والسبب الثاني شخصية مصطفى كامل - رحمه الله - فإن محادثتي الأولى له لم تشجعني على مزاملته في عمل دائم، وصورته لي رجلا معتدا بذاته، ضيق الحظيرة، لا يسمح حتى للفكاهة أو «للقافية» أن تفتح عليه بابا لتصحح قولة قالها أو رأيا ارتآه ...
كنت أتبرع بالتعليم في المدرسة الإسلامية بأسوان، وحضر مصطفى كامل متفقدا للمدرسة، ومعه الكاتبة الفرنسية مدام «آدم جولييت» وسيدة إنجليزية، وكانت الحصة حصة محفوظات ولغة ... فأملى مصطفى كامل على التلاميذ هذا البيت لأبي العلاء:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وترجمه للسيدتين بطلاقة وإيقاع، ثم طلب من التلاميذ أن يشرحوه ويعلقوا عليه، فاضطربوا ولم يحسنوا الشرح أو التعليق ...
والتفت مصطفى كامل إلي، وإلى الأستاذ «محمد شلبي عيد» متسائلا، فأدركته قائلا: إن التلاميذ معذورون ... لأنهم في أسوان يعلمون أن الغيم الذي يظلل الرءوس شيء نافع لا يضربون به المثل لقلة النفع ... فلعله أنفع لهم من شعاع الشمس ومن المطر ... «حسن تخلص» كنت أقدر من «خطيب» مثله أن يتقبله بالاستحسان والارتياح، ولكنه تجهم وزوى وجهه، وبدا لي أن الاستدراك عليه - ولو من باب الفكاهة - أمر كثير على طاقته الفكرية والنفسية، وأرى الآن أنها لم تكن منه فلتة عارضة في زيارة عاجلة؛ لأن حياة الرجل كلها لا تعرض لنا لمحة واحدة فيها شيء من سماحة الفكاهة، أو سماحة التوفيق بين الآراء ...
فريد وجدي ... والدستور
ولم يطل بي الانتظار حتى أعلن الأستاذ فريد وجدي عن عزمه على إصدار «الدستور».
ولم يكن اسم «فريد وجدي» غريبا عني، ولا عن قراء ذلك الجيل من طلاب الثقافة الإسلامية الفلسفية ... فقد كانت له كتابات ضافية يرد بها على كتاب الغرب وفلاسفته المنكرين لحقوق المسلمين، وفضائل الإسلام، وكانت له شهرة بالاطلاع على ثقافة الدين، وثقافة العصر الحديث، فلما لقيته وحادثته لم يكن أيسر من الاتفاق معه على العمل في صحيفته، وخرجت أقول لنفسي: إن أكبر خلاف بيني وبين كاتب كهذا لن يعوقني عن العمل معه؛ لأنني عجبت لحرية فكره، مع اشتهاره بالتعصب والمحافظة، بل بالتزمت والخرج في شئون الدين والدنيا ...
فما من فكرة كان يرى أنها قضية مسلمة، وأنها لا تقبل المناقشة.
صفحة غير معروفة