرجوعة.
والواقع أن «الاستقصاء» الذي عولت عليه لم يكن ليعوقني عن المضي فيما نويت، وإنما هو مسألة شكلية على حكم العادة في الاستشارة والاستخارة ... وليقل صاحبنا ما يقول، فإنني أعددت الصحيفة كتابة وتقسيما وتبويبا وتسمية وإخطارا للحكومة، ولم يبق من معداتها شيء غير الطبع والتوزيع ... •••
وكنت أتردد بين اسمين: اسم «البيرق» واسم «رجع الصدى»، ولا أحسبني يومئذ قصدت الفرق بين الاسمين، وعنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تقود الآراء، ويلتف بها الشعراء كما يلتفون بالبيرق، أو عنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تردد أصداء الآراء، ولا تزيد على عرض الحوادث والأنباء.
لا أحسبني قصدت إلى هذه التفرقة، ولكنني انتهيت على غير قصد مني إلى تفضيل اسم «رجع الصدى» على اسم «البيرق» ... وكتبت العنوان بخطي؛ ليخرجه الحفار كما كتبته، بدعة من بدع التجديد في العناوين!
صفحة غير معروفة
ولست أنسى نظرة الكتبي العتيق إلي من تحت نظارته الملحومة في موضعين أو ثلاثة: «ماذا؟ تترك خدمة «الميري» وتشتغل بالغزازيط والجرانيل؟ إن كنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه، فانتظر هنيهة لترى مائة من هؤلاء «الصائعين» الضائعين يتمنون التراب تحت قدميك في وظيفتك ولا يصلون إليه ... لا يا صاحبي ... لا ... إنني أراك أعقل من هذا يا بني ... فلا تخيب أملي فيك ...!»
ولم يقنعني كلامه؛ لأنني لم أسمع منه جديدا عن خدمة «الميري» وقداستها في عرف أبناء جيله، ولم يزحزحني تحذيره قيد شعرة عن نية المضي في الاستعداد والتنفيذ ...
وإنما زحزحني عن هذه النية قيد فرسخ - لا قيد شعرة وحسب - منظر أو منظران من المناظر التي كانت تتكرر في كل حلقة صحفية، ولا يستغربها أحد من المتفرجين؛ لأنها من أدوات المهنة المتفق عليها ومن أدوارها التي تعاد في كل قصة، فلا يجهلها إلا الذين يجهلون الصحف والصحفيين، أو الجرنالجية وجماعة الغزازيط، وتجار التجريس والتنبيط!
كانت بجوار المكتبة مطبعة صغيرة تطبع فيها الصحف الأسبوعية، وكان «مدير» إحدى الصحف يرجو صاحب المطبعة أن يعجل بإصدار العدد، ويأبى صاحب المطبعة أن يخرج العدد، ما لم يحصل على أجرته وأجرة العدد السابق الذي صدر قبل أسابيع، ووقف المدير ينتظر وكيلا له أرسله إلى المشتركين للتحصيل، وعاد الوكيل على صورة يقصر عنها أمل المتسول الذي يريد أن يبالغ في إثبات صناعة التسول، واستدرار شفقة المحسنين والمسيئين! فصاح به المدير: ما وراءك؟
فأخرج له الوكيل إيصالا معادا من أحد المشتركين، وقال: إن الاشتراك مسدد قبل الآن ...
فسأله المدير: وأين الإيصال الآخر؟
قال الوكيل: إن الرجل قطعه ورماه في خلقتي!
فهم المدير بضربه، وهو يقول مختنقا من الغيظ: رماه في خلقتك؟ مستحيل ... إن فضيحة بيته معروفة ويخشى من الإشارة إليها بكلمة، فلا تقل: إنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة، بل قل: إنك سكرت بالاشتراك كعادتك، وجئتنا برائحة الخمر تفوح من فمك ...
وكان هذا أول الأدوار التقليدية المحفوظة، ولم يكن آخرها ولا أقبحها، وفي واحد منها الكفاية للعدول على الأقل عن الخطوة الأولى، وقد عدلت عنها إلى الآن.
ولكن لم أحتقر الصحافة
صفحة غير معروفة
إن هذه المناظر المخجلة حقرت في نظري طائفة من المتطفلين على الصحافة، ولكنها لم تحقر صناعة الصحافة، ولا نزلت بأعلامها النابهين إلى منزلة أولئك المتطفلين، ولست أعتقد أنني كنت مستطيعا أن أحتقر هذه الصناعة من أجل ذلك المنظر المخجل، ولو كنت من المستخفين بها والزاهدين فيها؛ لأن قوة الدعوة القلمية في تلك الفترة قد بلغت في القاهرة مبلغا لا يدانيه ما بلغته في عاصمة من عواصم المشرق والمغرب، ولا إخالها تبلغه اليوم ، على عظم الفارق بين صحافة اليوم وصحافة مصر والشرق قبل خمسين سنة ...
كانت القاهرة مركزا لكل دعوة تهتم بها دول العالم ذوات المطامع في الشرقين: الأدنى والأقصى، ومركزا لكل دعوة يديرها دعاة الجامعة الإسلامية، ودعاة الوحدة العربية ودعاة تركيا الفتاة، ودعاة الإصلاح في إيران وأواسط آسيا، ودعاة الحركات الوطنية في مصر نفسها، وفي سائر الأقطار الأفريقية من شمالها في بلاد المغرب إلى جنوبها في بلاد السواحل وزنجبار.
وكانت قوة هذه الدعوة تخيف الملوك والساسة على عروشهم، وعلى أرواحهم وأبدانهم، ولا تمهلهم أن يتجاهلوها أو يغفلوا طرفة عين عن أخطارها وعواقبها، وقد حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد في الآستانة، وأن رجلا شهرته دعوة القلم واللسان ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعا، وقال قاتلوهم: إنهم قضوا عليهم بالحق انتقاما لذلك الداعية الطريد: جمال الدين.
كانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز، وعيناه في شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يوما أن المويلحي الكبير - صاحب «مصباح الشرق» - دخل مكتب «المؤيد»، ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده، وكان من زوار الحجرة: نعم ... لو تقدمت أنت خطوتين! وتلك نادرة من نوادر الفكاهة التي تخلقها الحقيقة الواقعة، وما يكون لها أن تخلقها لو كانت محض مزاح ...!
تهيأت القاهرة لاجتماع هذه القوة فيها؛ لامتيازها بين عواصم الشرق بمركزها التاريخي، ومركزها الحديث، ولم تتهيأ لها مدينة أخرى على مثالها من الآستانة عاصمة الخلافة إلى ما دونها من عواصم الولايات المتحدة والحكومات، ولم تكن القاهرة عاصمة الدعوة الكبرى مصادفة، ولا لعلة من العلل العارضة ...
فالآستانة هي عاصمة الخلافة، ومركزها بهذه الصفة أهم المراكز في العالم الإسلامي، وعالم السياسة الشرقية على إجماله ... ولكن قيام الدعوات القلمية أو اللسانية فيها أمر لا يخطر على بال الدعاة لشدة الحجر فيها على الأقلام والألسنة، وحظر الاجتماع فيها وتأليف الجماعات للمقاصد السياسية ...
وعواصم الشرق الأدنى مهمة بشهرتها وموقعها، ولكنها لم تكن قط مركزا يتلقى منه العالم الشرقي دعوة عامة على نطاق واسع، وحكمها حكم الآستانة في حرية الدعوة والاجتماع ...
أما القاهرة فقد كانت، منذ بنيت في أيام الفاطميين، مركز داعي الدعاة، أستاذ الأساتذة في فنون الدعوة بالقول والإشارة، أي: بالخطب والرسائل والرموز السرية والموالد والزفات!
ثم أصبحت مركز الإعلان الاقتصادي والسياسي في الحقبة التي اشتدت فيها المنافسة بين أصحاب التجارة من طريق البحر الأحمر، وأصحاب التجارة من طريق رأس الرجاء ...
ثم جعلها الخديو إسماعيل قطعة من أوروبا بمحاكمها المختلطة، وامتيازاتها الأجنبية، واشتباك المصالح المتعارضة فيها بين الدول، وتلاطم التيارات حولها من داخل البلاد العثمانية في شئون الحكم، أو شئون الثقافة ...
صفحة غير معروفة
ثم انطلقت فيها حرية الصحافة وحرية الاجتماع، فتمت فيها معدات الدعوة، وترادف عندها نمط الدعوة القديم، ونمط الدعوة الحديث ...
تاريخ الشرق مرتبط بصحافته
وفيما تقدم من العوامل والمهيئات كفاية، ولكننا نحسب أنها لم تكن لتفعل فعلها بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لو لم تكن الدعوة في هذه الفترة مطلوبة من كل صوب، ولو لم تكن بلاد الشرق متعطشة الأسماع إلى كل صوت ينادي بكلمة الأمل، أو كلمة النصيحة والتحذير ...
ولا ننسى سحر «الكلمة المطبوعة» في جدتها قبل أن تبتذلها كثرة التداول، وتدخلها الألفة في عداد اليوميات الرتيبة، التي تنتظر في أوقاتها، ولا تحتاج إلى لهفة الانتظار ...
وإن تعجب لسر من أسرار تلك الدعوة في نفاذها، وبعد مداها، فاعجب للبون الشاسع بين ضخامة أثرها وضآلة وسائلها، وانظر إلى البون الشاسع مثلا في صحيفة كصحيفة «العروة الوثقى» أو «أبو نضارة» أو «اللطائف» أو «الأستاذ». وريقة ذات مقال وبضعة أخبار من قبيل الأخبار البوليسية أو البرقيات المقتضبة، وتحاول أن تتبع أثرها إلى أقصى مداه فلا تستقصيه؛ لأنك قد تسمع صداه في تخوم الصين وعلى متون الرمال في جوف الصحراء ...
ولا محل للمقارنة من الوجهة الفنية بين تلك الصحافة وصحافتنا اليوم، ولكن لا محل كذلك للمقارنة بين دعوة يطلبها الناس ويتشوقون إليها، ودعوة تطلبهم وتحتال عليهم بأفانين الترغيب والتقريب.
إن منظر الحساب بين مدير الصحيفة الأسبوعية ووكيلها قد يصح أن يثنيني عن طبع العدد الأول من صحيفتي المطوية، وأن يضعف أملي في تحصيل تكاليفها بعد عدد أو عددين ...
ولكن هل تراه يذهلني عن هذه القوة الهائلة، وأنا أحسها من حولي كالدوامة المدوية في لجة البحر الموار بالأمواج والرياح؟
إن ألف دجال باسم الطرق الصوفية لا يمسحون من الضمائر قداسة الدين، وإن ألف دجال باسم الصحافة لا يمسحون قداسة «الكلمة» الحية بين أناس يحتاجون إلى الكلمة حاجتهم إلى العمل في ساعة اليقظة من سباتهم الطويل ...
إن الصحف التي تستغل مخاوف الملوك وفضائح الدول لا تستطيع أن تملأ الجو من أعلاه إلى أدناه، ولا أن تستوعبه بجميع زواياه ...
صفحة غير معروفة